محمّد بن تاويت الطنجي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: ارتياد الآفاق
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠
وكان أبو عنان لمّا ملك بجاية ، (١) ولّى عليها عمر بن علي بن الوزير ، (٢) من شيوخ بني وطّاس ، وجاء (٣) فارح ، مولى الأمير أبي عبد الله لنقل حرمه وولده ، فداخل بعض السفهاء من صنهاجة (٤) في قتل عمر بن علي ؛ فقتله في مجلسه. ووثب هو على البلد ، وبعث إلى الأمير أبي زيد ، يستدعيه من قسنطينة ، فتمشت رجالات البلد فيما بينهم خشية من سطوة السّلطان. ثم ثاروا بفارح فقتلوه ، وأعادوا دعوة السّلطان كما كانت ، وبعثوا عن عامل السّلطان بتدلس ، (٥) يحياتن بن عمر ابن عبد المؤمن ، شيخ بني ونكاسن من بني مرين ، فملكوه قيادهم ، وبعثوا إلى السّلطان بطاعتهم. فأخرج لوقته حاجبه محمد بن أبي عمرو ، وأكثف له الجند ، وصرف معه وجوه دولته وأعيان بطانته. وارتحلت أنا من بسكرة ، وافدا على السّلطان أبي عنان بتلمسان ، فلقيت ابن أبي عمرو بالبطحاء ، (٦) وتلقّاني من الكرامة بما لم
__________________
(١) انظر أخبار تملّك أبي عنان لبجاية في تاريخ ابن خلدون ٧ / ٢٨٩.
(٢) بيت بني الوزير هذا ، له الرياسة على بني وطاس من قبل بني مرين ، ونسب بني الوزير دخيل في بني مرين ، وهم من أعقاب يوسف بن تاشفين. وانظر الحديث المفصل عن بيتهم في العبر لابن خلدون ٧ / ٢١٧.
(٣) جاء في الاستقصا ٢ / ٩٠ ، في بيان في هذا الحادث :
«وكان أبو عبد الله الحفصي قد استصحب معه في وفادته على السّلطان أبي عنان حاجبه فارحا ، مولى ابن سيد الناس. فلما نزل للسلطان عن بجاية ، نقم فارح عليه ذلك ، وأسرها في نفسه إلى أن بعث الحفصي المذكور مع الوطاسي لينقل حرمه ، ومتاعه ، وماعون داره إلى المغرب ، فانتهى إلى بجاية ، شكا إليه الصنهاجيون سوء مملكة بني مرين ، فنفث إليهم بما عنده من الضغن ، ودعاهم إلى الثورة بالمرينيين ، والدعوة إلى الحفصيين ، وللفتك بعلي بن عمر الوطاسي بمجلسه من القصبة ... الخ».
(٤) صنهاجة بكسر الصاد ، والمعروف في المغرب فتحها : قبائل كثيرة من البربر في المغرب. وانظر تاج العروس ٢ / ٦٧.
(٥) تدلس بفتح التاء وسكون الدال : مدينة بالجزائر على ساحل البحر الأبيض. انظر ياقوت ٢ / ٣٦٩.
(٦) البطحاء : موضع يقع فيما بين بسكرة وتلمسان ، وبينه وبين تلمسان نحو ثلاثة أيام. ياقوت ٢ / ٢١٧.
أحتسبه ، وردّني معه إلى بجاية. فشهدت الفتح ، وتساتلت وفود إفريقية إليه ، فلمّا رجع السّلطان ، وفدت معهم ، فنالني من كرامته وإحسانه ما لم أحتسبه ، إذ كنت شابا لم يطرّ شاربي. ثم انصرفت مع الوفود ، ورجع ابن أبي عمرو إلى بجاية ، فأقمت عنده ، حتى انصرم الشتاء من أواخر أربع وخمسين ؛ وعاد السّلطان أبو عنان إلى فاس ، وجمع أهل العلم للتحليق بمجلسه ، وجرى ذكري عنده ، وهو ينتقي طلبة العلم للمذاكرة في ذلك المجلس ، فأخبره الذين لقيتهم بتونس عني ، ووصفوني له ، فكتب إلى الحاجب يستقدمني ، فقدمت عليه ، سنة خمس وخمسين ، ونظمني في أهل مجلسه العلمي ، وألزمني شهود الصلوات معه ؛ ثم استعملني في كتابته ، والتوقيع بين يديه ، على كره مني ، إذ كنت لم أعهد مثله لسلفي. وعكفت على النّظر ، والقراءة ، ولقاء المشيخة ، من أهل المغرب ، ومن أهل الأندلس الوافدين في غرض السّفارة ؛ وحصلت من الإفادة منهم على البغية.
وكان في جملته يومئذ الأستاذ أبو عبد الله محمد بن الصفار ، من أهل مرّاكش إمام القراءات لوقته ؛ أخذ عن جماعة من مشيخة المغرب ، كبيرهم شيخ المحدثين الرحالة أبو عبد الله محمد بن رشيد الفهري ، سند أهل المغرب ، وكان يعارض السّلطان القرآن برواياته السّبع إلى أن توفي.
ومنهم : قاضي الجماعة بفاس ، أبو عبد الله محمد المقريّ ، (١) صاحبنا ، من أهل تلمسان. أخذ العلم بها عن أبي عبد الله السّلاوي ، ورد عليها من المغرب خلوا من المعارف ، ثم دعته همّته إلى التحلّي بالعلم ، فعكف في بيته على مدارسة القرآن ، فحفظه ، وقرأه بالسّبع ، ثم عكف على كتاب التسهيل في العربية ، فحفظه ثم على مختصري ابن الحاجب في الفقه ، والأصول ، (٢) فحفظهما ؛ ثم لزم الفقيه
__________________
(١) أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد بن أبي بكر المقري (بتشديد القاف المفتوحة نسبة إلى مقرة ، أو بسكون القاف. والميم في الحالتين مفتوحة) وهو جد صاحب النفح. ترجمته واسعة في الإحاطة ٢ / ١٣٦ ، ونيل الابتهاج ص ٢٤٩ ، ونفح الطيب ٣٠ / ١١٠ ـ ١٦٧.
