كربلاء في الأرشيف العثماني

ديلك قايا

كربلاء في الأرشيف العثماني

المؤلف:

ديلك قايا


المترجم: أ. حازم سعيد منتصر ، أ. مصطفى زهران
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٠

الموجودون في الهند؟ وقد لفت هذا النزاع الانتباه إلى ضغوط مكتب الأجانب بالحكومة الهندية ، وإلى أهمية العلاقات العثمانية الإنجليزية ، فتقرر أن تتمّ مسألة منح علماء النجف وكربلاء الأموال بواسطة موظفي بغداد ، وفي النهاية دخلت مقترحات رونيلسون حيز التنفيذ في ١٨٥٧ م.

وخلال الفترة من عام ١٨٥٢ ـ إلى عام ١٩٠٣ م كانت ترسل شهريّا عشرة آلاف جنيه للمجتهدين الموجودين في كربلاء والنجف ، وقد أمّنت تلك الأموال المرسلة من الهند بواسطة الإنجليز أهم مصدر لدعم مجتمع علماء الشيعة في تلك الفترة ، وقد اتبع الموظفون الإنجليز بعض النظريات والتصنيفات في تقسيم تلك الأموال على آخذيها ، وهذا التصنيف الذي كانوا يوزعون الأموال من خلاله : المجتهدون الصغار والطلاب ومجاورو المشايخ وحراس الأماكن المقدسة طبقا للاتفاق الذي تم بينهم وبين الشيخ مرتضى الأنصاري زعيم المجتهدين في عهد رولينسون ، ومن الناحية العملية كان المقسّمان هما أصحاب الصلاحية التامة في توزيع تلك المساعدات على من يريدون في إطار تصنيف لا يدخل ضمن المخصصات العامة.

وفي عام ١٨٦٧ م قام الإنجليز بتغييرات كبيرة في عملية التوزيع ، حيث كانت توجد منازعات خاصة بالتقسيم المشروط في السند عام ١٨٢٥ م ، فقاموا بتنظيمها من جديد ، حيث خصص ثلث المخصصات لمنفعة الهنود الفقراء الذين يقيمون في كربلاء والنجف ، أما إدارة تلك المساعدات الهندية فقد آلت إلى نواب إقبال الدولة من أسرة عواده ، وقد ساعد إقبال الدولة هذا الإنجليز في ثورة الهند عام ١٨٥٦ م ، وقد ظل إقبال الدولة تحت تأثير الإنجليز حتى وفاته عام ١٨٨٧ م. ولم تستطع إنجلترا أن تحقق النجاح كما تريد في تلك الفاعليات التي قامت بها لبسط نفوذها في كربلاء والنجف (١).

__________________

(١) Meir Lltvak, A Failed Manipulation : The British, the Oudh Bequest and the Shl\'l

٣٤١

٣ ـ مدارس النجف

أصبحت النجف المركز العلمي للشيعة منذ أواسط القرن الحادي عشر تقريبا ، وتلك الفترة هي الفطرة التي بدأت بذهاب الشيخ الطوسي من بغداد إلى النجف ، وأصبحت النجف بمثابة مركز التعليم الديني للشيعة بفضل المؤسسات التعليمية الدينية التي أسسها طلابه من بعده ، وتذكر المصادر الشيعية أنه كان يدرس في النجف في هذا العهد الكلاسيكي (القرن الحادي عشر والثاني عشر) (٣٠٠) مجتهد ، وقد عاشت تلك المنطقة عهدا ذهبيّا كمركز لمرجعية الشيعة الإمامية حتى القرن الثاني عشر ، ومن بعد هذا التاريخ بدأت الحلة تأخذ مكانة النجف ، حيث بدأ رجال العلم الشيعة يتجمعون ويلقون دروسهم هناك ، ومع هذا حافظت النجف على خاصيتها ، وظلت كمركز ثان بعد الحلة حتى القرن السادس عشر ، وكانت كربلاء تأتي بعدهما ، لا سيما وأن الكثيرين من الأشخاص الذين كانوا بمثابة مرجعية للشيعة الإمامية في القرن الثامن والتاسع عشر كانوا قد تربوا ونشؤوا في كربلاء (١).

وقد أسست بعض المدارس في النجف بدعم مباشر من إيران ، وكان يمكن خلف هذا الدعم أهداف سياسية لإيران أكثر من كونه تطويرا للتعليم الديني الشيعي ، ويمكن حصر تلك الأهداف الإيرانية فيما يلي :

١ ـ نقل التأثير الفارسي خارج إيران وتكوين مراكز ثقل تخدم السياسة الإيرانية في تلك الأماكن في المستقبل.

٢ ـ النزاع مع الدولة العثمانية على المنطقة تحت عباءة تأسيس المدارس في النجف ودعم الطلاب والمذهبية.

__________________

Ulama of Najaf and Karbala, MES,) ٠٠٠٢ (, ٧٢) ١ (, s. ٩٦ ـ ٠٧; Ayrlca bkz. J. R. I., Cole," Indian Money\'and the Shl\'l Shirine Cities of Iraq ٦٨٧١ ـ ٠٥٨١", MES, ٢٢) ٦٨٩١ (, s. ٦٦٤.

(١) el ـ Bustanl ,a.g.m.,s.١٧.

