محمّد بن تاويت الطنجي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: ارتياد الآفاق
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠
إلى أن انتقض الأمر على السّلطان بسببه. وثار الوزير عمر بن عبد الله بدار الملللك ، فصار إليه الناس ، ونبذوا السّلطان وبيعته ، وكان في ذلك هلاكه ، على ما ذكرناه في أخبارهم. (١)
ولما قام الوزير عمر بالأمر ، أقرّني على ما كنت عليه ، ووفّر إقطاعي ، وزاد في جرايتي ، وكنت أسمو ، بطغيان الشباب ، إلى أرفع مما كنت فيه ، وأدلّ في ذلك بسابقة مودّة معه ، منذ أيام السّلطان أبي عنان ، وصحابة استحكم عقدها بيني وبينه ، وبين الأمير أبي عبد الله صاحب بجاية ، فكان ثالث أثافينا ، ومصقلة فكاتنا. واشتدّت غيرة السّلطان لذلك كما مرّ ، وسطا بنا ، وتغافل عن عمر بن عبد الله لمكان أبيه من ثغر بجاية ، ثم حملني الإدلال عليه أيام سلطانه ، وما ارتكبه في حقّي من القصور بي عمّا أسمو إليه ، إلى أن هجرته ، وقعدت عن دار السّلطان ، مغاضبا له ، فتنكّر لي ، وأقطعني جانبا من الإعراض ، فطلبت الرّحلة إلى بلدي بإفريقية. وكان بنو عبد الواد قد راجعوا ملكهم بتلمسان ، والمغرب الأوسط ، فمنعني من ذلك ، أن يغتبط أبو حمّو صاحب تلمسان بمكاني ، فأقيم عنده. ولجّ في المنع من ذلك ، وأبيت أنا إلا الرّحلة ، واستجرت في ذلك برديفه وصديقه ، الوزير مسعود بن رحّو بن ماسائ ، ودخلت عليه يوم الفطر ، سنة ثلاث وستّين. فأنشدته :
هنيئا بصوم لا عداه قبول |
|
وبشرى بعيد أنت فيه منيل |
وهنّئتها من عزّة وسّعادة |
|
تتابع أعوام بها وفصول |
سقى الله دهرا أنت إنسان عينه |
|
ولا مسّ ربعا في حماك محول |
فعصرك ما بين الليالي مواسم |
|
لها غرر وضّاحة وحجول |
__________________
(١) انظر ذلك في العبر ٧ / ٣١٢ ـ ٣١٤.
وجانبك المأمول للجود مشرع |
|
يحوم عليه عالم وجهول |
عساك ، وإن ضنّ الزمان منوّلي |
|
فرسم الأماني من سواك محيل |
أجرني فليس الدهر لي بمسالم |
|
إذا لم يكن لي في ذراك مقيل |
وأولني الحسنى بما أنا آمل |
|
فمثلك يولي راجيا وينيل |
ووالله ما رمت الترحّل عن قلى |
|
ولا سخطة للعيش فهو جزيل |
ولا رغبة عن هذه الدار إنّها |
|
لظلّ على هذا الأنام ظليل |
ولكن نأى بالشّعب عني حبائب |
|
شجاهن خطب للفراق طويل |
يهيج بهنّ الوجد أنى نازح |
|
وأن فؤادي حيث هنّ حلول |
عزيز عليهن الذي قد لقيته |
|
وأن اغترابي في البلاد يطول |
توارت بأنبائي البقاع كأنني |
|
تخطّفت أو غالت ركابي غول |
ذكرتك يا مغنى الأحبّة والهوى |
|
فطارت بقلبي أنّة وعويل |
وحيّيت عن شوق رباك كأنّما |
|
يمثّل لي نؤي بها وطلول |
أأحبابنا والعهد بيني وبينكم |
|
كريم وما عهد الكريم يحول |
إذا أنا لم ترض الحمول مدامعي |
|
فلا قرّبتني للقاء حمول |
إلام مقامي حيث لم ترد العلى |
|
مرادي ولم تعط القياد ذلول |
أجاذب فضل العمر يوما وليلة |
|
وساء صباح بينها وأصيل |
ويذهب بي ما بين يأس ومطمع |
|
زمان بنيل المعلوات بخيل |
تعلّلني عنه أمان خوادع |
|
ويؤنسني ليّان منه مطول |
أما لليالي لا تردّ خطوبها |
|
ففي كبدي من وقعهنّ فلول |
يروّعني من صرفها كلّ حادث |
|
تكاد له صمّ الجبال تزول |
أداري على الرغم العدى لا لريبة |
|
يصانع واش خوفها وعذول |
وأغدو بأشجاني عليلا كأنّما |
|
تجود بنفسي زفرة وغليل |
وإني وإن أصبحت في دار غربة |
|
تحيل الليالي سلوتي وتديل |
وصدتني الأيام عن خير منزل |
|
عهدت به أن لا يضام نزيل |
لأعلم أن الخير والشرّ ينتهي |
|
مداه وأن الله سوف يديل |
وأني عزيز بابن ماساي مكثر |
|
وإن هان أنصار وبان خليل |