(٢) قد سلف القول في مختصري ابن الحاجب ، وهذا نص آخر يزيد قول ابن خلدون وضوحا وصدقا.
عمران المشدّالي (١) من تلاميذ أبي علي ناصر الدّين (٢) وتفقّه عليه ، وبرّز في العلوم ، إلى حيث لم تلحق غايته. وبنى السّلطان أبو تاشفين مدرسته بتلمسان ، فقدّمه للتدريس بها ، يضاهي به أولاد الإمام. وتفقّه عليه بتلمسان جماعة ؛ كان من أوفرهم سهما في العلوم أبو عبد الله المقّري هذا.
ولما جاء شيخنا أبو عبد الله الآبلي إلى تلمسان ، عند استيلاء السّلطان أبي الحسن عليها ، وكان أبو عبد الله السلاوي قد قتل يوم فتح تلمسان ، قتله بعض أشياع السّلطان ، لذنب أسلفه في خدمة أخيه أبي علي بسجلماسة ، قبل انتحاله العلم ، وكان السّلطان يعتدّه عليه ، فقتل بباب المدرسة ، فلزم أبو عبد الله المقّري بعده مجلس شيخنا الآبلي ، ومجالس ابني الإمام ، واستبحر في العلوم وتفنّن.
ولمّا انتقض السّلطان أبو عنان ، سنة تسع وأربعين وخلع أباه ، ندبه إلى كتاب البيعة ، فكتبها وقرأه على الناس في يوم مشهود ، وارتحل مع السّلطان إلى فاس ؛ فلما ملكها ، عزل قاضيها الشيخ المعمّر أبا عبد الله بن عبد الرزّاق (٣) وولاه مكانه ، فلم يزل قاضيا بها ، إلى أن سخطه لبعض النزعات الملوكية ، فعزله ، وأدال منه بالفقيه أبي عبد الله الفشتالي (٤) آخر سنة ستّ وخمسين ؛ ثم بعثه في سفارة إلى الأندلس. فامتنع من الرجوع ، وقام السّلطان لها في ركائبه ، ونكر على صاحب الأندلس (ابن الأحمر) (٥) تمسّكه به ، وبعث إليه فيه يستقدمه ، فلاذ منه ابن
__________________
(١) هو أبو موسى عمران المشدّالي ، بفتح الميم ، والشين ، وتشديد الدال المفتوحة ، (٦٧٠ ـ ٧٤٥) ترجمته في نيل الابتهاج ص ٢١٥ ، ونفح الطيب ٣ / ١٢٠.
(٢) أبو علي ناصر الدين المشدالي ؛ منصور بن أحمد بن عبد الحق : فقيه معروف (٦٣١ ـ ٧٣١) ترجمته في نيل الابتهاج ص ٣٤٤ وما بعدها.
(٣) ستأتي قريبا ترجمة لابن عبد الرزاق في كلام ابن خلدون.
(٤) أبو عبد الله محمد بن أحمد الفشتالي القاضي بفاس ؛ كان بيته معمورا بالجود والخير والصلاح ، وكان أبو عبد الله هذا أحد أعلام المغرب. انظر الإحاطة ٢ / ١٣٣ ، جذوة الاقتباس ص ١٤٦ ، المرقبة العليا ص ١٧٠.
(٥) الزيادة عن نيل الابتهاج.
الأحمر بالشفّاعة فيه ، واقتضى له كتاب أمان بخطّ السّلطان أبي عنان ، وأوفده مع الجماعة من شيوخ العلم بغرناطة ، (ومنهم) (١) القاضيان بغرناطة ؛ شيخنا أبو القاسم الشّريف السّبتي ، (٢) شيخ الدنيا جلالة وعلما ووقارا ، ورياسة ، وإمام اللسان حوكا ونقدا ، في نظمه ونثره.
وشيخنا الآخر أبو البركات محمد بن محمد بن إبراهيم بن الحاج البلّفيقي (٣) من أهل المرية ، شيخ المحدّثين والفقهاء والأدباء والصوفية والخطباء بالأندلس ، وسيّد أهل العلم بإطلاق ، والمتفنّن في أساليب المعارف ، وآداب الصّحابة للملوك فمن دونهم ؛ فوفدا به على السّلطان شفيعين على عظيم تشوّقه للقائهما ، فقبلت الشفاعة ، وأنجحت الوسيلة.
حضرت بمجلس السّلطان يوم وفادتهما ، سنة سبع وخمسين ، وكان يوما مشهودا. واستقرّ القاضي المقريّ في مكانه ، بباب السّلطان ، عطلا من الولاية والجراية. وجرت عليه بعد ذلك محنة من السّلطان ، بسبب خصومة وقدت بينه وبين أقاربه ، امتنع من الحضور معهم عند القاضي الفشتالي ، فتقدّم السّلطان إلى بعض أكابر الوزعة ببابه ، بأن يسحه إلى مجلس القاضي ، حتى أنفذ فيه حكمه ، فكان الناس يعدّونها محنة.
ثم ولاه السّلطان ، بعد ذلك ، قضاء العساكر في دولته ، عندما ارتحل إلى قسنطينة ، فلمّا افتتحها ، وعاد إلى دار ملكه بفاس آخر ثمان وخمسين ، اعتلّ القاضي المقّري في طريقه ، وهلك عند قدومه بفاس.
