رحلة ابن خلدون

محمّد بن تاويت الطنجي

رحلة ابن خلدون

المؤلف:

محمّد بن تاويت الطنجي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: ارتياد الآفاق
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

إنّ ما يضاعف من قوة المفارقة في سلوك ابن خلدون خلال ذلك اللقاء التاريخي في دمشق ، أنه عالم مستنير رصد البعد المتحضّر في سلوك الناس والمجتمعات!

لكن هل يجوز محاكمة مواضعات الماضي بلغة الحاضر؟ على الأرجح لا. وما رحلة ابن خلدون ويوميّاته التي هي بمثابة ترجمة ذاتية ومذكّرات حافلة بالأحداث والوثائق والإشارات المتعلّقة بعالم كبير ، غير شهادة على عصر سادته الحروب وهيمنت عليه أعمال الطّغاة بصفتها فتوحات ؛ وأعمالا مشروعة لأقوياء يغيّرون مجرى التّاريخ. وقد يأسرون ضيوفهم الأسرى بخصالهم العجيبة وشخصيّاتهم المتألّهة ، فيصبحون ملك أيديهم!

VIII

بذل محمد بن تاويت الطنجي جهودا غير عاديّة في تحقيق هذا الكتاب وفق منهج صارم ألزم نفسه به. وهو كما أوضح في شرحه لمنهجه : «كان البحث عن أصول الكتاب المخطوطة ، وصلتها بالمؤلف من أولى خطوات تحقيق هذا المنهج ، والذي أقصده بهذه الصّلة ، أن تكون النسخة مخطوطة المؤلف ، أو مقروءة عليه تحمل دليلا على هذه القراءة ، أو مكتوبة عن نسخته مباشرة أو بواسطة معارضة عليها إلخ ...».

استطاع المحقق خلال عمله في فهرسة المخطوطات بين القاهرة واستنبول العثور على مخطوطتين للرحلة ، يقول : «أخطأت عين الزمان ـ وهو الحديد البصر ـ نسختين من هذا الكتاب ، كلتاهما كانت نسخة المؤلف ، وحفظت المكتبات المختلفة نسخا عديدة منه ومختلفة ، وبفضل ذلك استطعت أن أخرج الكتاب.».

إحدى النّسخ الكاملة التي اعتمد ابن تاويت عليها في تحقيق الرّحلة أرشده إليها البروفيسور التركي المقيم اليوم في ألمانيا فؤاد سيزكين ، ويصفه ب «تلميذ نجيب» ، ويشكره على ما أسدى إليه من خدمة بإرشاده إلى هذه النسخة بقوله : «لا أحب أن أنسى أن الفضل في الالتفات إلى هذه النسخة يعود إلى الصديق الكريم العالم التركي الشاب فؤاد سزكين ، فله خالص شكري.». ويرجّح ابن تاويت «أن أحدا لم يعرف أنّها النّسخة الكاملة من هذا الكتاب ..». ويجدر هنا أن نذكر أن سيزكين المقيم اليوم في ألمانيا ، يعتبر عالما حجّة في الأدب الجغرافي ، وله فضل كبير على

٢١

الثقافة العربية بما جمعه وحققه من نصوص جغرافية عربية وأخرى تنتمي إلى أدب الرحلة.

وحول النصّ وأخطاء اللّغة وعمل المحققين وما يجوز وما لا يجوز في التحقيق ، يطرح ابن تاويت سؤالا أساسيّا مهمّا ، ويجيب عنه ، هو : «ما الذي يجب أن نفعل إذا مازلّت بالكاتب القدم ، فأخطأ ، في كتابته ، جادة متن اللّغة ، أو اشتقاقها ، أو أخطأ في الإعراب؟ أنملك أن نعدّل في النصّ ، ونثبته على حسب ما تقرّره القواعد؟ وأين الحصانة التي تتمتع بها نصوص المؤلفين حينذاك؟. والجواب عندي : نعم نملك ذلك ما دام المؤلف قد اختار أن يكتب باللغة الفصيحة ، وتقيّد بقواعدها الصّارمة ، وما دمنا على يقين من أن مخالفته لهذه القواعد لا منفذ في مواطن اختلافها يبيح قبولها أو الإغضاء عنها بوجه.».

ويتساءل المحقق هل إن المؤلف لو كان حيّا وروجع من قبل قارئ بأخطاء ومخالفات في اللغة «كان سيصرّ على خطئه الذي لا يقبل التأويل؟ أم أنّه كان يسارع إلى الاعتذار ، ثم إلى إقامة ما كان قد أخطأ فيه؟».

واستنادا إلى جوابه الخاص عن سؤاله عمد المحقق إلى تدقيق اللّغة وتنقيتها من الأخطاء التي لا لبس فيها ، في المتن ، وأشار إلى الخطأ في الحاشية.

أما في ما يتّصل بالحقائق والموضوعات والمعلومات التاريخيّة التي تتطرّق إليها الرّحلة ، فقد عمد المحقق إلى مقارنتها بالأصول والمصادر التاريخية المعاصرة ، ورجع إلى عشرات المؤلفات التاريخية ليفحص دقّة ابن خلدون في تعامله مع حقائق التاريخ التي لا جدال فيها ، فاستشار هذه الكتب ، واستعان بها «في التنبيه على ما انحرف فيه المؤلف عن الصراط المستقيم».

وقد عارض ابن تاويت نصّ ابن خلدون بأصوله المباشرة ، وحدّد هذه الأصول «في مجموعات تنتسب إلى أصول قديمة الصدور عن المؤلف ، ومتوسطة ، وحديثة ؛ وغير المباشرة ، وهي كتب التراجم والتاريخ وغيرها مما نقل عنها ابن خلدون أو نقلت عنه ، أو تناولت ما تناوله من موضوعات».