فأعانني الوزير مسعود عليه ، حتى أذن لي في الانطلاق على شريطة العدول عن تلمسان ، في أي مذهب أردت ، فاخترت الأندلس ، وصرفت ولدي وأمّهم إلى أخوالهم ، أولاد القائد محمد بن الحكيم بقسنطينة ، فاتح أربع وستين. وجعلت أنا طريقي على الأندلس ، وكان سلطانها أبو عبد الله المخلوع ، (١) حين وفد على السّلطان أبي سالم بفاس ، وأقام عنده ، حصلت لي معه سابقة وصلة ووسيلة خدمة ، من جهة وزيره أبي عبد الله بن الخطيب ، (٢) وما كان بيني وبينه من الصحابة ، فكنت أقوم بخدمته ، وأعتمل في قضاء حاجاته في الدولة. ولما أجاز ، باستدعاء الطاغية لاسترجاع ملكه ، حين فسد ما بين الطاغية وبين الرئيس المتوثّب عليه بالأندلس من قرابته ، خلفته فيمن ترك من عياله وولده بفاس ، خير خلف ، في قضاء حاجاتهم ، وإدرار أرزاقهم ، من المتولّين لها ، والاستخدام لهم. ثم فسد ما بين الطاغية وبينه ، قبل ظفره بملكه ، برجوعه عمّا اشترطه له ، من التجافي عن حصون المسلمين التي تملّكها بأجلابه ، ففارقه إلى بلد المسلمين ، ونزل بأسجة. (٣) وكتب إلى عمر بن عبد الله يطلب مصرا ينزله ، من أمصار الأندلس الغربية ، التي كانت ركابا لملوك المغرب في جهادهم ، وخاطبني أنا في ذلك ، فكنت له نعم الوسيلة عند عمر ، حتى تمّ قصده من ذلك. وتجافى عن رندة وأعمالها ، فنزلها وتملّكها ، وكانت دار هجرته ، وركاب فتحه ، وملك منها الأندلس أواسط ثلاث وستّين ، واستوحشت أنا من عمر ، إثر ذلك كما مرّ. وارتحلت إليه ، معوّلا على سوابقي عنده ، فغرّب في المكافأة كما نذكر (إن شاء الله تعالى).
__________________
(١) سبق التعريف به في هامش ص ٣٩.
(٢) لسان الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن سعيد المعروف بابن الخطيب (٧١٣ ـ ٧٧٦) انظر بروكلمن ٢ / ٢٦٢ ، والملحق ٢ / ٣٧٢ حيث ذكر المراجع عنه ، ومؤلفاته.
(٣) أسجةEcija) قيدها ابن خلدون بالقلم ، بفتح الهمزة ، وكسر السين المخففة ، عرضها الشمالي ٣٠ ـ ٣٧ ، وطولها الغربي ٨ ـ ٥. تقع في الجنوب الغربي لقرطبة على بعد نحو ٥٤ كيلومترا.
ويقال لها أيضا إستجة ، وتحت هذا الاسم تجدها في الروض المعطار ص ١٤ ـ ١٥ ، ياقوت ١ / ٢٢٤.
الرحلة إلى الأندلس
ولمّا أجمعت الرّحلة إلى الأندلس ، بعثت بأهلي وولدي إلى أخوالهم بقسنطينة ، وكتبت لهم إلى صاحبها السّلطان أبي العبّاس ، من حفدة السّلطان أبي يحيى ، وأني أمرّ على الأندلس ، وأجيز إليه من هنالك. وسرت إلى سبتة فرضة المجاز ، وكبيرها يومئذ الشريف أبو العبّاس أحمد بن الشريف الحسني ، ذو النسب الواضح ، السالم من الرّبية عند كافة أهل المغرب ، انتقل سلفه إلى سبتة من صقلية ، (١) وأكرمهم بنو العزفيّ أولا وصاهروهم. ثم عظم صيتهم في البلد ، فتنكّروا لهم. وغرّبهم يحيى العزفيّ آخرهم إلى الجزيرة ، فاعترضتهم مراكب النصارى في الزّقاق ، (٢) فأسروهم. وانتدب السّلطان أبو سعيد إلى فديتهم ، رعاية لشرفهم ، فبعث إلى النصارى في ذلك فأجابوه ، وفادى هذا الرجل وأباه على ثلاثة آلاف دينار ، ورجعوا إلى سبتة. وانقرض بنو العزفيّ ودولتهم ، وهلك والد الشريف ، وصار هو إلى رياسة الشّورى. ولمّا كانت واقعة القيروان ، وخلع أبو عنان أباه ، واستولى على المغرب ، وكان بسبتة عبد الله بن علي الوزير ، واليا من قبل السّلطان أبي الحسن ، فتمسك بدعوته ، ومال أهل البلد إلى السّلطان أبي عنان ، وبثّ فيهم الشريف دعوته. فثاروا بالوزير وأخرجوه ، ووفدوا على أبي عنان ، وأمكنوه من بلدهم ، فولّى عليها من عظماء دولته سعيد بن موسى العجيسي ، كافل تربيته ف صغره. وأفرد هذا الشريف برياسة الشّورى في سبتة ، فلم يكن يقطع أمر دونه. ووفد على السّلطان بعض الأيام ، فتلقّاه من الكرامة بما لا يشاركه فيه أحد من وفود الملوك والعظماء ، ولم يزل على ذلك سائر أيام السّلطان وبعد وفاته. وكان معظّما ، وقور المجلس ، هشّ اللقاء ، كريم الوفادة ، متحلّيا بالعلم والأدب ، منتحلا للشّعر ، غاية في الكرم وحسن العهد ، وسذاجة النفس. ولمّا مررت به سنة أربع وستّين ، أنزلني ببيته إزاء المسجد الجامع ، وبلوت منه ما لا يقدّر مثله من
__________________
(١) بفتح الصاد والقاف ، أو بكسرهما ، واللام مكسورة مشددة على كلا القولين. فتحت سنة ٢١٢.
