رحلة ابن خلدون

محمّد بن تاويت الطنجي

رحلة ابن خلدون

المؤلف:

محمّد بن تاويت الطنجي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: ارتياد الآفاق
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

بن مغيث بن الصّفّار (١) قاضي الجماعة بقرطبة.

وحدّثني به أيضا شيخنا أبو عبد الله بن جابر عن القاضي أبي العبّاس أحمد بن محمد بن الغمّاز ، (٢) عن شيخه أبي الرّبيع سليمان بن موسى بن سالم (٣) الكلاعيّ ، (٤) عن القاضي أبي القاسم عبد الرحمن بن حبيش ، (٥) وأبي عبد الله محمد بن سعيد بن زرقون ، (٦) شارح كتاب «الموطأ» ، قال ابن زرقون : حدثنا به أبو عبد الله الخولاني ، (٧) عن أبي عمرو عثمان بن أحمد القيجاطي ، (٨) وقال ابن حبيش : حدّثنا به القاضي أبو عبد الله بن أصبغ (٩) ويونس بن محمد

__________________

(١) يونس بن عبد الله بن محمد بن مغيث أبو الوليد القاضي المتوفى سنة ٤٢٩. «المرقبة العليا» ص ٩٥ ـ ٩٦. وفي الديباج ص ٣٦٠ : يونس بن محمد ، وهو خطأ.

(٢) تقدمت ترجمة ابن الغماز.

(٣) أبو الربيع سليمان بن موسى بن سالم بن حسان بن سليمان يعرف بابن سالم الكلامي (٥٦ ـ ٦٣٤) حافظ مسند ، أكثر الرواية عن أبي القاسم بن حبيش ، وروى عنه ابن الغماز. ديباج ص ١٢٢.

(٤) بفتح الكاف ، واللام المخففة. هكذا رأيته ضبط اسمه بخطه على ظهر كتابه : «المسلسلات» في الأحاديث والآثار ، المحفوظ بمكتبة شهيد على باستانبول تحت رقم ٥٦٢.

(٥) أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله .... الأنصاري يعرف بابن حبيش من أهل المرية. نيل الابتهاج ص ١٦٢.

(٦) محمد بن سعيد بن أحمد بن سعيد بن عبد العزيز زرقون (٥٠٢ ـ ٥٨٦) ، آخر من حدث بالإجازة عن الخولاني ، وكان عالي الرواية. تكملة الصلة ١ / ٢٥٦ ، ديباج ص ٢٨٥.

(٧) أبو عبد الله أحمد بن عبد الرحمن بن غلبون الخولاني (٤١٨ ـ ٥٠٨) روى عن جماعة ، منهم أبو عمرو عثمان بن أحمد القيشطالي (القيجاطي). صلة ١ / ٧٦.

(٨) عثمان بن أحمد بن محمد بن يوسف المعافري القرطبي يكني أبا عمرو ، ويعرف بالقيشطيالي (القيشطالي ، القيجاطي) ، توفى سنة ٤٣١ عن ٨٠ سنة. صلة ١ / ٣٩٧.

(٩) محمد بن أصبغ بن محمد بن أصبغ الأزدي أبو عبد الله. سمع من أبي عبد الله محمد ابن فرج ، توفى سنة ٥٣٦ ، وهو من أبناء الستين. صلة ٢ / ٥٢٨.

٣٤١

بن مغيث ، قالا : قرأناه على أبي عبد الله محمد بن الطّلّاع. (١) وقال ابن حبيش أيضا : حدّثنا به أبو القاسم أحمد بن محمد ورد ، (٢) عن القاضي أبي عبد الله محمد بن خلف بن المرابط ، (٣) عن المقرئ أبي عمر أحمد بن محمد بن عبد الله المعافري الطّلمنكي (٤) ؛ قال القاضي أبو الوليد بن مغيث ، والقيجاطي ، والطّلمنكي : حدّثنا أبو عيسى يحيى بن عبد الله بن يحيى عن عم أبيه أبي مروان عبيد الله بن يحيى عن أبيه يحيى بن يحيى. وقال الطّلمنكي : حدّثنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن حدير البزّار ، قال حدثنا أبو محمد قاسم بن أصبغ ، (٥) قال حدثنا أبو عبد الله محمد بن وضّاح ، (٦) قال حدثنا يحيى بن يحيى عن مالك ، إلّا ثلاثة أبواب من آخر كتاب الاعتكاف ، أولها خروج المعتكف إلى العيد فإنّ يحيى شكّ في سماعها عن مالك ، فسمعها من زياد بن عبد الرحمن الملقّب شبطون (٧)

__________________

(١) محمد بن يحيى البكري المتوفى سنة ٤٩٧. وانظر الاستقصا ١ / ١٢٩.

(٢) أحمد بن محمد بن عمر بن يوسف بن إدريس بن عبد الله بن ورد التميمي أبو القاسم (٤٦٥ ـ ٥٤٠) ، سمع الموطأ من أبي علي الغساني. معجم شيوح الصّدفى ص ٢٣ ، ديباج ص ٤١ ، إحاطة ١ / ٥٧.

(٣) القاضي أبو عبد الله محمد بن خلف بن سعيد المعروف بابن المرابط. أجازه أبو عمر الطلمنكي ؛ توفى بالمدينة بعد سنة ٤٨٠. ديباج ٢٧٣ ، ٢٧٤.

(٤) أحمد بن محمد بن أبي عبد الله بن أبي عيسى المعافري أبو عمر الطلمنكي ، المتوفى سنة ٤٢٩ ديباج ص ٣٩ ، صلة ص ٩٠.

(٥) قاسم بن أصبغ بن محمد بن يوسف بن ناصح أبو محمد البياني القرطبي (٢٤٤ ـ ٣٤٠) ، سمع من ابن وضاح. وانظر تاريخ علماء الأندلس لابن الفرضى ١ / ٢٩٧ ، نفح الطيب ١ / ٣٥٠ بولاق.

(٦) محمد بن وضاح بن بديع القرطبي أبو عبد الله (١٩٩ ـ ٢٨٦) ، على خلاف في مولده ، ووفاته.

سمع من يحيى بن يحيى. ديباج ص ٢٣٩ ـ ٢٤٠.

(٧) زياد بن عبد الرحمن بن زياد اللخمي المعروف بشبطون (بشين معجمة مفتوحة فباء موحدة ساكنة ، وبعدها طاء تليها واو ساكنة فنون) ، أول من أدخل مذهب مالك إلى الأندلس ، وكان أهلها قبله على مذهب الأوزاعي. توفي سنة ٢٠٤ على خلاف. انظر نفح الطيب ١ / ٣٤٩.

٣٤٢

عن مالك. ولي في هذا الكتاب طرق أخرى لم يحضرني الآن اتّصال سندي فيها.

فمنها عن شيخنا أبي محمد عبد المهيمن بن محمد الحضرميّ (١) كاتب السّلطان أبي الحسن ، لقيته بتونس عند استيلاء السّلطان عليها ، وهو في جملته سنة ثمان وأربعين وحضرت مجلسه ، وأخذت عنه كثيرا ، وسمعت عليه بعض «الموطأ» ، وأجازني بالإجازة العامّة ، وهو يرويه عن الأستاذ أبي جعفر بن الزّبير ، وعن شيخه الأستاذ أبي إسحاق الغافقي ، وعن أبي القاسم القبتوري ، وجماعة من مشيخة أهل سبتة ؛ ويتّصل سنده فيه بالقاضي عياض ، وأبي العبّاس العزفي صاحب كتاب «الدّر المنظّم في المولد المعظم».

ومنها عن شيخنا أبي عبد الله الكوسي خطيب الجامع الأعظم بغرناطة ، سمعت عليه بعضه وأجازني بسائره وهو يرويه عن الأستاذ أبي جعفر بن الزّبير عن القاضي أبي عبد الله بن بكّار ، وجماعة من مشيخة أهل الأندلس ، ويتّصل سنده فيه بالقاضي أبي الوليد الباجي ، (٢) والحافظ أبي عمر بن عبد البر بسندهما.

