رحلة ابن خلدون

محمّد بن تاويت الطنجي

رحلة ابن خلدون

المؤلف:

محمّد بن تاويت الطنجي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: ارتياد الآفاق
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

هجر المنى فيها ولذّات المنى

في لذّة التهجير والتغليس (١)

حاط الرّعية بالسّياسة فانضوت

منه لإكرم مالك وسؤوس

أسد يحامي عن حمى أشباله

حتى ضووا منه لأمنع خيس (٢)

قسما بموشي البطاح وقد غدت

تختال زهوا في ثياب عروس

والماثلات من الحنايا جثّما

يخبرن عن طسم وفلّ جديس (٣)

خوص (٤) مضمرة البطون كأنّها

أنضاء (٥) ركب في الفلاة حبيس (٦)

__________________

(١) التهجير إلى الصلاة : التبكير والمبادرة إليها ؛ وفي الحديث : لو يعلم الناس ما في التهجير لاستبقوا إليه. والتغليس : السير إلى الصلاة الصبح وقت الغلس ، وهو ظلمة آخر الليل. فلا يزال الحديث عن التبكير إلى الصلاة. ووصف السّلطان أبي العباس بذلك إطراء له.

(٢) ضووا : لجأوا ، والخيس ؛ موضع الأسد.

(٣) طسم وجديس : حيان من العرب البائدة ؛ كان مسكنهما البحرين ، واليمامة. وقد أوقع حسان بن تبع بقبيلة جديس ، وإلى ذلك ينظر ابن خلدون. وانظر الطبري ٢ / ٣٨ ـ ٣٩ ، مروج الذهب طبع باريس ٣ / ١٠٣ ـ ١٠٦.

(٤) خوص : لونها أشهب ، مثلما يصبح لون الرأس عند ما يستوي فيه سواد الشعر وبياضه. وانظر اللسان ٨ / ٢٩٨.

(٥) جمع نضو ؛ وهو المهزول.

(٦) حبيس : محبوس.

٢٨١

وخز البلى منها الغوارب (١) والذّرى (٢)

فلفتن خزرا بالعيون الشّوس (٣)

لبقاك حرز للأنام وعصمة

وحياة أرواح لنا ونفوس

ولأنت كافل ديننا بحماية

لولاك ضيّع عهدها وتنوسي

الله أعطاك التي لا فوقها

وحباك حظّا ليس بالموكوس (٤)

تعنو القلوب إليك قبل وجوهنا

سيّان من رأس ومن مرؤوس

فإذا أقمت فإنّ رعبك راحل

يحمي على الأعداء كلّ وطيس

وإذا رحلت فللسّعادة آية

تقتادها في موكب وخميس

وإذا الأدلّة في الكمال تطابقت

جاءت بمسموع لها ومقيس

فانعم بملكك دولة عادية (٥)

تشقي الأعادي بالعذاب البيس

وإليكها منّي على خجل بها

عذراء قد حليت بكلّ نفيس

__________________

(١) الغوارب : جمع غارب ، وهو مقدم سنام البعير.

(٢) جمع ذروة ؛ وهي أعلى سنام البعير ؛ يعني أن البلى قد عمها.

(٣) الشوس : جمع شوساء النظر بمؤخّر العين غيظا.

(٤) الموكوس : المنقوص.

(٥) نسبة إلى عاد الأمة المعروفة. ويريد أنها طويلة الأمد.

٢٨٢

عذرا فقد طمس الشّباب ونوره

وأضاء صبح الشّيب عند طموس

لو لا عنايتك التي أوليتني

ما كنت أعنى بعدها بطروس

والله ما أبقت ممارسة النّوى

منّي سوى مرس أحمّ دريس (١)

أنحى الزمان عليّ في الأدب الذي

دارسته بمجامع ودروس

فسطا على وفري وروع مأمني

واجتثّ من دوح النشاط غروسي

ورضاك رحمتي التي أعتدّها

تحيي منى نفسي وتذهب بوسي

ثم كثرت سعاية البطانة بكلّ نوع من أنواع السعايات ، وابن عرفة يزيد في إغرائهم متى اجتمعوا إليه ، إلى أن أغروا السّلطان بسفري معه ، ولقّنوا النائب بتونس القائد فارح من موالي السّلطان أن يتفادى من مقامتي معه ، خشية على أمره مني بزعمه ، وتواطؤوا على أن يشهد ابن عرفة بذلك للسّلطان ، فشهد به في غيبة مني ، ونكر السّلطان عليهم ذلك ، ثم بعث إليّ وأمرني بالسفر معه ، فسارعت إلى الامتثال ، وقد شقّ ذلك عليّ ، إلا أنّي لم أجد محيصا عنه ، (٢) فخرجت معه ، وانتهيت إلى تبسة ، وسط تلول إفريقية ، وكان منحدرا في عساكره وتواليفه من العرب إلى توزر ، لأن ابن يملول كان أجلب عليها سنة ثلاث وثمانين ، واستنقذها من يد ابنه ، فسار السّلطان إليه ، وشرّده عنها ، وأعاد إليها ابنه وأولياءه. ولما نهض من تبسه ، رجّعني إلى تونس ، فأقمت بضيعتي الرّياحين من نواحيها لضمّ زروعي بها ،

__________________

(١) المرس (بفتح الميم والراء) : الحبل. والأحم : الأسود. والدريس : الخلق.

(٢) الزيادة عن طب.

٢٨٣

إلى أن قفل السّلطان ظافرا منصورا ، فصحبته إلى تونس.

ولمّا كان شهر شعبان من سنة أربع وثمانين ، أجمع السّلطان الحركة إلى الزّاب ، بما كان صاحبه ابن مزنى قد آوى ابن يملول إليه ، ومهّد له في جواره ، فخشيت أن يعود في شأني ما كان في السفرة قبلها. وكانت بالمرسى سفينة لتجار الإسكندرية قد شحنها التّجار بأمتعهم وعروضهم ، وهي مقلعة إلى الإسكندرية ، فتطارحت على السّلطان ، وتوسلت إليه في تخلية سبيلي لقضاء فرضي ، فأذن لي في ذلك ، وخرجت إلى المرسى ، والناس متسايلون على أثري من أعيان الدولة والبلد وطلبة العلم. فودّعتهم ، وركبت البحر منتصف شعبان من السنة ، وقوّضت عنهم بحيث كانت الخيرة من الله سبحانه ، وتفرّغت لتجديد ما كان عندي من آثار العلم ، والله ولي الأمور سبحانه.

