رحلة ابن خلدون

محمّد بن تاويت الطنجي

رحلة ابن خلدون

المؤلف:

محمّد بن تاويت الطنجي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: ارتياد الآفاق
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

عليه من الحاشية والذّوين ، (١) فعمل السّلطان على إشارته ، واستدعى ابن سيّد الناس ، وولّاه حجابته. وكان السّلطان أبو يحيى إذا خرج من تونس يستعمل جدّنا محمدا عليها ، وثوقا بنظره واستنامة إليه ، إلى أن هلك سنة سبع وثلاثين ، ونزع ابنه ، وهو والدي محمد أبو بكر ، عن طريقة السيف والخدمة ، إلى طريقة العلم والرباط ، لما نشأ عليها في حجر أبي عبد الله الزّبيدي (٢) الشهير بالفقيه ، كان كبير تونس لعهده ، في العلم والفتيا ، وانتحال طرق الولاية التي ورثها عن أبيه حسين وعمّه حسن ، الوليين الشّهيرين. وكان جدّنا رحمه‌الله قد لزمه من يوم نزوعه عن طريقه ، وألزمه ابنه ، وهو والدي رحمه‌الله فقرأ وتفقّه ، وكان مقدّما في صناعة العربية ، وله بصر بالشعر وفنونه. عهدي بأهل الأدب يتحاكمون إليه فيه ، ويعرضون حوكهم عليه ، وهلك في الطاعون الجارف سنة تسع وأربعين وسبعمائة.

نشأته ومشيخته وحاله

أما نشأتي فإنّي ولدت بتونس (٣) في غرّة رمضان سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة ، وربيت في حجر والدي رحمه‌الله إلى أن أيفعت وقرأت القرآن العظيم على الأستاذ المكتّب أبي عبد الله محمد بن سعد بن برّال (٤) الأنصاري ، أصله من جالية

__________________

(١) الذّوون : الأدنون الأخصّون. (لسان العرب).

(٢) هو أبو عبد الله محمد بن الحسين بن عبد الله القرشي الزبيدي (بضم الزّاى ، نسبة إلى قرية بساحل المهدية) توفي عام ٧٤٠ ه‍ (انظر رحلة ابن بطوطة ص ٦).

(٣) تونس (Tunis) عرضها الشمالي ٥٠ ـ ٣٦ وطولها الشرقي ٣ ـ ١٠) بضم التاء فواو. والنون تضم وتفتح وتكسر ؛ عاصمة القطر التونسي اليوم. ياقوت ٢ / ٤٣٢.

(٤) برال : بضم الباء الموحّدة ، وفتح الراء المشدّدة ، هكذا قيّده ابن خلدون بالقلم ، ومعاصره محمد بن ميمون البلوى الأندلسي بخطّه بالقلم أيضا (انظر ١٣٥ مجاميع ورقة ١٠٠ ظ س ٥) مخطوط بدار الكتب. وقد ورد هذا العلم محرفا في كثير من المراجع.

٦١

الأندلس من أعمال بلنسية ، (١) أخذ عن مشيخة بلنسية وأعمالها ، وكان إماما في القراءات ، لا يلحق شأوه ، وكان من أشهر شيوخه ففي القراءات السبع أبو العباس أحمد بن محمد البطرني ، (٢) ومشيخته فيها ، وأسانيده معروفة. وبعد أن استظهرت القرآن الكريم من حفظي ، قرأته عليه بالقراءات السبع المشهورة إفرادا وجمعا (٣) في إحدى وعشرين ختمة ، ثم جمعتها في ختمة واحدة أخرى ، ثم قرأت برواية يعقوب (٤) ختمة واحدة جمعا بين الروايتين عنه ، وعرضت عليه رحمه‌الله قصيدتي الشاطبي (٥) ؛ اللامية في القراءات ، والرائية في الرسم ، وأخبرني بهما عن

__________________

(١) بلنسيةValencia) ، عرضها الشمالي ٣٠ ـ ٣٩ وطولها الغربي ٣٠ ـ ٠) بفتح الباء واللام ، ثم سين مكسورة تليها ياء مفتوحة مدنية شهيرة من مدن شرق الأندلس ياقوت ٢ / ٢٩٧.

(٢) البطرني ضبطه ابن خلدون بالقلم ، وابن ميمون البلوى ، بفتح الباء والطاء المهملة وراء ساكنة بعدها نون ، نسبة إلى بطرنة (Paterna) من إقليم بلنسبة بشرق الأندلس انظر كتاب البيان المغرب ٣ / ٢٥٢.

(٣) الإفراد أن يتلى القرآن كلّه أو جزء منه برواية واحدة لأحد القرّاء السبعة أو العشرة المشهورين ، والجمع أن يجمع القارئ عند قراءة القرآن كلّه أو جزء منه بين روايتين فأكثر من الروايات السبع أو العشر المتواترة ، ويسمّى بالجمع الكبير إن استوفى القارئ سبع قراءات فأكثر ، وإلا سمّوه بالجمع الصغير. ولهم في صفة الجمع وحكمه ، من إباحة وتحريم ، خلاف معروف تجده في (غيث النفع ص ٨ ـ ١٠).

(٤) هو يعقوب بن إسحق بن زيد بن عبد الله الحضرمي البصري (١١٧ ـ ٢٠٥) أحد القراء العشرة ، وله قراءة مشهورة عنه ، وهي إحدى القراءات العشر ، وقد رويت عنه من طريقين : الأولى رواية محمد بن المتوكل المعروف برويس (طبقات القراء ٢ / ١٣٤) ، والثانية عن روح بن عبد المؤمن الهذلي (طبقات القراء ١ / ٢٨٥). وإلى ما ذكر يشير ابن خلدون بقوله «جمعا بين الروايتين عنه».

(٥) هو أبو القاسم ، ويكنى أبا محمد أيضا القاسم بن فيره (بكسر الفاء بعدها ياء آخر الحروف ساكنة ، ثم راء مشددة مضمومة بعدها هاء) بن خلف بن أحمد الشاطبي الرعيني (٢٣٨ ـ ٥٩٠) رحل إلى الشرق ، ودخل القاهرة ، وبها بمدرسة القاضي الفاضل ، نظم قصيدتيه اللامية التي عرفت بالشاطبية ، وبحرز الأماني ، والرائية التي تعرف بالعقيلة. (طبقات القراء ٢ / ٢٠ ، سبكى طبقات ٤ / ٢٩٧ ديباج ص ٢٢٤).