٣٤٢

٣ ـ تأمين بسط النفوذ على كل الشيعة الموجودين هناك باستخدام المؤسسات التعليمية والعلماء ، وقد تحقق هذا الهدف بدرجة كبيرة بجعل الشيخ محمد حسن الباقر مرجعا (في أواسط القرن التاسع عشر) (١).

وبالرغم من أن الدولة العثمانية لم تؤسس المدارس في النجف ، إلا أنها لم تمنع العلماء الشيعة من تأسيس المدارس ، وكانت الدولة ترفض هذا إذا كان الطلب مقدما من شاه إيران أو الأمراء الإيرانيين ، ومثال ذلك فعندما طلب صدر الدولة الإيراني من والي بغداد تأسيس مدرسة في كربلاء عام ١٨٤٨ م ، أرسل والي بغداد إلى الباب العالي يسأله في هذا الأمر ، واهتمت نظارة الداخلية بالموضوع ، حيث أوضحت لوالي بغداد أن طلب صدر الدولة الإيراني بفتح مدرسة ليس مطلبا خالصا ، لذا أصدرت تعليماتها برفض الطلب (٢).

واستمرت مساعي إيران لافتتاح المدارس في النجف وكربلاء ، ولكن الطلب في تلك المرة كان من الأمراء الإيرانيين ، وإن لم يكن طلب الأمراء الإيرانيين تأسيس المدارس في النجف وكربلاء من أجل المصالح الإيرانية ، فإنما هو لزيادة النفوذ والتأثير الشيعي في المنطقة ، وقد لوحظ أن تلك الطلبات زادت خاصة بعد توقيع معاهدة أرضروم عام ١٨٤٧ م ، استنادا لبعض الامتيازات الممنوحة للإيرانيين من تلك المعاهدة ، ومن أمثلة ذلك طلب أحد الأمراء الإيرانيين الذين يعيشون في النجف ويدعى سيف الدولة بفتح مدرسة ، فقد تقدم سيف الدولة بطلب لنامق باشا والي بغداد ومشير الجيش الهمايوني للعراق والحجاز في تلك الفترة يطلب فيه تحويل أحد المنازل التي اشتراها من أحد النجفيين ويدعى ميرزا يوسف الهندي إلى مدرسة (٣) ، وعندما رفض نامق باشا هذا المطلب اعترض

__________________

(١) el ـ Bustanl ,a.g.m.,s.٧٧.

(٢) BOA ,I.Hr ١١٢٢ ,Lef : ١ ,٤ L ٤٦٢١.

(٣) BOA ,A.AMD ٥٢ / ٨٣ ,٧٦٢١.

٣٤٣

الأمير على قراره ، وطلب إذنا من الباب العالي بتحويل المنزل إلى مدرسة ، إلا أن قرار الباب العالي كان هو نفسه قرار الوالي (١). وقد أمر الباب العالي نامق باشا في خطاب أرسله إليه بتعقب تلك السياسة تجاه مطالب الأمراء الإيرانيين (٢).

وفي ولاية علي رضا باشا نال الإيرانيون بعض الراحة في موضوع تأسيس المدارس (٣) ، إلا أن هذا الارتياح بلغ نهايته بعد أحداث كربلاء ، فقد استفادت إيران من المناخ الذي تشكل بعد ثورة كربلاء عام ١٨٤٣ م ، وبذلت بعض الجهود للتدخل في شؤون العراق ، وعلى هذا سعت الدولة العثمانية للقيام ببعض الإجراءات المتعلقة بموضوعات الإيرانيين ، ومن ذلك على سبيل المثال منع الملا يوسف حاكم النجف عام ١٨٥٤ م الإقامة الدائمة للإيرانيين في النجف ، وكانت الدولة العثمانية تسعى في بعض الأحيان لمنع مدارسهم بإصدار فتاوى بذلك ، وسبب ذلك أن التعليم الذي كان يقدم في تلك المدارس كان يخالف القواعد الإسلامية ، إلا أن الهدف الحقيقي من ذلك هو إعاقة النفوذ الإيراني الذي تكون بواسطة تلك المدارس (٤).

وبالنظر إلى وثائق الأرشيف والقوائم التي قدمها البستاني في مقالته سنجد أن عدد المدارس التي افتتحت في النجف في الفترة من عام ١٨٤٣ إلى عام ١٨٨٠ م كان قليلا جدّا ، وقد أوضحنا من قبل أن الدولة العثمانية لم تسمح ببناء المدارس الإيرانية في النجف لأنها كانت ستستخدم المصالح الإيرانية ، ومع بدايات عام ١٨٨٠ م ازداد بناء المدارس ،

__________________

(١) BOA ,A.AMD ٩٣ / ٣٩ ,٠٢ Z ٨٦٢١.

(٢) BOA ,A.AMK.UM ٠١١ / ٦٤ ,٥ M ٩٦٢١.

(٣) BOA ,I.Hr ١١٢٢ ,٣ S ٤٦٢١.

(٤) El ـ Bustanl ,a.g.m.,s.٧٩ ـ ٨٩.

٣٤٤

وبالنظر إلى أسباب تلك الزيادة سيتبادر إلى الذهن ـ في أول الأمر ـ أن تلك المدارس كانت لتقليل القوة العثمانية في المنطقة ، إلا أن السبب الرئيسي في تلك الزيادة هو إدراك الدولة العثمانية أن تلك المدارس في النجف وكربلاء لم تكن حكرا على إيران ، وإيمانها بأنها يمكنها أن تجعل تلك المدارس تدور في فلكها.