الرحلة إلى المشرق وولاية القضاء بمصر (١)

ولمّا رحلت من تونس منتصف شعبان من سنة أربع وثمانين ، أقمنا في البحر نحوا من أربعين ليلة ، ثم وافينا مرسى الإسكندرية يوم الفطر. ولعشر ليال من جلوس الملك الظاهر (٢) على التّخت ، واقتعاد كرسي الملك دون أهله بني قلاوون ، (٣) وكنّا على ترقب ذلك ، لما كان يؤثر بقاصية البلاد من سموّه لذلك ، وتمهيده له.

__________________

(١) من هنا إلى قوله : «... والحاضرون بذلك» «في نهاية الفقرة الرابعة القادمة» قد نقله المقري في نفح الطيب ٣ / ١٣٦ بولاق.

(٢) أبو سعيد برقوق بن أنص ، ويعرف ببرقوق العثماني نسبة إلى فخر الدين عثمان بن مسافر. تولى الملك في المرة الأولى سنة ٧٨٤ ؛ وثار عليه يلبغا الناصري ، ففر ثم ، سجن بالكرك ، ثم بالإسكندرية .... ثم عاد إلى ملكه في سنة ٧٩٢ ، واستبد بالملك حتى مات سنة ٨٠١. له ترجمة واسعة في المنهل الصافي ورقة ٣١٦ من نسخة دار الكتب ، خطط المقريزي بولاق ٢ / ٢٤١ وما بعدها ، العبر لابن خلدون ٥ / ٤٦٧ ـ ٤٧٢. وانظر السلوك ١١٠ أ(نسخة الفاتح).

(٣) انظر أخبار بني قلاوون في الخطط للمقريزي ٢ / ٢٣٦ ـ ٢٤٢ بولاق.

٢٨٤

وأقمت بالإسكندرية شهرا لتهيئة أسباب الحجّ ولم يقدر عامئذ ، فانتقلت إلى القاهرة أول ذي القعدة ، فرأيت حضرة الدنيا ، وبستان العالم ، ومحشر الأمم ، ومدرج الذّرّ (١) من البشر ، وإيوان الإسلام ، وكرسي الملك ، تلوح القصور والأواوين في جوّه ، وتزهر الخوانك (٢) والمدارس بآفاقه ، وتضيء البدور والكواكب من علمائه ، قد مثل بشاطئ بحر النيل نهر الجنّة (٣) ومدفع مياه السماء ، يسقيهم النّهل والعلل سيحه (٤) ويجني إليهم الثّمرات والخيرات ثجّه ، (٥) ومررت في سكك المدينة تغصّ بزحام المارّة ، وأسواقها تزخر بالنعم. وما زلنا نحدّث عن هذا البلد ، وبعد مداه في العمران ، واتساع الأحوال ، ولقد اختلفت عبارات من لقيناه من شيوخنا وأصحابنا ، حاجّهم وتاجرهم ، بالحديث عنه. سألت صاحبنا قاضي الجماعة بفاس ، وكبير العلماء بالمغرب ، أبا عبد الله المقري ، (٦) (مقدمه من الحجّ سنة أربعين (٧)) ، فقلت له : كيف هذه القاهرة؟ فقال : من لم يرها لم يعرف عزّ الإسلام.

وسألت شيخنا أبا العبّاس بن إدريس (٨) كبير العلماء ببجاية مثل ذلك فقال :

__________________

(١) المدرج : الطريق. والذر : النمل الأحمر الصغير.

(٢) جمع خانقاه ، وتقدمت كلمة عنها.

(٣) يشير ابن خلدون هنا إلى ما يقص حول نهر النيل من أنه أحد أنهار الجنة ، كدجلة والفرات ، وسيحان. وانظر الباب الأول من كتاب : «معرفة نيل مصر» للعماد الأقفهي (مخطوطة بمكتبة بغداد لي وهبي رقم ١٠٢٧) ، وخطط المقريزي ١ / ٨٠ ـ ٨١ طبع مصر سنة ١٣٢٤. على أن ابن خلدون لم يلتفت إلى هذا حين تحدث عن هذه الأنهار في مقدمته ؛ وقد نقد ياقوت هذه الأقاصيص بأنها «حديث خرافة».

(٤) السيح : الماء الجاري على وجه الأرض.

(٥) الثج : الصب الكثير. وفي القرآن : (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً) وثجيج الوادي : سيله.

(٦) مرت له ترجمة.

(٧) الزيادة عن الظاهري.

(٨) هو أبو العباس أحمد بن إدريس البجائي المالكي المتوفى بعد سنة ٠٦٧ ، له ترجمة في الديباج ص ٨١ ، ونيل الابتهاج ص ٧١.

٢٨٥

كأنّما انطلق أهله من الحساب ، يشير إلى كثرة أممه وأمنهم العواقب. (١)

وحضر صاحبنا قاضي العسكر بفاس ، الفقيه الكاتب أبو القاسم البرجي (٢) بمجلس السّلطان أبي عنان ، منصرفه من السّفارة عنه إلى ملوك مصر ، وتأدية رسالته النبوية (٣) إلى الضريح الكريم ، سنة ست وخمسين وسأله عن القاهرة فقال :

أقول في العبارة عنها على سبيل الاختصار : إن الذي يتخيّله الإنسان ، فإنّما يراه دون الصّورة التي تخيّلها ، اتساع الخيال عن كلّ محسوس ، إلا القاهرة ، فإنّها أوسع من كل ما يتخيّل فيها. فأعجب السّلطان والحاضرون بذلك.

ولما دخلتها ، أقمت أياما ، وانثال عليّ طلبة العلم بها ، يلتمسون الإفادة مع قلّة البضاعة ، ولم يوسعوني عذرا ، فجلست للتدريس بالجامع الأزهر منها. (٤)

ثم كان الاتصال بالسّلطان ، فأبرّ اللّقاء ، وأنس الغربة ، ووفّر الجراية من صدقاته ، شأنه مع أهل العلم ، وانتظرت لحاق أهلي وولدي من تونس ، وقد صدّهم السّلطان هنالك عن السفر ، اغتباطا بعودي إليه ، فطلبت من السّلطان صاحب مصر الشّفاعة إليه في تخلية سبيلهم ، فخاطبه في ذلك بما نصّه. (٥)

__________________

(١) يقول المقريزي : «.... قال شيخنا الأستاذ أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون رحمه‌الله تعالى :

أهل مصر كأنما فرغوا من الحساب». وانظر الخطط ١ / ٧٩ طبع صر سنة ١٣٢٤.

(٢) أبو القاسم محمد بن يحيى. مرت ترجمته في السابق.

(٣) هي رسالة اعتادوا أن يكتبوها في مناسبات مختلفة ، ويبعثوا بها إلى قبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ يحملها رسول خاص إلى الروضة الشريفة حيث تقرأ قرب القبر النبوي الكريم. وفي نفح الطيب أمثلة لهذا النوع من الرسائل.