٦٢

الأستاذ أبي العباس البطرني وغيره من شيوخه ؛ وعرضت عليه كتاب التّقصّي لأحاديث الموطأ لابن عبد البر ، حذا به حذو كتابه التّمهيد (١) على الموطأ ، مقتصرا على الأحاديث فقط. ودارست عليه كتبا جمّة ، مثل كتاب التّسهيل لابن مالك (٢) ومختصر ابن الحاجب (٣) في الفقه ، ولم أكملهما بالحفظ ، وفي خلال ذلك تعلّمت صناعة العربية على والدي ، وعلى أستاذي تونس : منهم الشيخ أبو عبد الله بن

__________________

(١) كتاب التمهيد ، لما في الموطأ من المعاني والأسانيد ، شرح على الموطأ ، رتبه على أسماء شيوخ مالك على حروف المعجم. بدار الكتب الظاهرية بدمشق ، وبدار الكتب المصرية أجزاء مخطوطة منه. وأما كتاب التقصي فقد طبعته مكتبة القدسي سنة ١٣٥٠ بالقاهرة.

(٢) أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مالك الأندلسي الجياني النحوي المشهور (٦٠٠ ـ ٦٧٢) وكتابه تسهيل الفوائد جمع ـ في إيجاز ـ قواعد النحو ، ولذلك عنى به أعلام النحو قراءة وشرحا وإقراء.

وقد طبع بمكة سنة ١٣١٩ ه‍. مرآة الجنان ٤ / ١٧٢ ، طبقات السبكى ٥ / ٢٨ نفح الطيب ١ / ٤٢٧ بغية الوعاة ٣٥.

(٣) عثمان بن عمر بن يونس المعروف بابن الحاجب جمال الدين المصري (٥٧٠ ـ ٦٤٦). له مختصر في الفقه المالكي يسمّى المختصر الفقهي ، والفرعين والجامع بين الأمهات. أدخله إلى المغرب عبد الرحمن بن سليمان البجائي (المتوفى سنة ٧٧٣. أحمد بابا ص ١٦٨) وعنى بشرحه كثير من المغاربة ، كالقاضي ابن عبد السلام التونسي شيخ ابن خلدون ، وعيسى بن مسعود بن منصور المنكلاتي. وفي دار الكتب أجزاء من الشرحين معا. وشرحه من المصريين : الشيخ خليل المالكي وسمّى شرحه «التوضيح» ، وهو من مخطوطات دار الكتب أيضا. ولابن الحاجب مختصر آخر في أصول الفقه ، ويعرف عند القدماء بالمختصر الأصلي ، وهو اختصار لكتابه : «منتهى السول والأمل ، من علمى الأصول والجدل» ، وذكره ابن خلدون في آخر ترجمة الآبلى التي تأتى قريبا.

وقد تحدث ابن خلدون في آخر فصل الفقه من مقدمته عن مختصر ابن الحاجب الفقهي ، وعن تاريخ دخوله إلى المغرب ، وأثره في دراسة الفقه المالكي هنالك ، وعمن شرحه من علماء المغرب ، وعناية الفقهاء المغاربة به ـ بما لا يدع مجالا للريبة. (انظر رأيا يخالف هذا في فلسفة ابن خلدون الاجتماعية ص ١١ ، ١٢).

[المنهل الصافي ٢ / ٣٧١ ، مرآة الجنان ٤ / ١١٤ ، حسن المحاضرة ١ / ٢١٥ ، وفيات ١ / ٣٩٥.

٦٣

العربي الحصايري ، وكان إماما في النحو وله شرح مستوفى على كتاب التسهيل. ومنهم أبو عبد الله محمد بن الشواش الزّرزالي. ومنهم أبو العبّاس أحمد بن القصّار ؛ كان ممتعا في صناعة النحو ، وله شرح على قصيدة البردة المشهورة في مدح الجناب النبوي ، وهو حيّ لهذا العهد بتونس.

ومنهم : إمام العربية والأدب بتونس ، أبو عبد الله محمد بن بحر ؛ لازمت مجلسه ، وأفدت عليه ، وكان بحرا زاخرا في علوم اللسان. وأشار عليّ بحفظ الشعر ، فحفظت كتاب الأشعار الستّة ، والحماسة للأعلم ، (١) وشعر حبيب ، (٢) وطائفة من شعر المتنبي ، (٣) ومن أشعار كتاب الأغاني. (٤) ولازمت أيضا مجلس إمام المحدثين

__________________

(١) يوسف بن سليمان بن عيسى النحوي الشنتمرى المعروف بالأعلم (٤١٠ ـ ٤٧٦). بغية الوعاة ٤٢٢ ، وفيات ٢ / ٤٦٥.

(٢) حبيب بن أوس بن الحارث الطائي أبو تمام (١٩٠ ـ ٢٢٦) : شاعر غني عن التعريف.

(٣) أحمد بن الحسين بن عبد الصمد الجعفي الكندي الكوفي الشاعر المعروف (٣٠٣ ـ ٣٥٤) وفيات ١ / ٤٤.

(٤) ليس بعيدا أن يكون ابن خلدون قد قرأ كتاب الأغاني ، وحفظ منه بعض أشعاره ؛ فقد كان الكتاب في مكتبة الناصر الأموي بالأندلس ، وملك منه أبو بكر بن زهر نسخة ، وهو ما يزال في ربيع الشباب ، وحكى عن أبيه أن ابن عبدون كان من محفوظاته كتاب الأغاني ، وقد نقل عنه السّهيلي في الروض الأنف مرات كثيرة. وإذن فتداول كتاب الأغاني بين العلماء ، والحفظ من أشعاره ، كان متعارفا بين القوم منذ الزمن البعيد ، ولم يكن ابن خلدون بحيث يعجز عن امتلاك الأغاني ، أو رؤيته ، والاستفادة منه ، وقد تقلب في المناصب العليا لدول متعددة هناك. على أن الرجل قد نقل من كتاب الأغاني في تاريخه نصوصا طويلة نجدها في الصفحات ١٩ ، ٢٤٠ ـ ٢٤١ ، ٢٧٢ ، ٢٧٣ ، ٢٧٥ ـ ٢٧٦ ، ٢٨٦ ـ ٢٨٨ من الجزء الثاني. وقد جاء في مقدمته في : «فصل في أن نهاية الحسب في العقب الواحد أربعة آباء» نص نقله عن الأغاني ، يدل على أنه رأى الكتاب ، واستفاد منه في إسناد نظرياته وتقريرها في المقدمة.

فلا محل للريبة أيضا في قوله عند تقرير كتاب الأغاني في المقدمة ص ٢٨٥ طبع بولاق : «وهو الغاية التي يسمو إليها الأديب ، ويقفعندها ، وأنّى له بها». (وفي فلسفة ابن خلدون الاجتماعية ص ١٢ رأي يخالف هذا).

المعجب للمراكشي ص ٥٤ ، نفح الطيب ١ / ١٨٠ ، تاريخ ابن خلدون ٤ / ١٦٤.