انظر تاج العروس ٧ / ٤٠٤ ، المطرب لابن دحية ص ٣٧ (نسخة خاصة). ياقوت ٥ / ٣٧٣ ـ ٣٧٧.
(٢) الزقاق : هو المضيق الذي بين طنجة وجبل طارق ، وعرض البحر هناك نحو سبعة عشر ميلا.
الملوك ، وأركبني الحرّاقة (١) ليلة سفري ، يباشر دحرجتها إلى الماء بيده ، إغرابا في الفضل والمساهمة. وحططت بجبل الفتح (٢) وهو يومئذ لصاحب المغرب. ثم خرجت منه إلى غرناطة ، وكتبت إلى السّلطان ابن الأحمر ووزيره ابن الخطيب بشأني. وليلة بتّ بقرب غرناطة على بريد (٣) منها ، لقيني كتاب ابن الخطيب يهنّئني بالقدوم ويؤنسني ، ونصّه :
حللت حلول الغيث بالبلد المحل |
|
على الطائر الميمون والرّحب والسّهل |
يمينا بمن تعنو الوجوه لوجهه |
|
من الشّيخ والطفل المهدّإ (٤) والكهل |
لقد نشأت عندي للقياك غبطة |
|
تنسّي اغتباطي بالشّبيبة والأهل |
وودّي لا يحتاج فيه لشاهد |
|
وتقريري المعلوم ضرب من الجهل |
أقسمت بمن حجّت قريش لبيته ، وقبر صرفت ، أزمّة الأحياء لميته ، (٥) ونور ضربت الأمثال بمشكاته وزيته. (٦) لو خيرت أيها الحبيب الذي زيارته الأمنيّة
__________________
(١) الحراقة : نوع من السفن الصغيرة كان يستعمل للنزهة. انظر السلوك للمقريزي ص ٣٠٦.
(٢) جبل الفتح : هو جبل طارق بن زياد. وهو المسمى اليوم Gibraltar
(٣) البريد : أربعة فراسخ ؛ والفرسخ : اثنا عشر ميلا. انظر تاج العروس ٢ / ٣٩٨.
(٤) هدأت المرأة الصبي : سكنته لينام.
(٥) في القرآن : «إنك ميت وإنهم ميتون» ، فلا معنى لما كتبه الشيخ العطار هنا انظر هامش ص ٤١١ من الجزء السابع من العبر.
(٦) يشير إلى الآية : «الله نور السموات والأرض ، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة ، الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار».
السنيّة ، والعارفة الوارفة ، (١) واللطيفة المطيفة ، بين رجع الشباب يقطر ماء ، ويرفّ (٢) نماء ، ويغازل عيون الكواكب ، فضلا عن الكواعب ، إشارة وإيماء ، بحيث لا الوخط يلمّ بسياج لمّته ، أو يقدح ذباله في ظلمته ، أو يقوم حواريّه في ملّته ، من الأحابش وأمّته ، وزمانه روح وراح ، ومغدى في النعيم ومراح ، وقصف صراح ، ورقى وجراح ، وانتخاب واقتراح ، وصدور ما بها إلا انشراح ، ومسرّات تردفها أفراح ، وبين قدومك خليع الرّسن ، ممتّعا ـ والحمد لله ـ باليقظة والوسن ، محكما في نسك الجنيد (٣) أو فتك الحسن ، (٤) ممتّعا بظرف المعارف ، مالئا أكفّ الصّيارف ، ماحيا بأنوار البراهين شبه الزّخارف لما اخترت الشّباب وإن شاقني زمنه ، وأعياني ثمنه ، وأجرت سحاب دمعي دمنه. فالحمد لله الذي رقى جنون اغترابي ، وملّكني أزمّة آرابي ، وغبّطني بمائي وترابي ، ومألف أترابي ، وقد أغصنّي بلذيذ شرابي ، ووقّع على سطوره المعتبرة إضرابي. وعجّلت هذه مغبّطة بمناخ المطيّة ، (٥) منتهى الطّية ، وملتقى للسعود غير البطية ، وتهنّي الآمال الوثيرة الوطية. فما شئت من نفوس عاطشة إلى ريّك ، متجمّلة بزيّك ، عاقلة خطا مهريّك ، ومولى مكارمه نشيدة أمثالك ، ومظانّ مثالك ، وسيصدّق الخبر ما هنالك ، ويسع فضل مجدك في التخلّف عن الإصحار ، (٦) لا ، بل للقاء من وراء البحار ، والسلام.
ثم أصبحت من الغد قادما على البلد ، وذلك ثامن ربيع الأول عام أربعة وستين ، وقد اهتزّ السّلطان لقدومي ، وهيأ لي المنزل من قصوره ، بفرشه وماعونه ، وأركب
__________________
(١) العارفة : العطية. والوارفة : المتسعة.
(٢) يقال : الشيء يرف إذا كثر ماؤه من النعمة والغضاضة.
(٣) هو أبو القاسم الجنيد بن محمد بن الجنيد ، سيد الصوفية وإمامهم. توفي سنة ٢٩٧ أو ٢٩٨.
طبقات الشافعية للسبكى ٢ / ٢٨ ـ ٣٧ ، رسالة القشيري ص ٢١.
(٤) يريد أبا نواس : الحسن بن هانئ بن الجراح الحكمي ، الشاعر الماجن المعروف (١٤٥ ـ ٢٠٠) انظر ترجمته في شرح ابن نباتة لرسالة ابن زيدون ص ١٧٠ ـ ١٧٦.