وفي ما يتّصل بضبط الأمكنة بين أسمائها القديمة وأسمائه الحديثة عمل على الخرائط العصريّة ، ليحدّد هذه الأماكن ، فابن خلدون شأنه في ذلك شأن كل الرّحالة

٢٢

القدامى ذكر أمكنة مرّ بها لم تعد تحمل الأسماء نفسها. فعمد المحقق في مرات عديدة إلى ذكر الاسم العربي للمكان إلى جانب اسمه بالحروف اللاتينيّة ، كما يرد في المصوّرات الجغرافيّة ، ووضع إزاءه موقع المكان على خطي الطّول والعرض ، محدّدا بالدرجات والدقائق. وقد لجأ المحقّق إلى ذلك رغبة منه في أن يترك أوضح صورة ممكنة للمكان في ذهن القارئ.

ولا يهمل المحقّق أن يشير إلى عجزه مرّات عن تحديد بعض أمكنة الرّحلة ، على رغم أن أكثر هذه الأماكن أمكن تحديدها بحيث لم يعد من العسير على قارئ اليوم الاهتداء إليها عن طريق المصوّرات الجغرافيّة العصريّة.

IX

يعتقد ابن تاويت أن الصورة التي رسمها ابن خلدون لنفسه لم ترق لمعاصريه من مشارقة مصر «فصنعوا له صورة تختلف عمّا قاله عن نفسه أشدّ الاختلاف».

انطلاقا من هذا الاكتشاف في الفرق بين الصورتين المكتوبة بقلمه ، وتلك التي رسمت له من جانب أهل مصر الذين حلّ ابن خلدون في ظهرانيهم ، وتسلّم مناصب عليا لديهم ، أخذ المحقّق على عاتقه مهمّة فحص الفرق ، معتبرا أن هناك حاجة ملحّة «إلى نوع من العناية خاص ، يقصد فيه الوقوف عند مواطن الاختلاف هذه ، التي اعتبرت في ما بعد منافذ واسعة تسرّبت منها ألوان من النّقد شملت الكثير من نواحي حياة ابن خلدون ، بل كادت ـ بما اتّسعت ـ أن تمسّ الثّقة بما يرويه.». ويضيف ابن تاويت : «لذلك عرضت ما يقوله ابن خلدون في هذا الكتاب ، على كتب أخرى تناولت الموضوع نفسه بالحديث ، وأثبتّ نصّها من غير تصرّف فيه ليؤيّد رواية ابن خلدون أو ينقضها ، وبذلك أصبح مصدر الحكم لابن خلدون أو عليه غير بعيد عن متناول النّاقد النّزيه.». وفي هذا السياق نشير إلى أغناطيوس كراتشكوفسكي الذي يشكك بالقيمة العلمية لآراء ابن خلدون في الاجتماع ، وضعف ملاحظاته الجغرافية.

والأرجح أنّ نزاهة المحقق وإنصافه الحقيقة في عمله على هذا النص لقيا كل تقدير من جانب أساتذته وأصدقائه من كبار العلماء والكتاب في مصر ، الذين تحمسوا

٢٣

لمشروعه ولدأبه وإخلاصه العلمي ، لا سيما من خصّهم بالشّكر في مقدّمته ، وهم طه حسين وأحمد أمين ، وأمين الخولي ، وهؤلاء العلماء الثّلاثة يعترف لهم ابن تاويت بالفضل في رعاية العمل وإسداء النّصح ، وإبداء الملاحظات القيّمة التي عادت بفوائد جمّة على العمل في تحقيق هذه الرّحلة ، لتخرج بالصورة التي جاءت عليها.

تجدر الإشارة إلى أننا اعتمدنا في إخراج هذه الطبعة على الطبعة اليتيمة من الكتاب المنشورة سنة ١٩٥١ في دار المعارف في القاهرة ، وألحقنا بها ما أورده المستشرق الروسي أغناطيوس كراتشكوفسكي عن الرّحلة وصاحبها ، لما في ذلك من فائدة علميّة تضيء هذا الجانب من آثار ابن خلدون. وحاولنا في تحرير هذه الطبعة تخليصها من كل ما ورد من أخطاء الطبعة الأولى ، وهي في غالبيّتها طباعيّة ، وحافظنا على الصّيغة التي خلص إليها ابن تاويت ، وقد قارنّاها بأصولها كما وردت في ذيل كتاب «العبر» ، كلّما جدّ سبب ، وهو ما جعلنا نقف في كل مرّة على طبيعة الفروق والخيارات التي لجأ إليها المحقّق ، عند ما كان يضطر إلى الاختيار بين لفظة أو تعبير هنا ، وغيرهما هناك ، في النّسخ المختلفة للكتاب ، ما يجعلنا متأكّدين من القيمة الاستثنائيّة لهذا العمل في صيغته الأخيرة.

ومما يحسن ذكره ، هنا ، أخيرا ، أنني كنت قرأت هذه الرحلة ، كغيري ، في ذيل كتاب «العبر» بصفتها جزءا منه ، وإن كانت له بنيته الخاصة وقوامه المستقل ، كما أسلفنا في هذا التمهيد ، ولم أعلم بتحقيق ابن تاويت إلا متأخرا ، خلال إحدى زياراتي إلى المغرب ، وقد أدهشني أن هذه الطبعة الصادرة في القاهرة ، والتي عثرت عليها في مكتبة صغيرة في الدار البيضاء ، كانت نسخة من طبعة يتيمة تكاد تكون مجهولة في المشرق العربي. ولعل نفادها وعدم قيام أحد بطبعها ثانية ، هما ما جعلها خارج التداول ، وأدخلها في ليل النسيان.