__________________
(١) الزيادة عن نيل الابتهاج.
(٢) محمد بن أحمد ... بن عبد الله الحسني السبتي الشهير بالشريف الغرناطي ، أبو القاسم (٦٩٧ ـ ٧٦٠) له تأليف ، طبع منها «رفع الحجب المستورة ، عن محاسن المقصورة» ، شرح على مقصورة حازم القرطاجني. ترجمة الشريف في المرقبة العليا للنباهي ص ١٧١.
(٣) أبو البركات محمد بن محمد بن إبراهيم بن الحاج البلفيقي (٦٠٨ ـ ٧٧٠) (بموحدة ولام مشددة وفاء مكسورات ، وقاف بعد مثناة من تحت) ، هكذا ضبطه في طبقات القراء ، وقيده ابن خلدون بفتح الباء وتشديد اللام المفتوحة. المرقبة العليا ص ١٦٤ ، الجذوة ص ١٨٣ ، طبقات القراء ٢ / ٢٣٥.
ومنهم صاحبنا الإمام العالم الفذّ ، فارس المعقول والمنقول ، صاحب الفروع والأصول ، أبو عبد الله ، محمد بن أحمد الشريف الحسني ، (١) ويعرف بالعلويّ ، نسبة إلى قرية من أعمال تلمسان ، تسمى العلوين ؛ وكان أهل بيته لا يدافعون في نسبهم ، وربما يغمز فيه بعض الفجرة ، ممن لا يزعه دينه ، ولا معرفته بالأنساب ، فيعدّ من اللّغو ، ولا يلتفت إليه.
نشأ هذا الرجل بتلمسان ، وأخذ العلم عن مشيختها ، واختصّ بأولاد الإمام ، وتفقّه عليهما في الفقه ، والأصول والكلام ، ثم لزم شيخنا أبا عبد الله الآبليّ. وتضلّع من معارفه ، فاستبحر ، وتفجّرت ينابيع العلوم من مداركه ؛ ثم ارتحل إلى تونس في بعض مذاهبه ، سنة أربعين ، ولقي شيخنا القاضي أبا عبد الله بن عبد السّلام ، وحضر مجلسه ، وأفاد منه ، واستعظم رتبته في العلم ، وكان ابن عبد السلام يصغي إليه ويؤثر محلّه ، ويعرف حقّه ، حتى لزعموا أنه كان يخلو به في بيته ، فيقرأ عليه فصل التّصوف من كتاب الإشارات لابن سينا ، (٢) بما كان هو قد أحكم ذلك الكتاب على شيخنا الآبليّ ، وقرأ عليه كثيرا من كتاب الشّفاء لابن سينا ، ومن تلاخيص كتب أرصطو (٣) لابن رشد ، (٤) ومن الحساب والهيئة ، والفرائض ، علاوة على ما كان يحمله من الفقه والعربية وسائر علوم الشّريعة. وكانت له في كتب الخلافيات يد طولى ، وقدم عالية ، فعرف له ابن عبد السلام ذلك كلّه ،
__________________
(١) في نيل الابتهاج ص ٢٥٥ ، والبستان ص ١٦٤ ، ١٨٤ ترجمة واسعة للشريف التلمساني العلوي هذا.
(٢) انظر ترجمة ابن سينا : أبي علي الحسين بن عبد الله (٣٧٠ ـ ٤٢٨) في تاريخ الأدب العربي لبروكلمن ١ / ٤٥٣ والملحق ١ / ٨١٢ ؛ ففيه الحديث الواسع عنه ، وعن مؤلفاته ، وعما قام حولها من دراسات وأبحاث.
(٣) هكذا رسمه ، وضبطه بالقلم ابن خلدون.
(٤) أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد الحفيد. انظر ترجمته في تاريخ الأدب العربي لبروكلمن ١ / ٤٦١ ، والملحق ١ / ٨٣٣ ، حيث أفاض في الحديث عنه وعن مؤلفاته ، وعما حوله ، وحولها من أبحاث.
وأوجب حقّه وانقلب إلى تلمسان ، وانتصب لتدريس العلم وبثّه ، فملأ المغرب معارف وتلاميذ ، إلى اضطراب المغرب ، بعد واقعة القيروان ؛ ثم هلك السّلطان أبو الحسن ، وزحف ابنه أبو عنان ، إلى تلمسان ، فملكها ، سنة ثلاث وخمسين ، فاستخلص الشريف أبا عبد الله ، واختاره لمجلسه العلمي ، مع من اختار من المشيخة. ورحل به إلى فاس ، فتبرّم الشريف من الاغتراب ، وردّد الشّكوى فأحفظ السّلطان بذلك ، وارتاب به. ثم بلغه أثناء ذلك أن عثمان بن عبد الرحمن ، (١) سلطان تلمسان ، أوصاه على ولده ، وأودع له مالا عند بعض الأعيان من أهل تلمسان ، وأن الشّريف مطّلع على ذلك ، فانتزع الوديعة ، وسخط الشريف بذلك ونكبه ، وأقام في اعتقاله أشهرا ، ثم أطلقه أوّل ستّ وخمسين وأقصاه ، ثم أعتبه بعد فتح قسنطينة وأعاده إلى مجلسه ، إلى أن هلك السّلطان ، آخر تسع وخمسين.