(٤) جاء في «السلوك» ١١١ ب «نسخة الفاتح» : «وفي هذا الشهر (رمضان) ، قدم شيخنا أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون من بلاد المغرب ، واتصل بالأمير الطنبغا الجوباني وتصدى للاشتغال بالجامع الأزهر ، فأقبل الناس عليه ، وأعجبوا به». والصحيح أنه دخل القاهرة فيما بين ٢١ شوال وأول ذي القعدة.

(٥) سقط نص هذه الرسالة مما عدا نسخة «طب» من الأصول.

٢٨٦

بسم الله الرحمن الرحيم. (١)

عبد الله ووليه أخوه برقوق ، (٢)(٣)

السّلطان الأعظم ، المالك الملك الظاهر ، السيّد الأجلّ ، العالم العادل ، المؤيّد المجاهد ، المرابط المثاغر ، المظفّر ، الشّاهنشاه ، سيف الدنيا والدين ، سلطان الإسلام والمسلمين ، محيي العدل في العالمين ، منصف المظلومين من الظالمين ، وارث الملك ، سلطان العرب والعجم والترك ، اسكندر الزمان ، مولي الإحسان ، مملّك أصحاب التّخوت والأسرّة والتّيجان ، واهب الأقاليم والأقطار ، مبيد الطّغاة والبغاة والكفّار ، ملك البحرين ، مسلك سبيل القبلتين ، خادم الحرمين الشريفين ، ظلّ الله في أرضه ، القائم بسنّته وفرضه ، سلطان البسيطة مؤمّن الأرض المحيطة ، سيّد الملوك والسّلاطين ، قسيم (٤) أمير المؤمنين ، (٥) أبو سعيد برقوق ابن الشهيد شرف الدنيا والدين أبي

__________________

(١) حافظت في هذه الرسالة على الطريقة الرسمية التي كانت متبعة في ذلك العهد ، والتي يقول عنها القلقشندي في صبح الأعشى (٧ / ٣٧٨) ، في رسم المكاتبة إلى صاحب فاس ، وغيره من ملوك المغرب :

«... وهو أن يكتب بعد البسملة ، بحيث يكون تحتها سواء ، في الجانب الأيمن من غير بياض ، ما مثاله : «عبد الله ووليه». ثم يخلي مقدار بيت العلامة ، ثم يكتب الألقاب الشريفة من أول السطر مسامتا للبسملة ، وهي : السّلطان الأعظم الخ».

(٢) في خطط المقريزي ٢ / ٢١١ بولاق : «وأما البريد ، وخلاص الحقوق والظلامات ، فإنه (السّلطان) يكتب أيضا اسمه ، وربما كرم المكتوب إليه ، فكتب إليه : «أخوه فلان ، أو والده فلان ، وأخوه».

(٣) هذا البياض هو بيت العلامة ، وكانت علامة الناصر محمد بن قلاوون : «الله أملى» ، وعمل ذلك الملوك بعده. وانظر خطط المقريزي ٢ / ٢١١ بولاق ، والاستقصا ٢ / ٧٢ ، صبح الأعشى ٧ / ٣٧٨.

(٤) القسيم بمعنى المقاسم ؛ والمراد أنه قاسم أمير المؤمنين الملك ، وساهمه في الأمر ، فصارا فيه مشتركين. وانظر صبح الأعشى ٧ / ٦٥ ، ١١٣.

(٥) هو المتوكل على الله ، أبو عبد الله محمد بن المعتضد الخليفة العباسي. ولي سنة ٧٦٣ ه‍ وامتدت أيامه ٤٥ سنة ، حبس فيها وخلع ؛ ومات سنة ٨٠٨ ه‍. وانظر «تاريخ الخلفاء» ص ٢٠٢ ، ٣٠٢.

٢٨٧

المعالي أنس. (١) خلّد الله سلطانه ، ونصر جيوشه وأعوانه ـ يخصّ الحضرة السنية السرية ، المظفّرة الميمونة ، المنصورة المصونة ، حضرة السّلطان العالم ، العادل المؤيّد ، المجاهد الأوحد ، أبي العبّاس ، ذخر الإسلام والمسلمين ، عدّة الدنيا والدين ، قدوة الموحدين ، ناصر الغزاة والمجاهدين ، سيف جماعة الشاكرين ، صلاح الدول. لا زالت مملكته بقوّته عامرة ، ومهابته لنفوس الجبابرة قاهرة ، ومعدلته تبوّئه غرفات العزّ في الدنيا والآخرة. سلام صفا ورده وضفا برده ، وثناء فاح ندّه ، ولاح سعده ، ووداد زاد وجده وجاد جدّه.

أما بعد حمد الله الذي جعل القلوب أجنادا مجنّدة ، وأسباب الوداد على البعاد مؤكّدة ، ووسائل المحبّة بين الملوك في كلّ يوم مجدّدة ، والصلاة والسلام على سيّدنا ومولانا محمّد عبده ورسوله ، الذي نصره الله بالرّعب مسيرة شهر وأيّده (٢) وأعلى به منار الدين وشيّده ، وعلى آله وأصحابه الذين اقتفوا طريقه وسؤدده ، صلاة دائمة مؤبّدة. فإننا نوضح لعلمه الكريم ، أن الله ـ وله الحمد ـ جعل جبلتنا الشريفة مجبولة على تعظيم العلم الشّريف وأهله ، ورفعة شأنه ، ونشر أعلامه ، ومحبّة أهله وخدّامه ، وتيسير مقاصدهم وتحقيق أملهم ، والإحسان إليهم ، والتقرّب إلى الله بذلك في السّر والعلانية ، فإن العلماء رضي‌الله‌عنهم ورثة الأنبياء وقرّة عين الأولياء ، وهداة خلق الله في أرضه ، لا سيّما من رزقه الله الدراية فيما علمه من ذلك ، وهداه للدخول إليه من أحسن المسالك ، مثل من سطّرنا هذه المكاتبة بسببه : المجلس (٣) السّامي ، الشّيخي ، الأجلّي ، الكبيري ، العالمي ، الفاضلي ، الأثيلي ،

__________________

(١) هو سيف الدين أنص الجركسي العثماني المتوفى سنة ٧٨٣ ه‍. ترجمته ، وخبر قدومه إلى مصر في العبر ٥ / ٣٧٢ ـ ٣٧٣ ، والمنهل الصافي ، ورقة ٢٦٩ ب (نسخة دار الكتب).

(٢) يشير إلى حديث الصحيحين : «نصرت بالرعب مسيرة شهر». وانظر «كنوز الحقائق» للمناوي.