وبالرغم من أن موضوع المدارس في النجف وكربلاء في عهد السلطان عبد الحميد الثاني بعيد عن حدود در استنا ، إلا أن هناك فائدة من التعرض لبعض النقاط التي ستلقي الضوء على السياسة في الفترة فيما بين عام ١٨٤٣ وعام ١٨٧٣ م ، فقد كانت المعلومات الواردة في اللوائح والسجلات المرسلة من النجف وكربلاء إلى استانبول بخصوص العلماء والمدارس الموجودة في المنطقة في عهد السلطان عبد الحميد الثاني توضح أن الدولة العثمانية ستغير من سياستها في المنطقة ، وفي إحدى التقارير المتعلقة بالموضوع والمرسلة من بغداد إلى استانبول ، تم تقييم العلماء والمدارس في النجف وكربلاء على ما يلي :

«إن أهم مجتهدي الشيعة يعيشون في النجف وكربلاء وهم رعايا عثمانيون من أصول عربية ، وبالرغم من أن هؤلاء المجتهدين لا يحبون شاه إيران ، إلا أنهم يكنون له الاحترام بسبب المساعدات التي يقدمها للعلماء والعتبات ، ولو أن الشاه حصل على تأييد ودعم هؤلاء المجتهدين سيعمل هذا على استمرار تبعية أهالي إيران للشاه ، وإذا حدث العكس فمن المحتمل أن يقوم الأهالى بثورة ضد الشاه في كل وقت وحين ، حتى روسيا أيضا تعلم قوة هؤلاء العلماء ، وتبدي لهم الاحترام ، وسيمكن لروسيا بتلك السياسة تأسيس علاقات ساخنة مع إيران ، وسيطرتها على الشيعة الموجودين في داغستان».

ولأن العلماء الشيعة رأوا عدالة من الإدارة العثمانية ، فإن مسألة تمكن الدولة العثمانية من بسط نفوذها على العلماء وكل الشيعة ، كان

٣٤٥

أمرا يمكن للدولة العثمانية أن تنجح فيه أكثر من إيران ، ولتحقيق هذا النفوذ يجب زيارة هؤلاء العلماء ، وإرسال الهدايا للأضرحة المقدسة ، وعدم إهمال العناية بتلك الأضرحة ، وألا يقتصر هذا الأمر على الأضرحة المقدسة الموجودة في الأراضي العثمانية فحسب بل على الأضرحة الموجودة في الأماكن الأخرى أيضا ، وإظهار عناية بضريح الإمام الرضى الموجود بخراسان ، وقد أظهر بعض الأشخاص والجماعات الذين اضطربت مصالحهم في بغداد فسادا ، وأحدثوا اضطرابا بين العلماء ووالي بغداد ، إلا أنه تم القضاء على هذا الاضطراب المفتعل ، وتم التعايش بشكل جيد بين العلماء وإدارة المنطقة (١).

وفي الوقت الذي استخدمت فيه الحكومة العثمانية العلماء بشكل إيجابي ، استخدمت الصحافة لتشويه صورة الإيرانيين في المدارس وبين العلماء ، هذا إلى جانب العطايا المقدمة للمناطق المقدسة والعلماء ، ولهذا بدأ ناظر التلغراف والبريد العثماني مساعي لإيصال الجريدة الصادرة في لندن باللغة الفارسية باسم (القانون) والتي تدعو لمهاجمة الحكومة الإيرانية إلى المدارس والعلماء في النجف وكربلاء (٢).

وقد كان للدولة العثمانية وخاصة سياسة الوحدة الإسلامية للسلطان عبد الحميد الثاني نفوذ بدرجة هامة على العلماء في مدارس النجف وكربلاء ، وقد استخدمت الحكومة العثمانية هذا النفوذ أثناء الحرب العالمية الأولى ، وقد أعلن المجاهدون الجهاد لتأييد ودعم الدولة العثمانية في الحرب التي خاضتها (٣) ، ويمكن أن نعد المدارس التي في النجف كما يلي :

__________________

(١) BOA, Y. PRK. AZJ ٣ / ٧٣, ٦٩٢١; BOA, Ylldiz Hariciye Nezareti Maruzatl) Y. PRK. HR (٧ / ٧٢.

(٢) BOA, Ylldiz Posta ve Telgraf Maruzatl) Y. PRK. PT (٨ / ٤١, ٣١ S ٩٠٣١.

(٣) BOA ,MV ٥٩١ / ٦١ ,٦ M ٣٣٣١.

٣٤٦

١ ـ مدرسة السليمية : كان اسمها الأصلي مديات صخوري ، وقد أنشأت من جديد على يد السلطان سليم ؛ لذا سميت بالسليمية.

٢ ـ مدرسة الملا الشيخ عبد الله بن شهاب الدين.

٣ ـ مدرسة الصدر : وقد أنشأت على يد محمد حسين خان الأصفهاني الذي كان صدر أعظم في عهد الأسرة القاجارية (١٨٢٣ ـ ١٢٣٩).

٤ ـ مدرسة كاشف الغطا : أسست عام ١٨٣٤ م (١٢٤٩ ه‍) بدعم من عباس قولي خان من الأسرة القاجارية.

٥ ـ مدرسة المهدي : أسست عام ١٨٣٤ م على يد كاشف المهدي.

٦ ـ مدرسة القوام الشيرازي (١٨٨٣ ـ ١٣٠٠).