ومنها عن شيخنا المكتّب أبي عبد الله محمد بن سعد بن برّال الأنصاري شيخ القراءة بتونس ، ومعلّمي كتاب الله ؛ قرأت عليه القرآن العظيم بالقراءات السّبع وعرضت عليه قصيدتي الشّاطبي (٣) في القراءة ، وفي الرّسم ، وعرضت عليه كتاب التّقصّي لابن عبد البرّ ، وغير ذلك ، وأجازني بالإجازة العامّة ، وفي هذه بالإجازة الخاصة ، وهو يروي هذا الكتاب عن القاضي أبي العبّاس أحمد بن محمد ابن الغمّاز ، وعن شيخه أبي العبّاس أحمد بن موسى البطرني بسندهما.

ومنها عن شيخنا الأستاذ أبي عبد الله محمد بن الصّفّار المرّاكشي ، شيخ القراءات بالمغرب ، سمعت عليه بعض هذا الكتاب بمجلس السّلطان أبي عثمان ملك

__________________

(١) تقدمت ترجمته في ص ٢٠.

(٢) سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب أبو الوليد القاضي. رحل إلى المشرق ، وعاد إلى الأندلس بعلم كثير (٤٠٣ ـ ٤٩٤). ديباج ص ١٢٠ ، المرقبة العليا ص ٩٥ ، نفح الطيب ١ / ٣٥٣.

(٣) اللامية المسماة بحرز الأماني ، والمشهورة بالشاطبية ، والرائية ، وتسمى «عقيلة أتراب القصائد».

وانظر ترجمة الشاطبي في ص ١٦.

٣٤٣

المغرب ، وهو يسمعه إياه ، وأجازني بسائره ، وهو يرويه عن شيخه محدّث المغرب أبي عبد الله محمد بن رشيد الفهري السّبتي (١) عن مشيخة أهل سبتة ، وأهل الأندلس ، حسبما ذلك مذكور في كتب رواياتهم وطرق أسانيدهم ، إلا أنّها لم تحضرني الآن ، وفيما ذكرناه كفاية والله يوفّقنا أجمعين لطاعته وهذا حين أبتدي ، وبالله أهتدي.

وانفضّ ذلك المجلس ، وقد لا حظتني بالتّجلّة والوقار العيون ، واستشعرت أهليتي للمناصب القلوب ، وأخلص النّجيّ في ذلك الخاصّة والجمهور ، وأنا أنتاب مجلس السّلطان في أكثر الأحيان ، لتأدية الواجب من التّحية والمشافهة بالدّعاء ، إلى أن سخط السّلطان قاضي المالكية يومئذ في نزعة من النّزعات الملوكية ، فأبعده ، وأخّره عن خطّة القضاء في رجب ستّ وثمانين وسبعمائة ، ودعاني للولاية في مجلسه ، وبين أمرائه فتفاديت من ذلك ، وأبى إلّا إمضاءه ، وخلع عليّ ، وبعث الأمراء معي إلى مقعد الحكم بمدرسة القضاء ، فقمت في ذلك المقام الممود ، ووفّيت عهد الله وعهده في إقامة رسوم الحقّ ، وتحرّي المعدلة ، حتى سخطني من لم ترضه أحكام الله ، ووقع في ذلك ما تقدّم ذكره ، وكثر شغب أهل الباطل والمراء ، فأعفاني السّلطان منها لحول من يوم الولاية ، وكان تقدّمها وصول الخبر بغرق السّفين الواصل من تونس إلى الإسكندرية ، وتلف الموجود والمولود ، وعظم الأسف ، وحسن العزاء ، والله قادر على ما يشاء.

ثم خرجت عام تسعة وثمانين لقضاء الفرض ، وركبت بحر السويس من الطور إلى الينبع ، ورافقت المحمل إلى مكّة ، فقضيت الحجّ عامئذ ، وعدت إلى مصر في البحر كما سافرت أولا. وشغرت وظيفة الحديث بمدرسة صلغتمش ، فولّاني السّلطان إيّاها بدلا من مدرسته في محرّم أحد وتسعين ، ومضيت على حالي من الانقباض ، والتّدريس ، والتّأليف ، حتى ولّاني خانقاه بيبرس ، ثم عزلني عنها بعد سنة أو أزيد ، بسبب أنا أذكره الآن.

__________________

(١) هو أبو عبد الله محمد بن عمر بن محمد بن عمر .... بن رشيد الفهري السبتي (٦٥٧ ـ ٧٢١) ، له ترجمة في البغية ص ٨٥ ، الدرر الكامنة ٤ / ١١١ ، شذرات الذهب ٦ / ٥٦.

٣٤٤

ولاية خانقاه بيبرس ، (١) والعزل منها

لما رجعت من قضاء الفرض سنة تسعين ، ومضيت على حالي من التدريس والتأليف ، وتعاهد السّلطان باللقاء والتحية والدعاء ، وهو ينظر إليّ بعين الشفقة ، ويحسن المواعيد ، وكانت بالقاهرة خانقاه شيّدها السّلطان بيبرس ، ثامن ملوك الترك (٢) الذي استبدّ على الناصر محمد بن قلاوون (٣) هو ورفيقه سلار (٤) وأنف الناصر من استبدادهما ، وخرج للصيد ، فلمّا حاذى الكرك (٥) امتنع به ، وتركهم وشأنهم ، (٦) فجلس بيبرس على التّخت مكانه ، وكاتب الناصر أمراء الشام من مماليك أبيه ، واستدعوه للقيام معه ، وزحف بهم إلى مصر ، وعاد إلى سلطانه ، وقتل بيبرس وسلار سنة ثمان وسبعمائة. (٧) وشيّد بيبرس هذا أيام

__________________

(١) في الخطط للمقريري طبع مصر ٤ / ٢٧٦ وما بعدها ، حديث مفصل عن هذه الخانقاه ، وعن بانيها الملك المظفر ركن الدين بيبرس. وانظر تاريخ ابن إياس ١ / ١٤٩ ـ ١٥٣.

(٢) في تاريخ ابن إياس ١ / ١٤٩ ، أنه الثاني عشر من ملوك الترك.

(٣) هو الملك الناصر محمد بن الملك المنصور ابن قلاوون تولى الملك ثلاث مرات كانت الأخيرة منها في سنة ٧٠٩ ، وبقي ملكا حتى مات سنة ٧٤١ ، وعمره ٥٨ سنة. وانظر الخطط طبع مصر ٤ / ٩٨ ـ ١٠٢.

(٤) الأمير سيف الدين سلار المنصوري ، كان من أسرى التتار ، فخلص وصار مولى لعلاء الدين على ابن المنصور بن قلاوون ، وإليه ينتسب ؛ ساءت علاقته بالناصر ، فاعتقله ، واستصفى أمواله وقتله.

وانظر العبر ٥ / ٤٢٤ ـ ٤٢٥.

(٥) بفتح أوله وثانيه : El Kerak) عرضها الشمالي ٣١ ـ ٧ ، وطولها الشرقي ٣٥ ـ ٢٧) ، قلعة حصينة تقع في المملكة الأردنية الهاشمية على الشاطئ الشرقي للبحر الميت. وانظر ياقوت ٧ / ٢٤٠ ، تاج العروس (كرك).

(٦) في العبر لابن خلدون ٥ / ٤٢٢ تفصيل لهذا.

(٧) في العبر ٥ / ٤٢٤ : إن ذلك كان في سنة ٧١٠ وهو الأشبه بالصواب ، لأن الناصر عاد إلى الملك في سنة ٧٠٩.

٣٤٥

سلطانه داخل باب النصر (١) من أعظم المصانع وأحفلها ، وأوفرها ريعا ، وأكثرها أوقافا وعيّن مشيختها ، ونظرها لمن يستعد له بشرطه في وقفه ، فكان رزق النظر فيها والمشيخة واسعا لمن يتولاه ، وكان ناظرها يومئذ شرف الدين الأشقر إمام السّلطان الظاهر. (٢) فتوفي عند منصرفي من قضاء الفرض ، فولاني السّلطان مكانه توسعة عليّ ، وإحسانا إليّ وأقمت على ذلك إلى أن وقعت فتنة الناصري.