وملك أبو حمّو بن يوسف بن عبد الرحمن تلمسان من يد بني مرين ، واستدعى الشريف من فاس ، فسرّحه القائم بالأمر يومئذ ، الوزير عمر بن عبد الله ، فانطلق إلى تلمسان. وتلقّاه أبو حمّو براحتيه ، وأصهر له في ابنته ، فزوّجها إياه ، وبنى له مدرسة جعل في بعض جوانبها مدفن أبيه وعمّه. وأقام الشريف يدرّس العلم إلى أن هلك سنة إحدى وسبعين. وأخبرني رحمهالله ، أن مولده سنة عشر. (٢)
ومنهم صاحبنا الكاتب القاضي أبو القاسم محمد بن يحيى البرجي (٣) من برجة (٤) الأندلس. كان كاتب السّلطان أبي عنان ، وصاحب الإنشاء والسّرّ في
__________________
(١) هو أبو سعيد عثمان بن عبد الرحمن بن يحي بن يغمراسن. انظر أخباره في تاريخ ابن خلدون ٧ / ١١٥ ـ ١١٧.
(٢) ما ذكره ابن خلدون في ولادته هو الصحيح. انظر نيل الابتهاج ص ٢٥٦.
(٣) أبو القاسم محمد بن يحيى بن محمد بن يحيى بن علي بن إبراهيم الغساني البرجي الغرناطي المتوفى سنة ٧٨٦ ه. جذوة الاقتباس ص ١٩٧ ، الإحاطة ٢ / ٢١٥ وما بعدها.
(٤) برجةBerja) عرضها الشمالي ٥ ـ ٣٦ ، وطولها الغربي ٥٦ ـ ٢) : مدينة بشرقي الأندلس ، من إقليم المرية. وهي بفتح الباء ، والجيم ، وبينهما زاء ساكنة ، وقد انتقل غالب أهلها ، بعد استيلاء المسيحيين عليها ، إلى مدينة فاس بالمغرب الأقصى. تاج العروس (برج). ياقوت ٢ / ١١٣.
دولته ، وكان مختصّا به ، وأثيرا لديه. وأصله من برجة الأندلس ، نشأ بها ، واجتهد في العلم والتحصيل ، وقرأ ، وسمع ، وتفقّه على مشيخة الأندلس ، واستبحر في الأدب ، وبرّز في النّظم والنثر. وكان لا يجارى في كرم الطّباع ، وحسن المعاشرة ، ولين الجانب ، وبذل البشر ، والمعروف ، وارتحل إلى بجاية في عشر الأربعين والسبعمائة ، وبها الأمير أبو زكرياء بن السّلطان أبي يحيى ، منفردا بملكها ، على حين أقفرت من رسم الكتابة والبلاغة ، فبادرت أهل الدّولة إلى اصطفائه ، وإيثاره بخطّة الإنشاء ، والكتابة عن السّلطان ، إلى أن هلك الأمير أبو زكرياء ، ونصب ابنه محمد مكانه ، فكتب عنه على رسمه ، ثم هلك السّلطان أبو يحيى ، وزحف السّلطان أبو الحسن إلى إفريقية ، واستولى على بجاية ، ونقل الأمير محمدا بأهله وحاشيته إلى تلمسان ، كما تقدم في أخباره.
فنزل أبو القاسم البرجي تلمسان وأقام بها ، واتّصل خبره بأبي عنان ، ابن السّلطان أبي الحسن ، وهو يومئذ أميرها. ولقيه ، فوقع من قلبه بمكان ، إلى أن كانت واقعة القيروان.
وخلع أبو عنان ، (١) واستبدّ بالأمر ، فاستكتبه وحمله معه إلى المغرب ، ولم يسم به إلى العلامة ، لأنه آثر بها محمد بن أبي عمرو ، بما كان أبوه يعلّمه القرآن والعلم. وربي محمد بداره ، فولاه العلامة ، والبرجيّ مرادف له في رياسته ، إلى أن انقرضوا جميعا. وهلك السّلطان أبو عنان ، واستولى أخوه أبو سالم على ملك المغرب وغلب ابن مرزوق على هواه كما قدمناه ، فنقل البرجي من الكتابة ، واستعمله في قضاء العساكر ، فلم يزل على القضاء ، إلى أن هلك سنة (...) وثمانين. (٢)
وأخبرني رحمهالله أن مولده سنة عشر.
__________________
(١) ولد أبو عنان هذا سنة ٧٢٩ بفاس ، وبويع في حياة والده ، يوم ثار عليه بتلمسان سنة ٧٤٩ ، وتوفي قتيلا سنة ٧٥٩. وانظر قصة ثورته على أبيه ، وأسبابها ، في العبر ٧ / ٢٧٨ وما بعدها ، الاستقصا ٢ / ٨٩ ، ١٠١ ـ ١٠٢.
(٢) في نيل الابتهاج ص ٢٦٧ ، نقلا عن ابن خلدون «... إلى أن هلك بعد الثمانين وسبعمائة» ، ونقل أيضا عن «فهرسة» السراج أنه توفي سنة ٧٨٦ ه.
ومنهم ، شيخنا المعمّر الرحّالة أبو عبد الله محمد بن عبد الرزاق ، شيخ وقته جلالة ، وتربية ، وعلما ، وخبرة بأهل بلده ، وعظمة فيهم. نشأ بفاس ، وأخذ عن مشيختها ، وارتحل إلى تونس ، فلقي القاضي أبا إسحق بن عبد الرفيع ، (١) والقاضي أبا عبد الله النّفزاوي ، وأهل طبقتهما. وأخذ عنهم ، وتفقّه عليهم ، ورجع إلى المغرب. ولازم سنن الأكابر والمشايخ ، إلى أن ولاه السّلطان أبو الحسن القضاء بمدينة فاس ، فأقام على ذلك ، إلى أن جاء السّلطان أبو عنان من تلمسان ، بعد واقعة القيروان ، وخلعه أباه ، فعزله بالفقيه أبي عبد الله المقري ، وأقام عطلا في بيته.