(٣) هذا النوع من الحلي والألقاب الخاصة بأرباب الوظائف الدينية ، يأتي في المرتبة الثالثة ؛ فالأولى : درجة «المقر» ، والثانية : درجة «الجناب» ، والثالثة : درجة «المجلس» ؛ ولكل من الدرجات فروع ؛ و «المجلس السامي» أحد فروع درجة «المجلس». وانظر تفصيل القول عن هذه الاستعمالات في صبح الأعشى ٧ / ١٥ ، ١٥٤ ـ ١٥٩.

٢٨٨

الأثيري ، الإمامي ، العلامي ، القدوي ، المقتدي ، الفريدي ، المحقّقي ، الأصيلي ، الأوحدي ، الماجدي ، الولوي ، (١) جمال الإسلام والمسلمين ، جمال العلماء في العالمين ، أوحد الفضلاء ، قدوة البلغاء ، علامة الأمّة ، إمام الأئمّة ، مفيد الطّالبين ، خالصة الملوك والسّلاطين (٢) عبد الرحمن بن خلدون المالكي. أدام الله نعمته ؛ فإنّه أولى بالإكرام ، وأحرى ، وأحقّ بالرعاية وأجلّ قدرا ، وقد هاجر إلى ممالكنا الشريفة ، وآثر الإقامة عندنا بالديار المصرية ، لا رغبة عن بلاده ، بل تحبّبا إلينا ، وتقرّبا (إلى) (٣) خواطرنا ، بالجواهر النفيسة ، من ذاته الحسنة ، وصفاته الجميلة ، ووجدنا منه فوق ما في النفوس ، ممّا يجلّ عن الوصف ويربي على التّعداد. يا له من غريب وصف ودار ، قد أتى عنكم بكلّ غريب ، وما برح ـ من حين ورد علينا ـ يبالغ في شكر الحضرة العليّة ومدح صفاتها الجميلة ، إلى أن استمال خواطرنا الشريفة إلى حبّها ، وآثرنا المكاتبة إليها.

«والأذن تعشق قبل العين أحيانا» (٤)

وذكر لنا في أثناء ذلك ، أنّ أهله وأولاده ، في مملكة تونس تحت نظر الحضرة العلية ، وقصد إحضارهم إليه ليقيموا عنده ، ويجتمع شمله بهم مدّة إقامته عندنا ، فاقتضت آراؤنا الشريفة ، الكتابة إلى الحضرة العليّة لهذين السببين الجميلين ، وقد آثرنا إعلام الحضرة العليّة بذلك ، ليكون على خاطره الكريم ، والقصد من محبّته ، يقدّم أمره العالي بطلب أهل الشّيخ وليّ الدّين المشار إليه ، وإزاحة أعذارهم ، وإزالة

__________________

(١) هذه النسبة إلى «ولي الدين».

(٢) اصطلحوا على أن يلحقوا ياء النسب بآخر الألقاب المفردة للمبالغة في التعظيم ، ثم جعلوا النسبة إلى نفس صاحب اللقب أرفع رتبة من النسبة إلى شيء خارج عنه. ومن هنا كان «الأجلى» ، و «القاضوى» ، أرفع رتبة من «الجلالي» ، و «القضائي». وانظر صبح الأعشى ٦ / ٧٨ ، ١٠٠. ثم إن لهذه الألقاب دلالات متعارفة خاصة ، تولى تحديدها القلقشندي في صبح الأعشى ٧ / ٢٠ ـ ٧٣.

(٣) ما بين القوسين زيادة اقتضاها وجوب «صلة» للكلام.

(٤) عجز بيت لبشار بن برد ؛ وصدره ـ كما في الأغاني ٣ / ١٩ بولاق :

«يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة

والأذن ........»

٢٨٩

عوائقهم ، والوصيّة بهم ، وتجهيزهم إليه مكرّمين ، محترمين ، على أجمل الوجوه ، صحبة قاصده الشيخ الصالح ، العارف السّالك الأوحد ، سعد الدين مسعود المكناسي ، الواصل بهذه المكاتبة أعزّه الله ، ويكون تجهيزهم على مركب من مراكب الحضرة العليّة ، مع توصية من بها من البحرية بمضاعفة إكرام المشار إليهم ، ورعايتهم ، والتّأكيد عليهم في هذا المعنى ، وإذا وصل من بها من البحرية ، كان لهم الأمن والإحسان فوق ما في أنفسهم ، ويربي على أملهم ، بحيث يهتمّ بذلك على ما عهد من محبّته ، وجميل اعتماده ، مع ما يتحف به من مراسلاته ، ومقاصده ومكاتباته. والله تعالى يحرسه بملائكته وآياته ، بمنّه ويمنه إن شاء الله.

كتب خامس عشر صفر المبارك من سنة ستّ وثمانين وسبعمائة حسب المرسوم الشريف. الحمد لله وصلواته على سيّدنا محمّد وآله وصحبه وسلّم.

ثم هلك بعض المدرّسين بمدرسة القمحية (١) بمصر ، من وقف صلاح الدين بن أيوب ، فولاني تدريسها مكانه ، (٢) وبينا أنا في ذلك ، إذ سخط السّلطان قاضي المالكية (٣) في دولته ، لبعض النّزعات فعزله ، وهو رابع أربعة بعدد المذاهب ، يدعى كلّ منهم قاضي القضاة ، تمييزا عن الحكّام بالنّيابة عنهم ، لاتّساع خطّة هذا

__________________

(١) كان موقع القمحية بجوار الجامع العتيق (جامع عمرو) بمصر ، وكان موضعها يعرف بدار الغزل ؛ وهو قيسارية كان يباع فيها الغزل ، فهدمها صلاح الدين ، وأنشأ موضعها مدرسة للفقهاء المالكية ، ورتب فيها مدرسين ، وجعل لها أوقافا كانت منها ضيعة بالفيوم تغل فمحا كان مدرسوها يتقاسمونه ، ولذلك صارت لا تعرف إلا بالمدرسة القمحية. خطط المقريزي ٢ / ٣٦٤ بولاق.

(٢) في السلوك (١١٩ ب فاتح) في حوادث سنة ٧٨٦ :

«وفي ٢٥ محرم ، درس شيخنا أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون ، بالمدرسة القمحية بمصر ، عوضا عن علم الدين سليمان البساطي بعد موته ، وحضر معه الأمير الطنبغا الجوباني ، والأمير يونس الدوادار ، وقضاة القضاة والأعيان».