(٥) الطية : الوجهة والقصد.
(٦) الإصحار : الخروج إلى الصحراء. يعتذر عن تخلفه عن الخروج للقياه بعيدا عن المدينة.
خاصّته للقائي ، تحفّيا وبرّا ، ومجازاة بالحسنى ؛ ثم دخلت عليه فقابلني بما يناسب ذلك ، وخلع عليّ وانصرفت. وخرج الوزير ابن الخطيب فشيّعني إلى مكان نزلي ؛ ثم نظمني في علية أهل مجلسه ، واختصّني بالنّجيّ في خلوته ، والمواكبة في ركوبه ، والمواكلة والمطايبة والفكاهة في خلوات أنسه ، وأقمت على ذلك عنده ، وسفرت عنه سنة خمس وستّين إلى الطاغية ملك قشتالة يومئذ ، بطره بن الهنشه ابن أذفونش ، لإتمام عقد الصلح ما بينه وبين ملوك العدوة ، بهديّة فاخرة ، من ثياب الحرير ، والجياد المقربات (١) بمراكب الذهب الثقيلة ، فلقيت الطاغية بإشبيلية ، وعاينت آثار سلفي بها ، وعاملني من الكرامة بما لا مزيد عليه ، وأظهر الاغتباط بمكاني ، وعلم أولية سلفنا بإشبيلية. وأثنى عليّ عنده طبيبه إبراهيم بن زرزر اليهودي ، المقدّم في الطبّ والنّجامة ، وكان لقيني بمجلس السّلطان أبي عنان ، وقد استدعاه يستطبّه ، وهو يومئذ بدار ابن الأحمر بالأندلس. ثم نزع ـ بعد مهلك رضوان القائم بدولتهم ـ إلى الطاغية ، فأقام عنده ، ونظمه في أطبّائه. فلمّا قدمت أنا عليه ، أثنى عليّ عنده ، فطلب الطاغية منّي حينئذ المقام عنده ، وأن يردّ علي تراث سلفي بإشبيلية ، وكان بيد زعماء دولته ، فتفاديت من ذلك بما قبله. ولم يزل على اغتباطه إلى أن انصرفت عنه ، فزوّدني وحملني ، (٢) واختصّني ببغلة فارهة ، بمركب ثقيل ولجام ذهبيّين ، أهديتهما إلى السّلطان ، فأقطعني قرية إلبيرة من أراضي السّقي بمرج غرناطة ، وكتب بها منشورا كان نصه (٣).
ثمّ حضرت المولد النّبويّ لخامسة قدومي ، وكان يحتفل في الصنيع (٤) فيها
__________________
(١) المقربات : التي تقرب ، ولا تترك بعيدة لئلا يقرعها فحل غير جيد ، يفعلون ذلك ليحفظوا لها النسب الحر.
(٢) أعطاني ظهرا لأركبه.
(٣) بياض في جميع الأصول ، ولعل ابن خلدون ترك هذا البياض ليثبت نص هذا المنشور ، فعاجلته المنية قبل أن يتيسر له ذلك.
(٤) الصنيع : ما اسديته من معروف إلى إنسان. ويريد ابن خلدون هنا نفس الاحتفال.
والدّعوة ، (١) وإنشاد الشعراء ، اقتداء بملوك المغرب ، فأنشدته ليلتئذ :
حيّ المعاهد كانت قبل تحييني |
|
بواكف (٢) الدّمع يرويها ويظميني |
إن الألى نزحت داري ودارهم |
|
تحمّلوا القلب في آثارهم دوني |
وقفت أنشد صبرا ضاع بعدهم |
|
فيهم وأسأل رسما لا يناجيني |
(أمثّل الرّبع من شوق فألثمه |
|
وكيف والفكر يدنيه ويقصيني) |
(وينهب الوجد منّي كلّ لؤلؤة |
|
ما زال قلبي عليها غير مأمون (٣)) |
سقت جفوني مغاني الرّبع بعدهم |
|
فالدّمع وقف على أطلاله الجون (٤) |
قد كان للقلب داعي الهوى شغل |
|
لو أنّ قلبي إلى السّلوان يدعوني |
أحبابنا هل لعهد الوصل مدّكر |
|
منكم وهل نسمة عنكم تحيّيني |
ما لي وللطّيف لا يعتاد زائره (٥) |
|
وللنّسيم عليلا يداويني |
__________________
(١) الدعوة بالفتح في أكثر كلام العرب : طلبك الناس للطعام ، وعند قبيلة الرباب : الدعوة ، بكسر الدال في الطعام. وانظر كتب اللغة.
(٢) وكف الدمع : سال.
(٣) سقط البيتان من الأصل ، ووردا في ز ط ش ، وجذوة الاقتباس والإحاطة ومختصرها.
(٤) الجون : السود.
(٥) لا يزور مرة بعد الأخرى.
يا أهل نجد وما نجد وساكنها |
|
حسنا سوى جنّة الفردوس والعين (١) |
أعندكم أنني مما مرّ ذكركم |
|
إلا انثنيت كأنّ الرّاح تثنيني |
أصبو إلى البرق من أنحاء أرضكم |
|
شوقا ولولاكم ما كان يصبيني |
يا نازحا والمنى تدنيه من خلدي (٢) |
|
حتى لأحسبه قربا يناجيني |
أسلى هواك فؤادي عن سواك وما |
|
سواك يوم بحال عنك يسليني |
ترى الليالي أنستك ادّكاري يا |
|
من لم تكن ذكره الأيام تنسيني |
ومنها في وصف الإيوان (٣) |
|
الذي بناه لجلوسه بين قصوره : |
يا مصنعا شيّدت منه السّعود حمى |
|
لا يطرق الدهر مبناه بتوهين |
صرح يحار لديه الطّرف مفتتنا |
|
فيما يروقك من شكل وتلوين |
__________________
(١) جمع عيناء ؛ وهي الواسعة العين من النساء.