ولمّا جمع السّلطان مشيخة العلم للتّحليق بمجلسه ، والإفادة منهم ، استدعى شيخنا أبا عبد الله بن عبد الرزاق ، فكان يأخذ عنه الحديث ، ويقرأ عليه القرآن برواياته ، في مجلس خاصّ إلى أن هلك ، رحمهالله ، بين يدي مهلك السّلطان أبي عنان. إلى آخرين ، وآخرين ، من أهل المغرب والأندلس ، كلّهم لقيت وذاكرت وأفدت منه ، وأجازني بالإجازة العامة.
حدوث النّكبة من السّلطان أبي عنان
كان اتصالي بالسّلطان أبي عنان ، آخر سنة ستّ وخمسين ، وقرّبني وأدناني ، واستعملني في كتابته ، حتى تكدّر جوّي نده ، بعد أن كان لا يعبّر عن صفائه ، ثم اعتلّ السّلطان ، آخر سبع وخمسين ، وكانت قد حصلت بيني وبين الأمير محمد صاحب بجاية (٢) من الموحدين مداخلة ، أحكمها ما كان لسلفي في دولتهم.
__________________
(١) أبو إسحق إبراهيم بن الحسن بن عبد الرفيع الربعي التونسي قاضي القضاة بتونس (٦٣٥ ـ ٧٣٥) له كتاب «معين الحكام» في مجلدين ، اختصر فيه كتاب المتّيطية ، وقصد أن يرد على أبي محمد بن حزم ، فيما انتقده من أحاديث خرجها مالك في الموطأ ، ولم يقل بها. ديباج ص ٨٩ ، المنهل الصافي ١ / ١٤.
(٢) هو أبو عبد الله محمد بن الأمير أبي زكرياء. ولاه أبو عنان إقليم بجاية ليقف ـ دونها ـ في وجه ملوك تونس يومئذ. انظر مفصل أخباره في العبر ٧ / ٢٨٢.
وغفلت عن التحفّظ في مثل ذلك ، من غيرة السّلطان ، فما هو إلا أن شغل بوجعه ، حتى أنمى إليه بعض الغواة ، أن صاحب بجاية ، معتمل في الفرار ليسترجع بلده ، وبها يومئذ وزيره الكبير ، عبد الله بن علي ، فانبعث السّلطان لذلك ، وبادر بالقبض عليه. وكان فيما أنمي إليه ، أنّي داخلته في ذلك ، فقبض عليّ ، وامتحنني وحبسني ، وذلك في ثامن عشر صفر ، سنة ثمان وخمسين.
ثم أطلق الأمير محمدا ، وما زلت أنا في اعتقاله ، إلى أن هلك. وخاطبته بين يدي مهلكه ، مستعطفا بقصيدة أولها :
على أيّ حال لليالي أعاتب |
|
وأيّ صروف للزّمان أغالب |
كفى حزنا أنّي على القرب نازح |
|
وأنّي على دعوى شهودي غائب |
وأنّي على حكم الحوادث نازل |
|
تسالمني طورا وطورا تحارب |
ومنها في التشوّق :
سلوتهم إلا ادّكار معاهد |
|
لها في الليالي الغابرات غرائب |
وإن نسيم الريح منهم يشوقني |
|
إليهم وتصبيني البروق اللواعب |
وهي طويلة ، نحو مائتي بيتا ، (١) ذهبت عن حفظي ، فكان لها منه موقع ، وهشّ لها. وكان بتلمسان فوعد بالإفراج عني عند حلوله بفاس ، ولخمس ليال من حلوله
__________________
(١) قد ذكر ابن الأحمر في نثير الجمان ص ١١٧ ـ ١٢٣ (نسخة خاصة) هذه القصيدة عند تعريفه بابن خلدون ، وجاءت عدة أبياتها هنالك ١٠٧ ، والظاهر من أسلوب ابن الأحمر أنه أورد القصيدة كلها.
فهل نسي ابن خلدون عدد أبيات قصيدته ، أو أن ابن الأحمر اختار منها بعض أبياتها وترك الباقي؟!.
طرقه الوجع. وهلك لخمس عشرة ليلة ، في رابع وعشرى ذي الحجة خاتم تسع وخمسين. وبادر القائم بالدولة ، الوزير الحسن بن عمر إلى إطلاق جماعة من المعتقلين ، كنت فيهم ، فخلع عليّ ، وحملني ، (١) وأعادني إلى ما كنت عليه ، وطلبت منه الانصراف إلى بلدي ، فأبى عليّ ، وعاملني بوجوه كرامته ، ومذاهب إحسانه ، إلى أن اضطرب أمره ، وانتقض عليه بنو مرين ، وكان ما قدّمناه في أخبارهم. (٢)
الكتابة عن السّلطان أبي سالم
في السر ، والإنشاء
ولما أجاز السّلطان أبو سالم من الأندلس لطلب ملكه ، ونزل بجبل الصّفيحة من بلاد غمارة. وكان الخطيب ابن مرزوق بفاس ، فبثّ دعوته سرّا ، واستعان بي على أمره ، بما كان بيني وبين أشياخ بني مرين من المحبّة والائتلاف ، فحملت الكثير منهم على ذلك ، وأجابوني إليه ، وأنا يومئذ أكتب عن القائم بأمر بني مرين ، منصور (٣) بن سليمان بن منصور بن عبد الواحد بن يعقوب بن عبد الحق ، وقد نصبوه للملك ، وحاصروا الوزير الحسن بن عمر ، وسلطانه السّعيد ابن أبي عنان ، بالبلد الجديد ، فقصدني ابن مرزوق في ذلك ، وأوصل إليّ كتاب السّلطان أبي سالم ، بالحضّ على ذلك ، وإجمال الوعد فيه ، وألقى عليّ حمله ، فنهضت به ، وتقدمت إلى شيوخ بني مرين ، وأمراء الدولة بالتحريض على ذلك ، حتى أجابوا ؛ وبعث ابن مرزوق إلى الحسن بن عمر ، يدعو إلى طاعة السّلطان أبي سالم ، وقد ضجر من الحصار ، فبادر
__________________
(١) حمله : أعطاه ظهرا يركبه. (لسان).