٦٤

بتونس ؛ شمس الدين أبي عبد الله محمد بن جابر بن سلطان القيسي الوادياشي ، (١) صاحب الرحلتين ؛ وسمعت عليه كتاب مسلم بن الحجّاج ، إلا فوتا يسيرا من كتاب الصّيد ؛ وسمعت عليه كتاب الموطّأ من أوله إلى آخره ، وبعضا من الأمّهات الخمس ؛ وناولني (٢) كتبا كثيرة في العربية والفقه ، وأجازني إجازة عامّة ، وأخبرني عن مشايخه المذكورين في برنامجه ، أشهرهم بتونس قاضي الجماعة أبو العبّاس أحمد بن الغمّاز الخزرجي. (٣)

وأخذت الفقه بتونس عن جماعة ؛ منهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله الجيّاني ، وأبو القاسم محمد القصير ؛ قرأت عليه كتاب التّهذيب لأبي سعيد البرادعي (٤) ؛ مختصر المدوّنة ، وكتاب المالكية ، وتفقّهت عليه. وكنت في خلال ذلك أنتاب مجلس شيخنا الإمام ، قاضي الجماعة أبي عبد الله محمد بن عبد السلام ، (٥) مع أخي محمد رحمة الله عليهما. وأفدت منه ، وسمعت عليه أثناء ذلك كتاب الموطّأ للإمام مالك ، وكانت له فيه طرق عالية ، عن أبي محمد بن هارون

__________________

(١) محمد بن جابر بن قاسم القيسي الوادي آشي التونسي ؛ شمس الدين أبو عبد الله. (٦٧٣ ـ ٧٤٩) رحل إلى المشرق مرتين ، ولذلك سمّاه ابن خلدون صاحب الرحلتين. ديباج ص ٣١١ ، الدرر الكامنة ٣ / ٤١٣.

(٢) المناولة في اصطلاح المحدثين : نوع من الإجازة ، وهي أن يدفع الشيخ لطالبه أصل سماعه ، أو فرعا مقابلا بأصله ، ويقول له : قد أجزت لك في روايته عنّي (انظر كتب مصطلح الحديث).

(٣) هو القاضي أحمد بن محمد بن الحسن بن الغماز البلنسي ، ثم التونسي (٦٠٩ ـ ٦٩٣). ديباج ص ٧٦ ، أحمد بابا ص ٦٤ ، عنوان الدراية ص ٧٠ ، رحلة العبدري لوحة ١٢٨ أ(بمكتبة تيمور) ، المرقبة العليا ص ١٢٢.

(٤) أبو سعيد خلف بن أبي القاسم الأزدى المعروف بالبرادعي ؛ من علماء القرن الرابع (ديباج ص ١١٢).

(٥) محمد بن عبد السلام بن يوسف الهوارى ، التونسي ، القاضي ، يعرف بابن عبد السلام (٦٧٦ ـ ٧٤٩). ديباج ص ٣٣٦ ، أحمد بابا ص ٢٤٢ ، المرقبة العليا للنّباهي ص ١٦١.

٦٥

الطائي (١) قبل اختلاطه ـ إلى غير هؤلاء من مشيخة تونس ، وكلّهم سمعت عليه ، وكتب لي ، وأجازني ؛ ثم درجوا كلّهم في الطاعون الجارف.

وكان قدم علينا في جملة السّلطان أبي الحسن ، عندما ملك إفريقية سنة ثمان وأربعين ، جماعة من أهل العلم ، وكان يلزمهم شهود مجلسه ويتجمّل بمكانهم فيه : فمنهم شيخ الفتيا بالمغرب ، وإمام مذهب مالك ، أبو عبد الله محمد بن سليمان السّطّي (٢) ؛ فكنت أنتاب مجلسه ، وأفدت عليه.

ومنهم كاتب السّلطان أبي الحسن ، وصاحب علامته التي توضع أسافل مكتوباته ، إمام امحدثين والنّحاة بالمغرب ، أبو محمد عبد المهيمن بن عبد المهيمن الحضرمي (٣) ؛ لازمته ، وأخذت عنه ، سماعا ، وإجازة ، الأمهات الست ، وكتاب الموطّأ ، والسّير لابن إسحق ، وكتاب ابن الصّلاح في الحديث ، (٤) وكتبا كثيرة شذّت عن حفظي. وكانت بضاعته في الحديث وافرة ، ونحلته في التقييد والحفظ كاملة ، كانت له خزانة من الكتب تزيد على ثلاثة آلاف سفر ؛ في الحديث ، والفقه ، والعربية ، والأدب ، والمعقول ، وسائر الفنون ؛ مضبوطة كلّها ، مقابلة. ولا يخلو ديوان منها عن ثبت بخط بعض شيوخه المعروفين في سنده إلى مؤلفه ، حتى الفقه ، والعربية ، الغريبة الإسناد إلى مؤلفيها في هذه العصور. ومنهم الشيخ أبو العباس أحمد الزواوي ، (٥) إمام المقرئين بالمغرب. قرأت عليه القرآن العظيم ، بالجمع

__________________

(١) انظر ترجمة لابن هارون في مرآة الجنان ٤ / ٢٣٨.

(٢) سيذكر ترجمة للسطى هذا فيما بعد.

(٣) انظر ترجمة عبد المهيمن الحضرمي هذا في جذوة الاقتباس ص ٢٧٩ ، نثير الجمان لابن الأحمر ص ٨٨ (مخطوطة خاصة) ، نفح الطيب ٣ / ٢٤٣. وفي تاريخ ابن خلدون ٧ / ٢٤٧ ـ ٢٤٨ حديث عن بيت بني عبد المهيمن.

(٤) يريد مقدمة ابن الصلاح «علوم الحديث».

(٥) أحمد بن محمد بن على الزواوي. روى عن ابن رشيد الفهري ، وأخذ عن مشيخة فاس. كان حيّا سنة ٧٤٨. جذوة الاقتباس ص ٦٠ طبقات القراء ١ / ١٢٥.

٦٦

الكبير بين القراءات السبع ، من طريق أبي عمرو الداني ، (١) وابن شريح ، (٢) في ختمة لم أكملها ، وسمعت عليه عدة كتب ، وأجازني بالإجازة العامة.