فتنة الناصري : (٣)

وسياقة الخبر عنها بعد تقديم كلام في أحوال الدول يليق بهذا الموضع ويطلعك على أسرار في تنقّل أحوال الدول بالتدريج إلى الضّخامة والاستيلاء ثم إلى الضعف والاضمحلال والله بالغ أمره

__________________

(١) كذا بالأصول.

(٢) في السلوك (ورقة ١٤١ ا نسخة الفاتح) سنة ٧٩١ و: «... وفي ٢٦ ربيع الآخر ، استقرّ قاضي القضاة أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون في مشيخة الخانقاه الركنية (نسبة لركن الدين بيبرس) عوضا عن شرف الدين عثمان لأشقر بعد موته».

ومما يجب الالتفات إليه أن ابن الفرات حين ذكر في تاريخ الدول والملوك (١ / ٦٥ سنة ٧٩١) تولية ابن خلدون مشيخة البيبرسية قال : «... وكان قد تنزّل بها صوفيا ، وحضرها يوما واحدا ، لأن من شرطها أن يكون شيخها أحد الصوفية بها». فما يقال اليوم ـ استنادا إلى هذه التولية ـ عن تصوف ابن خلدون في مصر ، وعما عسى أن يكون له من دخل في تعديل ابن خلدون لبعض آرائه في «مقدمته» نتيجة لهذا التحول الروحي الجديد لا يقره نص ابن الفرات المذكور ، على أنه قد جاء في «تنبيه الغبي ، على تكفيره ابن العربي» للبقاعي (ورقة ٦٢ ا نسخة شهيد على ٧٣٤ / ٢) فتوى لابن خلدون في ابن العربي ، ومن سلك سبيله من المتصوفة ، وفي حكم الشرع في كتبه ، تعتبر دليلا صريحا على أن الرجل لم تحوله ـ تماما ـ فجيعته في أهله وولده ، وتوليته مشيخة الخانقاه هذه ، عن طريقته التي كان ينظر بها إلى الأشياء ويحكم بمقتضاها عليها.

(٣) انظر العبر ٥ / ٤٧٥ وما بعدها.

٣٤٦

وذلك أن الدول الكليّة ، وهي التي تتعاقب فيها الملوك واحدا بعد واحد في مدّة طويلة ، قائمين على ذلك بعصبية النسب أو الولاء ، وهذا كان الأصل في استيلائهم وتغلّبهم ، فلا يزالون كذلك إلى انقراضهم ، وغلب مستحقّين آخرين ينزعونه من أيديها بالعصبية التي يقتدرون بها على ذلك ، ويحوزون الأعمال التي كانت بأيدي الدولة الأولى ، يفضّون جبايتها بينهم على تفاضل البأس والرجولة والكثرة في العصابة أو القلّة : وهم على حالهم من الخشونة لمعاناة البأس ، والإقلال من العيش لاستصحاب حال البداوة ، وعدم الثروة من قبل ، ثم تنمو الثروة فيهم بنمو الجباية التي ملكوها ، ويزيّن حبّ الشهوات للاقتدار عليها ، فيعظم التّرف في الملابس والمطاعم والمساكن والمراكب والممالك ، وسائر الأحوال ، ويتزايد شيئا فشيئا بتزايد النعم وتتسع الأحوال أوسع ما تكون ، ويقصر الدخل عن الخرج ، وتضيق الجباية عن أرزاق الجند وأحوالهم ، ويحصل ذلك لكلّ أحد ممّن تحت أيديهم ، لأن الناس تبع لملوكهم ودولتهم ، ويراجع كلّ أحد نظره فيما فيه من ذلك ، فيرجع وراءه ، ويطلب كفاء خرجه بدخله.

ثم إن البأس يقلّ من أهل الدولة بما ذهب لهم من الخشونة ، وما صاروا إليه من رقّة الحاشية والتنعّم ، فيتطاول من بقي من رؤساء الدولة إلى الاستبداد بها غيرة عليها من الخلل الواقع بها. ويستعد لذلك بما بقي عنده من الخشونة ، ويحملهم على الإقلاع عن الترف ، ويستأنف لذلك العصابة بعشيره أو بمن يدعوه لذلك ، فيستولي على الدولة ، ويأخذ في دوائها من الخلل الواقع ، وهو أحقّ الناس به ، وأقربهم إليه ، فيصير الملك له ، وفي عشيره ، وتصير كأنّها دولة أخرى ، تمرّ عليها الأوقات. ويقع فيها ما وقع في الأولى ، فيستولي آخر منهم كذلك إلى أن تنقرض الدولة بأسرها ، وتخرج عن القوم الأولين أجمع. وتأتي دولة أخرى مباينة لعصابة هؤلاء في النسب ، أو الولاء. سنّة الله في عباده.

وكان مبدأ هذه الدولة التركية ، أنّ بني أيّوب لما ملكوا مصر والشام ، كما قصصناه عليك في أخبارهم واستقلّ بها كبيرهم صلاح الدين ، (١) وشغل بالجهاد وانتزاع

__________________

(١) في وفيات الأعيان ٢ / ٤٩٥ ـ ٥٣٩ ، ترجمة حافلة لصلاح الدين.

٣٤٧

القلاع والحصون من أيدي الفرنج الذين ملكوها بالسواحل ، وكان قليل العصابة ، إنّما كان عشيره من الكرد يعرفون ببني هذان ، (١) وهم قليلون ، وإنّما كثر منهم جماعة المسلمين ، بهمّة الجهاد الذي كان صلاح الدين يدعو إليه ، فعظمت عصابته بالمسلمين ، وأسمع داعيه ، ونصر الله الدين على يده. وانتزع السواحل كلّها من أيدي نصارى الفرنج ، حتى مسجد بيت المقدس ، فإنّهم كانوا ملكوه وأفحشوا فيه بالقتل والسبي ، فأذهب الله هذه الوصمة على يد صلاح الدين ، وانقسم ملك بني أيوب بعده بين ولده وولد أخيه. واستفحل أمرهم ، واقتسموا مدن الشام ، ومصر بينهم ، إلى أن جاء آخرهم الصالح نجم الدين أيوب (٢) بن الكامل (٣) محمد بن العادل (٤) أبي بكر أخي صلاح الدين ، وأراد الاستكثار من العصابة لحماية الدولة ، وإقامة رسوم الملك ، وأن ذلك يحصل باتخاذ المماليك ، والإكثار منهم ، كما كان آخرا في الدولة العباسية ببغداد ، وأخذ التجار في جلبهم إليه ، فاشترى منهم أعدادا ، وأقام لتربيتهم أساتيذ معلّمين لحرفة الجندية ، من الثقافة والرّمي ، بعد تعليم الآداب الدينية والخلقية إلى أن اجتمع له منهم عدد جمّ يناهز الألف ، وكان مقيما بأحواز ذمياط (٥) في حماية البلاد من طوارق الفرنج المتغلّبين على حصنها ذمياط.

__________________

(١) بفتح الهاء ، والذال المعجمة ، وبعدها ألف ، ثم نون ؛ وهي قبيلة كبيرة من قبائل الأكراد. وفيات ٢ / ٤٩٥.

(٢) أخباره مفصلة في «العبر» ٥ / ٣٥٥ ـ ٣٦٠.

(٣) انظر الخطط للمقريزي ٢ / ٢٣٥ بولاق.

(٤) انظر الخطط ٢ / ٢٣٦ بولاق.