(٣) هو جمال الدين عبد الرحمن بن سليمان بن خير المالكي (٧٢١ ـ ٧٩١). له ترجمة في «رفع الإصر» ١٥٦ ب (نسخة دار الكتب) ، والمنهل الصافي ٢ / ٤٩ ب (نسخة نور عثمانية) ، وتاريخ ابن قاضي شهبة في حوادث سنة ٦٨٧ ، والسلوك (نسخة الفاتح ٤٣٧٩ ورقة ١٢٠ ا).

٢٩٠

المعمور ، وكثرة عوالمه ، وما يرتفع من الخصومات في جوانبه ، وكبير جماعتهم قاضي الشافعية ، لعموم ولايته في الأعمال شرقا وغربا ، وبالصّعيد (١) والفيوم ، (٢) واستقلاله بالنّظر في أموال الأيتام ، والوصايا ، ولقد يقال بأن مباشرة السّلطا قديما بالولاية إنّما كانت تكون له.

فلمّا عزل هذا القاضي المالكي سنة ستّ وثمانين ، اختصّني السّلطان بهذه الولاية ، تأهيلا لمكاني ، وتنويها بذكري ، وشافهته بالتّفادي من ذلك ، فأبى إلا إمضاءه ، وخلع عليّ بإيوانه ، وبعث من كبار الخاصّة من أقعدني بمجلس الحكم (٣) بالمدرسة الصّالحية (٤) بين القصرين ، فقمت بما دفع إليّ من ذلك المقام المحمود ، ووفّيت جهدي بما أمّنني عليه من أحكام الله ، لا تأخذني في الحقّ لومة ، ولا يزعني عنه جاه ولا سطوة ، مسوّيا في ذلك بين الخصمين ، آخذا بحقّ الضعيف من

__________________

(١) كان القدماء يعتبرون مبدأ الصعيد الشمالي من قرب القاهرة ، ويمتد على ضفتي الوادي جنوبا حتى يصل إلى أسوان الذي كان عندهم نهاية الصعيد الجنوبية ؛ وفيما بين أسوان ، وإخميم ، كان الصعيد الأعلى ؛ ومن إخميم إلى مدينة البهنسا الواقعة على الضفة الغربية لوادي النيل ، كان يسمى الصعيد الأوسط ؛ أما الصعيد الأدنى ، فكانت بدايته البهنسا ، ونهايته في الشمال ، قرب الفسطاط.

وانظر ياقوت ٥ / ٣٦٠.

(٢) تقع الفيوم ElFayum) عرضها الشمالي ٥ ـ ٢٩ ، وطولها الشرقي ٣٠ ـ ٣٠) المدينة المعروفة ، في الجنوب الشرقي لبحيرة قارون ، في الغرب من وادي النيل.

(٣) في السلوك (نسخة الفاتح ورقة ١٢٠ ب) :

«وفي يوم الاثنين تاسع عشره (جمادي الثانية) ، استدعى شيخنا أبو زيد عبد الرحمن ابن خلدون إلى القلعة ، وفوض إليه السّلطان قضاء المالكية ، وخلع عليه ، ولقب «ولي الدين» ، واستقر قاضي القضاة عوضا عن جمال الدين عبد الرحمن بن خير ؛ وذلك بسفارة الأمير الطنبغا الجوباني أمير مجلس ، وقرئ تقليده في المدرسة الناصرية بين القصرين على العادة ؛ وتكلّم على قوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ ، وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ ...) الآية ٧٢ ، سورة الأحزاب.

(٤) نسبة إلى بانيها الملك الصالح نجم الدين أيوب. انظر الحديث عنها في الخطط للمقريزي ٤ / ٢٠٩ طبع مصر سنة ١٣٢٦.

٢٩١

الحكمين ، (١) معرضا عن الشّفاعات والوسائل من الجانبين ، جانحا إلى التّثبت في سماع البيّنات ، والنظر في عدالة المنتصبين لتحمّل الشّهادات ، فقد كان البرّ منهم مختلطا بالفاجر ، والطّيّب ملتبسا بالخبيث ، والحكّام ممسكون عن انتقادهم ، متجاوزون عمّا يظهرون عليه من هناتهم ، لما يموّهون (٢) به من الاعتصام بأهل الشّوكة ، فإنّ غالبهم مختلطون بالأمراء ، معلّمين للقرآن ، وأئمّة في الصّلوات ، يلبسون عليهم بالعدالة ، فيظنون بهم الخير ، ويقسمون لهم الحظّ من الجاه في تزكيتهم عند القضاة ، والتّوسّل لهم ، فأعضل داؤهم ، وفشت المفاسد بالتزوير والتدليس بين الناس منهم ، ووقفت على بعضها فعاقبت فيه بموجع العقاب ، ومؤلم النّكال ، وتأدّى إليّ العلم بالجرح في طائفة منهم ، فمنعتهم من تحمّل الشّهادة ، وكان منهم كتّاب لدواوين القضاة ، والتوقيع في مجالسهم ، قد دربوا (٣) على إملاء الدعاوى ، وتسجيل الحكومات ، (٤) واستخدموا للأمراء فيما يعرض لهم من العقود ، بإحكام كتابتها ، وتوثيق شروطها ، فصار لهم بذلك شفوف على أهل طبقتهم ، وتمويه على القضاة بجاههم ، يدّرعون (٥) به ممّا يتوقّعونه من عتبهم ، لتعرّضهم لذلك بفعلاتهم ، وقد يسلّط بعض منهم قلمه على العقود المحكمة ، فيوجد السبيل إلى حلّها بوجه فقهيّ ، أو كتابيّ ، ويبادر إلى ذلك متى دعا إليه داعي جاه أو منحة ، وخصوصا في الأوقاف التي جاوزت حدود النهاية في هذا المصر بكثرة عوالمه ، فأصبحت خافية الشهرة ، مجهولة الأعيان ، عرضة للبطلان ، باختلاف المذاهب المنصوبة للحكّام بالبلد ؛ فمن اختار فيها بيعا أو تمليكا شارطوه وأجابوه ، مفتاتين فيه على الحكّام الذين ضربوا دونه سدّ الحظر والمنع (٦) حماية عن التلاعب ، وفشا في

__________________

(١) كذا بالأصول ؛ والمراد «المحتكمين».

(٢) التمويه : التلبيس والخداع.

(٣) دربوا : مرنوا.

(٤) جمع حكومة ، وهي الحكم.

(٥) ادّرع : لبس الدّرع ، والمراد يحتمون.

(٦) انظر حكم بيع الوقف ، وتمليكه في : «البهجة في شرح التحفة» ٢ / ٢٥٩ ـ ٢٦٣ و «الابتهاج بنور السراج» ٢ / ١٢ ـ ١٦.