نوري الجرّاح

أبو ظبي في ١١ / سبتمبر ٢٠٠٢

٢٤

مسار الرحلة

الانطلاق

من تونس أول سنة ٧٥٣ هـ

* بلاد هوارة

* أوبّة

* تبسّة

* قفصة

* بسكرة

* البطحاء

* بجاية

* سبتة فرضة المجاز

* جبل الفتح

* غرناطة

* إشبيلية

* إلبيرة

* ساحل المرية ، منتصف سنة ٧٦٦

٢٥

* بجاية

* أحياء يعقوب بن علي ، ثم الارتحال إلى بسكرة

* القطفا

* المسيلة

* الزّاب

* البطحاء

* هنين

* تلمسان

* المعقل

* زغبة

* البطحاء

* أحياء حصين

* المسيلة

* بسكرة

* تلمسان

* بسكرة

* القطفة

* بسكرة

* أبّدة

العودة

إلى المغرب الأقصى

* من بسكرة يوم المولد الكريم ، سنة ٧٤٧ ه‍.

* مليانة

* أحياء العطّاف

٢٦

* إلى المغرب على طريق الصحراء

* رأس العين ، مخرج وادي زا.

* جبل دبدو

* فاس

* ساحل أسفي

* كرسيف

* فاس

* جبل الفتح

* الأندلس

* بهنين

* تلمسان

* البطحاء

* منداس

* أحياء أولاد عريف قبلة جبل كزول

* قلعة ابن سلامة ، من بلاد بني توجين.

* الدّوسن من أطراف الزّاب سنة ٧٨٠ ه‍.

* التّل

* بفرفار

* قسنطينة

* سوسة

* تونس في شعبان من السّنة ٧٨٠ ه‍.

* تبسة ، وسط تلول إفريقية

* تونس

* ضيعة الرّياحين ١٨٤ ه‍.

٢٧

الخروج من المرسى

والتوجه إلى مصر

* مرسى الإسكندرية يوم الفطر

* القاهرة أول ذي القعدة ٧٨٤ ه‍.

* مرسى الطور ، بالجانب الشرقي من بحر السويس منتصف رمضان سنة ٧٨٩ ه‍.

* ينبع

* مكة (ثاني ذي الحجة).

* الينبع

* ساحل القصير

* مدينة قوص (قاعدة الصّعيد).

* مصر ، القاهرة جمادى سنة ٧٩٠ ه‍.

* القدس

* بيت لحم

* غزّة

* مصر

* غزّة في منتصف شهر المولد الكريم من سنة ٨٠٣ ه‍.

* الشام

* شقحب

* دمشق

* قرية عرايا.

* صفد

* غزّة

* مصر في شعبان من سنة ٨٠٣ ه‍.

٢٨

مقدمة المحقق

حينما اخترت «مقدمة ابن خلدون موضوعا لدراستي ، وجب عليّ أن أعرف ابن خلدون مؤلفها ، وكانت معرفته عن طريق حديثه عن نفسه من أهم ألوان هذه المعرفة وأوكدها ؛ ومن هنا قرأت هذا الكتاب طلبا لمعرفة ابن خلدون ، فعرفته منه على الصورة التي أراد أن يتصوره عليها الناس. ثم قرأت بعد ذلك ما كتبه عنه معاصروه ومن تبعهم ، فوجدت صورة أخرى غير التي عرفتها منه ، وعدت إلى ابن خلدون مرة أخرى وفي ذهني عنه صورتان ؛ صورته كما رأى نفسه ، أو كما أراد أن يراه الناس ، تأنّق في صنعها ، واستمسك بظلالها وألوانها. وصورته كما رآه معاصروه ، أو كما أرادوا أن يروه ، ويراه معهم الناس ، عرف ابن خلدون أكثر معالمها فنكرها في ألم وترفّع ؛ وهو اختلاف يثير الرغبة في تعرّف أسباب الموافقة ودواعي الخلاف (١).

وهكذا قدّر لي أن أقرأ الكتاب قراءة مقارنة ، رغبة في الوصول إلى معرفة أقرب صور ابن خلدون إلى الحقيقة.

وعزّ عليّ أن تضيع قراءتي لهذا الكتاب ، وهو المفتاح الأول لمعرفة شخصية ابن

__________________

(١) رأي ابن خلدون في نفسه ، ورأي معاصريه فيه بمصر بوجه خاص ، لا يكادان يلتقيان ، والقول في بيان أقربهما إلى الحق أوسع من أن يعالج في مثل هذا المقام.

٢٩

خلدون ، فاستعنت بالله على إخراجه كاملا إلى حيّز الوجود (١).

وأخذت أتمثّل المنهج الذي يجب أن أتبعه في تحقيقه ونشره بين الناس ، ولم يلبث أن وضحت معالمه مجملة في كلمات : «أن يخرج النصّ كما أراده مؤلفه أن يكون» ؛ كلمات خفيفة الوقع على الألسن ، ولكنها عند وزنها في ثقل الجبال.

وكان البحث عن أصول الكتاب المخطوطة ، وصلتها بالمؤلف من أولى خطوات تحقيق هذا المنهج ، والذي أقصده بهذه الصلة ، أن تكون النسخة مخطوطة المؤلف ، أو مقروءة عليه تحمل دليلا على هذه القراءة ، أو مكتوبة عن نسخته مباشرة أو بواسطة معارضة عليها إلخ.