(٥) Damietta) ، عرضها الشمالي ٣١ ـ ٢٢ ، وطولها الشرقي ٣١ ـ ١٥) ، وقد ضبطها ابن خلدون بخطه بالحركات ، بكسر الذال المعجمة ؛ وقد حكى الإعجام الزبيدي في «تاج العروس» ، والسمعاني في «الأنساب» عن أبي محمد بن أبي حبيب الأندلسي ؛ قال السمعاني معقبا : «وما عرفناه إلا بالدال المهملة». ويقول العبدري في رحلته (٧١ ب مخطوطة تيمور) : إن أكثر الناس يعجمها ، وقد سأل شيخه الشرف الدمياطي عن ذلك ، فقال إن الإعجام خطأ ، وقد أخطأ الرشاطي حيث وضعها في «أنسابه» في الذال المعجمة. وانظر ياقوت ٤ / ٨٤ ـ ٨٨ ، تاج العروس (دمط ، ذمط) ، أنساب السمعاني ٢٢٩ ظ.

٣٤٨

وكان أبوه قد اتخذ لنزله هنالك قلعة سمّاها المنصورة ، (١) وبها توفي رحمه‌الله ، فكان نجم الدين نازلا بها في مدافعة ساكني ذمياط من الفرنج ، فأصابه هنالك حدث الموت ، وكان ابنه المعظّم تورنشاه نائبا في حصن كيفا (٢) من ديار بكر وراء الفرات ، فاجتمع الجند على بيعته ، وبعثوا عنه ، وانتظروا ، وتفطّن الفرنج لشأنهم ، فهجموا عليهم ، اقتتلوا فنصر الله المسلمين ، وأسر ملك الفرنج ريد إفرنس ، فبعثوا به إلى مصر ، وحبس بدار لقمان ، إلى أن فادوه بذمياط ، كما هو مذكور في أخبار بني أيوب. (٣) ونصبوا ـ للملك ، ولهذا اللقاء ـ زوجة الصالح أيّوب واسمها شجر الدّر ، (٤) فكانت تحكم بين الجند ، وتكتب على المراسيم ، (٥) وركبت يوم لقاء الفرنج ، تحت الصناجق ، (٦) والجند محدقون بها ، حتى أعزّ الله دينه ، وأتمّ نصره. ثم وصل تورنشاه المعظّم ، فأقاموه في خطّة الملك مكان أبيه الصالح أيّوب ، ووصل

__________________

(١) Mansura عرضها الشمالي ٣٠ ـ ٥٩ ، وطولها الشرقي ١١ ـ ٢٠) ، بلدة أنشأها الملك الكامل بن العادل بن أيوب بين دمياط والقاهرة ، ورابط فيها في وجه الإفرنج لما ملكوا دمياط وذلك في سنة ٦١٦ ، ولم يزل بها حتى استنقذ دمياط في رجب سنة ٦١٨. ياقوت ٨ / ١٧٨.

(٢) حصن كيفا : قلعة عظيمة مشرفة على دجلة ، بين آمد وجزيرة ابن عمر من ديار بكر. ياقوت ٣ / ٢٨٦. وانظر مفصّل أخبار تورنشاه في العبر ٥ / ٣٦٠ وتاريخ ابن الوردي ٢ / ١٧٣. والسلوك ص ٣٥١ وما بعدها.

(٣) تفصيل هذه الأحداث مذكور في العبر ٥ / ٣٦٠ ـ ٣٦١. وانظر تاريخ ابن الوردي ٢ / ١٨٢ ـ ١٨٣.

(٤) بعضهم يكتبها : «شجرة الدر» ، وكان يخطب باسمها على المنابر ، ونقشت على «السكة» ، وكان نقشها : «السكة المستعصمية الصالحية ، ملكة المسلمين ، والدة المنصور خليل» ، وخليل هذا ابنها من الملك الصالح توفي في حياة أبيه ، وكانت تكنى به. وانظر العبر ٥ / ٣٦١ ، ٣٧٣ ، الخطط ٢ / ٢٣٧ بولاق ، تاريخ ابن الوردي ٢ / ١٨٣.

(٥) يعني اتخذت لها «علامة» تختم بها على المراسيم ، وكانت علامتها ـ فيما يرى ابن خلدون :

«أم خليل» ، أما ابن الوردي فيقول : «والدة خليل». العبر ٥ / ٣٦١ ، ٣٧٣ ، ابن الوردي ٢ / ١٨٣.

(٦) جمع سنجق ، وهو في الأصل الرمح ، وكانت تجعل في رأسه الراية ، ومن ثم أصبح معناه : الراية مباشرة. صبح الأعشى ٥ / ٤٥٨.

٣٤٩

معه مماليك يدلّون بمكانهم منه ، ولهم به اختصاص ، ومنه مكان ؛ وكان رؤساء الترك يومئذ القائمون بالدولة من عهد أبيه وجدّه ، أقطاي الجمدار (١) وأيبك التركماني ، (٢) وقلاوون الصالحي ، (٣) فأنفوا من تصرفات مماليك تورنشاه ، واستعلائهم بالحظّ من السّلطان ، وسخطوهم وسخطوه ، وأجمعوا قتله. فلمّا رحل إلى القاهرة اغتالوه في طريقه بفارسكور ، وقتلوه ، ونصبوا للأمر أيبك التركماني (٤) منهم ، واستحدثوا هذه الدولة التركية كما شرحناه في أخبارها ، وهلك بعد أيبك ابنه علي المنصور ، (٥) ثم مولاه قطز ، (٦) ثم الظاهر بيبرس البندقداري. (٧) ثم ظهر أمر الطّطر ، واستفحل ملكهم ، وزحف هولاكو بن طولي ابن جنكيزخان (٨) من خراسان إلى بغداد ، فملكها ، وقتل الخليفة المستعصم آخر بني العباس ، ثم

__________________

(١) أخبار أقطاي مفصّلة في العبر ٥ / ٣٧٥. والجمدار : هو الذي يتولى إلباس السّلطان ، أو الأمير ثيابه ؛ وأصله جاما دار فحذف المدّ منه فقيل جمدار ، وهو مركب من كلمتين فارسيتين : «جاما» ، ومعناها ثوب ، و «دار» ، ومعناها : ممسك. وانظر صبح الأعشى ٥ / ٤٥٩.

(٢) في المنهل الصافي ج ١ ص ٢ (نسخة نور عثمانية) ، خطط المقريري ٢ / ٢٣٨ بولاق ترجمة وافية له.

(٣) انظر العبر ٥ / ٣٩٤ وما بعدها.

(٤) انظر تفصيل هذا في «العبر» ٥ / ٣٧٣.

(٥) انظر ترجمته في خطط المقريزي ٢ / ٢٣٨ ، بولاق ، وأخبار توليه الحكم في العبر ٥ / ٣٧٧ ، ٣٧٨.

(٦) سيف الدين قطز بن عبد الله المعزي ، تولى الملك سنة ٦٥٧ ، ولقب بالملك المظفر ، وقتله بيبرس البندقداري سنة ٦٦٨. له وقائع مع التتار في الشام ، انتصر فيها عليهم فذكرت انتصاراته الشعراء.

المنهل الصافي ٢ / ٢٠٥ (نسخة نور عثمانية) ، خطط المقريزي ٢ / ٢٣٨ بولاق ، العبر ٥ / ٣٧٨ وما بعدها.

(٧) انظر ترجمته في الخطط ٢ / ٣٠٠ ، ٢٣٨ بولاق. وخبر توليه السلطنة في العبر ٥ / ٣٨٠ ، ٣٨١.

والبندقداري : هو الذي يحمل غرارة البندق خلف السّلطان. والبندق : الذي يرمى به ، وأصله البندق الذي يؤكل ، وهو في العربية الجلوز صبح الأعشى ٥ / ٤٥٧ السلوك ص ٣٥٠.

(٨) سيبسط القول عن جنكيزخان ، وأولاده فيما بعد.