٧ ـ مدرسة أيرواني (١٨٨٨ ـ ١٣٠٥).

٨ ـ مدرسة الأخوند الكبرى (١٩٠٣ ـ ١٣٢١).

٩ ـ مدرسة الشربياني (١٩٠٣ ـ ١٣٢٠).

١٠ ـ مدرسة الخليلي الصغرى (١٩٠٤ ـ ١٣٢٢).

١١ ـ مدرسة القزويني (١٩٠٦ ـ ١٣٢٤).

١٢ ـ مدرسة باطكوبي (١٩٠٧ ـ ١٣٢٥).

١٣ ـ مدرسة الأخوند الموسطى (١٩٠٨ ـ ١٣٢٦).

١٤ ـ مدرسة الأخوند الصغرى (١٩٠٩ ـ ١٣٢٧).

١٥ ـ مدرسة اليزدي الكبرى (١٩٠٩ ـ ١٣٢٧).

١٦ ـ المدرسة الهندية (١٩١٠ ـ ١٣٢٨).

١٧ ـ مدرسة البخاري (١٩١١ ـ ١٣٢٩).

١٨ ـ مدرسة الشيرازي.

١٩ ـ مدرسة الحيبري.

٣٤٧

٢٠ ـ مدرسة شاجرا.

٢١ ـ مدرسة اليزدي الصغرى.

٢٢ ـ مدرسة الخليلي الكبرى.

٢٣ ـ مدرسة الأحمدية (١).

وإلى جانب العلوم الدينية التي كانت تدرس في تلك المدارس التي تأسست في النجف طوال القرن التاسع عشر ، كان يدرس فيها العلوم الأخرى كالفلك والطب.

وكانت المدارس الدينية في النجف مستقلة عن الإدارة العثمانية مثلها مثل باقي المدارس الأخرى الموجودة في الأراضي العثمانية والتي تحمل نفس السمة ، وبطبيعة الحال كان هذا الوضع ساريا على برامج تلك المدارس وإدارتها ، أما هدف الطلاب الذين يدرسون في تلك المدارس فهو تحصيل العلوم الدينية ، ولم يكن للطلاب هدف آخر كالحصول على شهادة من الدولة مثلا (٢) ، كما أن للطلاب الحرية في موضوعات النقاش ، وتلك الحرية المتوفرة للطلاب كانت متوفرة للكتب والمصادر الأخرى أيضا ، ومع حلول عام ١٩٠٠ م خططت الحكومة العثمانية لفرض رقابة على المعلومات التي يدرّسها المعلمون ، والكتب التي يدرسها للطلاب ، وذلك لإعاقة نشاطات هؤلاء المعلمين الذين كانوا بمثابة المبشرين في العمل على تشييع أهالي المنطقة من خلال تلك المدارس التي كان لها تأثير واضح في نشر التشيع في منطقة العراق (٣) ، إلا أنه لم يتم العثور على أية معلومات يستدل منها على القيام بتلك النشاطات.

__________________

(١) el ـ Bustanl ,a.g.m.,s.٨٧.

(٢) el ـ Bustanl ,a.g.m.,s.٩٦.

(٣) BOA, Yildiz Yaveran ve Maiyyet ـ i Seniyye) Y. PAK. MYD (٣٢ / ٨١, ٧١٣١.

٣٤٨

ومن المصادر المالية لتلك المدارس الزكاة والخمس ودخل الأوقاف الشيعية ، كما كانت الهدايا المرسلة من البلدان المختلفة تمثل مصدرا هامّا لها. وبفضل هذا الدخل تمكن الطلاب من تلقي العلم بسهولة وبدون أجر. وكان يغلب على طبيعة الشيعة دائما التفكك ، الذي كان سببا في ظهور الاختلافات الدائمة بينهم ، وخلف كل مشكلة لم يتمكنوا من حلها يمكن أن يجدوا مجالا لنزاع جديد ، ومن ذلك على سبيل المثال الصراع الأصولي الأخباري ، والتنافس بين علماء العراق وإيران ، والنزاع الكبير في النجف بين العلماء الشيعة العرب والإيرانيين ، وإلى جانب كثرة الإيرانيين في النجف ، كانت قوة العلماء الإيرانيين أكبر من ذوي الأصول العربية بسبب زيارات الإيرانيين المحلية ، وهذا السبب زاد من اهتمام علماء إيران بالأضرحة التي في النجف ، الأمر الذي جعل العلماء الإيرانيين يهتمون أكثر بشؤون المجاورين الإيرانيين الذين يعيشون هناك ، ولأن المدارس التي هناك ترتبط بهذا فقد ظهر أنه من الضروري الاهتمام بها ، وهذا الاهتمام الذي أبداه علماء إيران بتلك المدارس كان سببا في رئاسة العلماء الإيرانيين العديد من المدارس الموجودة بالنجف وتثبيت نفوذهم عليها ، وبدأ ثقل التأثير الإيراني على العلماء خاصة بعد محمد حسن الباقر يحس بشكل من حسن إلى أحسن ، حتى إن هذا التأثير الإيراني الذي كان في النجف كان لإضعاف قوة العلماء العرب في المدارس (١).

__________________

(١) El ـ Bustani ,a.g.m.,s.٢٩ ـ ٥٩.