وليس تحقيق هذه الصّلة بالأمر اليسير الهيّن ، فالزمان ـ بحوادثه ـ قد ألحق بالجمهرة من عيون هذا التراث الإسلامي ما لا نجهله من ألوان التبديد والإفناء ، ولكن الله الكريم شاء أن لا تضيع مني في هذا السبيل الخطوات ؛ فقد أخطأت عين الزمان ـ وهو الحديد البصر ـ نسختين من هذا الكتاب ، كلتاهما كانت نسخة المؤلف ، وحفظت المكتبات المختلفة نسخا عديدة منه ومختلفة ، وبفضل ذلك استطعت أن أخرج الكتاب معتمدا على المجموعة التالية منها.

نسخ الكتاب واختلافها :

والكتاب يقع في آخر كتاب : «العبر» ، وقد عرف عن ابن خلدون أنه كانت تصدر عنه نسخ من كتابه ما بين الحين والحين ؛ يهديها إلى الملوك والوزراء تارة ، ويأخذها عنه الطلبة الدارسون تارة أخرى.

فلقد أهدى ـ وهو بالمغرب ـ النسخة الأولى من كتابه لأبي العباس الحفصي ملك تونس (٢) ، وحينما رحل إلى مصر أهدى نسخة أخرى إلى الملك الظاهر برقوق (فيما

__________________

(١) طبع القسم الكبير من هذا الكتاب مرتين : الأولى بآخر كتاب «العبر» وذلك في سنة ١٢٨٤ بمطبعة بولاق ، والثانية على حاشية «المقدمة» بالمطبعة الخيرية بمصر سنة ١٣٢٢ ه‍.

(٢) انظر ص ٢٤٠ من هذا الكتاب.

٣٠

بين سنتي ٧٨٤ و ٧٩١) ، وهذه النسخة هي التي سمّاها بكتاب «الظاهري» ، ثم بعث من مصر في سنة ثالثة ، لتوضع في خزانة الكتب التي بجامع القرويين بفاس ، وقفا على طلبة العلم (١) ، وكان الملك حينذاك أبا فارس عبد العزيز المريني (٧٩٦ ـ ٧٩٩) ، ولذلك قدم الكتاب باسمه (٢).

وكل واحدة من هذه النسخ تختلف عن سابقتها صدورا عن المؤلف ، بما كان يضيفه إلى الكتاب من ملحقات ، ويدخله على أبوابه وفصوله من تعديلات.

ومن هنا كانت نسخ الكتاب جميعه أوجز كلما كانت أقدم صدورا عن المؤلف ، وكلما كانت حديثة العهد بالمؤلف كانت أكثر تفصيلا للحوادث وأوسع. و «المقدمة» ، و «لتاريخ» ، وهذا الجزء في هذا الحكم سواء.

ولست أعرف عدد النسخ التي صدرت عن المؤلف من كتابه هذا على وجه التحديد ، غير أنه من اليسير ـ استنادا إلى ما وصل إلينا من نسخة ـ أن يردّ ما وجد منها بالمقارنة ـ بينها ـ إلى أمهات ثلاث :

١ ـ أم قديمة الصدور عن المؤلف ، وهي موجزة.

٢ ـ ومتوسطة تزيد قليلا عن سابقتها ، وتنقص الكثير من التفصيلات عن التي تليها.

٣ ـ ثم حديثة العهد بالمؤلف ، ويمتد حديثه فيها ، وتعديله بالزيادة والنقص وغيرهما

__________________

(١) لا تزال أجزاء من هذه النسخة محفوظة بجامع القروبين بفاس ، وانظر مقدمة ابن خلدون ص ٧ طبع بولاق ، وفي المجلة الأسيوية

J. Asiatique : Juillet ـ Septembre ٣٢٩١, P. ١٦١ ـ ٦٨١

صيغة «التحبيس» التي أقرها ابن خلدون ، ووقّع عليها بخطه.

(٢) المعروفون بأبي فارس عبد العزيز من الملوك الثلاثة ، اثنان من بني مرين هذا ثانيهما وإليه كان الإهداء ، وهما معا من ملوك المغرب ؛ والثالث حفصى من ملوك تونس ؛ وهذا الاشتراك في الاسم والكنية قد توقف بسببه الشيخ نصر الهوريني في تعيين المهدى إليه. كما أضل صاحب الاستقصا ، فجعل الإهداء لغير من كان له.

وانظر الاستقصا ٢ / ١٢٩ ، ١٤٠ ـ ١٤١ ، ومقدمة ابن خلدون ص ٥ بولاق.

٣١

إلى ما قبل وفاته بشهور.

ويقوم هذا التصنيف على أن هناك أمّا أولى لهذه النسخ جميعا ، وهي التي قدمها ابن خلدون لأبي العباس الحفصي بتونس (١) ، وعنها يتفرع سائر الأصول التي تتمثل في مجموعات يسهل تصور انحدارها عن أصولها وأمهاتها من الرسم التالي.

والأصل الحديث من هذه الأصول هو الذي بقى بين يدي ابن خلدون حتى الأيام الأخيرة من حياته ، فظل التنقيح يلاحقه ، وحياة ابن خلدون ـ بما امتدت ـ تضيف إليه الجديد من الأحداث ، وبذلك أصبح ناسخا للأصول قبله ، معبرا عن الرأي الأخير الكامل للمؤلف في هذا الكتاب.

ومن هنا كان البحث عن الأصول الأخيرة أساسا أوليا لنشر هذا الكتاب ، وكانت الأصول القديمة ، والمتوسطة ـ على الرغم من أنها أصول مباشرة للكتاب إلى حد كبير ـ ، قد نسخها ما جاء بعدها من الأصول ، وأصبحت الاستعانة بها لا تتجاوز مواطن الاتفاق بين الأصول ، أما حين تختلف ، فإن المقدم فيها لا محالة هي هذه الأصول الحديثة.