٣٥٠

زحف إلى الشام ، فملك مدنه وحواضره من أيدي بني أيّوب ، إلى أن استوعبها. وجاء الخبر بأن بركة (١) صاحب صراي شريكه في نسب جنكزخان ، زحف إلى خراسان ، فامتعض لذلك ، وكرّ راجعا ، وشغل بالفتنة معه إلى أن هلك. وخرج قطز من مصر عندما شغل هولاكو بفتنة بركة ، فملك الشام كلّه ، أمصاره ومدنه ، وأصاره للترك موالي بني أيوب ، واستفحلت دولة هؤلاء المماليك ، واتّصلت أيامها واحدا بعد واحد كما ذكرنا في أخبارهم. ثم جاء قلاوون (٢) عند ما ملك بيبرس الظاهر منهم فتظاهر به ، وأصهر إليه ، والترف يومئذ لم يأخذ منهم ، والشّدّة والشكيمة موجودة فيهم ، والبأس والرجولة شعار لهم ، وهلك الظاهر بيبرس ، وابناه من بعده ، كما في أخبارهم.

وقام قلاوون بالأمر ، فاتسع نطاق ملكه ، وطال ذرع سلطانه ، وقصرت أيدي الطّطر عن الشام بمهلك هولاكو ، وولاية الأصاغر من ولده ، فعظم ملك قلاوون ، وحسنت آثار سياسته ، وأصبح حجة على من بعده ، ثم ملك بعده ابناه : خليل الأشرف ، (٣) ثم محمد الناصر. (٤) وطالت أيامه ، وكثرت عصابته من مماليكه ، حتى كمل منهم عدد لم يقع لغيره. ورتّب للدولة المراتب ، وقدّم منهم في كل رتبة الأمراء ، وأوسع لهم الإقطاع والولايات ، حتى توفرت أرزاقهم واتّسعت بالترف أحوالهم. ورحل أرباب البضائع من العلماء والتجار إلى مصر ، فأوسعهم حباء وبرّا. وتنافست أمراء دولته في اتخاذ المدارس والربط والخوانق ، وأصبحت دولتهم غرّة في الزمان ، وواسطة في الدول ، ثم هلك الناصر بعد أربعين وسبعمائة ، فطفق أمراء دولته ينصبون بنيه للملك ، واحدا بعد آخر ، مستبدّين عليهم ، متنافسين في الملك ، حتى يغلب واحد منهم الآخر ، فيقتله ، ويقتل سلطانه من أولاد الناصر ، وينصب

__________________

(١) يأتي الحديث عنه فيما بعد.

(٢) أنظر أخباره في العبر ٥ / ٣٩٤ ـ ٤٠٣.

(٣) انظر العبر ٥ / ٤٠٣ ـ ٤٠٦ حيث ذكر توليته ، وفتوحاته ، ثم مقتله.

(٤) انظر أخباره في العبر ٥ / ٤٠٦.

٣٥١

آخر منهم مكانه ، إلى أن انساق الأمر لولده حسن الناصر ، (١) فقتل مستبدّه شيخون ، (٢) وملك أمره. وألقى زمام الدولة بيد مملوكه يلبغا ، (٣) فقام بها ، ونافسه أقرانه ، وأغروا به سلطانه ، فأجمع قتله. ونمي إليه الخبر وهو في علوفة البرسيم عند خيله المرتبطة لذلك ، فاعتزم على الامتناع ، واستعدّ للّقاء. واستدعاه سلطانه ، فتثاقل عن القدوم. واستشاط السّلطان ، وركب في خاصته إليه ، فركب هو لمصالحته ، وهاجم السّلطان ففلّه ، ورجع إلى القلعة ، وهو في اتّباعه ، فلم يلفه بقصره ، وأغرى به البحث فتقبّض عليه ، واستصفاه ، وقتله ، ونصب للملك محمد المنصور (٤) بن المظفر حاجي بن الناصر. وقام بالدولة أحسن قيام ، وأغرى نفسه بالاستكثار من المماليك ، وتهذيبهم بالتربية ، وتوفير النعم عندهم بالإقطاع ، والولايات ، حتى كمل منهم عدد لم تعهده الدولة. ثم خلع المنصور بن المظفر لسنتين ، ونصب مكانه للملك شعبان الأشرف (٥) بن حسين ابن الناصر ، فأقام على التّخت وهو في كفالته ، وهو على أوله في إعزاز الدولة ، وإظهار الترف والثروة ، حتى ظهرت مخايل العزّ والنعم ، في المساكن والجياد والمماليك والزينة ، ثم بطروا النعمة ، وكفروا الحقوق ، فحنقوا عليه لما كان يتجاوز الحدود بهم (٦) في الآداب ، فهمّوا بقتله وخلصوا نجيا لذلك في متصيّدهم الشتوي ، وقد برزوا له بخيامهم وسلطانهم على عادتهم. ولما أحسّ بذلك ركب ناجيا بنفسه إلى القاهرة ، فدخلوا على السّلطان الأشرف ، وجاءوا به على إثره ، وأجازوا البحر ، فقبضوا عليه عشيّ

__________________

(١) لقبوه بالناصر (لقب أبيه) ، وانظر أخباره في العبر ٥ / ٤٤٧ ـ ٤٥٢ ، وابن إياس ١ / ١٩٠ ـ ٢١١.

(٢) الأمير الكبير سيف الدين الناصري ، قتل سنة ٧٥٨. وإليه ينسب الجامع ، والحانقاه تجاهه بالقاهرة. خطط المقريزي ٤ / ١١٣ وما بعدها طبع مصر.

(٣) هو يلبغا بن عبد الله الخاصكي (نسبة إلى خواص السّلطان). وقد تقدمت ترجمته.

(٤) في العبر خبر تنصيبه للملك بأوسع مما هنا ٥ / ٤٥٢ ، وانظر تاريخ ابن إياس ١ / ٢١١ ـ ٢١٢.

(٥) انظر تاريخ بن إياس ١ / ٣١٢ ـ ٢٣٨ ، والعبره / ٢٥٣ وما بعدها حيث تجد الحديث الوافي عن تولية الأشرف ، وأخباره.

(٦) كان يضربهم بالعصا ، ويجذع أنوفهم ، ويصطلم آذانهم. العبر. ٥ / ٤٥٦.

٣٥٢

يومهم ، ثم قتلوه (١) في محبسه عشاء. وانطلقت أيديهم على أهل البلد بمعرّات لم يعهدوها من أول دولتهم ، من النهب والتخطّف وطروق المنازل والحمّامات للعبث بالحرم ، وإطلاق أعنّة الشهوات والبغي في كل ناحية ، فمرج أمر الناس ، ورفع الأمر إلى السّلطان ، وكثر الدعاء واللّجأ إلى الله. واجتمع أكابر الأمر إلى السّلطان ، وفاوضوه في كفّ عاديتهم ، فأمرهم بالركوب ، ونادى في جنده ورعيته بانطلاق الأيدي عليهم ، والاحتياط بهم في قبضة القهر ، فلم يكن إلا كلمح البصر ، وإذا بهم في قبضة الأسر. ثم عمّرت بهم السجون ، وصفّدوا وطيف بهم على الجمال ينادى بهم ، إبلاغا في الشهرة ، ثم وسّط (٢) أكثرهم ، وتتبع بالنفي والحبس بالثغور القصيّة ، ثم أطلقوا بعد ذلك. وكان فيمن أطلق جماعة منهم بحبس الكرك : فيهم برقوق الذي ملك أمرهم بعد ذلك ، وبركة الجوباني ، (٣) وألطنبغا الجوباني (٤) وجهركس الخليلي.

وكان طشتمر ، (٥) دوادار يلبغا ، (٦) قد لطف محلّه عند السّلطان الأشرف ،

__________________

(١) في العبر عرض واضح لهذه الثورة ٥ / ٤٥٦ ـ ١٥٨.

(٢) وسطه توسيطا : قطعة نصفين ، ويقال قتل فلان موسّطا.

(٣) هو بركة بن عبد الله الجوباني اليلبغاوي الأمير زين الدين. كان أميرا شجاعا يحب العلماء ؛ له مآثر خيرية بمكة ، والحرم ، وبطريق المدينة. قتل سنة ٨٧٢. المنهل الصافي ١ / ١٨٢ ـ ١٨٣ (نسخة نور عثمانية).