ومنهم شيخ العلوم العقلية ، أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الآبلي. (٣) أصله من تلمسان ، وبها نشأ ، وقرأ كتب التعاليم ، وحذق فيها ؛ وأظله الحصار الكبير بتلمسان أمام المائة السابعة ، فخرج منها ، وحجّ ، ولقي أعلام المشرق يومئذ ، فلم يأخذ عنهم ؛ لأنّه كان مختلطا بعارض عرض في عقله. ثم رجع من المشرق ، وأفاق ، وقرأ المنطق والأصلين ، على الشيخ أبي موسى عيسى بن الإمام ؛ وكان قرأ بتونس ، مع أخيه أبي زيد عبد الرحمن ، على تلاميذ ابن زيتون (٤) الشهير الذكر ؛ وجاء إلى تلمسان بعلم كثير من المعقول والمنقول ، فقرأ الآبلي على أبي موسى منهما كما قلناه. ثم خرج من تلمسان هاربا إلى المغرب ، لأن سلطانها يومئذ ، أبو حمّو من ولد يغمراسن بن زيّان ، كان يكرهه على التّصرف في أعماله ، وضبط الجباية بحسبانه ، ففرّ إلى المغرب ،

__________________

(١) عثمان بن سعيد بن عثمان بن عمر أبو عمرو الداني ، نسبة إلى دانية : مدينة بشرق الأندلس ، (٣٧١ ـ ٤٤٤) له كتاب التيسير في القراءات السبع ، والمقنع في رسم المصحف وغيرهما.

طبقات القراء ١ / ٥٠٣ ، نفح الطيب ١ / ٣٨٦.

(٢) محمد بن شريح بن أحمد بن محمد أبو عبد الله الأشبيلي المقرئ (٣٨٨ ـ ٤٧٦) له كتاب الكافي وهو من مخطوطات مكتبه تيمور ، وكتاب التذكير. طبقات القراء ٢ / ١٥٣.

(٣) الآبلى بمدة ، وموحدة مكسورة. وسيعيد ابن خلدون الحديث عنه مرة أخرى بأوسع مما هنا.

(٤) القاسم بن أبي بكر بن مسافر شهر بابن زيتون ، يكني أبا القاسم (٦٢١ ـ ٦٩١) رحل إلى المشرق ، وأخذ عن علمائه ، ورجع إلى تونس ، فتولّى بها الإفتاء والقضاء ؛ وهو أول من أظهر تآليف فخر الدين الرّازي بتونس ، حيث كان يقرئها. (ديباج ص ٩٩ ، أحمد بابا ص ٢٢٢).

٦٧

ولحق بمرّاكش ، ولزم العالم الشهير أبا العبّاس بن البنّاء (١) الشهير الذكر ، فحصّل عنه سائر العلوم العقلية ، وورث مقامه فيها وأرفع ، ثم صعد إلى جبال الهساكرة ، بعد وفاة الشيخ ، باستدعاء علي بن محمد بن تروميت ، ليقرأ عليه ، فأفاده ، وبعد أعوام استنزله ملك المغرب ، السّلطان أبو سعيد ، (٢) وأسكنه بالبلد الجديد ، والآبليّ معه.

ثم اختصّه السّلطان أبو الحسن ، ونظمه في جملة العلماء بمجلسه ، وهو في خلال ذلك يعلّم العلوم العقلية ، ويبثّها بين أهل المغرب ، حتى حذق فيها الكثير منهم من سائر أمصارها ، وألحق الأصاغر بالأكابر في تعليمه.

ولمّا قدم على تونس في جملة السّلطان أبي الحسن ، لزمته ، وأخذت عنه الأصلين ، والمنطق ، وسائر الفنون الحكمية ، والتّعليميّة ؛ وكان رحمه‌الله ، يشهد لي بالتّبريز في ذلك.

وممّن قدم في جملة السّلطان أبي الحسن : صاحبنا أبو القاسم عبد الله بن يوسف بن رضوان المالقي. (٣) كان يكتب عن السّلطان ، ويلازم خدمة أبي محمد عبد المهيمن رئيس الكتّاب يومئذ ، وصاحب العلامة التي توضع عن السّلطان أسفل المراسيم والمخاطبات ، وبعضها يضعه السّلطان بخطّه.

وكان ابن رضوان هذا من مفاخر المغرب ، في براعة خطّه ، وكثرة علمه ، وحسن سمته ، وإجادته في فقه الوثائق ، والبلاغة في التّرسيل عن السّلطان ، وحوك الشعر ،

__________________

(١) أبو العباس أحمد بن محمد بن عثمان الأزدي المراكشي (٦٥٤ ـ ٧٢٤) يعرف بابن البناء العددي ؛ ولد بمراكش ، وتعلم بها ، وتوفي بها. وقد أخطأ الأستاذ قدري حافظ طوقان في كتابه : تراث العرب العلمي في الرياضيات والفلك ص ٢١٦ ، حيث زعم أنه ولد بغرناطة. وسبب هذا الخطأ أن الأستاذ طوقان يؤرّخ العرب الرياضيين والفلكيين ، ولا يرجع ، عند البحث عنهم ، إلى المصادر العربية التي هي الأصول الأولى لأخبار هؤلاء الأعلام. وتلك بلوى عمّت في زمن يقال إنه عصر النهضة. الدرر الكامنة ١ / ٢٧٨ ، أحمد بابا ص ٦٥ ، جذوة الاقتباس ص ٧٣ ، الاستقصا ٢ / ٨٨ ، مقدمة شرح تلخيص أعمال الحساب تأليف ابن هيدور التازي (نسخة خاصة).

(٢) انظر أخباره في تاريخ ابن خلدون ٧ / ٢٤١ ـ ٢٤٣ ، وشذرات الذهب ٧ / ١٦٧.

(٣) سيأتي حديثه المفصل عن ابن رضوان.

٦٨

والخطابة على المنابر ؛ لأنه كان كثيرا ما يصلّي بالسّلطان. فلمّا قدم علينا بتونس ، صحبته ، واغتبطت به ، وإن لم أتخذه شيخا ، لمقاربة السن ، فقد أفدت منه كما أفدت منهم.

وقد مدحه صاحبنا أبو القاسم الرّحوي شاعر تونس في قصيدة على رويّ النون ، يرغب منه (١) تذكرة شيخه أبي محمد عبد المهيمن في إيصال مدحه إلى السّلطان أبي الحسن ، في قصيدته على روي الباء ، وقد تقدم ذكرها في أخبار السّلطان. (٢)

وذكر في مدح ابن رضوان أعلام العلماء القادمين مع السّلطان وهي :

عرفت زماني حين أنكرت عرفاني

وأيقنت أن لا حظّ في كفّ كيوان (٣)

وأن لا اختيار في اختيار مقوّم

وأن لا قراع بالقران لأقراني (٤)

وأنّ نظام الشّكل (٥) أكمل نظمه

لأضعف قاض في الدّليل برجحان

وأن افتقار المرء في فقراته

ومن ثقله يعني اللبيب بأوزان

__________________

(١) كذا في الأصل.

(٢) انظر تاريخ ابن خلدون ٧ / ٢٧٠ ـ ٢٧٣.

(٣) كيوان : اسم لزحل ، وهو أحد الكواكب السيارة.