وقد حفظت مكتبتا «أيا صوفيا» و «أحمد الثالث» باستانبول نسختين قيّمتين من هذا الكتاب ، كانت كل واحدة منهما نسخة المؤلف ، فكانتا معا من أوثق ما وصل إلينا من نسخه.

نسخة أيا صوفيا : (رقم ٣٢٠٠ ، ٨٣ ق ، ٢٥٩* ١٨٥ مم ، س ٢٥ ، ٢٨) تقع في جزء مستقل ، وخطها نسخ جميل ، والقسم الأول منها (ويتمثل في الأوراق ١ ـ ٤١ أ، ٤٩ ب ـ ٥٩ أ، ٦٠ ب ٦٣ أ) يختلف خطه عن القسم الباقي من الكتاب لاختلاف الناسخ نفسه ، وعدد سطور هذا القسم ٢٥ سطرا ؛ ويتماز هذا القسم بعناية ناسخه

__________________

(١) لا أعرف عن هذه الأم شيئا غير كلمة ذكرها المرحوم نصر الهوريني في حاشية له على صيغة الإهداء ل «مقدمة» ابن خلدون طبع بولاق سنة ١٢٧٤.

ولهذا جعلت الخط الذي يصل مجموعة النسخ القديمة بهذه الأم شعاعيا إشارة إلى انقطاع الصلة بيننا وبينها.

٣٢

بإعجام ما حقّه أن يعجم من الحروف ، وحظي بعناية بالغة من المؤلف ، فشكّل بالحركات بخطّه ما رأى أنه محتاج إلى الضبط والتقييد من الكلمات ، ولا سيما الأمكنة والأعلام المغربية.

أما القسم الثاني من النسخة (وعدد سطوره ٢٨) ، فقاعدة ناسخه أن لا يعجم من الحروف إلا النادر ، والمؤلف حينما قرأ هذا القسم لم يعن بالإعجام والضبط عنايته بالقسم الأول ، وإنما وقف عند كلمات رأى الحاجة فيها ماسة إلى ضبطها بالحركات فقيّدها.

على أنه في القسمين معا ، بدا له في كلمات أن غيرها يصح أن يقوم مقامها ، أو أن غيرها أصح منها ، فكتب الكلمة في الحاشية بخطه ، وفوقها حرف «خ» أو «صح» أو «أصح» حسبما رأى أنه الأنسب. ورأى أن كلمات بالمتن محتاجة إلى بيان فكتبها مرة أخرى بالحاشية مستقلة ، ووضع فوقها علامة البيان «ب».

ولم أعرف من أمر ناسخ القسم الأول إلا أنه كتب كثيرا لابن خلدون ، أما القسم الثاني فإن الناسخ ـ وإن لم يسمّ نفسه في آخر هذا الكتاب ـ قد أمكنت معرفته بمقارنة خط هذا القسم بخط «المقدمة» المحفوظة بمكتبة «يني جامع» تحت رقم ٨٨٨ ، وهو عبد الله بن حسن الشهير بابن الفخار ، ويظهر من الخاتمة التي ختم بها نسخة «المقدمة» المذكورة ـ وقد كتبها لنفسه ـ أنه كان على صلة وثيقة بابن خلدون ، وأنه كان من المعجبين به ؛ والذي يتصفح ما كتبه لابن خلدون ـ وهو كثير ـ لا يتردد مطلقا في الحكم بأنه كان من أهل العلم بين الناسخين ؛ فأخطاؤه نادرة جدا ، وقاعدته في كتابته ـ على الرغم من عدم إعجامه للحروف ـ محكمة مطردة قلما تتخلّف.

وقد طرأ على هذا الأصل بين ورقتي ٧٢ ، ٧٣٧ نقص مقداره ورقتان ، وهو نقص قديم فيما أعتقد ، وكل الفروع التي تفرعت عن هذا الأصل كانت مثله في هذا النقص ، ولم أعثر على فرع كتب عنه يوم كان كاملا. (١)

نسخة أحمد الثالث : [٣٠٤٢ (٤) ، ٥١ ق ٣٢٠* ٥١٥ مم ، ٣٥ سطرا].

__________________

(١) مكانه الآن في المطبوع بين ص ٣٢٤ ، ٣٣٣.

٣٣

أما الأصل الثاني وهو المحفوظ في مكتبة السلطان أحمد الثالث في «طوب قبوسراي» باستانبول أيضا ، فيقع في آخر كتاب العبر متصلا به ، كتبه ابن الفخار السابق الذكر وكانت عنايته به من حيث إعجامه أكثر من عنايته بالقسم الذي كتبه من الأصل السابق ، وحظي من المؤلف بعناية طيبة ـ حيث إنه نسخته التي توفي وهي في مكتبته فيما أعتقد ـ فضبط أعلامه ، وأضاف الناقص من كلماته ، وبيّن المبهم منها على حاشية الكتاب ، وأصلح المحرّف ـ كل ذلك بخطه ، وهذا الأصل ـ فيما أعتقد ـ أحدث من سابقه صدورا عن المؤلف ؛ فقد أدخل بالصلب منه ما كان في أصل أياصوفيا ملحقا بالحاشية بخطه (١) ، وأثبت فيه نص الرّسالة التي كتبها الملك الظاهر إلى الملك أبي العباس الحفصي ، متشفعا في أولاد ابن خلدون وأهله ، راجيا منه أن يبعثهم إليه بمصر (٢) ، ولم يثبتها في أصل أيا صوفيا ولا ترك لها مكانا ؛ بل إن سياقه هنالك لا يشعر بأنه يريد إثبات نص ما في هذا السبيل ، فإدراجها في هذا الأصل ، وإضافتها إليه في ورقة ملحقة بين الورقتين (٣٢ ، ٣٣) ، جاء في وقت متأخر عن صدور أصل «أيا صوفيا».