(٤) علاء الدين ألطنبغا بن عبد الله الجوباني اليلبغاوي الأمير ، كان من خيار الأمراء دينا ، وعقلا وشجاعة. مات في الواقعة بين منطاش والناصري خارج دمشق سنة ٧٩٢ ه‍ ، وكان صديقا لابن خلدون ، وقد عرف به وأثنى عليه في العبر ٥ / ٤٧٦ ـ ٤٧ ، ٥ / ٤٦٢. ترجمته في «المنهل» ١ / ١٣٩ ب (نسخة نور عثمانية).

(٥) طشتمر بن عبد الله العلائي الدوادار الأمير سيف الدين ، توفي في دمياط منفيا سنة ٧٨٦. أثنى عليه ابن تغرى بردى كثيرا بمقدار ما قدح في بركة ، والظاهر برقوق. المنهل ١ / ٤١٠ (نسخة نور عثمانية).

(٦) لقب للذي يمسك دواة السّلطان أو الأمير ، ويتولى من الأمور ما يلزم هذا المعنى ، من حكم ، أو تنفيذ أمور ، أو غير ذلك. صبح الأعشى ٥ / ٤٦٢.

٣٥٣

وولي الدوادارية له ، وكان يؤمل الاستبداد كما كان أستاذه يلبغا ، فكان يحتال في ذلك بجمع هؤلاء المماليك اليلبغاوية من حيث سقطوا ، يريد بذلك اجتماعهم عصبة له على هواه ، ويغري السّلطان بها شفاها ورسالة ، إلى أن اجتمع أكثرهم بباب السّلطان الأشرف ، وجعلهم في خدمة ابنه عليّ وليّ عهده. (١) فما كثروا ، وأخذتهم أريحية العزّ بعصبيتهم ، صاروا يشتطّون على السّلطان في المطالب ، ويعتزّون بعصبية اليلبغاوية. واعتزم السّلطان الأشرف عام سبعة وسبعين على قضاء الفرض ، فخرج لذلك خروجا فخما ، واستناب ابنه عليّا على قلعته وملكه في كفالة قرطاي (٢) من أكابر اليلبغاوية ، وأخرج معه الخليفة والقضاة. فلما بلغ العقبة (٣) اشتطّ المماليك في طلب جرايتهم من العلوفة والزاد ، واشتطّ الذين بمصر كذلك في طلب أرزاقهم من المتولّين للجباية. وصار الذين مع السّلطان إلى المكاشفة في ذلك بالأقوال والأفعال ، وطشتمر الدوادار يغضي عنهم ، يحسب وقت استبداده قد أزف ، إلى أن راغمهم السّلطان بالزجر ، فركبوا عليه هنالك ، وركب من خيامه مع لفيف من خاصّته ، فنضحوه بالنّبل ، ورجع إلى خيامه ، ثم ركب الهجن مساء ، وسار فصبّح القاهرة ، وعرّس هو ولفيفه بقبّة النصر.

وكان قرطاي كافل ابنه علي المنصور حدث بينه وبين ناظر الخاص المقسي مكالمة عند مغيب السّلطان أحقدته. وجاشت بما كان في نفسه ، فأغرى عليّا المنصور بن السّلطان بالتوثّب على الملك ، فارتاح لذلك وأجابه ، وأصبح يوم ثورة المماليك بالعقبة ، وقد جلس عليّا مكفوله بباب الإسطبل ، وعقد له الراية بالنداء على جلوسه

__________________

(١) انظر تفصيلا أوسع في العبر ٥ / ٤٦٢.

(٢) قرطاي (أو قراطاي) بن عبد الله المعزي الأشرفي سيف الدين ، رفيق أينبك ، وصهره ، وكان من أصاغر الأمراء في دولة الأشرف شعبان بن حسين ، ولكنه أصبح في أيام ولده عليّ أمير مئة ، ثم مقدم ألف. واختلف مع صديقه أينبك ، فحبسه إلى أن مات سنة ٧٧٩. «المنهل» ٢ / ١٩٩ ب (نسخة نور عثمانية) وانظر العبر ٥ / ٤٦٣ ـ ٤٦٧.

(٣) Aqaba عرضها الشمالي ٢٤ ، وطولها الشرقي ٤٦ ، وطولها الشرقي ٤٦. وموقعها في النهاية الشرقية الشمالية لخليج العقبة.

٣٥٤

بالتخت ، وبينما هم في ذلك ، صبّحهم الخبر بوصول السّلطان الأشرف إلى قبّة النصر ليلتئذ ، فطاروا إليه زرافات ووحدانا ، فوجدوا أصحابه نياما هنالك ، وقد تسلّل من بينهم هو ويلبغا الناصري (١) من أكابر اليلبغاوية ، فقطعوا رؤوسهم جميعا ، ورجعوا بها تسيل دما. ووجموا لفقدان الأشرف ، وتابعوا النداء عليه ، وإذا بامرأة قد دلّتهم عليه في مكان عرفته ، فتسابقوا إليه ، وجاؤوا به فقتلوه لوقته بخلع أكتافه ، وانعقدت بيعة ابنه المنصور. وجاء طشتمر الدوادار من الغد بمن بقي بالعقبة من الحرم ، ومخلّف السّلطان ، واعتزم على قتالهم طمعا في الاستبداد الذي في نفسه ، فدافعوه وغلبوه وحصل في قبضتهم ، فخلعوا عليه بنيابة الشام ، وصرفوه لذلك ، وأقاموا في سلطانهم. وكان أينبك أميرا آخر من اليلبغاوية (٢) قد ساهم قرطاي في هذا الحادث ، وأصهر إليه في بعض حرمه ، فاستنام له قرطاي ، وطمع هو في الاستيلاء. وكان قرطاي مواصلا صبوحه بغبوقه ، ويستغرق في ذلك ، فركب في بعض أيامه ، وأركب معه السّلطان عليّا ، واحتاز الأمر من يد قرطاي ، وصيّره إلى صفد ، (٣) واستقلّ بالدولة ، ثم انتقض طشتمر بالشام مع سائر أمرائه ، فخرج أينبك في العساكر ، وسرّح المقدمة مع جماعة من الأمراء ، وكان منهم برقوق وبركة المستوليان عقب ذلك ، وخرج هو والسّلطان في الساقة ، (٤) فلمّا انتهوا إلى بلبيس ، ثار الأمراء الذين في المقدّمة عليه ، ورجع إليه أخوه منهزما ، فرجع إلى القلعة. ثم

__________________

(١) يلبغا بن عبد الله الناصري الأتابكي الأمير سيف الدين ، وهو صاحب الوقعة مع الملك الظاهر بظاهر دمشق. المنهل ٢ / ٤٦٧ ـ ٤٧٠ (نسخة نور عثمانية). وانظر الدرر الكامنة ٤ / ٤٤٠ ـ ٤٤٢.

(٢) أينبك بن عبد الله البدري الأمير سيف الدين ، كان هو وقرطاي صاحبي الحل والعقد في الدولة. استبد بالمنصور ابن الأشرف ، ثم تغلب عليه يلبغا الناصري وأودعه سجن الاسكندرية.

المنهل ١ / ١٦٣ ب ـ ١٦٤ ا. (نسخة نور عثمانية) ، وانظر العبر ٥ / ٤٦٥.

(٣) صفد : Safed) عرضها الشمالي ٣٢ ـ ٥٨ ، وطولها الشرقي ٣٥ ـ ٣٠) مدينة في شمالي فلسطين ، واقعة في الشمال الغربي لبحيرة طبرية ، قريبة من حدود سوريا في الجنوب الغربي ، ومن حدود لبنان في الجنوب.

(٤) ساقة الجيش : مؤخره.