٢٩٢

ذلك الضرّر في الأوقاف ، وطرق الغرر (١) في العقود والأملاك.

فعاملت الله في حسم ذلك بما آسفهم عليّ وأحقدهم ، ثم التفتّ إلى الفتيا بالمذهب ، وكان الحكّام منهم على جانب من الخبرة ، لكثرة معارضتهم ، وتلقينهم الخصوم ، وفتياهم بعد نفوذ الحكم ، وإذا فيهم أصاغر ، بيناهم يتشبّثون بأذيال الطّلب والعدالة ولا يكادون ؛ إذا بهم طفروا إلى مراتب الفتيا والتّدريس ، فاقتعدوها ، وتناولوها بالجزاف ، واحتازوها من غير مثرّب (٢) ولا منتقد للأهلية ولا مرشّح ، إذ الكثرة فيهم بالغة ، ومن كثرة السّاكن مشتقّة ، وقلم الفتيا في هذا المصر طلق ، وعنانها مرسل ، يتجاذب كلّ الخصوم منه رسنا ، ويتناول من حافته شقّا ، (٣) يروم به الفلج (٤) على خصمه ، ويستظهر به لإرغامه ، فيعطيه المفتي من ذلك ملء رضاه ، وكفاء أمنيته ، متتبّعا إيّاه في شعاب الخلاف ، فتتعارض الفتاوى وتتناقض ، ويعظم الشّغب إن وقعت بعد نفوذ الحكم ، والخلاف في المذاهب كثير ، والإنصاف متعذّر ، وأهلية المفتي أو شهرة الفتيا ليس تمييزها للعامّي ، فلا يكاد هذا المدد ينحسر ، (٥) ولا الشغب ينقطع.

فصدعت في ذلك بالحقّ ، وكبحت أعنّة أهل الهوى والجهل ، ورددتهم على أعقابهم. وكان فيهم ملتقطون سقطوا من المغرب ، يشعوذون بمفترق من اصطلاحات العلوم هنا وهناك ، لا ينتمون إلى شيخ مشهور ، ولا يعرف لهم كتاب في فن ، قد اتخذوا الناس هزؤا ، وعقدوا المجالس مثلبة للأعراض ، ومأبنة (٦) للحرم ، فأرغمهم ذلك منّي ، وملأهم حسدا وحقدا عليّ ، وخلوا إلى أهل جلدتهم من سكّان الزّوايا المنتحلين للعبادة ، يشترون بها الجاه ليجيروا به على الله ، وربّما اضطرّ أهل الحقوق

__________________

(١) الغرر : الخطر.

(٢) المثرب : اللائم.

(٣) الشق (بالكسر) : الجانب.

(٤) الفلج : الظفر والفوز ، والاسم بالضم.

(٥) ينحسر : ينقط.

(٦) مأبنة : مكانا للاتهام بالشر.

٢٩٣

إلى تحكيمهم ، فيحكمون بما يلقي الشّيطان على ألسنتهم يترخّصون به للإصلاح ، لا يزعهم الدّين عن التّعرّض لأحكام الله بالجهل ، فقطعت الحبل في أيديهم ، وأمضيت أحكام الله فيمن أجاروه ، فلم يغنوا عنه من الله شيئا ، وأصبحت زواياهم مهجورة ، وبئرهم التي يمتاحون منها معطّلة ؛ وانطلقوا يراطنون (١) السّفهاء في النّيل من عرضي ، وسوء الأحدوثة عني بمختلق الإفك ، وقول الزّور ، يبثّونه في الناس ، ويدسّون إلى السّلطان التظلّم منّي فلا يصغي إليهم ، وأنا في ذلك محتسب عند الله ما منيت به من هذا الأمر ، ومعرض فيه عن الجاهلين ، وماض على سبيل سواء من الصّرامة ، وقوّة الشّكيمة ، وتحرّي المعدلة ، وخلاص الحقوق ، والتّنكّب عن خطّة الباطل متى دعيت إليها ، وصلابة العود عن الجاه والأغراض متى غمزني لامسها ، ولم يكن ذلك شأن من رافقته من القضاة ، فنكروه عليّ ، ودعوني إلى تبعهم فيما يصطلحون عليه من مرضاة الأكابر ، ومراعاة الأعيان ، والقضاء للجاه بالصّور الظاهرة ، أو دفع الخصوم إذا تعذّرت ، بناء على أن الحاكم لا يتعيّن عليه الحكم مع وجود غيره ، وهم يعلمون أن قد تمالؤوا عليه.

وليت شعري! ما عذرهم في الصّور الظّاهرة ، إذا علموا خلافها ، والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في ذلك : «من قضيت له من حقّ أخيه شيئا فإنّما أقضي له من النار». (٢)

فأبيت في ذلك كلّه إلا إعطاء العهدة حقّها ، والوفاء لها ولمن قلّدنيها ، فأصبح الجميع عليّ ألبا ، (٣) ولمن ينادي بالتّأفّف منّي عونا ، وفي النّكير عليّ أمّة ، وأسمعوا الشهود الممنوعين أن قد قضيت فيهم بغير الحقّ ، لاعتمادي على علمي في

__________________

(١) يراطنونهم : يكلمونهم بالعجمية. وربما كان المقصود بالتراطن هنا هو التكنية ، وعدم التصريح بالمراد ، ليظل الحديث غير مفهوم إلا بين المتآمرين.

(٢) ورد نص هذا الحديث في صحيح البخاري بروايات مختلفة ، لا توافق الصيغة التي أورده عليها ابن خلدون. وانظر العيني ١١ / ٤٠٠ ، ٤٠٩ ـ ٤١١ ، ٤١٣ ، ٢٧٠. والموطأ مع شرحه : «تنوير الحوالك» ٢ / ١٠٦ ، ١٠٧. طبع التجارية سنة ١٣٥٦ ه‍.

(٣) الألب (بالفتح) : التدبير على العدّو من حيث لا يعلم.

٢٩٤

الجرح ، وهي قضية إجماع ، (١) وانطلقت الألسنة ، وارتفع الصّخب ، وأرادني بعض على الحكم بغرضهم فوقفت ، وأغروا بي الخصوم فتنادوا بالتّظلّم عند السّلطان ، وجمع القضاة وأهل الفتيا في مجلس حفل للنظر في ذلك ، فخلّصت تلك الحكومة من الباطل خلوص الإبريز ، وتبيّن أمره للسّلطان ، وأمضيت فيها حكم الله إرغاما لهم ، فغدوا على حرد قادرين ، (٢) وعسوا لأولياء السّلطان وعظماء الخاصّة ، يقبّحون لهم إهمال جاههم ، وردّ شفاعتهم مموّهين بأنّ الحامل على ذلك جهل المصطلح ، وينفّقون هذا الباطل بعظائم ينسبونها إليّ ، تبعث الحليم ، وتغري الرّشيد ، يستثيرون حفائظهم عليّ ، ويشربونهم البغضاء لي ، والله مجازيهم ومسائلهم.