(٢) الخلد : البال.
(٣) في مختصر الإحاطة : ومنها في وصف المشور المبتنى لهذا العهد.
بعدا لإيوان (١) كسرى إن مشورك (٢) |
|
السامي لأعظم من تلك الأواوين |
ودع دمشق ومغناها فقصرك ذا |
|
زأشهى إلى القلب من أبواب جيرون (٣) |
ومنها في التعريض (٤) بمنصرفي من العدوة :
من مبلغ عنّي الصّحب الألى تركوا |
|
ودّي وضاع حماهم إذ أضاعوني |
أنّي أويت من العليا إلى حرم |
|
كادت مغانيه بالبشرى تحيّيني |
وأنّني ظاعنا لم ألق بعدهم |
|
دهرا أشاكي ولا خصما يشاكيني |
لا كالتي أخفرت عهدي ليالي إذ |
|
أقلّب الطّرف بين الخوف والهون |
سقيا ورعيا لأيامي التي ظفرت |
|
يداي منها بحظّ غير مغبون |
__________________
(١) هو الإيوان الذي كان بمدائن كسرى. شاهده ياقوت ، ووصفه في معجم البلدان ١ / ٣٩٤ وما بعدها. وللبحتري فيه القصيدة السينية المشهورة.
(٢) المشور في الاصطلاح المغربي والأندلسي : المكان الذي يجلس فيه السّلطان فمن دونه من الحكام للحكم. ولا تزال الكلمة مستعملة في هذا المعنى بالمغرب.
(٣) موضع من متنزهات دمشق أكثر الشعراء من ذكره. ياقوت ٣ / ١٩١ ، تاج العروس ٣ / ١١٦. والشطر الثاني مضمن من شعر أبي قطيفة.
(٤) يعني بهذه الأبيات صديقه الوزير عمر بن عبد الله ، ويعرض فيها بما عامله به من الوحشة ، وقد قدم بعض القول في ذلك.
أرتاد منها مليّا لا يماطلني |
|
وعدا وأرجو كريما لا يعنّيني |
وهاك منها قواف (١) طيّها حكم |
|
مثل الأزاهر في طيّ الرّياحين |
تلوح إن جليت درّا وإن تليت |
|
تثني عليك بأنفاس البساتين |
عانيت منها بجهدي كلّ شاردة |
|
لولا سعودك ما كادت تواتيني |
يمانع الفكر عنها ما تقسّمه |
|
من كلّ حزن بطيّ الصّدر مكنون |
لكن بسعدك ذلّت لي شواردها |
|
فرضت منها بتحبير وتزيين |
بقيت دهرك في أمن وفي دعة |
|
ودام ملكك في نصر وتمكين |
وأنشدته سنة خمس وستين في إعذار (٢) ولده ، والصنيع الذي احتفل لهم فيه ، ودعا إليه الجفلى (٣) من نواحي الأندلس ، ولم يحضرني منها إلا ما أذكره :
صحا الشوق لولا عبرة ونحيب (٤) |
|
وذكرى تجدّ الوجد حين تثوب (٥) |
__________________
(١) كذا في الأصل. وحقه أن يكون منصوبا ، لأن هاك بمعنى خذ.
(٢) الإعذار : الختان ، ثم أطلق على طعام الختان.
(٣) الجفلى ، بفتحات : أن تدعو الناس إلى طعامك دعوة عامة.
(٤) النحيب : البكاء.
(٥) تثوب ، وفي ط : تئوب ؛ والمعنى فيهما : ترجع وتعود.
وقلب أبى إلا الوفاء بعهده |
|
وإن نزحت دار وبان حبيب |
ولله منّي بعد حادثة النّوى |
|
فؤاد لتذكار العهود طروب |
يؤرّقه طيف الخيال إذا سرى |
|
وتذكي حشاه نفحة وهبوب |
خليليّ إلا تسعدا فدعا الأسى |
|
فإني لما يدعو الأسى لمجيب |
ألمّا على الأطلال يقض حقوقها |
|
من الدّمع فيّاض الشّؤون سكوب |
ولا تعذلاني في البكاء فإنها |
|
حشاشة نفسي في الدموع تذوب |
ومنها في تقدم ولده للأعذار من غير نكول (١) :
فيمّم منه الحفل لا متقاعس |
|
لخطب ولا نكس (٢) اللقاء هيوب |
وراح كما راح الحسام من الوغى |
|
تروق حلاه والفرند (٣) خضيب |
شواهد أهدتهنّ منك شمائل |
|
وخلق بصفو المجد منك مشوب |
__________________
(١) النكول : التأخر والجبن.
(٢) النكس : الرجل الضعيف ، والمقصر عن غاية النجدة والكرم.
(٣) الفرند : السيف.