وهو أصل عقيم لم يتفرع عنه فرع ـ فيما أعلم ـ وأغلب الظن أن أحدا لم يعرف أنه النسخة الكاملة من هذا الكتاب ، فلم يشر أحد ـ من الذين عنوا بالحديث عن مخطوطات ابن خلدون ـ إلى النسخة التي يتبعها هذا الجزء على كثرة ما تحدثوا عن نسخ ابن خلدون (٣).

__________________

(١) ورد هذا الإلحاق في لوحة ١٢ من «س» ، ويبتدئ في المطبوع من السطر الثاني من ص ٤٦ ، وينتهي بالسطر ٩ من ص ٤٦.

(٢) انظر ص ٢٤٩ ـ ٢٥٣ من المطبوع.

(٣) لا أحب أن أنسى أن الفضل في الالتفات إلى هذه النسخة يعود إلى الصديق الكريم العالم التركي الشاب فؤاد سزكين ، فله خالص شكري.

٣٤

فروع نسخة أيا صوفيا

(أ) نسخة دار الكتب المصرية : [رقم ١٠٩ م تاريخ ، ٤٩ ص ، ٢٣* ١٧ سم ، سطورها ٣١]

هي أحد فروع أصل أيا صوفيا ، وقد وضعت تحت عنوان : «التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا» (١) وخطها فارسي (تعليق) جميل ، وأغلب الظن أنها كتبت في أول القرن ١٢ الهجرة ، وكاتبها قليل المعرفة باللغة العربية ، ولذلك صحّف من كلماتها عددا يفوق الإحصاء ؛ وخلا القسم الأخير من الأصل عن الإعجام ، فكانت البلوى أشد ، ولما بلغ إلى مكان النقص الذي بالأصل المنقول عنه ، لم يفطن له ، فكتب الكلام متصلا كأن لم ينقص منه شيء.

ولهذه الأسباب لم أعتمد عليها مطلقا.

(ب) نسخة خاصة : [١٢٨ ق ، ٢٥٠* ١٧٥ مم ، سطورها ١٩]

ولديّ فرع آخر من أصل أيا صوفيا كتب في سنة ١٣٠٧ ه‍ بخط نسخ جميل واضح ، ولم يذكر كاتبه ، وهو محمد بن عبد السلام بن جاد ، أنه نقله عن الأصل المذكور ، ولكن المقارنة تثبت ـ في وضوح ـ الصلة بين النسختين.

وهناك آفة وقع فيها كل الناقلين عن الأصل المذكور ، فالكلمات في الأصل مهملة عارية عن الإعجام ، وحينما حاول النسّاخ أن يعجموا زلت منهم الأقدام ، ويكثر الغرر بوجه خاص في رسائل ابن الخطيب التي أثبتها ابن خلدون في هذا الكتاب ؛ حيث جاءت فيها ألوان كثيرة من محسنات البديع ، فكانت صور الكلمات تأتي متشابهة ، فإذا ما عريت من النقط ـ وهو ما كان ـ جاءت الصعوبة ، وكثرت فروض النساخ الخاطئة.

ولو لا أن هذا الناسخ ، كان من الأمانة بحيث إن تجميل الخط ، وتحليته بالنقط ، لم يغره بتشويه الحقيقة ، لكان الفارق بين هذه النسخة ، وبين نسخة دار الكتب من الضآلة بحيث لا يذكر.

__________________

(١) انظر الفهرس الجديد لدار الكتب المصرية ٥ / ١٤١.

٣٥

لقد صور ناسخنا الكلمات كما رآها في الأصل ، وتركها مهملة إن كان الأصل أغفلها من الإعجام ، وبذلك ترك النص بحالته تحت نظر القارئ والباحث بعده ، وتلك محمدة عادت ثمرتها على هذا الفرع بالاعتبار. على أنه ـ مع ذلك ـ لم يبرأ من تحريفات تبلغ أحيانا الغاية البعدى في الخطورة.

ويتبع هذا الفرع أصله في النقص الواقع به ؛ وترك الناسخ ورقتين أخريين سهوا لم يكتبهما (١) ، فأضاف إلى النقص الوراثي عيبا آخرا جديدا غبّر به في وجه هذا الفرع.

وقد أشرت إلى هذه النسخة في الحواشي حين اعتمدت عليها بحرف «ج»

(ح) نسخة أسعد أفندي : [رقم ٢٢٦٨ ، ٩٣ ق ، ٣٢٧* ١٥٥ مم]

والنسخة المحفوظة بمكتبة أسعد أفندي (إحدى مكتبات السليمانية باستانبول) فرع لنسخة أيا صوفيا أيضا ؛ خطه نسخ جميل ، أما من حيث الصحة فهو بالغ الحضيض في التحريف ، وقد قدّم الناسخ وأخّر في بعض أوراق الأصل ، فخرج الفرع إلى تصحيفه ـ مضطربا ، ولم أعتمد عليه لعدم صلاحيته ـ فيما أزعم ـ ، على أن جمال خطه ، وعناية ناسخه بالإعجام ، قد خدع بعض المعاصرين فوصفه بالحسن ، وكاد أن يفضله على أصله بأياصوفيا.