٣٥٥

اختلف عليه الأمراء ، وطالبوه بالحرب في قبة النصر ، فسرح العساكر لذلك ، فلمّا فصلوا فرّ هو هاربا ، وقبض عليه وثقّف بالإسكندرية. واجتمع أمراء اليلبغاوية يقدمهم قطلقتمر العلائي ، (١) ويلبغا الناصري ودمرداش اليوسفي (٢) وبركة وبرقوق ، فتصدّى دمرداش ويلبغا وبركة وبرقوق ، إلى الاستقلال بالأمر وتغلّبوا على سائر الأمراء ، واعتقلوهم بالإسكندرية. وفوضوا الأمر إلى يلبغا الناصري ، وهم يرونه غير خبير ، فأشاروا باستدعاء طشتمر ، وبعثوا إليه ، وانتظروا. فلمّا جاءه الخبر بذلك ظنّها منية نفسه ، وسار إلى مصر ، فدفعوا الأمر إليه ، وجعلوا له التولية (٣) والعزل وأخذ برقوق ، وبركة يستكثران من المماليك ، بالاستخدام والجاه ، وتوفير الاقطاع ، إكثافا لعصبيتهما ، فانصرفت الوجوه عن سواهما ، وارتاب طشتمر بنفسه ، وأغراه أصحابه بالتوثب ، ولمّا كان الأضحى في سنة تسع وسبعين استعجل أصحابه على غير رويّة ، وركبوا وبعثوا إليه فأحجم ، وقاتلوا فانهزموا. وتقبض على طشتمر ، وحبس بالإسكندرية ، وبعث معه يلبغا الناصري ، وخلت الدولة للأميرين برقوق وبركة من المنازعين ، وعمروا المراتب بأصحابهما. ثم كثر شغب التركمان والعرب بنواحي الشام ، فدفعوا يلبغا الناصري إلى النيابة بحلب (٤) ليستكفوا به في تلك الناحية.

__________________

(١) قطلقتمر بن عبد الله العلائي الأمير سيف الدين الأشرفي. له ترجمة في المنهل ٢ / ٢١٠ ب (نسخة نور عثمانية) ، وانظر العبر ٥ / ٤٦٥ ، ٤٦٦٦.

(٢) دمرداش بن عبد الله اليوسفي الأمير سيف الدين ، كان مع منطاش ، والناصري على الظاهر برقوق ، وظفر به الظاهر فقتله في سنة ٧٩٣. ودمرداش بفتح الدال المهملة ، وميم مضمومة ، وراء ساكنة ، ودال ، وقيل ضاد ، وألف وشين ومعناه : حديد حجر. المنهل ١ / ٣٢٢ ا (نسخة نور عثمانية).

(٣) من هنا إلى قوله :

(*) ودعوني ولست من منصب الحكم ولا ساحبا لديهم ذيوله* (البيت رقم ٣٩ من القصيدة الواردة بعد قليل ، مما تنفرد به نسخة طب ، حيث وقع نقص في نسخة أيا صوفيا ، وما تفرع عنها من النسخ.

(٤) حلب Aleppo) عرضها الشمالي ٣٦ ـ ١٠ ، وطولها الشرقي ٣٧ ـ ٥) مدينة في شمال سوريا ، تغنيها المكانة التي تتبوؤها في التاريخ الإسلامي عن التحلية. وانظر ياقوت ٣ / ٣١١ ـ ٣٢١.

٣٥٦

ثم تنافس برقوق وبركة في الاستقلال ، وأضمر كل واحد منهما لصاحبه ، وخشي منه ، فقبض برقوق على بطانة بركة من عصابته ليحصّ بذلك جناحه ، فارتاع لذلك بركة ، وخرج بعصابته إلى قبة النصر ليواضع برقوقا وأصحابه الحرب هنالك ، ورجا أن تكون الدائرة له. وأقام برقوق بمكانه من الإسطبل ، وسرب أصحابه في جموعهم إلى مجاولة أولئك. وأقاموا كذلك أياما يغادونهم ويراوحونهم ثلاثا ، إلى أن عضّت بركة وأصحابه الحرب ، فانفضّوا عنه ، وجيء ببركة ، وبعث به إلى الإسكندرية ، فحبس هنالك إلى أن قتله ابن عرّام نائب الإسكندرية. وارتفع أصحابه إلى برقوق شاكين ، فثأرهم منه بإطلاق أيديهم في النّصفة ، فانتصفوا منه بقتله في ساحة القلعة ، بعد أن سمّر ، وحمل على جمل عقابا له ، ولم يقنعهم ذلك ، فأطلق أيديهم فيما شاءوا منه ، ففعلوا ما فعلوا ؛ وانفرد برقوق ـ بعد ذلك ـ بحمل الدولة ينظر في أعطافها (١) بالتهديد ، والتسديد ، والمقاربة ، (٢) والحرص على مكافأة الدخل بالخرج. ونقّص ما أفاض فيه بنو قلاوون من الإمعان في الترف ، والسّرف في العوائد والنفقات ، حتى صار الكيل في الخرج بالمكيال الراجح ، وعجزت الدولة عن تمشية أحوالها ، وراقب ذلك كلّه برقوق ، ونظر في سدّ خلل الدولة منه ، وإصلاحها من مفاسده ، يعتدّ ذلك ذريعة للجلوس على التّخت ، وحيازة اسم السّلطان من أولاد قلاوون ، بما أفسد الترف منهم ، وأحال الدولة بسببهم ، إلى أن حصل من ذلك على البغية ، ورضي به أصحابه وعصابته ، فجلس على التخت في تاسع عشر رمضان من سنة أربع وثمانين ، وتلقّب بالظاهر ، ورتّب أهل عصابته في مراتب الدولة ، فقام وقاموا بها أحسن قيام ، وانقلبت الدولة من آل قلاوون إلى برقوق الظاهر وبنيه. واستمرّ الحال على ذلك ، ونافسه اليلبغاوية ـ رفقاؤه في ولاء يلبغا ـ فيما صار إليه من الأمر ، وخصوصا يلبغا نائب حلب ، فاعتزم على الانتقاض ، وشعر به الظاهر فبعث باستدعائه ، فجاء وحبسه مدّة ، ثم رجعه إلى نيابة حلب ، وقد وغر صدره من هذه المعاملة. وارتاب به الظاهر ، فبعث سنة تسعين دواداره للقبض عليه ، ويستعين

__________________

(١) الأعطاف : الجوانب.

(٢) المقاربة : ترك الغلو في الأمور ، وقصد السداد فيها.

٣٥٧

في ذلك بالحاجب. وانتقض ، واستدعى نائب ملطية ، (١) وهو منطاش من أمراء اليلبغاوية ، وكان قد انتقض قبله ، ودعا نواب الشام إلى المسير إلى مصر إلبا على الظاهر ، فأجابوه ، وساروا في جملته ، وتحت لوائه ، وبلغ الخبر إلى الظاهر برقوق ، فأخرج عساكره مع أمراء اليلبغاوية من أصحابه : وهم الدوادار الأكبر يونس ، (٢) وجهركس الخليلي أمير الإسطبل ، والأتابكي ايتمش ، (٣) وأيدكار حاجب الحجاب (٤) وأحمد بن يلبغ أستاذهم. (٥) وخرج الناصري من حلب في عسكره ، واستنفر العرب والتركمان وأمراء الشام ، ولما تراءى الجمعان بناحية دمشق ، نزع كثير من عسكر السّلطان إليهم ، وصدقوا الحملة على من بقي فانفضّوا ، ونجا أيتمش إلى قلعة دمشق ، فدخلها ، وقتل جهركس ، ويونس ، ودخل الناصري دمشق ، ثم أجمع المسير إلى مصر ، وعميت أنباؤهم حتى أطلّوا على مصر.

وفي خلال ذلك أطلق السّلطان الخليفة من محبسه كان بعض الغواة أنمى عنه ،

__________________

(١) بفتح الميم واللام ، وسكون الطاء ، ثم ياء مفتوحةMalatya ؛ والعامة تكسر الطاء. وتشدد الياء.

تقع في الشمال الغربي لديار بكر من الجمهورية التركية. عرضها الشمالي ٣٨ ـ ٣٠ ، وطولها الشرقي ٣٨ ـ ٢٨. وانظر ياقوت ٨ / ١٥٠ ـ ١٥١ ، تاج العروس (ملط).