ومنها في الثناء على ولديه :
هما النّيّران الطالعان على الهدى |
|
بآيات فتح شأنهنّ عجيب |
شهابان في الهيجا غمامان في النّدى |
|
تسحّ المعالي منهما وتصوب |
يدان لبسط المكرمات نماهما |
|
إلى المجد فيّاض اليدين وهوب |
وأنشدته ليلة المولد الكريم من هذه السنة :
أبى الطيف أن يعتاد إلا توهّما |
|
فمن لي بأن ألقى الخيال المسلّما |
وقد كنت استهديه لو كان نافعي |
|
وأستمطر الأجفان لو تنقع الظّما (١) |
ولكن خيال كاذب وطماعة (٢) |
|
تعلّل قلبا بالأماني متيّما |
أيا صاحبي نجواي والحبّ لوعة |
|
تبيح بشكواها الضّمير المكتّما |
خذا لفؤادي العهد من نفس الصّبا |
|
وظبي النّقا (٣) والبان من أجرع الحمى(٤) |
ألا صنع الشوق الذي هو صانع |
|
فحبّي مقيم أقصر الشوق أو سما |
__________________
(١) تروي العطش.
(٢) الطماعة : الطمع.
(٣) النقا : الكثيب من الرمل.
(٤) الأجرع : الأرض الرملة السهلة المستوية. وانظر لسان العرب.
وإنّي ليدعوني السلوّ تعلّلا |
|
وتنهاني الأشجان أن اتقدّما |
لمن دمن أقفرن إلا هواتفا (١) |
|
تردد في أطلالهن الترنما |
عرفت بها سيما الهوى (٢) وتنكّرت |
|
فعجت على آياتها متوسّما |
وذو الشّوق يعتاد الرّبوع دوارسا |
|
ويعرف آثار الديار توهّما |
تأوّبني (٣) والليل بيني وبينه |
|
وميض بأطراف الثنايا تضرّما |
أجدّ لي العهد القديم كأنّه |
|
أشار بتذكار العهود فأفهما |
عجبت لمرتاع الجوانح خافق |
|
بكيت له خلف الدّجى وتبسما |
وبتّ أروّيه كؤوس مدامعي |
|
وبات يعاطيني الحديث عن الحمى |
وصافحته عن رسم دار بذي الغضى (٤) |
|
لبست بها ثوب الشبيبة معلما |
لعهدي بها تدني الظّباء أوانسا |
|
وتطلع في آفاقها الغيد أنجما |
__________________
(١) هتفت الحمامة : ناحت ، وهي هاتفة ، والجمع هواتف.
(٢) سيما الهوى : علامته.
(٣) أتاني ليلا.
(٤) ووذ الغضا : واد بنجد.
أحنّ إليها حيث سار بي الهوى |
|
وأنجد رحلي في البلاد وأتهما (١) |
ولمّا استقرّ ، واطمأنّت الدّار ، وكان من السّلطان الاغتباط والاستئثار وكثر الحنين إلى الأهل والتذكار ، أمر باستقدام أهلي من مطرح اغترابهم (٢) بقسنطينة ، فبعث عنهم من جاء بهم إلى تلمسان. وأمر قائد الأسطول بالمريّة ، فسار لإجازتهم في أسطوله ، واحتلوا بالمرية. واستأذنت السّلطان في تلقّيهم ، وقدمت بهم على الحضرة ، بعد أن هيأت لهم المنزل والبستان ، ودمنة الفلح ، وسائر ضرورات المعاش.
وكتب الوزير ابن الخطيب عندما قاربت الحضرة ، وقد كتبت إليه استأذنه في القدوم ، وما أعتمده في أحواله :
سيدي ، قدمت بالطّير الميامين ، على البلد الأمين ، واستضفت الرّفاء إلى البنين ، ومتّعت بطول السنين. وصلتني البراءة (٣) المعربة عن كثب اللقاء ، ودنوّ المزار ، وذهاب البعد ، وقرب الدار ؛ واستفهم سيدي عمّا عندي في القدوم على المخدوم ، والحقّ أن يتقدم سيدي إلى الباب الكريم ، في الوقت الذي يجد المجلس الجمهوري لم يفض حجيجه ، (٤) ولا صوّح (٥) بهيجه ، ويصل الأهل بعده إلى المحل الذي هيأته السعادة لاستقرارهم ، واختاره اليمن قبل اختيارهم ، والسلام.
ثم لم يلبث الأعداء وأهل السّعايات أن خيّلوا الوزير ابن الخطيب من ملابستي للسلطان ، واشتماله عليّ ، وحرّكوا له جواد الغيرة فتنكّر. وشممت منه رائحة
__________________
(١) أنجد ، وأتهم : دخل نجدا ، وتهامة.
(٢) مطرح الاغتراب : المكان البعيد عن الأهل والعشيرة.
(٣) البراءة في مصطلح المغاربة والأندلسيين : الرسالة كيفما كان موضوعها. ولا يتقيدون فيها بالمعنى اللغوي للبراءة.
(٤) الإفاضة : الدفع في السير بكثرة. والحجيج : جمع حاج ؛ يريد قبل أن يتفرق رواد المجلس السّلطاني من أهل الدولة.
(٥) صوّح النبت : تم يبسه.
الانقباض ، مع استبداده بالدولة ، وتحكّمه في سائر أحوالها ، وجاءتني كتب السّلطان أبي عبد الله صاحب بجاية ، بأنّه استولى عليها في رمضان خمس وستين. واستدعاني إليه ، فاستأذنت السّلطان ابن الأحمر في الارتحال إليه. وعمّيت عليه شأن ابن الخطيب إبقاء لمودته ، فارتمض (١) لذلك ، وم يسعه إلا الإسعاف ، فودّع وزوّد ، وكتب لي مرسوم بالتشييع من إملاء الوزير ابن الخطيب نصّه :
هذا ظهير كريم ، تضمن تشييعا وترفيعا ، وإكراما وإعظاما ، وكان لعمل الصّنيعة ختاما ، وعلى الذي أحسن تماما ، وأشاد للمعتمد به (٢) بالاغتباط الذي راق قساما (٣) وتوفر أقساما ، وأعلن له بالقبول إن نوى بعد النوى رجوعا أو آثر على الظعن المزمع مقاما.