(د) نسخة الرباط :

وفي مكتبة الرباط «عاصمة المغرب الأقصى» الحالية ، نسخة من هذا الكتاب تحت رقم (١٣٤٥D) ، ولست أملك الأدلة المادية للحكم بأنها فرع من أياصوفيا حكما يقينيا ، ولكنني أظن ذلك ظنا راجحا يقوم على أمرين :

١ ـ أن عنوانها : «التعريف بابن خلدون ، ورحلته غربا وشرقا» وكلمات : «ورحلته غربا وشرقا» لا توجد إلا في الأصلين الحديثين : «أيا صوفيا» ، و «أحمد الثالث» ، وفيما عساه أن يكون قد تفرع عنهما.

__________________

(١) يقع هذا النقص في المخطوط في الورقة ٣٥ ب ، ومكانه في المطبوع في ص ١٠١ وما بعدها.

٣٦

٢ ـ فإذا ما صح الفرض الذي قدمته ، وهو أن أصل «أحمد الثالث» عقيم لم يعقب ، كانت نسخة الرباط فرعا من فروع «أيا صوفيا» لا محالة.

النسخ المتوسطة

(ا) نسخة «الظاهري» : وهي واقعة في آخر النسخة التي قدمها ابن خلدون للملك الظاهر برقوق ، والجزء الذي تشغله يبتدئ من ص ٣١٥ وينتهي بصفحة ٣٨١ من الجزء الرابع عشر وهو آخر الكتاب.

وخط هذه النسخة رائع ، وفي مبدأ كل جزء منها لوحة مذهّبة وملونة ، كتب عليها أنها «كتبت برسم الخزانة الملكية الظاهرية».

وقد راجع ابن خلدون هذه النسخة قبل تقديمها للملك الظاهر ، فضبط بعض كلماتها ، وأصلح ما احتاج منها إلى الإصلاح.

وتنتهي هذه النسخة برجوع ابن خلدون من الحج في سنة ٧٩٧ ؛ فبعد أن دخلت إلى مكتبة الملك الظاهر لم يضف إليها ما أضيفإلى الأصلين السابقين. ولذلك نجد مثلا الرسالة التي كتبها ابن الخطيب إلى أحد ملوك الحفصيين ـ على لسان ملكه ابن الأحمر (١) ـ ساقطة من هذه النسخة ، وإن كان مكانها في القسم الذي يأتي قبل ارتحال ابن خلدون إلى المشرق. ثم لا تحتوى هذه النسخة على ما بعد سنة ٧٩٧.

وقد انتفعت بالأجزاء التي لم يغيرها ابن خلدون من هذه النسخة ، وأشرت إلى الخلاف ـ حيث يوجد ـ في حواشي الكتاب ، وسميتها ب «الظاهري» عند الإشارة إليها.

(ب) نسخة الشنقيطي : [رقم ١ ش تاريخ ٢٠ ورقة (من ٣٦٣ ظ ـ ٣٨٣ و) ، ٣١٤* ٢١٤ مم ، سطورها ٤٢].

كتبت في سنة ١١٣٧ برسم خزانة الملك المولى إسمعيل (١٠٧٢ ـ ١١٣٩) أحد ملوك الدولة العلوية القائمة الآن بالمغرب الأقصى ؛ خطها مغربي يقرب في قاعدته إلى

__________________

(١) تقع هذه الرسالة في المطبوع بين ص ١٥٥ ، ص ٢٠٩.

٣٧

الخط المسند المعروف اليوم بالمغرب ، وقد كان الناسخ من السرعة في كتابتها بحيث أصبح الاعتماد عليها عند الاختلاف في الفروق الخطية الدقيقة قليل الجدوى ؛ وهي أخت نسخة «الظاهري» ، والفروق الشكلية الطفيفة ليست من العمق بحيث تخرج هذه النسخة من زمرة النسخ المتوسطة. وقد رجعت إليها كثيرا. ورمزت لها عند الاستفادة منها بحرف «ش».

(ح) نسخة حسن حسني باشا عبد الوهاب : [١٢٧ ق ، ٢٢٢* ١٦٧ مم ، س ٢٦. كتبت سنة ١٣٠٤].

وقد تكرم سعادة حسن حسني عبد الوهاب باشا التونسي فأهداني مخطوطته الخاصة ، وهي تتبع هذه الطائفة ، ولا تختلف عن سابقتيها إلا فيما يفترق فيه النساخ من تصحيف لا يذهب بصفات النسخة الجوهرية.

ولم أعتمد عليها في تصحيح النص ، لأنها وصلتني من تونس بعد أن تجاوز الطبع نهاية النسخ المتوسطة ، غير أنها مثل صالح من هذه المجموعة المتوسطة ، وقد دلتني فاتحتها على أنها ونسخة نور عثمانية [رقم ٣٠٦٧ من ورقة ١٧٧ ـ ٢١٤. ٣٢* ٢١] ، قد صدرتا معا عن أصل واحد.

على أنني ، وإن لم أعتمد عليها ، لا أجد من الكلمات ما يفي بشكر سعادة حسن باشا عبد الوهاب على عونه العلمي النبيل.

النسخ القديمة

(ا) النسخة الأزهرية : [٦٧٢٩ تاريخ أباظة ـ ٢٤ ق (٢٠٣ ظ ـ ٢٤٧) كتبها أحمد بن يوسف بن حمد بن تركي الشافعي الأزهري سنة ١٢٧٠ ، وهي أصل للنسخة التي طبعت في بولاق ، تقع في آخر الجزء السابع من المخطوط ، وقد قرأها المرحوم الشيخ نصر الهوريني فعلق عليها تعليقات بخطه ، لا تخرج عن تفسير لغوي ، أو تعريف تاريخي بشخص مر ذكره معرفا به في صلب التاريخ.

ولم يحسن ناسخها قراءة الأصل الذي نقل عنه فحرف ، وترك مواضع كلمات بيضاء حيث لم يقرأها في أصلها. ومن هنا كانت النسخة المطبوعة صورة مماثلة لهذه

٣٨

المخطوطة.