(٤) مقوم الكوكب : موضعه (طوله) من فلك البروج (الدائرة الكسوفية) ، والقران : اجتماع كوكبين سيارين في نقطة واحدة من فلك البروج ، ويشير الرحوى إلى ما يزعمه المنجمون من أن الكوكب إذا كان في موضع معين في فلك البروج ، أو اقترن بكوكب آخر في نقطة معينة ، كان له أثر حسن ، أو سيئ ، في أعمال الإنسان.

(٥) نظام الشكل : شكل الفلك ، يريد وضعه في وقت معين ، وهو ما يعرف عندهم بالنصبة الفلكية.

ونظام الشكل : كناية عن حسن دلالته. يقول. مهما انتظم الشكل فإنه أضعف فاض في دلالة القران على رجحان عمل على آخر.

٦٩

فمن بعد ما شمت الخلاب ولم أرع

لهشّة راض أو لشرّة غضبان

ولم يعشني للنار لمع شعاعها

فما كل نار نار موسى بن عمران

ولم يبق لي في الغيب من أمل سوى

لقاء ابن رضوان وجنّة رضوان

هنالك ألفيت العلا تنتمي إلى

أناس ضئيل عندهم فخر غسّان

وأرعيت من روض التأدب يانعا

وحيّيت من كنز العلوم بعقيان

وردت فلم تجدب لديه ريادتي

وصدّق طرفي ما تلقته آذاني

فحسبك من آدابه كلّ زاخر

يحيّيك معسولا بدرّ ومرجان

يحيّيك بالسّلك الذي لم تحط به

طروس ابن سهل أو سوالف بوران (١)

فقل بابليّ إن ينافثك لفظة

وفي وشيه الأطراس قل هو صنعاني

خلائق لم تخلق سدى بل تكمّلت

بإسداء إنعام وإيلاء إحسان

__________________

(١) السالفة : جانب العنق ، وجعلوا كل جزء من العنق سالفة ، فقالوا : إنها لوضّاحة السوالف. (لسان ، وأساس).

وبوران : هي بنت الحسن بن سهل. تزوجها الخليفة المأمون ، وأنفق في زفافها من الأموال ما أصبح مضرب المثل. وفيات الأعيان ١ / ١١٦.

وابن سهل هو الحسن بن سهل السّرخسي والد بوران ، ووزير المأمون ، له في البلاغة مكانه. (وفيات ١ / ١٧٧).

٧٠

ثم يقول في ذكر العلماء القادمين :

هم القوم كلّ القوم ، أما حلومهم

فأرسخ من طودي ثبير (١) وثهلان(٢)

فلا طيش يعروهم وأما علومهم

فأعلامها تهديك من غير نيران

بفقه يشيم الأصبحيّ (٣) صباحه

وأشهب (٤) منه يستدلّ بشهبان

وحسن جدال للخصوم ومنطق

يجيئان في الأخفى بأوضح برهان

سقت روضة الآداب منهم سحائب

سحبن على سحبان (٥) أذيال نسيان

فلم يبق نأي ابن الإمام شماخة

على مدن الدّنيا لأنف تلمسان

وبعد نوى السّطيّ لم تسط فاسه

بفخر على بغدان في عصر بغدان

وبالآبليّ استسقت الأرض وبلها

ومستوبل ما مال عنه لأظعان

__________________

(١) ثبير : جبل بظاهر مكة. (تاج العروس).

(٢) ثهلان : جبل في بلاد بني نمير. (تاج العروس).

(٣) يريد بالأصبحي مالك بن أنس الإمام المعروف ؛ لانتهاء نسبه إلى ذي أصبح. (ديباج ص ١١ ـ ٣٠).

(٤) هو أبو عمرو أشهب بن عبد العزيز بن داود الفقيه المالكي المصري (١٥٠ ـ ٢٠٤). وفيات الأعيان ١ / ٩٧.

(٥) هو سحبان بن زفر بن إياس الوائلي ، يضرب به المثل في البيان ؛ أدرك الإسلام ، ومات سنة ٥٤ ه‍.

ترجمته في شرح ابن نباتة على رسالة ابن زيدون ص ٧٥.

٧١

وهامت على عبد المهيمن تونس

وقد ظفرت منه بوصل وقربان

وما علقت مني الضمائر غيره

وإن هويت كلا بحبّ ابن رضوان

وكتب هذا الشاعر : صاحبنا الرّحوي يذكّر عبد المهيمن بذلك :

لهي النفس في اكتساب وسعي

وهو العمر في انتهاب وفيّ

وأرى الناس بين ساع لرشد

يتوخّى الهدى وساع لغيّ

وأرى العلم للبرية زينا

فتزيّا منه بأحسن زيّ

وأرى الفضل قد تجمّع كلا

في ابن عبد المهيمن الحضرميّ

حلّ بالرتبة العلية في حض

ر ملك سامي العماد عليّ

قلم أوسع الأقاليم أمرا

فله قد أطاع كلّ عصيّ

قدر ما يفيد منه احتذار

فبأيّ تراه يقضي بايّ

يمنح العزّ والعلا ويوالي

بالعطايا الجسام كلّ وليّ

يلجأ الدّارعون خوفا إليه

فهو يزري بالصّارم المشرفيّ

هو أعلى الأقلام في كل عصر

حيث ينمى إلى الإمام عليّ

٧٢

حليت تلكم الرياسة منه

بفريد في كل معنى سنيّ

سالك في النّظام درا وطورا

ناثر درّه بنشر وطيّ

بدع للبديع (١) ترمي بحصر

ولصابي (٢) بني بويه بعيّ

ويرى أخرس العراق لديه

أنّه بالشآم كالأعجميّ

وعلوم هي البحور ولكن

ينثني الواردون منها بريّ

تصدر الأمة العظيمة عنه

بحديث مجوّد مرويّ

وبفقه فيه وحسن مقال

يضع النور في لحاظ العميّ

وبنحو ينحي على سيبويه

ببيان في المبهمات جليّ

عمي الأخفشان عنه وسدّت

عن خفاياه فطنة الفارسيّ

يا أخا الحكم في الأنام وإنّي

لأنادي ربّ النّدى والنّديّ

بنت فكري تعرّضت لحماكم

فالقها راضيا بوجه رضيّ

__________________

(١) يريد أبا الفضل أحمد بن الحسين الهمذاني ، بديع الزمان ؛ المتوفى سنة ٣٩٨. (وفيات الأعيان ١ / ٤٧).

(٢) أبو اسحق إبراهيم بن هلال الصابي الكتاب البليغ (٣١٤ ـ ٣٨٤). وفيات ١ / ١٤.