أمر به ، وأمضى العمل بمقتضاه وحسبه ، الأمير عبد الله محمد ابن مولانا أمير المسلمين أبي الحجاج ابن مولانا أمير المسلمين أبي الوليد بن نصر ، أيّد الله أمره ، وأعزّ نصره ، وأعلى ذكره ، للوليّ الجليس ، الحظيّ المكين ، المقرّب الأودّ الأحبّ ، الفقيه الجليل ، الصدر الأوحد ، الرئيس العلم ، الفاضل الكامل ، المرفّع الأسمى ، الأظهر الأرضى ، الأخلص الأصفى ، أبي زيد عبد الرحمن بن الشيخ الجليل ، الحسيب الأصيل ، الفقيه المرفّع المعظم ، الصّدر الأوحد الأسمى ، الأفضل الأكمل ، الموقّر المبرور ، أبي يحيى أبي بكر ، ابن الشيخ الجليل الكبير ، الرفيع الماجد ، القائد الحظي ، المعظم الموقر ، المبرور المرحوم ، أبي عبد الله بن خلدون. وصل الله له أسباب السعادة ، وبلّغه من فضله أقصى الإرادة ، أعلن بما عنده ، أيده الله ، من الاعتقاد الجميل في جانبه المرفّع ، وإن كان غنيّا في الإعلان. وأعرب عن معرفته بمقداره ، في الحسباء العلماء الرؤساء الأعيان ، وأشاد باتصال رضاه عن مقاصده البرّة وشيمه الحسان ، من لدن وفد بابه ، وفادة العز الراسخ البنيان ، وأقام المقام الذي عيّن له رفعة المكان ، وإجلال الشان ، إلى أن عزم على قصد وطنه ، أبلغه الله ذلك في ظلّ اليمن
__________________
(١) ارتمض لكذا : حزن ، وارتمض بكذا : اشتد قلقه.
(٢) كذا بالأصول.
(٣) القسام : الجمال والحسن.
والأمان ، وكفالة الرّحمن بعد الاغتباط المربى على الخبر بالعيان ، والتمسّك بجواره بجهد الإمكان ، ثم قبول عذره بما جبلت الأنفس عليه من الحنين إلى المعاهد والأوطان. وبعد أن لم يذخر عنه كرامة رفيعة ، ولم يحجب عنه وجه صنيعة ، فولاه القيادة والسّفارة ، وأحلّه جليسا معتمدا بالاستشارة ، وألبسه من الحظوة والتقريب أبهى الشارة ، وجعل محلّه من حضرته مقصودا بالمثل معنيّا بالإشارة ، ثم أصحبه تشييعا يشهد بالضّنانة بفراقه ، ويجمع له برّ الوجهة من جميع آفاقه ، ويجعله بيده رتيمة خنصر ، (١) ووثيقة سامع أو مبصر ، فمهما لوى أخدعه (٢) إلى هذه البلاد بعد قضاء وطره ، وتملّيه من نهمة (٣) سفره ، أو نزع به حسن العهد وحنين الود ، فصدر العناية به مشروح ، وباب الرضا والقبول مفتوح ، وما عهده من الحظوة والبرّ ممنوح. فما كان القصد في مثله من أمجاد الأولياء ليتحوّل ، ولا الاعتقاد الكريم ليتبدّل ، ولا الأخير من الأحوال لينسخ الأول. على هذا فليطو ضميره ، وليرد متى شاء نميره ، (٤) ومن وقف عليه من القواد والأشياخ والخدام ، برّا وبحرا ، على اختلاف الخطط والرّتب ، وتباين الأحوال والنّسب ، أن يعرفوا حقّ هذا الاعتقاد ، في كل ما يحتاج إليه من تشييع ونزول ، وإعانة وقبول ، واعتناء موصول ، إلى أن يكمل الغرض ، ويؤدّى من امتثال هذا الأمر الواجب المفترض ، بحول الله وقوّته.
وكتب في التاسع عشر من جمادى الأولى عام ستة وستين وسبع مائة.
وبعد التاريخ العلامة بخط السّلطان ، ونصّها : «صح هذا».
__________________
(١) الرتيمة : الخيط الذي يشد في الأصبع لتستذكر به الحاجة.
(٢) الأخدعان : عرقان في موضع الحجامة من العنق ، والواحد أخدع ؛ يكني بالأخدعين عن العودة إلى هذه البلاد.
(٣) النهمة : الحاجة ، وبلوغ الهمة في الشيء.
(٤) النمير من الماء : الزاكي ، الناجع.