٣٤٩
٣٥٠

الخاتمة

كانت كربلاء في البداية عبارة عن مشهد دفن فيه جسد الإمام الحسين بدون رأس ، ثم بني على هذا المشهد ضريح ، وتم توصيل المياه إليها وتحولت فيها كربلاء إلى واحة جميلة في وسط الصحراء وأصبحت مكانا مختلفا عن المناطق الأخرى ، وكانت كربلاء بمثابة المركز الروحي للشيعة وبهذه الخاصية صارت مركزا اعتقاديّا مختلفا تحت الإدارة العثمانية التي كانت سنية المذهب ، وأصبحت بهذا الوضع منطقة تؤوي من يخالفون النظام الاعتقادي الرسمي للدولة (أهل السنة) ، وبطبيعة الحال أصبحت أحد مراكز المعارضة الدينية.

ولأنها أصبحت مركزا روحيّا للفكر الشيعي ، فقد أرادت العديد من الدول السنية والشيعية على مدار التاريخ السيطرة عليها وجعلها تحت سيادتها ، وأهم تلك الدول دولة إيران الشيعية التي جعلت من التشيع مصدرا تشريعيّا لها ، والدولة العثمانية السنية التي كانت تسعى لجمع كل المسلمين الذين يعيشون على أراضيها تحت مظلتها.

وقد ضمت كربلاء للأراضي العثمانية أثناء فتح السلطان القانوني لبغداد عام ١٥٣٤ م ، ومنذ ذلك التاريخ كانت إيران تسعى كدولة مسلمة شيعية إلى ضم كربلاء لأراضيها في كل وقت تشعر فيه بضعف الدولة

٣٥١

العثمانية ، إلا أنها لم تتمكن من ذلك أبدا ، وحتى لو كانت كربلاء شيعية فهذا لا يعنى أنها إيرانية ، فمفهوم كلمة شيعي يختلف عن مفهوم كلمة إيراني.

ولكن كيف تمكنت الدولة العثمانية من جعل تلك المنطقة التي تختلف عنها اختلافا كبيرا تابعة لها مدة ٣٨٣ عاما؟ إن أهم خاصية في بنية الدولة العثمانية تكونها من عناصر مختلفة ، وهذا الوضع كان منهجا وسببا للتأسيس وبقاء الدولة ، وبالرغم من أهالي كربلاء كانوا مسلمين ، إلا أنهم كانوا يختلفون عن الأهالي السنيين الموجودين في الإدارة العثمانية لكونهم شيعة ، إلا أن هذا الاختلاف مكّن أهالي كربلاء من الحفاظ على كل خصائصهم بطريقة إيجابية.

ولم تقف الدولة العثمانية ضد أي نشاط ديني لهم كما أنها لم تعمل على إضعاف الفكر الشيعي الذي يمثل أساسا للبنية المختلفة لكربلاء ، ودليل هذا الأعمال العمرانية والتنظيمات الإدارية التي تمت بكربلاء والسماح للشيعة ببناء مدارس تحت مراقبة الدولة وخلق مشكلات أمام مجيء الزوار للأضرحة ، وكل هذا يعد مؤشرا على أن الدولة العثمانية لم تقف ضد الفكر الشيعي ، ويمكننا أن نخرج بتلك النتيجة من السياسة التي اتبعتها الدولة العثمانية : فلم ترفض الدولة العثمانية الجعفرية حتى وإن كان هذا بشكل ضمني ، ولكنها لم تعترف به بصفة رسمية ، لأن اعترافها بهذا المذهب بصفة رسمية سيكسب المشروعية الدولة الشيعية الإيرانية ، وكان هذا مخالفا تماما لسياسة الدولة العثمانية.

كان للإمبراطورية العثمانية مركز معمر يعتمد على شبكة مؤسسات معقدة ومدروسة ، وبقدر ما كان هذا المركز رقيقا وحساسا كالحرير كان أيضا قويّا كالحديد ، وكانت كربلاء منطقة تابعة لهذا المركز.

لم تكن الدولة العثمانية ضد الاختلافات الدينية في كربلاء ، ولكنها عملت على جعلها تحت مراقبتها دائما حتى لا تكون سلاحا قويّا في يد

٣٥٢

إيران ، وسعت الدولة العثمانية للانتقال من كونها «دولة سنية عالمية» إلى مفهوم «الدولة المسلمة العالمية».

كانت توجد أهمية استراتيجية لكربلاء إلى جانب تلك الخصائص الدينية ، فقد كانت كربلاء أهم بوابة لبغداد التي طمعت الدول في ضمها إلى حدودها في العهود التاريخية المختلفة ، ومن المعروف أنه يستحيل تاسيس حكم سياسي أو إداري في بغداد بدون السيطرة على كربلاء.

تقع كربلاء على أهم طرق التجارة النهرية والبرية ، فتحتل موقعا متميزا على طرق التجارة الممتدة بين الهند ـ أوروبا والبصرة ـ بغداد وإيران ـ حلب ، وكانت التجارة عبر الطريق النهري هامة جدّا في تلك الصحراء التي لا تنقطع بها غارات النهب والسلب ، وكانت كربلاء والقصبات التابعة لها موقعا هامّا ومتميزا على هذا الطريق.