٧٣

تبتغي القرب من مراقي الأماني

والتّرقّي للجانب العلويّ

فأنلها مرامها نلت سهلا

كلّ دان تبغي وكلّ قصيّ

ثم كانت واقعة العرب على السّلطان بالقيروان ، (١) في فاتحة تسع وأربعين ، فشغلوا عن ذلك ، ولم يظفر هذا الرّحوي بطلبته. ثم جاء الطاعون الجارف ، فطوى البساط بما فيه ، وهلك عبد المهيمن فيمن هلك ، ودفن بمقبرة سلفنا بتونس ، لخلة كانت بينه وبين والدي ، رحمه‌الله ، أيام قدومهم علينا.

فلمّا كانت واقعة القيروان ، ثار أهل تونس بمن كان عندهم من أشياع السّلطان أبي الحسن ، فاعتصموا بالقصبة دار الملك ، حيث كان ولد السّلطان وأهله ، وانتقض عليه ابن تافراكين ، (٢) وخرج من القيروان إلى العرب ، وهم يحاصرون السّلطان ، وقد اجتمعوا على ابن أبي دبوس ، وبايعوا له ، كما مرّ في أخبار السّلطان ، فبعثوا ابن تافراكين إلى تونس ، فحاصر القصبة ، وامتنعت عليه. وكان عبد المهيمن يوم ثورة أهل تونس ، ووقوع الهيعة ، خرج من بيته إلى دارنا ، فاختفى عند أبي رحمه‌الله ، وأقام مختفيا عندنا نحوا من ثلاثة أشهر. ثم نجا السّلطان من القيروان إلى سوسة ، (٣) وركب البحر إلى تونس ، وفرّ ابن تافراكين إلى المشرق. وخرج عبد

__________________

(١) القيروان (Kairwan) عرضها الشمالي ٤٨ ـ ٣٥ ، وطولها الشرقي ٢ ـ ١٠) : مدينة بتونس اختطّها عقبة بن نافع أيام معاوية. ياقوت ٧ / ١٩٣.

(٢) هو شيخ الموحدين أبو محمد بن عبد الله بن تافراكين. وبيت بني تافراكين هذا أحد بيوت الموحدين منذ بداية الدولة الموحدية. انظر أخبارهم في العبر ٦ / ٣٤٨ ـ ٣٥٠ ، ٣٥٢ ـ ٣٥٣. وفي نفح الطيب ٤ / ٩٥ رسالة لابن الخطيب يخاطب فيها أبا محمد هذا.

(٣) سوسة (Susa) عرضها الشمالي ٠٠ ـ ٣٦ ، وطولها الشرقي ٤٠ ـ ١٠) : مدينة معروفة بتونس ، اشتهرت منذ القديم بالصناعة ، وإليها تنسب الثياب السوسية ، وكانت بها أيام الأغلب دار لصناعة السفن. ياقوت ٥ / ١٧٣.

٧٤

المهيمن من الاختفاء ، وأعاده السّلطان إلى ما كان عليه ، من وظيفة العلامة والكتابة ، وكان كثيرا ما يخاطب والدي رحمه‌الله ويشكره على موالاته ، وممّا كتب إليه وحفظته من خطّه :

لحمد ذوي المكارم قد ثناني

فعال شكره أبدا عناني

جزى الله ابن خلدون حياة

منعّمة وخلدا في الجنان

فكم أولى ووالى من جميل

وبرّ بالفعال وباللّسان

وراعى الحضرمية في الذي قد

حبا من ودّه ومن الحنان

أبا بكر ثناءك طول دهرى

أردّد باللسان وبالجنان

وعن علياك ما امتدّت حياتي

أكافح بالحسام وباللسان

فمنك أفدت خلا لست دهري

أرى عن حبّه أثني عناني

وهؤلاء الأعلام الذين ذكرهم الرّحوي في شعره ، هم سبّاق الحلبة في مجلس السّلطان أبي الحسن ، اصطفاهم لصحابته من بين أهل المغرب. فأما ابنا الإمام (١) منهم فكانا أخوين من أهل برشك ، من أعمال تلمسان ، واسم أكبرهما : أبو زيد عبد الرحمن ، واسم الأصغر : أبو موسى عيسى ، وكان أبو هما إماما ببعض مساجد

__________________

(١) انظر ترجمة ابن الإمام في الديباج ص ١٥٣ ، وأحمد بابا ص ١٦٦ ، ١٩٠ ، وفي البستان ١٢٥.

وفي تاريخ ابن خلدون ٧ / ١٠٠ بعض أخبارهما.

٧٥

برشك ، واتهمه المتغلّب يومئذ على البلد زيرم (١) بن حماد ، بأن عنده وديعة من المال لبعض أعدائه ، فطالبه بها ، فلاذ بالامتناع ، وبيّته زيرم ، لينتزع المال من يده ، فدافعه وقتل ، (٢) وارتحل ابناه هذان الأخوان إلى تونس في المئة السابعة ، وأخذا العلم بها عن تلاميذ ابن زيتون ، وتفقّها على أصحاب أبي عبد الله بن شعيب الدّكّالي ، وانقلبا إلى المغرب بحظ وافر من العلم. وأقاما بالجزائر (٣) يبثان بها العلم ، لامتناع برشك عليهما من أجل (ضرر) (٤) زيرم المتغلّب عليها ، والسّلطان أبو يعقوب (٥) يومئذ ، صاحب المغرب الأقصى من بني مرين ، جاثم على تلمسان يحاصرها الحصار الطويل المشهور ، (٦) وقد بثّ جيوشه في نواحيها ، وغلب على الكثير من أعمالها وأمصارها ، وملك عمل مغراوة بشلف ، (٧) وحاضرته مليانة ، (٨) فبعث عليها الحسن بن علي بن أبي الطلّاق من بني عسكر ، وعليّ بن محمد الخيري من بني ورتاجن ، ومعهما ـ لضبط الجباية واستخلاص الأموال ـ الكاتب منديل بن محمد الكناني ، (٩) فارتحل هذان الأخوان يومئذ من الجزائر ،

__________________

(١) اسمه زيرى بالياء ، فتصرفت العامة فيه ، وصار زيرم بالميم. وانظر أخباره في تاريخ بن خلدون ٧ / ٩٩.

(٢) وقد انتقم لها الوالد ابنه الأكبر ، أبو زيد عبد الرحمن. انظر العبر ٧ / ١٠٠.

(٣) تسمى أيضا جزائر بني مزغنّاي (Algiers) عرضها الشمالي ٥٠ ـ ٣٦ ، وطولها الشرقي ٥ ـ ٣) :

عاصمة القطر الجزائري. ياقوت ٣ / ٩٣.

(٤) الزيادة عن البستان حيث نقل عن ابن خلدون.

(٥) هو يوسف بن يعقوب بن عبد الحق المريني المقتول سنة ٧٠٦. انظر ترجمته في الدرر الكامنة ٤ / ٤٨٠.