والنسخة الأزهرية من النسخ القديمة ، فهي أوجز من المجموعة المتوسطة المذكورة قبلها ، تنقص عنها بعض التفاصيل ؛ وقد أشرت في الحواشي إلى الزيادات التي تضيفها النسخ المتوسطة ولا توجد في الأصل القديم.

وحينما عدت إلى هذه النسخة أشرت إليها بحرف «ز» ، ووصلت بينها ، وبين فرعها المطبوع ، فكان حرف «ب» رمزا للمطبوعة في بولاق.

(ب) نسخة طلعت : [٢١٠٦ تاريخ من ورقة ١٦٠ ظ ـ ١٩٦ و]. والنسخة المحفوظة بمكتبة المرحوم أحمد بك طلعت كتبت في سنة ١١٨١ بخط مغربي سقيم ، وهي أخت للأزهرية ، وليس يفرق بينهما إلا ما يفترق فيها النساخ المحرفون. وحينما أثبت نتائج المقارنة بينها وبين غيرها من النسخ ، رمزت إليها بحرف «ط».

(ح ، د) نسختا «د» ، «ه» :

وهناك نسختان بدار الكتب المصرية لم أعتمد عليهما ، غير أنه يحسن التنبيه على أن مكانهما في هذه المجموعات هو هذا ، فمها معا يشبهان الأزهرية ، ونسخة طلعت.

أما نسخة «د» فقد كتبت في سنة ١٢٥٤ ه‍ بخط نسخ واضح ، وتقع تحت [رقم ٥٣٤٣ تاريخ ، (٢١٥ ظ ـ ٢٦٢ و) ، ٣٢٧* ٢٣٠٠ مم ، ص ٢٧].

وأما نسخة «ه» ، وهي مثل سابقتها ، فتقع تحت رقم [١٨٥ تاريخ ، (٩٠ وـ ١٣١ ظ) ق ، ٣٣٢* ٢٢٨ مم ، ص ٢٩] خطها واضح جميل جدا ، وقد كتبت في أواخر القرن ١٣.

اسم الكتاب

وهذا الكتاب ، منذ عرف جزء تابع لتاريخ ابن خلدون ، وما كان يفصله عن بقية أبواب الكتاب إلا عنوانه الذي ينقلك من موضوع تمّ فيه الحديث إلى آخر جديد ، وكان عنوانه : «التعريف بابن خلدون مؤلف هذا الكتاب» ، ولم تكن أداة الإشارة «هذا» إلا نداء مدويا يرغمك على الاعتراف بتبعية هذا الكتاب لبقية «التاريخ».

٣٩

وظل العنوان بهذه الصورة حتى بعد أن رحل ابن خلدون إلى الأندلس مرتين ، ثم ارتحل إلى مصر والحجاز والشام ، وأصبح ما جدّ من تجاربه في رحلاته الجديدة جزءا من حياته ، يجب أن يدونه ، وأن يضيفه إلى ما كان قد سجله قبل ففعل ، وعظم حجم الكتاب بما أضيف إليه من جديد الأخبار ، ولم يكن العنوان السالف الذكر من السعة والمرونة بحيث يشمل هذا الجديد الطارئ ، دون أن يدخل في صوغه تعديل تتضح معه الدلالة على مباحث الكتاب ؛ فحذف ابن خلدون أداة الإشارة «هذا» التي كانت واضحة الدلالة على تبعية هذا الجزء لكتاب «العبر» ، وأضاف إلى بقية العنوان الكلمات : «ورحلته غربا وشرقا» ، فكملت بذلك الصياغة الأخيرة للعنوان ، وأصبح : «التعريف بابن خلدون مؤلف الكتاب ، ورحلته غربا وشرقا».

ويلاحظ فيه ، وهو بصيغته الحالية ، عنصران بارزان : «التعريف» بالمؤلف ، و «رحلته» ، وكل منهما دال على معنى واضح في الكتاب.

وتداول المؤرخون من بعد ابن خلدون كتابة هذا ، وكانت النسخ التي تقع تحت أيديهم مختلفة ، بعضها قديم واقع في آخر كتاب التاريخ تابع له ، وهو في هذه الحالة لم يتغير عنوانه بعد ، وليس بين كلمات عنوانه ما يدل على معناه غير كلمة «التعريف» ، فلم تكن لهم مندوحة عن تسميته عند النقل عنه ب «التعريف» ، وهي تسمية دعاهم إليها أن كلمة «التعريف» وضحت دلالتها على معنى الكتاب ، فكانت أحق من أخواتها بالاختيار.

أما البقية من النسخ ، فقد كانت حديثة الصدور عن المؤلف ، عدل في عنوانها ، فأصبح من بين كلماته ما يصلح للدلالة على الكتاب وهو قوله : «ورحلته غربا وشرقا» ، فاختار الذين نقلوا عن هذه المجموعة من النسخ أن يسموا هذا الكتاب «رحلة» لابن خلدون ، وكان لهذه التسمية حظ غير قليل من الذيوع في العصر الأخير على الرغم من أنها تسمية لم تعرف ـ فيما أعلم ـ قبل سنة ١٠٠٥ ه‍ ؛ فقد نقل عنه أحمد بابا السوداني في كتابه «نيل الابتهاج بتطريز الديباج (١)» على أنه «رحلة» لابن خلدون. وفي سنة ١٠٠٦ ه‍ كان العالم التركي أويس بن محمد المعروف

__________________

(١) انظر ص ٢٤٨ من نيل الابتهاج طبع مصر سنة ١٣٥١ ه

٤٠