فكثر الشّغب عليّ من كل جانب ، وأظلم الجوّ بيني وبين أهل الدّولة. ووافق ذلك مصابي بالأهل والولد ، (٣) وصلوا من المغرب في السفين ، (٤) فأصابها قاصف (٥) من الريح فغرقت ، وذهب الموجود والسّكن والمولود ، فعظم المصاب والجزع ، ورجح الزّهد ، واعتزمت على الخروج عن المنصب ، فلم يوافقني عليه النصيح (٦) ممن استشرته ، خشية من نكير السّلطان وسخطه ، فوقفت بين الورد

__________________

(١) انظر تفصيل القول في مسألة استناد القاضي إلى علمه في التعديل والتجريح ، في : «البهجة في شرح التحفة» ٢ / ٤٥ وما بعدها.

(٢) في اللسان : منعوا وهم واجدون.

(٣) في تاريخ ابن قاضي شبهة ، في حوادث سنة ٧٨٦ ، ج ١ لوحة ٤ : «وفيه (رمضان) غرق مركب كبير يقال له «ربع الدنيا» ، حضر من المغرب ، وفيه هدايا جليلة من صاحب المغرب ، وغرقت فيه زوجة القاضي ولي الدين ابن خلدون ، وخمس بنات له ، وما كان معهن من الأموال والكتب ؛ وكان السّلطان قد أرسل رسولا إلى صاحب تونس بسب أولاد الشيخ ولي الدين ابن خلدون. وسلم ولداه :

محمد وعلي ، فقدما القاهرة». على أن انفراد ابن قاضي شهبة التفصيلات ممّا يبعث على التثبت والحذر.

(٤) السفين : جمع سفينة ؛ غير أن ابن خلدون يستعمل السفين ويريد السفينة.

(٥) قصف الريح : اشتد صوته.

(٦) النصيح : الناصح.

٢٩٥

والصدر ، وعلى صراط الرجاء واليأس ، وعن قريب تداركني اللّطف الربّاني ، وشملتني نعمة السّلطان ـ أيّده الله ـ في النظر بعين الرحمة ، وتخلية سبيلي من هذه العهدة التي لم أطق حملها ، ولا عرفت ـ كما زعموا ـ مصطلحها ، فردّها إلى صاحبها الأول ، (١) وأنشطني من عقالها ، فانطلقت حميد الأثر ، مشيّعا من الكافة بالأسف والدّعاء وحميد الثناء ، تلحظني العيون بالرّحمة ، وتتناجى الآمال فيّ بالعودة ، ورتعت فيما كنت راتعا فيه قبل من مراعي نعمته وظلّ رضاه وعنايته ، قانعا بالعافية التي سألها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ربّه ، عاكفا على تدريس علم ، أو قراءة كتاب ، أو إعمال قلم في تدوين أو تأليف ، مؤمّلا من الله ، قطع صبابة العمر (٢) في العبادة ، ومحو عوائق السعادة بفضل الله ونعمته.

السفر لقضاء الحج

ثم مكثت بعد العزل ثلاث سنين ، واعتزمت على قضاء الفريضة ، فودّعت السّلطان والأمراء ، وزوّدوا وأعانوا فوق الكفاية ، وخرجت من القاهرة منتصف رمضان سنة تسع وثمانين ، إلى مرسى الطور (٣) بالجانب الشرقي من بحر السويس ، وركبت البحر من هنالك ، عاشر الفطر ، ووصلنا إلى الينبع (٤) لشهر ، فوافينا

__________________

(١) في «السلوك» سنة ٧٨٧ (١٢٤ ب نسخة الفاتح): «وفي سابع عشر جمادى الأول ، خلع على جمال الدين عبد الرحمن بن خير ، وأعيد إلى قضاء القضاة المالكية عوضا عن ولي الدين أبي زيد عبد الرحمن بن خلدون .... وفي ٢٢ منه قرئ تقليد ابن خير بالمدرسة الناصرية على العادة.».

(٢) صبابة العمر : بقيته.

(٣) الطورTor) عرضها الشمالي ٢٨ ـ ١٠ ، وطولها الشرقي ٣٣ ـ ٣٩) : مدينة على الساحل الغربي لشبه جزيرة سيناء. وانظر ياقوت ٦ / ٦٧ ، ٦٩.

(٤) الينبع Yanbo) عرضها الشمالي ٢٤ ـ ٠٠ ، وطولها الشرقي ٣٨ ـ ١٥) : مدينة من مدن الجزيرة العربية ، تقع على الساحل الشرقي للبحر الأحمر ؛ وهي بفتح الياء المثناة التحتية ، وضم الباء الموحدة ، بينهما نون ساكنة. وانظر ياقوت ٨ / ٥٢٦.

٢٩٦

المحمل ، ورافقتهم من هنالك إلى مكة ، (١) ودخلتها ثاني ذي الحجة ، فقضيت الفريضة في هذه السنة ، ثم عدت إلى الينبع ، فأقمت به خمسين ليلة حتى تهيّأ لنا ركوب البحر ، ثم سافرنا إلى أن قاربنا مرسى الطور ، فاعترضتنا الرّياح ، فما وسعنا إلا قطع البحر إلى جانبه الغربي ، ونزلنا بساحل القصير ، (٢) ثم بذرقنا (٣) مع أعراب تلك الناحية إلى مدينة قوص (٤) قاعدة الصّعيد ، فأرحنا بها أيّاما ، ثم ركبنا في بحر النيل إلى مصر ، فوصلنا إليها لشهر من سفرنا ، ودخلتها في جمادى سنة تسعين ، وقضيت حقّ السّلطان في لقائه ، وإعلامه بما اجتهدت فيه من الدعاء له ، فتقبّل ذلك منّي بقبول حسن ، وأقمت فيما عهدت من رعايته وظلّ إحسانه. وكنت لما نزلت بالينبع ، لقيت بها الفقيه الأديب المتقن ، أبا القاسم بن محمد ابن شيخ الجماعة ، وفارس الأدباء ، ومنفّق سوق البلاغة ، أبي إسحق إبراهيم الساحلي المعروف جدّه بالطويجن ، (٥) وقد قدم حاجّا ، وفي صحبته كتاب رسالة من صاحبنا الوزير الكبير العالم ، كاتب سرّ السّلطان ابن الأحمر صاحب غرناطة ، الحظيّ لديه ، أبي عبد الله بن زمرك ، خاطبني فيه بنظم ونثر يتشوّق ، ويذكّر بعهود الصّحبة نصّه :

__________________

(١) مكة : Mecca) عرضها الشمال ٢١ ـ ١٤ ، وطولها الشرقي ٤٠ ـ ١٤) قبلة المسلمين ، أم القرى ، وبيت الله الحرام. تحدث عنها ياقوت ٨ / ١٣٣ ـ ١٤٣.