(٦) دام هذا الحصار ثمانية أعوام ، وثلاثة أشهر. انظر أخباره ، وما جرّه على أهل تلمسان من محن ، في العبر ٧ / ٩٥ ، الدرر الكامنة ٤ / ٤٨٠.

(٧) شلف ، بفتح الشين واللام (Chelif) البسيط الممتد فيما بين مدنية مستغانم ، ومدينة الجزائر ؛ ويقال لهذا البسيط أيضا ، وادي شلف.

(٨) مليانة بالكسر ثم السكون ، وياء مثناة ، وبعد الألف نون : مدينة بإفريقية ، بينها وبين تنس أربعة أيام. ياقوت ٨ / ١٥٥.

(٩) انظر بعض أخباره ، وكيف نكب في العبر ٧ / ٢٤٥.

٧٦

واحتلا بمليانة ، فحليا بعين منديل الكناني ، فقرّبهما واصطفاهما ، واتّخذهما لتعليم ولده محمّد. ثم هلك يوسف بن يعقوب سلطان المغرب ، بمكانه من حصار تلمسان ، سنة خمس وسبعمائة (١) على يد خصيّ من خصيانه ؛ طعنه فأشواه ، وهلك. وقام بالملك بعده حافده أبو ثابت ، بعد خطوب ذكرناها في أخبارهم ، (٢) ووقع بينه وبين صاحب تلمسان يومئذ أبي زيّان محمد بن عثمان بن يغمراسن ، وأخيه أبي حمّو ، العهد المتأكد على الإفراج عن تلمسان ، وردّ أعمالها عليهم ، فوفّى لهم بذلك ، وعاد إلى المغرب. وارتحل ابن أبي الطلاق ، والخيري ، والكناني من مليانة راجعين إلى المغرب ، ومرّوا بتلمسان ، ومع الكناني هذان الأخوان ، فأوصلهما إلى أبي حمّو ، وأثنى عليهما. وعرّفه بمقامهما في العلم ، فاغتبط بهما أبو حمّو ، واختطّ لهما المدرسة المعروفة بهما بتلمسان. (٣) وأقاما عنده على هدي أهل العلم وسننهم ؛ وهلك أبو حمّو ، فكانا كذلك مع ابنه أبي تاشفين إلى أن زحف السّلطان أبو الحسن (المريني (٤)) إلى تلمسان ، وملكها عنوة ، سنة سبع وثلاثين ، وكانت لهما شهرة في أقطار المغرب ، أثبتت لهما في نفس السّلطان عقيدة صالحة ، فاستدعاهما لحين دخوله ، وأدنى مجلسهما ، وأشاد بتكرمتهما ، ورفع محلهما على أهل طبقتهما. وصار يجمّل بهما مجلسه ، متى مرّ بتلمسان ، أو وفدا عليه في الأوقات التي يفد فيها أعيان بلدهما. ثم استنفرهما للغزو ، وحضرا معه واقعة طريف ، (٥) وعادا إلى

__________________

(١) في العبر ٧ / ٦٧ : «آخر سنة ست» ، وقد أشار ابن حجر ، في الدرر الكامنة ٤ / ٤٨٠ ، إلى هذا الخلاف ، واعتمد ـ نقلا عن الإحاطة ـ أنه قتل سنة ٨٠٦.

(٢) مر له ذكر ذلك في العبر ٧ / ٩٧ ، ٢٣٣ فارجع إليه.

(٣) يقول ابن خلدون : كانت هذه المدرسة بناحية «المطهر» من مدينة تلمسان (وفي البستان : «داخل باب كشوط») ، وابتنى لهما دارين على جانبيها ، وجعل لهما التدريس فيها ، في إيوانين معدين لذلك. العبر ٧ / ١٠٠ البستان ص ١٢٦.

(٤) الزيادة عن البستان حيث نقل نص ابن خلدون.

(٥) هي واقعة للسلطان أبي الحسن المريني بمدينة طريف بالأندلس ، كانت الدائرة فيها عليه ، ويذكرها المؤرخون المسلمون في كثير من الألم. انظر تفصيلها في العبر ٧ / ٢٦١ وما بعدها.

٧٧

بلدهما. وتوفي أبو زيد منهما إثر ذلك ، وبقي أخوه أبو موسى متبوّئا ما شاء من ظلال تلك الكرامة.

ولمّا سار السّلطان أبو الحن إلى إفريقية سنة ثمان وأربعين ، كما مرّ في أخباره استصحب أبا موسى ابن الإمام معه مكرّما ، موقّرا ، عالي المحلّ ، قريب المجلس منه. فلمّا استولى على إفريقية ، سرّحه إلى بلده ، فأقام بها يسيرا ، وهلك في الطاعون الجارف سنة تسع وأربعين. وبقي أعقابهما بتلمسان دارجين في مسالك تلك الكرامة ، ومتوقّلين قللها طبقا عن طبق إلى هذا العهد.

وأما السّطّي ، واسمه محمد (بن علي) بن سليمان ، من قبيلة سطّة ، من بطون أوربة بنواحي فاس. نزل أبوه (١) سليمان مدينة فاس ، ونشأ محمد بها ، وأخذ العلم عن الشيخ أبي الحسن الصّغيّر (٢) إمام المالكية بالمغرب ، والطّائر الذّكر ، وقاضي الجماعة بفاس ، وتفقه عليه. وكان أحفظ الناس لمذهب مالك ، وأفقههم فيه. وكان السّلطان أبو الحسن لدينه وسراوته ، وبعد شأوه في الفضل ، يتشوّف إلى تنويه مجلسه بالعلماء ، واختار منهم جماعة لصحابته ومجالسته. كان منهم هذا الإمام محمد (٣) بن سليمان. وقدم علينا بتونس في جملته ، وشهدنا وفور فضائله. وكان في الفقه من بينها لا يجارى ، حفظا وفهما ، عهدي به وأخي محمد رحمه‌الله يقرأ عليه من كتاب التّبصرة لأبي الحسن اللّخمي ، (٤) وهو يصحّحه عليه من إملائه وحفظه ، في مجالس عديدة. وكذا كان حاله في أكثر ما يعاني حمله من الكتب.

__________________

(١) في الجذوة «نزل أبوه على بن سليمان».

(٢) هو علي بن محمد بن عبد الحق الزرويلى أبو الحسن ، يعرف بالصغير (مصغرا) ؛ وجوز في جذوة الاقتباس فتح الصاد ، وكسر الغين. توفى ٧١٩ ديباج ص ٢١٢ ، جذوة ٢١٩ ، الاستقصا ٢ / ٨٨.

ولابن خلدون رأي في أبي الحسن هذا. انظره في العبر ٧ / ٣٤٠.

(٣) في الجذوة : محمد بن علي.