(٢) انظر العبر ٧ / ٣٠٩ ـ ٣١٠ فقد بيّن القول في كيفية اضطراب الأمر على الوزير الحسن بن عمر.
(٣) منصور بن سليمان بن منصور بن أبي مالك بن يعقوب عبد الحق المرينى ، كان من الشفوف في أيام أبي عنان ، بحيث أرجف الناس بأن ملك أبي عنان بعد موته ، صائر إليه. انظر أخبار طلبه للملك ومقتله في العبر ٧ / ٣٠٢ ـ ٣٠٥.
إلى الإجابة. واتفق رأي بني مرين على الانفضاض عن منصور ابن سليمان ، والدخول إلى البلد الجديدة ؛ فلما تمّ عقدهم على ذلك نزعت إلى السّلطان أبي سالم في طائفة من وجوه أهل الدولة ، كان منهم محمد بن عثمان بن الكاس ، المستبدّ بعد ذلك بملك المغرب على سلطانه ، وكان ذلك النزوع مبدأ حظّه ، وفاتحة رياسته ، بسعايتي له عند السّلطان ؛ فلما قدمت على السّلطان بالصّفيحة ، بما عندي من أخبار الدولة ، وما أجمعوا عليه من خلع منصور بن سليمان ، وبالموعد الذي ضربوه لذلك ، واستحثثته فارتحل ، ولقينا البشير بإجفال منصور ابن سليمان ، وفراره إلى نواحي بادس ، (١) ودخول بني مرين إلى البلد الجديد ، وإظهار الحسن ابن عمر دعوة السّلطان أبي سالم. ثم لقيتنا ، بالقصر الكبير ، (٢) قبائل السّلطان ، وعساكره ، على راياتهم ، ووزير منصور بن سليمان ، وهو مسعود بن رحّو بن ماساي ، فتلقّاه السّلطان بالكرامة كما يجب له ، واستوزره نائبا للحسن بن يوسف بن علي بن محمد الورتاجني السابق إلى وزارته ، لقيه بسبتة ، (٣) وقد غرّبه منصور ابن سليمان إلى الأندلس ، فاستوزره واستكفاه.
ولما اجتمعت العساكر عنده بالقصر ، صعد إلى فاس. ولقيه الحسن بن عمر بظاهرها ، فأعطاه طاعته ، ودخل إلى دار ملكه وأنا في ركابه ، لخمس عشرة ليلة من نزوعي إليه ، منتصف شعبان ستين وسبعمائة ، فرعى لي السابقة ، واستعملني في كتابة سرّه ، والترسيل عنه ، والإنشاء لمخاطباته ، وكان أكثرها يصدر عني بالكلام المرسل ، أن يشاركني أحد ممّن ينتحل الكتابة في الأسجاع ، لضعف انتحالها ، وخفاء
__________________
(١) بادس بكسر الدال ، ويقال «باديس» مدينة بالمغرب الأقصى على ساحل البحر الأبيض ، ويقال لها بادس فاس ، تمييزا لها عن بادس الزاب. ومكانها الآن عند مدينةVilla jordana بالمغرب الخليفي ، وتبعد نحو الغرب عن مدينة ٦١Vill Ahucemas كيلو مترا تقريبا ، ياقوت ٢ / ٢٩ ، تاج العروس ٤ / ١٠٦.
(٢) القصر الكبير ، ويسمّى قصر عبد الكريم : مدينة معروفة بالمغرب الأقصى بالمنطقة الخليفية ، تبعد عن ساحل المحيط الأطلسي بنحو ٣٦ كيلومترا.
(٣) في العبر ٧ / ٣٠٥ أنه لقيه بطنجة. وانظر تفصيل هذا الحديث في العبر أيضا ٧ / ٣٠٤ ـ ٣٠٦.
العالي منها على أكثر الناس ، بخلاف المرسل ، فانفردت به يومئذ ، وكان مستغربا عندهم بين أهل الصناعة.
ثم أخذت نفسي بالشعر ، فانثال عليّ منه بحور ، توسّطت بين الإجادة والقصور ، وكان مما أنشدته إياه ، ليلة المولد النبويّ من سنة اثنتين وستين وسبعمائة :
أسرفن في هجري وفي تعذيبي |
|
وأطلن موقف عبرتي ونحيبي (١) |
وأبين يوم البين وقفة ساعة |
|
لوداع مشغوف الفؤاد (٢) كئيب |
لله عهد الظاعنين وغادروا |
|
قلبي رهين صبابة (٣) ووجيب(٤) |
غربت ركائبهم ودمعي سافح |
|
فشرقت بعدهم بماء غروب (٥) |
يا ناقعا بالعتب غلّة شوقهم (٦) |
|
رحماك في عذلي وفي تأنيبي |
يستعذب الصّبّ الملام وإنني |
|
ماء الملام لديّ غير شروب (٧) |
ما هاجني طرب ولا اعتاد الجوى |
|
لو لا تذكّر منزل وحبيب |
__________________
(١) النحيب : البكاء.
(٢) مشغوف الفؤاد : مريضه.
(٣) الصبابة : الشوق.
(٤) الوجيب : الاضطراب والخفقان.
(٥) الغروب : الدموع حين تخرج من العين.
(٦) نقع الماء غلته : أروى عطشه.
(٧) الشروب : الذي يشرب ، وفي الإحاطة : الشريب ؛ وهو العذب.