ومع حلول القرن التاسع عشر تضاعفت أهمية منطقة العراق من ناحية طرق السياحة والتجارة ، وسعت إنجلترا وفرنسا لتقوية طريق الهند من جديد ، وأدركت إنجلترا أهمية كربلاء عندما سعت لبسط نفوذها في المنطقة من أجل المصالح التجارية ، وسعت لأن يكون لها تأثير فيها ، لا سيما وأنها شعرت بثقل في المساعي الدبلوماسية أثناء أحداث كربلاء التي وقعت عام ١٨٤٣ م ، وارتقت في الغالب إلى دور المحامي في إيصال شكوى الشيعة الموجودين في المنطقة إلى المسؤولين ، كما أنها أدركت أهمية العلماء الذين يمثلون أهم طبقة في كربلاء ، وسعت لبسط نفوذها على تلك الجماعة ، وتعهدت إنجلترا بمهمة توصيل الزكاة والخمس والمساعدات الأخرى القادمة من الهند إلى علماء كربلاء والنجف لبسط نفوذها هناك.

وقد كانت إيران تدعي أن لها الحق في كربلاء منذ عام ١٥٤٣ م إلى بدايات القرن التاسع عشر ، ولكنها أدركت أنها لن تسطيع ضم كربلاء إليها بسبب بنيتها الاجتماعية ، وكانت كربلاء تفضل تبعيتها للدولة

٣٥٣

العثمانية بشكل رقيق أكثر من تبعيتها لإيران ذات القومية الفارسية بسبب خصائصها المختلفة ، وكان الاقتصاد سببا آخر في عدم رغبة كربلاء في إحكام روابطها بالدولة من الناحية الدينية والسياسية ، فقد كانت كربلاء صاحبة أراض زراعية هامة وقوة تجارية كبرى ، ولكنها كانت تتعرض كل عام لهجوم عشرات الآلاف من الزوار والتجار الذين يفدون إليها بسبب الأماكن المقدسة (العتبات) الأهم من الزراعة والتجارة ، وكانت تنصب على كربلاء الهدايا والأخماس والزكاة وأموال التجار ، وبالرغم من ذلك كان الشيعة الذين لم يتمكنوا من الحضور إلى كربلاء يقدمون مساعداتهم إلى العلماء. وكانت تلك الأموال كبيرة إلى حد ما ، وعلى هذا لم يرغب الكثير من علماء كربلاء وأهلها في اقتسام ثروة كربلاء مع علماء إيران أو أهاليها.

وكان ضعف الدولة العثمانية الذي كان يزداد يوما بعد يوم ، سببا في ضعف الروابط بين المركز والمناطق المحيطة به ، وقد رأت الدولة العثمانية أن إصلاح هذه الروابط لن يكون برباط رقيق ، بل رأت ضرورة توحيد كربلاء مع المركز من خلال الروابط ، وقد أقلق الدولة العثمانية ولوج الدول الأوروبية في المنطقة منذ القرن التاسع عشر ورغبة إيران في تقوية روابطها بكربلاء ، والأهم من ذلك خشية الدولة العثمانية من اكتساب المماليك الذين سيطروا على إدارة بغداد منذ فترة طويلة وضعا خاصّا ، وخشية زيادة قوتهم مثل قوة محمد علي باشا في مصر ، فوضعت الدولة العثمانية تلك التطورات نصب عينيها ، وسعت لتطبيق سياسة المركزية والتنظيمات في المنطقة.

ولقد ترك علي رضا باشا ـ والي بغداد الذي أنهى حكم ولاة المماليك وبدأ سياسة المركزية ـ الإدارة في كربلاء على حالها طبقا للتقاليد المتبعة فيها وكان هذا الأمر مخالفا لسياسة الدولة ، أما نجيب باشا الذي كان مخالفا لسياسة علي رضا باشا فقد بدأ في تطبيق القوانين

٣٥٤

دون استثناء ، وكان أول عمل قام به بمجرد توليه ولاية بغداد تأمين تأسيس علاقات إدارية قوية بين كربلاء وولاية بغداد ، إلا أن هذا التطبيق كان مخالفا لطبيعة كربلاء ، هذا الوضع الذي جعل نشوب ثورة أمر لا مفر منه ، حيث كانت واقعة كربلاء التي وقعت عام ١٨٤٣ م رد فعل ومقاومة لسياسة نجيب باشا ، وأمر نجيب باشا بإخماد تلك الثورة المتوقعة بكل قوة.

إن السياسة الجديدة التي اتبعتها الدولة العثمانية في كربلاء قد أقلقت إيران ، لأن ذلك الوضع سيكون سببا في تقليل العلاقات الإيرانية مع كربلاء ، فسعت إيران لإظهار مشكلاتها الأخرى مع الدولة العثمانية وفتحت حربا على الدولة العثمانية على الساحة الدولية. حقيقة الأمر أن تلك الحرب الدبلوماسية التي بدأتها إيران كانت موجهة أيضا لإنجلترا التي كانت تعارض مع إيران بشكل دائم بسبب مشكلة هرات ، فأخذت إيران روسيا التي كان لها مصالح في المنطقة إلى جانبها لأنها كانت ترى أن إنجلترا مثل الدولة العثمانية تريد بسط نفوذها على المنطقة ولإدراكها أنها ليست لديها القدرة الكافية على خوض تلك الحرب الدبلوماسية بمفردها ، وقد حدثت تلك الحرب الدبلوماسية على أرض أرضروم في الفترة من عام ١٨٤٣ إلى عام ١٨٤٧ م بين إنجلترا والدولة العثمانية من ناحية وروسيا وإيران من ناحية أخرى ، وكما أنه لم يخرج أي طرف من أطراف النزاع منتصرا ، استمرّ الاضطراب العثماني الإيراني لسنوات طويلة وخاصة في موضوع مشكلة الحدود.