(٢) القصيرKossir) عرضها الشمالي ٢٦ ـ ٥ ، وطولها الشرقي ٣٤ ـ ١٦) بلفظ تصغير قصر : مرفأ على الساحل الغربي للبحر الأحمر ، تؤمه السفن التجارية من الجزيرة العربية واليمن ، بينه وبين قوص قصبة الصعيد خمسة أيام. وانظر ياقوت ٧ / ١١٥.

(٣) البذرقة (بالدال المهملة ، وبالمعجمة أيضا) : الخفارة.

(٤) قوص Kus) عرضها الشمالي ٢٥ ـ ٥٥ ، وطولها ٢٣ ـ ٤٩) : مدينة واسعة ؛ كانت قصبة صعيد مصر ، وكان أهلها أرباب ثروة واسعة ، لأنها كانت محط التجار القادمين من عدن ؛ وأكثر تجار عدن من مدينة قوص. وانظر ياقوت ٧ / ١٨٣.

(٥) الطويجن ، بضم الطاء ، وفتح الواو ، وبسكون التحتية المثناة ، وكسر الجيم هكذا كان يضبط اسمه بخطه ؛ وفي «نثير الجمان» ، و «نفح الطيب» : أنه بفتح الجيم.

٢٩٧

سلوا البارق النّجديّ من علمي نجد

تبسّم فاستبكى جفوني من الوجد

أجاد ربوعي باللّوى بورك اللّوى (١)

وسح به صوب الغمائم من بعدي

ويا زاجري الأظعان وهي ضوامر

دعوها ترد هيما عطاشا على نجد (٢)

ولا تنشقوا الأنفاس منها مع الصبا

فإن زفير الشّوق من مثلها يعدي

براها الهوى بري القداح وخطّها

حروفا على صفح من القفر ممتدّ (٣)

عجبت لها أني تجاذبني الهوى

وما شوقها شوقي ولا وجدها وجدي

لئن شاقها بين العذيب وبارق (٤)

مياه بفيء الظل للبان (٥) والرّند (٦)

فما شاقني إلا بدور خدورها

وقد لحن يوم النّفر في قصب ملد (٧)

__________________

(١) اللوى : واد من أودية بني سليم.

(٢) انظر أقوالهم في تحديد «نجد» في «معجم ما استعجم» للبكري.

(٣) براها الهوى : نحتها ، وشفّها. والقداح : السهام قبل أن تراش وتنصل.

(٤) العذيب : ماء لبني تميم ، وكذلك بارق. وكانت هذه الأمكنة ديارا لبني تميم باليمامة. وانظر «معجم ما استعجم» للبكري ص ٩٢٨.

(٥) البان : شجر يسمو ويطول في استواء ؛ ومنه يستخرج دهن البان. وانظر «مفردات» ابن البيطار ١ / ٧٨.

(٦) الرند : هو شجر الغار ؛ وهو نبات طيب الريح يستخرج منه دهن.

(٧) جمع أملد ؛ وهو الناعم اللين من الغصون وغيرها.

٢٩٨

فكم في قباب الحيّ من شمس كلة

وفي فلك الأزرار من قمر سعد (١)

وكم صارم قد سلّ من لحظ أحور

وكم ذابل قد هزّ من ناعم القدّ

خذوا الحذر من سكّان رامة إنّها

ضعيفات كرّ اللّحظ تفتك بالأسد (٢)

سهام جفون عن قسّي حواجب

يصاب بها قلب البريء على عمد

وروض جمال ضاع عرف نسيمه

وما ضاع غير الورد في صفحة الخدّ

ونرجس لحظ أرسل الدمع لؤلؤا

فرشّ بماء الورد روضا من الورد

وكم غصن قد عانق الغصن مثله

وكلّ على كلّ من الشّوق يستعدي

قبيح وداع قد جلا لعيوننا

محاسن من روض الجمال بلا عدّ

رعى الله ليلى لو علمت طريقها

فرشت لأخفاف المطيّ به خدّي

وما شاقني والطّيف يرهب أدمعي

ويسبح في بحر من الليل مزبدّ

وقد سلّ خفّاق الذّؤابة بارق

كما سلّ لّماع الصّقال من الغمد (٣)

__________________

(١) جمع زر ؛ وهو العروة في القميص تجعل فيها الحبّة.

(٢) رامة : موضع بالعقيق ؛ وانظر «معجم» البكري ص ٦٢٨.

(٣) خفّاق : مضطرب. وذؤابة كل شيء : أعلاه. والبارق : سحاب ذو برق.

٢٩٩

وهزّت محلاة يد الشّوق في الدّجى

فحلّ الذي أبرمت للصّبر من عقدي

وأقلق خفّاق الجوانح نسمة

تنمّ مع الإصباح خافقة البرد

وهبّ عليل لفّ طيّ بروده

أحاديث أهداها إلى الغور من نجد (١)

سوى صادح في الأيك لم يدر ما

الهوى ولكن دعا منّي الشّجون على وعد

فهل عند ليلى نعّم الله ليلها

بأنّ جفوني ما تملّ من السّهد

وليلة إذ ولّى الحجيج (٢) على منى (٣)

وفت لي المنى منها بما شئت من قصد

فقضيت منها ـ فوق ما أحسب ـ المنى

وبرد عفافي صانه الله من برد

وليس سوى لحظ خفيّ نجيله

وشكوى كما أرفضّ الجمان من العقد

غفرت لدهري بعدها كل ما جنّى

سوى ما جنى وفد المشيب على فودي

عرفت بهذا الشّيب فضل شبيبتي

وما زال فضل الضّد يعرف بالضّد

__________________

(١) الغور : غور تهامة ، وهو ما بين ذات عرق إلى البحر ، وكل ما انحذر سيله مغربا عن تهامة فهو غور. ياقوت ٦ / ٣١١.

(٢) الحجيج : جماعة الحاج.

(٣) موضع في جبل عرفة بجانب مكة ، يذكر كثيرا في باب «الحج» من حيث صلته بكثير من أعمال الحجاج. وانظر «تنوير الحوالك» ١ / ٢٨١ ـ ٢٨٥ طبع مصر سنة ١٣٥٦ ه‍.

٣٠٠