أهفو إلى الأطلال كانت مطلعا |
|
للبدر منهم أو كناس ربيب (١) |
عبثت بها أيدي البلى وتردّدت |
|
في عطفها للدّهر أيّ خطوب |
تبلى معاهدها وإنّ عهودها |
|
ليجدّها وصفي وحسن نسيبي |
وإذا الديار تعرّضت لمتيّم |
|
هزّته ذكراها إلى التّشبيب |
إيه عن الصّبر الجميل فإنّه |
|
ألوى (٢) بدين فؤادي المنهوب |
لم أنسها والدّهر يثني صرفه |
|
ويغضّ طرفي حاسد ورقيب |
والدّار مونقة محاسنها بما |
|
لبست من الأيام كلّ قشيب |
يا سائق الأظعان يعتسف الفلا (٣) |
|
ويواصل الإسآد بالتّأويب (٤) |
متهافتا عن رحل كل مذلل (٥) |
|
نشوان من أين (٦) ومس لغوب (٧) |
__________________
(١) الربيب : ولد الظبي.
(٢) ألوى بالدين : مطل به.
(٣) الفلا ، جمع فلاة ، وهي الأرض لا ماء فيها.
(٤) الإسآد : سير الليل كله لا تعريس فيه ، والتأويب : سير النهار لا تعريج فيه. وانظر اختلافهم في تفسير الإسآد والتأويب في لسان العرب : (سأد).
(٥) المذلّل من الدواب : السهل الانقياد.
(٦) الأين : الإعياء.
(٧) اللغوب : التعب.
تتجاذب النفحات فضل ردائه |
|
في ملتقاها من صبا وجنوب |
إن هام من ظمأ الصّبابة صحبه |
|
نهلوا بمورد دمعه المسكوب |
أو تعترض مسراهم سدف الدّجى |
|
صدعوا الدّجى بغرامه المشبوب |
في كلّ شعب منية من دونها |
|
هجر الأماني أو لقاء شعوب (١) |
هلا عطفت صدورهنّ إلى التي |
|
فيها لبانة أعين وقلوب |
فتؤمّ من أكناف يثرب مأمنا |
|
يكفيك ما تخشاه من تثريب |
حيث النّبوة أيها مجلوّة |
|
تتلو من الآثار كلّ غريب |
سرّ عجيب لم يحجّبه الثرى |
|
ما كان سرّ الله بالمحجوب |
ومنها بعد تعديد معجزاته صلىاللهعليهوسلم ، والإطناب في مدحه :
إنّي دعوتك واثقا بإجابتي |
|
يا خير مدعوّ وخير مجيب |
قصّرت في مدحي فإن يك طيّبا |
|
فبما لذكرك من أريج الطّيب |
ماذا عسى يبغي المطيل وقد حوى |
|
في مدحك القرآن كلّ مطيب (٢) |
__________________
(١) شعوب كرسول : المنية.
(٢) يشير إلى الآية : «وإنك لعلى خلق عظيم» ٦٨ / ٦.
يا هل تبلّغني الليالي زورة |
|
تدني إليّ الفوز بالمرغوب |
أمحو خطيئاتي بإخلاصي بها |
|
وأحطّ أوزاري وإصر ذنوبي |
في فتية هجروا المنى وتعوّدوا |
|
إنضاء كلّ نجيبة ونجيب |
يطوي صحائف ليلهم فوق الفلا |
|
ما شئت من خبب ومن تقريب (١) |
إن رنّم الحادي بذكرك ردّدوا |
|
أنفاس مشتاق إليك طروب |
أو غرّد الرّكب الخليّ بطيبة |
|
حنّوا لمغناها حنين النّيب (٢) |
ورثوا اعتساف البيد عن آبائهم |
|
إرث الخلافة في بني يعقوب |
الطاعنون الخيل وهي عوابس |
|
يغشى مثار النّقع كلّ سبيب (٣) |
والواهبون المقربات (٤) صوافنا (٥) |
|
من كلّ خوّار (٦) العنان لعوب |
__________________
(١) الخبب : نوع من العدو ، وهو خطو فسيح دون العنق. والتقريب : العدو دون الإسراع.
(٢) النيب : جمع ناب ، وهي الناقة المسنّة.
(٣) السبيب : شعر الناصية ولعرف من الفرس ، أو هو الخصلة من الشعر.
(٤) المقربات من الخيل : التي تقرب وتكرم ، ولا تترك لئلا يقرعها فحل لئيم. وانظر لسان العرب.
(٥) الصافن من الخيل : القائم على ثلاث قوائم ، والجمع صوافن ، وصافنات ، وانظر لسان العرب.
(٦) فرس خوار : لين العطف ، وذلك مما يستحسن فيه.
والمانعون الجار حتى عرضه |
|
في منتدى الأعداء غير معيب |
تخشى بوادرهم ويرجى حلمهم |
|
والعزّ شيمة مرتجى ومهيب |
ومنها في ذكر إجازته البحر ، واستيلائه على ملكه :
سائل به طامي العباب (١) وقد سرى |
|
تزجيه ريح العزم ذات هبوب |
تهديه شهب أسنّة وعزائم |
|
يصد عن ليل الحادث المرهوب |
حتى انجلت ظلم الضّلال بسعيه |
|
وسطا الهدى بفريقها المغلوب |
يا بن الألى شادوا الخلافة بالتّقى |
|
واستأثروك بتاجها المعصوب |
جمعوا لحفظ الدين أيّ مناقب |
|
كرموا بها في مشهد ومغيب |
لله مجدك طارفا أو تالدا |
|
فلقد شهدنا منهن كل عجيب |
كم رهبة أو رغبة بك والعلى |
|
تقتاد بالترغيب والترهيب |
لا زلت مسرورا بأشرف دولة |
|
يبدو الهدى من أفقها المرقوب |
تحيي المعالي غاديا أو رائحا |
|
وحديد سعدك ضامن المطلوب |
__________________
(١) طما البحر : ارتفع موجه.