الرحلة من الأندلس إلى بجاية ، وولاية الحجابة بها
على الاستبداد
كانت بجاية ثغرا لإفريقية في دولة بني أبي حفص من الموحدين. ولما صار أمرهم للسلطان أبي بكر بن يحيى منهم ، واستقلّ بملك إفريقية ، ولّى في ثغر بجاية ابنه الأمير أبا زكرياء ، وفي ثغر قسنطينة ابنه الأمير أبا عبد الله. وكان بنو عبد الواد ملوك تلمسان والمغرب الأوسط ، ينازعونه في أعماله ، ويجمّرون (١) العساكر على بجاية ، ويجلبون على قسنطينة ، إلى أن تمسّك السّلطان أبو بكر بذمّة من السّلطان أبي الحسن ، ملك المغرب الأقصى من بني مرين ، وله الشّفوف على سائر ملوكهم. وزحف السّلطان أبو الحسن إلى تلمسان ، فأخذ بمخنّقها سنتين أو أزيد ، وملكها عنوة ، وقتل سلطانها أبا تاشفين ، وذلك سنة سبع وثلاثين ؛ وخفّ ما كان على الموحّدين من إصر (٢) بني عبد الواد ، واستقامت دولتهم. ثم هلك أبو عبد الله محمد ابن السّلطان أبي يحيى بقسنطينة سنة أربعين ، وخلّف سبعة من الولد ، كبيرهم أبو زيد عبد الرحمن ، ثم أبو العباس أحمد ، فولّى الأمير أبا زيد مكان أبيه ، في كفالة نبيل مولاهم. ثم توفّي الأمير أبو زكرياء ببجاية سنة ست وأربعين ، وخلّف ثلاثة من الولد ، كبيرهم أبو عبد الله محمد ، وبعث السّلطان أبو بكر ابنه الأمير أبا حفص عليها ، فمال أهل بجاية إلى الأمير أبي عبد الله بن أبي زكرياء ، وانحرفوا عن الأمير عمر وأخرجوه. وبادر السّلطان فرقع هذا الخرق ، بولاية أبي عبد الله عليهم كما طلبوه. ثم توفي السّلطان أبو بكر منتصف سبع وأربعين ، وزحف أبو الحسن إلى إفريقية فملكها ، ونقل الأمراء من بجاية وقسنطينة إلى المغرب. وأقطع لهم هنالك ، إلى أن كانت حادثة القيروان ، وخلع السّلطان أبو عنان أباه. وارتحل من تلمسان ، إلى فاس ، فنقل معه هؤلاء الأمراء ، أهل بجاية وقسنطينة ، وخلطهم بنفسه ، وبالغ في تكرمتهم. ثم صرفهم إلى ثغورهم ، الأمير أبا عبد الله أولا ، وإخوته من تلمسان ، وأبا
__________________
(١) تجمير الجيوش : جمعهم في الثغور وحبسهم عن العودة إلى أهليهم ، وهي كلمة يستعملها ابن خلدون كثيرا.
(٢) الإصر : الأمر الذي يثقل حمله.
زيد وإخوته من فاس ، ليستبدّوا بثغورهم ، ويخّذّلوا الناس عن السّلطان أبي الحسن ، فوصلوا إلى بلادهم ، وملكوها بعد أن كان الفضل ابن السّلطان أبي بكر قد استولى عليها من يد بني مرين ، فانتزعوها منه. واستقرّ أبو عبد الله ببجاية ، حتى إذا هلك السّلطان أبو الحسن بجبال المصامدة ، وزحف أبو عنان إلى تلمسان سنة ثلاث وخمسين ، فهزم ملوكها من بني عبد الواد ، وأبادهم ، ونزل المدية ، وأطلّ على بجاية. وبادر الأمير أبو عبد الله للقائه ، وشكا إليه ما يلقاه من زبون (١) الجند والعرب ، وقلّة الجباية. وخرج له عن ثغر بجاية فملكها ، وأنزل عمّاله بها. ونقل الأمير أبا عبد الله معه إلى المغرب ، فلم يزل عنده في حفاية (٢) وكرامة. ولما قدمت على السّلطان أبي عنان آخر خمس وخمسين واستخلصني ، نبضت عروق السّوابق بين سلفي وسلف الأمير أبي عبد الله ، واستدعاني للصّحابة فأسرعت ، وكان اللّطان أبو عنان شديد الغيرة من مثل ذلك. ثم كثر المنافسون ، ورفعوا إلى السّلطان ، وقد طرقه مرض أرجف له الناس ، فرفعوا له أن الأمير أبا عبد الله اعتزم على (٣) الفرار إلى بجاية ، وأنّي عاقدته على ذلك ، على أن يوليني حجابته ، فانبعث لها السّلطان ، وسطا بنا ، واعتقلني نحوا من سنتين إلى أن هلك. وجاء السّلطان أبو سالم ، واستولى على المغرب ، ووليت كتابة سرّه. ثم نهض إلى تلمسان ، وملكها من يد بني عبد الواد ، وأخرج منها أبا حمّو موسى بن يوسف بن عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن ، ثم اعتزم على الرجوع إلى فاس ، وولّى على تلمسان أبا زيّان محمد بن أبي سعيد عثمان بن السّلطان أبي تاشفين ، وأمدّه بالأموال والعساكر من أهل وطنه ، ليدافع أبا حمّو عن تلمسان ، ويكون خالصة له. وكان الأمير أبو عبد الله صاحب بجاية معه كما ذكرناه ، والأمير أبو العباس صاحب قسنطينة ، بعد أن كان بنو مرين حاصروا أخاه أبا زيد بقسنطينة أعواما تباعا. ثم خرج لبعض مذاهبه إلى بونة ، وترك أخاه أبا العبّاس بها ، فخلعه ، واستبدّ بالأمر دونه. وخرج إلى العساكر المجمّرة عليها من بني مرين ،
__________________
(١) يستعمل ابن خلدون الزبون اسما بمعنى الحرب.
(٢) الحفاية : المبالغة في الإكرام ، كالحفاوة.
(٣) اعتزم على الشيء : أراد فعله ، كعزم عليه.