(٢) يونس بن عبد الله الأمير سيف الدين الدوادار الأكبر للملك الظاهر ، ويعرف بالنوروزي (نسبة إلى معتقه الأمير جرجي النوروزي). كان من أعاظم دولة الظاهر برقوق ، حارب منطاش ، والناصري ، وعاد في جيش منهزم إلى القاهرة ، وفي طريقه قتل سنة ٧٩١ عن نيف وستين سنة. المنهل ٢ / ٤٩٢ (نسخة نور عثمانية) ، خطط المقريزي ٢ / ٤٢٦ بولاق.

(٣) انظر أخباره في «العبر» ٥ / ٥٠٠.

(٤) أيدكار بن عبد الله العمري سيف الدين ، كان أحد أعيان الملك الظاهر ، وولاه حجابة الحجاب ، ثم انحاز إلى حزب منطاش ، ولما عاد برقوق إلى الملك قبض عليه في سنة ٧٩٤ ، وقتله. المنهل ١ / ١٥٤ (نسخة نور عثمانية).

(٥) الأمير شهاب الدين أحمد بن يلبغا العمري الخاصكي ، كان برقوق مملوكا لوالده ، ولذلك عفا عنه حين انحاز إلى الناصري ومنطاش ، ولما مات الظاهر ، ثار ايتمش وآخرون بالشام ، فانضم إليهم أحمد بن يلبغا هذا ، وحاربهم فرج بن الظاهر ، فانتصر عليهم ، وقبض على أحمد بن يلبغا ، فقتله في سنة ٨٠٢ ، المنهل ١ / ٩٥ (نسخة نور عثمانية).

٣٥٨

أنّه داخله شيطان من شياطين الجند ، يعرف بقرط (١) في قتل السّلطان يوم ركوبه إلى الميدان قبل ملكه بسنين ، فلما صحّ الخبر أمر بقتله ، وحبس الخليفة سبعا إلى تلك السنة ، فأطلقه عند هذا الواقع ، ولمّا وصل (....) (٢) إلى قيطا اجتمعت العساكر ، ووقف السّلطان أمام القلعة يومه حتى غشيه الليل ، ثم دخل إلى بيته وخرج متنكّرا ، وتسرّب في غيابات المدينة ، وباكر الناصري وأصحابه القلعة ، وأمير حاج ابن الأشرف ، فأعادوه إلى التخت ولقّبوه المنصور ، وبعثوا عن الأمراء المحبوسين بالإسكندرية ، وكان فيهم ألطنبغا الجوباني الذي كان أمير مجلس ، (٣) وقبض السّلطان الظاهر عليه ، وحبسه أياما ، ثم أطلقه وبعثه نائبا على دمشق ، ثم ارتفعت عنه الأقوال بأنه يروم الانتقاض ، وداخل الناصريّ نائب حلب في ذلك ، وأكّد ذلك عند السّلطان ما كان بينه وبين الناصري من المصافاة والمخالصة ، فبعث عنه ؛ ولما جاء حبسه بالإسكندرية ، فلمّا ملك الناصريّ مصر ، وأجلس أمير حاج ابن الأشرف (٤) على التخت ، بعث عنه ليستعين به على أمره ؛ وارتابوا لغيبة الظاهر ، وبالغوا في البحث عنه ، فاستدعى الجوباني واستنام له ، واستحلفه على الأمان ، فحلف له ، وجاء به إلى القلعة بعد أن ساور صاحبه الناصريّ في المضي إليه وتأمينه ، وحبسوه في بعض قصور الملك ، وتشاوروا في أمره ، فأشار أمراء اليلبغاوية

__________________

(١) قرط بن عمر من التركمان المستخدمين في الدولة ، وكان له إقدام وشجاعة وصل بهما إلى مرادفة الأمراء في مذاهبهم. له أخبار ذكرها ابن خلدون في «العبر» ٥ / ٤٧٤. قتل سنة ٧٨٥.

(٢) أظن أن كلمة أضاعتها شفرة المسفّر عند تجليد الكتاب ، حيث أن هذه الجمل (من قوله : وفي خلال ذلك س ٤ ، إلى قوله : اجتمعت العساكر س ٨) ، ملحقة بالهامش بخط ابن خلدون في نسخة طب.

(٣) معناه صاحب الشورى في الدولة ، وهو ثاني الأتابك ، وتلو رتبته. العبر ٥ / ٤٧٧ ، وانظر صبح الأعشى ٥ / ٤٥٥.

(٤) الملك الصالح حاجي ابن الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون ، يلقب بالمنصور (غيّر لقبه من الصالح إلى المنصور) ، وخلع نفسه يوم أن عاد برقوق إلى الملك. المنهل الصافي ١ / ١٧٥ ب (نسخة نور عثمانية).

٣٥٩

كلّهم بقتله ، وبالغ في ذلك منطاش ، ووصل نعير أمير بني مهنّا (١) بالشام للصّحابة بينه وبين الناصري ، فحضّهم على قتله ، ومنع الجوبانيّ من ذلك وفاء بيمينه ، فغلت صدورهم منه ، واعتزموا على بعثه إلى الكرك ، ودافعوا منطاشا بأنّهم يبعثونه إلى الإسكندرية ، فيعترضه عند البحر بما شاء من رأيه ، ووثق بذلك ، فقعد له عند المرساة ، وخالفوا به الطريق إلى الكرك ، وولّوا عليها نائبا وأوصوه به ، فأخفق مسعى منطاش ، ودبّر في اغتيال الدولة ، وتمارض في بيته ، وجاءه الجوباني عائذا فقبض عليه ، وحبسه بالإسكندرية ، وركب منتقضا ، ووقف عند مدرسة الناصر حسن يحاصر الناصري بالقلعة ، واستحاش هو بأمراء اليلبغاوية ، فداهنوا في إجابته ، ووقفوا بالرميلة أمام القلعة ، ولم يزل ذلك بينهم أياما حتى انفضّ جمع الناصري ، وخرج هاربا ، فاعترضه أصحاب الطريق بفارسكو ، وردّوه ، فحبسه منطاش بالإسكندرية مع صاحبه ، واستقلّ بأمر الملك ، وبعث إلى الكرك بقتل الظاهر ، فامتنع النائب ، واعتذر بوقوفه على خطّ السّلطان والخليفة والقضاة ، وبثّ الظاهر عطاءه في عامّة أهل الكرك ، فانتدبت طائفة منهم لقتل البريدي الذي جاء في ذلك ، فقتلوه ، وأخرجوا الظاهر من محبسه فأصحروا ، واستألف أفاريق من العرب ، واتصل به بعض مماليكه ، وسار إلى الشام ، واعترضه ابن باكيش (٢) نائب غزة ، (٣) فأوقع به الظاهر ، وسار إلى دمشق ، وأخرج منطاش العساكر مع سلطانه أمير حاج ، وسار على التعبئة ليمانع الظاهر عن دمشق ، وسبقه الظاهر فمنعه جنتمر

__________________

(١) نعير بن محمد بن حيار بن مهنا بن مانع ، لبيته القدم الراسخة في الإمارة ؛ وله ترجمة. في «المنهل» ، فصّل فيها الحديث عن تاريخ بيته.

وفي ظفر برقوق به ، وبمنطاش ، يقول الشيخ زين الدين بن ظاهر :

الملك الظاهر في عزّه

أذلّ من ضل ومن طاشا

ورد في قبضته طائعا

نعيرا العاصي ومنطاشا

المنهل ١ / ٢٢٦ ب ، ٢ / ٤٣٦ ، ٤٣٧ (نسخة نور عثمانية).

(٢) الحسن بن باكيش الأمير بدر الدين التركماني ، نائب غزة من قبل منطاش. قتله الظاهر بالقاهرة سنة ٧٩٣ ، وكان مشهورا بالشجاعة. المنهل ١ / ٢٩٤ ب (نسخة نور عثمانية).

(٣) Ghuzzeh عرضها الشمالي ٣١ ـ ٣٢ ، وطولها الشرقي ٣٤ ـ ٣٥) : مدينة بفلسطين قرب الساحل ، بها ولد الإمام الشافعي ، ويروى له فيها شعر. وانظر ياقوت ٦ / ٢٨٩ ـ ٢٩١.

٣٦٠