ومن قصيدة خاطبته بها عند وصول هدية ملك السودان إليه ، وفيها الحيوان الغريب المسمّى بالزّرافة (١) :
قدحت يد الأشواق من زندي |
|
وهفت بقلبي زفرة الوجد |
ونبذت سلواني على ثقة |
|
بالقرب فاستبدلت بالبعد |
ولربّ وصل كنت آمله |
|
فاعتضت منه بمؤلم الصّدّ |
لا عهد عند الصّبر أطلبه |
|
إنّ الغرام أضاع من عهدي |
يلحى العذول فما أعنّفه |
|
وأقول ضلّ فأبتغي رشدي |
وأعارض النفحات أسألها |
|
برد الجوى فتزيد في الوقد |
يهدى الغرام إلى مسالكها |
|
لتعلّلي بضعيف ما تهدي |
يا سائق الأظعان معتسفا |
|
طيّ الفلاة لطيّة الوجد |
أرح الرّكاب ففي الصّبا نبأ |
|
يغني عن المستنّة الجرد (٢) |
وسل الرّبوع برامة (٣) خبرا |
|
عن ساكني نجد وعن نجد |
__________________
(١) انظر تفصيل القول عن هذه الهدية في العبر ٧ / ٣١٠.
(٢) استن في عدوه ؛ ذهب على وجهه (جرى). وفرس أجرد : قصير الشعر.
(٣) رامة ، يطلق على مكانين : على منزل بينه وبينه الرمادة ليلة في طريق البصرة إلى مكة ؛ وعلى قرية من قرى بيت المقدس. ياقوت ٤ / ٢١٢.
ما لي تلام على الهوى خلقي (١) |
|
وهي التي تأبى سوى الحمد |
لأبيت إلا الرّشد مذ وضحت |
|
بالمستعين معالم الرّشد |
نعم الخليفة في هدى وتقى |
|
وبناء عزّ شامخ الطّود |
نجل السراة الغرّ شأنهم |
|
كسب العلى بمواهب الوجد |
ومنها في ذكر خلوصي إليه ، وما ارتكبته فيه :
لله مني إذ تأوّبني |
|
ذكراه وهو بشاهق فرد |
شهم يفلّ بواترا قضبا |
|
وجموع أقيال أولي أيد |
أوريت زند العزم في طلبي |
|
وقضيت حقّ المجد من قصدي |
ووردت عن ظمأ مناهله |
|
فرويت من عّزّ ومن رفد |
هي جنّة المأوى لمن كلفت |
|
آماله بمطالب المجد |
لو لم أعلّ بورد كوثرها |
|
ما قلت هذي جنّة الخلد |
__________________
(١) يؤنث ابن خلدون كلمة «خلق» ذهابا منه إلى معنى السجية.
من مبلغ قومي ودونهم |
|
قذف النوى (١) وتنوفة البعد(٢) |
أنّى أنفت على رجائهم |
|
وملكت عزّ جميعهم وحدي |
ورقيمة الأعطاف حالية |
|
موشيّة بوشائع البرد |
وحشية الأنساب ما أنست |
|
في موحش البيداء بالقود |
تسمو بجيد بالغ صعدا |
|
شرف الصّروح بغير ما جهد |
طالت رؤوس الشّامخات به |
|
ولربّما قصرت عن الوهد |
قطعت إليك تنائفا وصلت |
|
إسآدها بالنّصّ والوخد (٣) |
تخدي على استصعابها ذللا |
|
وتبيت طوع القنّ والقدّ (٤) |
بسعودك اللائي ضمنّ لنا |
|
طول الحياة بعيشه رغد |
__________________
(١) ناقة قذوف : متقدمة في سيرها على الإبل ، والنوى : البعد.
(٢) التنوقة : القفر من الأرض ، والتي لا ماء فيها ، والجمع تنائف.
(٣) النص : التحريك حتى تستخرج من الناقة أقصى سيرها. والوخد : ضرب من سير الإبل ، وهو سعة الخطو في المشي.
(٤) تخدى : تسرع. والقن : العبد. والقد بالكسر : سير يقد من جلد غير مدبوغ.
جاءتك في وفد الأحابش لا |
|
يرجون غيرك مكرم الوفد |
وافوك أنضاء تقلّبهم |
|
أيدي السّرى بالغور والنّجد |
كالطّيف يستقري مضاجعه |
|
أو كالحسام يسلّ من غمد |
يثنون بالحسنى التي سبقت |
|
من غير إنكار ولا جحد |
ويرون لحظك من وفادتهم |
|
فخرا على الأتراك والهند |
يا مستعينا جلّ في شرف |
|
عن رتبة المنصور والمهدي |
جازاك ربّك عن خليقته |
|
خير الجزاء فنعم ما يسدي |
وبقيت للدنيا وساكنها |
|
في عزّة أبدا وفي سعد (١) |
وأنشدته في سائر أيامه غير هاتين القصيدتين كثيرا ، لم يحضرني الآن شيء منه.
ثم غلب ابن مرزوق على هواه ، وانفرد بمخالطته ، وكبح الشكائم عن قربه ، فانقبضت ، وقصّرت الخطو ، مع البقاء على ما كنت فيه من كتابة سرّه ، وإنشاء مخاطباته ومراسمه.
ثم ولاني آخر الدولة خطّة المظالم ، فوفّيتها حقّها ، ودفعت للكثير مما أرجو ثوابه. ولم يزل ابن مرزوق آخذا في سعايته بي وبأمثالي من أهل الدّولة ، غيرة ومنافسة ،
__________________
(١) لابن زمرك : قصيدة رائية طويلة في وصف هذه الهدية. اقرأها في الاستقصا ٢ / ١٢٠.