(٤) أبو الحسن على بن محمد ؛ قيرواني الأصل ، ونزل سفاقص ، وبها مات. له تعليق كبير على المدونة سماه التبصرة ، وهو مفيد حسن ، له فيه اختيارات ، وآراء ، خرج بها عن مذهب مالك توفي سنة ٤٩٨. معالم الإيمان ٣ / ٢٤٦ ، ديباج ص ٢٠٣ ، رحلة العبدري ١٢٦ ب.

٧٨

وحضر مع السّلطان أبي الحسن ، واقعة القيروان ، (١) وخلص معه إلى تونس ، وأقام بها نحوا من سنتين. وانتقض (٢) المغرب على السّلطان ، واستقلّ به ابنه أبو عنان. ثم ركب (السّلطان (٣)) أبو الحسن في أساطيله من تونس آخر سنة خمسين ، (٤) ومر ببجاية ، فأدركه الغرق في سواحلها ، فغرقت أساطيله ، وغرق أهله ، وأكثر من كان معه من هؤلاء الفضلاء وغيرهم. وألقاه البحر ببعض الجزر هناك ، حتى استنفذه منه بعض أساطيله ، ونجا إلى الجزائر بعد أن تلف موجوده ، وهلك الكثير من عياله وأصحابه ، وكان من أمره ما مرّ في أخباره.

وأمّا الآبلي (٥) واسمه محمد بن إبراهيم ، فمنشؤه بتلمسان ، وأصله من جالية الأندلس ، من أهل آبلة ، (٦) من بلاد الجوف (٧) منها ، أجاز أبوه وعمه أحمد ،

__________________

(١) واقعة القيروان هذه كانت سنة ٧٤٩ ، وقد تغلب فيها الكعوب من بني سليم على السّلطان أبي الحسن. انظر تاريخ ابن خلدون ٧ / ٢٧٧.

(٢) انظر تاريخ ابن خلدون ٧ / ٢٧٧ ، ٢٨٠.

(٣) الزيادة عن ط.

(٤) في الجذوة ص ١٤٣ : أن الغرق حدث في سنة ٧٤٩ ، ثم حكى بصيغة «قيل» : القول بأنه كان في سنة ٠٥٧. وانظر تفصيل هذا الحادث في العبر ٧ / ٢٨٤.

(٥) محمد بن إبراهيم الآبلى هذا ، من أخص أساتذة ابن خلدون ، وهو ـ فيما تحدثت به المراجع ـ عالم ذو مكانة بعيدة المدى في الثقافة الإسلامية بالمغرب.

اقرأ ترجمته في جذوة الاقتباس ص ١٤٤ ، ١٩١ ، نيل الابتهاج ٢٤٥ ، الدرر الكامنة ٣ / ٢٨٨ ، البستان ٢١٤.

(٦) آبلةAvila) عرضها الشمالي ٣٩ ـ ٤٠ ، وطولها الغربي ٤٤ ـ ٤) : مدينة في الشمال الغربي لمقاطعة مدريد من إقليم آبلة. وهي ، كما قيدها ابن خلدون ، بهمزة مفتوحة ممدودة ، وباء موحدة مكسورة ؛ وقد نص على كسر الباء ابن حجر في الدرر الكامنة (٣ / ٢٨٨).

وما في تاج العروس من أن الآبلى ، منسوب إلى آبل ، بضم الباء ، خطأ ؛ والغريب أنه نقل ترجمته عن ابن حجر الذي نص على أنه بكسر الباء.

(٧) المراد بالجوف ؛ الشمال في لغة المغاربة والأندلسيين. تاريخ ابن خلدون ٤ / ١٧٩ ، ١٨٣ ، الاستقصا ٢ / ٨٧.

٧٩

فاستخدمهم يغمراسن بن زيّان ، وولده في جندهم ، وأصهر إبراهيم منهما إلى القاضي بتلمسان محمد بن غلبون في ابنته ، فولدت له محمّدا هذا. ونشأ بتلمسان في كفالة جدّه القاضي ، فنشأ له بذلك ميل إلى انتحال العلم عن الجندية التي كانت منتحل أبيه (وعمّه (١)). فلما يفع وأدرك ، سبق إلى ذهنه محبّة التّعاليم ، فبرع فيها ، واشتهر. وعكف الناس عليه في تعلّمها وهو في سن البلوغ. ثم أطلّ السّلطان يوسف بن يعقوب على تلمسان ، وجثم عليها يحاصرها. وسيّر بعوثه إلى الأعمال ، فافتتح أكثرها ، وكان إبراهيم الآبلي قائدا بهنين ؛ مرسى تلمسان في لمة من الجند ، فلمّا ملكها يوسف بن يعقوب ، اعتقل من وجد بها من شيع ابن زيّان ، واعتقل إبراهيم الآبليّ فيهم ، وشاع الخبر في تلمسان بأنّ يوسف بن يعقوب يسترهن أبناءهم ويطلقهم ، فتشوّف ابنه محمد إلى اللحاق به ، من أجل ذلك ، وأغراه أهله بالعزم عليه ، فتسوّر الأسوار ، وخرج إلى أبيه ، فلم يجد خبر الاسترهان صحيحا. واستخدمه يوسف بن يعقوب قائدا على الجند الأندلسيين بتاوريرت ، فكره المقام على ذلك ، ونزع عن طوره ، ولبس المسوح ، وسار قاصدا الحجّ. وانتهى إلى رباط العبّاد (٢) مختفيا في صحبة الفقراء ، فوجد هنالك رئيسا من أهل كربلاء (٣) ثم من بني الحسين ، جاء إلى المغرب يروم إقامة دعوتهم فيه ، وكان معقّلا ؛ فلمّا رأى عساكر يوسف بن يعقوب ، وشدّة هيبته ، غلب عليه اليأس من مرامه ، ونزع عن ذلك ، واعتزم الرّجوع إلى بلده ، فسار شيخنا محمد بن إبراهيم في جملته.

قال لي رحمه‌الله : وبعد حين انكشف لي حاله ، وما جاء له ، واندرجت في

__________________

(١) الزيادة عن ط.

(٢) مرتفع جميل خارج مدينة تلمسان ، كان مدفن الأولياء والصلحاء والعلماء. وهناك موضعان عرفا باسم «العباد» ؛ أحدهما يسمى العباد الفوقي ، وكان بعيدا نوعا ما عن المدينة ، والثاني العباد السفلي ، وكان بباب الجياد من أبواب تلمسان.

(٣) هو الموضع الذي قتل فيه الحسين بن علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنهما ، وقد أطلق اليوم اسم كربلاء على لواء كامل من ألوية العراق ، Karbala) عرضه الشمالي ٣٣ ـ ٣٢ وطوله الشرقي ٦ ـ ٤٤). ياقوت ٧ / ٢٢٩.

٨٠