وبعد توقيع معاهدة أرضروم عام ١٨٤٧ م بدأ نزاع بين الدولة العثمانية وإيران على مسألة بسط النفوذ في كربلاء ، وكان احترام علماء كربلاء وتبجيل سلالة أهل البيت بها أفضل طريق لبسط النفوذ عليها ، كما أن أعمال ترميم الأماكن المقدسة يعدّ محاولة لبسط النفوذ عليها ، وقد اهتمت الدولة العثمانية اهتماما بالغا بالعتبات ، وظهر هذا الاهتمام على

٣٥٥

شكلين ، الأول : أنها حملت على عاتقها كل الإعمار الخاص بالعتبات.

الآخر : أنها لم توافق على مطالب إيران بترميم الأضرحة ، وبالرغم من كل المعوقات التي أقامتها الدولة العثمانية ضد إيران ، إلا أن الأخيرة جربت كل الطرق لبسط نفوذها في كربلاء ، وحتى يتسنى لها فتح المدارس في النجف وكربلاء ، ونشر المذهب الشيعي بين الأهالي الذين استقروا بهما ، أرادت استخدام المعلمين والمدارس الواقعة تحت تأثيرها لتحقيق هذه الرغبة ، وفي مقابل هذا لم تسمح الدولة العثمانية باستخدام المدارس الإيرانية خاصة ، وفرضت حظرا على تأسيسها ، واستمر هذا الوضع حتى عهد السلطان عبد الحميد الثاني ، فقد سعى السلطان عبد الحميد لفتح المدارس السنية والمدارس الحديثة الأخرى إلى جانب المدارس الشيعية ، وعمل بذلك على إعاقة النشاط الإيراني في نشر المذهب الشيعي في المنطقة ، وبسط النفوذ الإيراني بها ، وبالرغم من أن هذا الطريق كان مؤثرا ، إلا أن المدارس الشيعية اكتسبت قوة نسبية خارج إدارة الدولة العثمانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

وكان هناك سلاح آخر لإيران في المنطقة وهو الزوار والتجار الذين يفدون إلى المنطقة في شهر المحرم من كل عام ، وكانت هاتان الطائفتان بمثابة المبشرين لإيران في المنطقة ، وقد سعت الدولة العثمانية للتحكم في تلك الأماكن التي يمر بها هؤلاء الزوار والتجار ، والأماكن التي يتواجدون بها أثناء الزيارة ، حتى لا تتضرر من تلك السياسة ، وكما أنها أنشأت الطرق والجسور المحددة للجماعات التي تأتي من أجل الزيارة فقط ، سعى مدحت باشا أيضا في إنشاء خط سكك حديد كربلاء ـ بغداد حتى لا يبقى التجار والزوار فترة طويلة في كربلاء أثناء الزيارة.

ومن الأشياء التي كانت إيران تستخدمها لفرض نفوذها في المنطقة نسخ القرآن الكريم التي كانت تطبع في إيران وتوزع في كربلاء والذي كان محل نزاع بين الدولتين.

٣٥٦

وفي الوقت الذي كانت تعيش فيه الدولة العثمانية تلك المصاعب التي سببتها إيران ، عملت الدولة العثمانية على تقوية سلاح آخر هام كانت تستخدمه منذ سنوات طويلة في كربلاء هو الأمراء والأسر التي كانت تنفى من إيران وتستقرّ في كربلاء ، حيث كانت الدولة العثمانية تسمح لهم بالإقامة في كربلاء ، وقد نوّهت الدولة العثمانية بأنها يمكنها استخدام تلك القوة السرية ضد حكومة إيران في أي وقت.

وكلما كانت الأوضاع العالمية تتغير كانت ماهية النزاع العثماني الإيراني على كربلاء تتغير ، فقد كانت الدولتان تقومان بعمل تغيرات في البنية الإدارية لكل منهما طبقا للتطورات العالمية التي تحدث ، وفي الوقت الذي سعت فيه الدولة العثمانية لنقل البدو من أهالي كربلاء إلى حياة الاستقرار وتطوير هويتهم السياسية والدينية سعت أيضا لتثبيت هوية العثمنة القوية ، كما كانت المشكلات القانونية لأهالي كربلاء من المشكلات التي أرهقت الدولة والأهالي معا لأن الدولة العثمانية قبل عهد التنظيمات لم تر ضرورة للتفرقة بين الأهالي الشيعة الموجودين في كربلاء والذين هم من رعايا الدولة العثمانية والرعايا الإيرانيين وبين الرعايا العثمانيين. لقد كانت هذه التفرقة عاملا مؤثرا لينتقل الإيرانيون الذين يعيشون في كربلاء إلى تبعية الدولة العثمانية ويصيروا من رعاياها ، وذلك لأن الدولة العثمانية لم ترغب في استخدام إيران لهؤلاء الرعايا في أي خلاف قد يظهر بين الدولتين فيما بعد ، وبعد عام ١٨٥٠ م بحثت الدولة العثمانية الموقف القانوني للرعايا الإيرانيين الذين يعيشون في كربلاء مع إيران ، ولا يمكن القول إنه كانت هناك ثقة بين الدولة والرعايا العثمانيين ذوي الأصول الإيرانية أثناء شغلهم مناصب مختلفة في الدولة.

