رحلة ابن خلدون

محمّد بن تاويت الطنجي

رحلة ابن خلدون

المؤلف:

محمّد بن تاويت الطنجي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: ارتياد الآفاق
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

ومن نام في ليل الشّباب ضلالة

سيوقظه صبح المشيب إلى الرّشد

أما والهوى ما حلت عن سنن الهوى

ولا جرت في طرق الصّبابة عن قصدي

تجاوزت حدّ العاشقين الألى قضوا

وأصبحت في دين الهوى أمّة وحدي

نسيت وما أنسى وفائي لخلّتي

وأقفر ربع القلب إلا من الوجد

إليك أبا زيد شكاة رفعتها

وما أنت من عمرو لدي ولا زيد (١)

بعيشك خبّرني وما زلت مفضلا

أعندك من شوق كمثل الذي عندي

فكم ثار بي شوق إليك مبرّح

فظلّت يد الأشواق تقدح من زندي

وصفّق حتى الرّيح في لمم (٢) الربى

وأشفق حتى الطّفل في كبد المهد

يقابلني منك الصّباح بوجنة

حكى شفقا فيه الحياء الذي تبدي

وتوهمني الشّمس المنيرة غرّة

بوجهك صان الله وجهك عن ردّ

محيّاك أجلى في العيون من الضّحى

وذكرك أحلى في الشّفاه من الشّهد

__________________

(١) الشكاة : الشكوى.

(٢) جمع لمة (بالكسر) ؛ وهي شعر الرأس إذا كان فوق الوفرة.

٣٠١

وما أنت إلا الشّمس في علوّ أفقها

تفيدك من قرب وتلحظ من بعد

وفي عمه (١) من لا ترى الشّمس عينه

وما نفع نور الشّمس في الأعين الرّمد

من القوم صانوا المجد صون عيونهم

كما قد أباحوا المال ينهب للرّفد

إذا ازدحمت يوما على المال أسرة

فما ازدحموا إلّا على مورد المجد

ومهما أغاروا منجدين صريخهم (٢)

يشبّون نار الحرب في الغور والنّجد

ولم يقتنوا بعد البناء ذخيرة

سوى الصّارم المصقول والصّافن النّهد (٣)

وما اقتسم الأنفال إلّا ممدّح

بلاها بأعراف المطهّمة الجرد (٤)

أتنسى ولا تنسى ليالينا التي

خلسنا بهنّ العيش في جنّة الخلد

ركبنا إلى اللّذات في طلق الصّبا

مطايا الّليالي وادعين إلى حدّ

__________________

(١) العمه في البصيرة ؛ كالعمى في البصر.

(٢) الصريخ كالصارخ : المستغيث.

(٣) الصافن (من الخيل) : القائم على ثلاث ، وعدوّا ذلك دليلا على كرم الأصل وانظر ص ٧٣.

والنهد : الفرس الجميل الحسن.

(٤) الأعراف : جمع عرف ؛ وهو شعر عنق الفرس. والمطهمة : البارعة الجمال التامة. والجرد : القصيرة الشعر.

٣٠٢

فإن لم نرد فيها الكؤس فإنّنا

وردنا بها للأنس مستعذب الورد

أتيتك في غرب وأنت رئيسه

وبابك للأعلام مجتمع الوفد

فآنست حتى ما شكوت بغربة

وواليت حتى لم أجد مضض الفقد

وعدتّ لقطري شاكرا ما بلوته

من الخلق المحمود والحسب العدّ (١)

إلى أن أجزت البحر يا بحر نحونا

وزرت مزار الغيث في عقب الجهد

ألذّ من النّعمى على حال فاقة

وأشهى من الوصل الهنيّ على صدّ

وإن ساءني أن قوّضت رحلك النّوى

وعوّضت عنّا بالذّميل وبالوخد (٢)

لقد سرّني أن لحت في أفق العلا

على الطّائر الميمون والطّالع السّعد

طلعت بأفق الشّرق نجم هداية

فجئت مع الأنوار فيه على وعد

يمينا بمن تسري المطيّ سواهما

عليها سهام قد رمت هدف القصد (٣)

إلى بيته كيما تزور معاهدا (٤)

أبان بها جبريل عن كرم العهد

__________________

(١) الحسب العدّ : القديم.

(٢) الذميل : السّير اللين. والوخد الإسراع في المشي ، أو سعة الخطو.

(٣) جمع ساهمة ؛ وهي الناقة الضامرة.

(٤) يريد بيت الله ؛ وهو الكعبة الشريفة.