سعت الدولة العثمانية إلى إحياء كربلاء بالعمل على نقل البدو الرحل إلى حياة الحضر وتثبيت علاقاتها مع إيران والعمل على تنفيذ الإصلاحات الإدارية التي تمّت في الدولة على وجه العموم في كربلاء ،

٣٥٧

إن هذه الجهود التي زادت سرعتها في عصر نجيب باشا قد تعرضت لفترة من الاضطراب بعد ذلك ، وهذا لأن فعاليات إيران لإظهار ثقلها في المنطقة بعد أحداث كربلاء قد أخرت حدوث الاستقرار مما أدى إلى تأخر التعديلات الإدارية الجديدة ، ولقد استمرّ هذا الوضع في فترات منفصلة حتى قدوم مدحت باشا إلى ولاية بغداد.

لقد تمت أهم الإصلاحات الإدارية في كربلاء في عهد مدحت باشا ، فلقد حول مدحت باشا كربلاء إلى متصرفية وجعل إدارتها وإدارة المنطقة على أسس سليمة وجعلها تخدم الأهالي أفضل مما كانت عليه ، وكانت أهم سياسة لمدحت باشا في المنطقة هي العمل على راحة الشيعة الذين يعتبرون العنصر الأساسي للمنطقة والإيرانيين القادمين إلى المنطقة ، ولذا سعى لمد خطوط السكك الحديد وتفعيل استخدام وسائل النقل البري والنهري ، كما بذل جهودا لمعاملة الرعايا العثمانيين ذوي الأصول الإيرانية مثل المواطنين العثمانيين لينفذوا واجبات المواطنة وليشعروا بالمساواة ، ولهذا نفذ القوانين العثمانية الخاصة بالإصلاحات الضريبية والعقود وأصول الانضمام إلى الجندية دون استثناء ، لقد حقق مدحت باشا نجاحا كبيرا في الوصول إلى الأهدف التي سعى إليها فترة ولايته ، ولم تسر تلك الجهود بشكل صحيح بعده ، فلقد ألغيت متصرفية كربلاء سنة ١٨٧٤ م وأعيد تشكيلها مرة أخرى ، وهذا يظهر أن إدارة كربلاء لها نظام معين وصورة معينة إذا اختل هذا النظام يحدث اضطراب في المنطقة ، وكانت الدولة العثمانية تعرف هذا وتشكل إدارة المنطقة طبقا لهذا.

إن النجف التابع لكربلاء يعد صورة مصغرة من كربلاء ، فما ظهر في كربلاء يظهر في النجف ولو كان هذا متاخرا ، وهذا يعطي انطباعا أن كربلاء أقوى من النجف ، إلا أن النجف صار أقوى من كربلاء بسبب بعض المزايا الخاصة به ، وتنبع قوة النجف من مدارسها وعلمائها ، فقد

٣٥٨

كان النجف مركزا للنزاع الواقع بين فرعي الشيعة الأصوليين والأخباريين في القرن التاسع عشر ، وكان انتصار الأصوليين في هذا النزاع وإقامة المرجع في النجف عاملا مهمّا لزيادة أهمية النجف ، فالمرجع له تأثير على كل علماء الشيعة في العالم وكان يوجه سياسات العديد من الدول وعلى رأسها إيران ، ولقد سعت كل من الدولة العثمانية وإيران وإنجلترا وروسيا لفرض نفوذها في المنطقة بالطرق المختلفة لمعرفتهم هذا الوضع ، أما علماء النجف فقد أقاموا علاقات مع هذه الدول بما يتفق مع مصالحهم ولكن هذه العلاقات لم تكن بنفس القوة مع كل الدول.

بدأت تتكون أقطاب من علماء كربلاء والنجف والأهالي ، وفي الوقت الذي تتكون فيه الأقطاب الشيعية يحدث نزاع حتى ينتصر أحد الأقطاب في هذا النزاع ، ويستمر الكفاح حتى يقضي قطب على القطب الآخر ويجعله دون تأثير ، وبعد هذا النزاع يبدأ نزاع مع قطب أو مجموعة أخرى ضعيفة في طريقها لكسب القوة ، فبعد انتهاء النزاع بين الأصوليين والأخباريين في الربع الأول من القرن التاسع عشر حدث النزاع بين علماء كربلاء وإيران بعد النزاع والخلاف بين الشيعة العرب والإيرانيين في النجف.

إن الخلاف هو أصل حياة شيعة النجف ، وعلى الرغم من أن الشيعة مخالفون إلا أنهم يقيمون روابط بمسافات محددة مع مجتمع الدولة المخالف لهم ويستمرون في علاقاتهم محافظين على تلك المسافة.

لقد فهمت الدولة العثمانية مزايا الشيعة المخالفة عند فرض نفوذها على شيعة كربلاء والنجف ، وسمحت الدولة العثمانية بهذا الخلاف بالقدر الذي لا يضرّ بمصالحها ، فالدولة العثمانية كانت تعلم جيدا بنية كربلاء وأهاليها الذين يرفضون الخضوع المطلق للحكم الموجود ، ولقد طبقت الدولة العثمانية سياستها طبقا لهذا المفهوم وبهذا تمكنت من إبقاء هذا المكان تحت سيطرتها طوال ثلاثمائة وثلاث وثمانين سنة.

٣٥٩
٣٦٠