٣٠٣

لأنت الذي مهما دجا ليل مشكل

قدحت به للنور وارية الزّند

وحيث استقلّت بي ركاب لطيّة (١)

فأنت نجيّ النّفس في القرب والبعد

وإنّي بباب الملك حيث عهدتني

مديد ظلال الجاه مستحصف العقد (٢)

أجهّز بالإنشاء كلّ كتيبة

من الكتب ، والكتّاب في عرضها جندي

نلوذ من المولى الإمام محمّد

بظلّ على نهر المجرّة ممتدّ

إذا فاض من يمناه بحر سماحة

وعمّ به الطّوفان في النجد والوهد

ركبنا إلى الإحسان في سفن الرّجا

بحور عطاء ليس تجزر عن مدّ

فمن مبلغ الأمصار عني ألوكة

مغلغلة في الصّدق منجزة الوعد (٣)

بآية ما أعطى الخليفة ربّه

مفاتيح فتح ساقها سائق السّعد

ودونك من روض المحامد نفحة

تفوت إذا اصطفّ النّديّ عن النّدّ (٤)

__________________

(١) الطّية (بالكسر) : الناحية.

(٢) استحصف : استحكم ؛ ويريد متمكن المنزلة.

(٣) الألوكة : الرسالة.

(٤) اصطفوا : قاموا صفوفا. والنّديّ ، والنادي : مجلس القوم ؛ ويريد القوم أنفسهم.

٣٠٤

ثناء يقول المسك إن ضاع عرفه

أيا لك من ندّ أما لك من ندّ (١)

وما الماء في جوف السّحاب مروّقا

بأطهر ذاتا منك في كنف بالمهد (٢)

فكيف وقد حلّتك أسرابها الحلى

وباهت بك الأعلام بالعلم الفرد

وما الطّلّ في ثغر من الدّهر باسم

بأصفى وأذكى من ثنائي ومن ودّي

ولا البدر معصوبا بتاج تمامه

بأبهر من ودّي وأسير من حمدي

بقيت ابن خلدون إمام هداية

ولا زلت من دنياك في جنّة الخلد

ووصلها بقوله : سيدي علم الأعلام ، كبير رؤساء الإسلام ، مشرف حملة السيوف والأقلام ، جمال الخواصّ والظّهراء ، أثير الدول ، خالصة الملوك ، مجتبى الخلفاء ، نيّر أفق العلاء ، أوحد الفضلاء ، قدوة العلماء ، حجّة البلغاء.

أبقاكم الله بقاء جميلا يعقد لواء الفخر ، ويعلي منار الفضل ، ويرفع عماد المجد ، ويوضح معالم السّؤدد ، ويرسل أشعّة السّعادة ، ويفيض أنوار الهداية ، ويطلق ألسنة المحامد ، وينشر أفق المعارف ، ويعذب موارد العناية ويمتع بعمر النّهاية ولا نهاية.

بأيّ التّحيات أفاتحك وقدرك أعلى ، ومطلع فضلك أوضح وأجلى ، إن قلت تحية

__________________

(١) النّد (بالفتح) : الطيب ؛ والند (بالكسر) : المثل.

(٢) الماء المروّق : الصافي.

٣٠٥

كسرى في السناء وتبّع (١) فأثر لا يقتفر (٢) ولا يتبع ، تلك تحية عجماء لا تبين ولا تبين ، وزمزمة نافرها اللسان العربي المبين ، وهذه جهالة جهلاء ، لا ينطبق على حروفها الاستعلاء ، قد محا رسومها الجفاء ، وعلى آثار دمنتها العفاء ، وإن كانت التحيتان طالما أوجف بهما الرّكاب وقعقع البريد ، ولكن أين يقعان ممّا أريد.

تحية الإسلام أصل في الفخر نسبا ، وأوصل بالشرع سببا ، فالأولى أن أحييك بما حيّا الله في كتابه رسله وأنبياءه ، وحيّت به ملائكته في جواره أولياءه فأقول :

سلام عليكم يرسل من رحمات الله غماما ، ويفتق من الطّروس عن أزهار المحامد كماما ، ويستصحب من البركات ما يكون على الذي أحسن من ذلك تماما ، وأجدّد السؤال عن الحال الحالية بالعلم والدين ، المستمدّة من أنوارها سرج المهتدين. زادها الله صلاحا ، وعرّفها نجاحا يتبع فلاحا ، وأقرّر ما عندي من تعظيم أرتقي كلّ آونة شرفه ، واعتقاد جميل يرفع عن وجه البدر كلفه ، وثناء أنشر بيد الترك صحفه ، وعلى ذلك أيّها السيّد المالك ، فقد تشعّبت عليّ في مخاطبتك المسالك ، إن أخذت في تقرير فخرك العميم ، وحسبك الصميم ، فو الله ما أدري بأيّ ثنية للفخر يرفع العلم ، وفي أيّ بحر من ثنائك يسبح القلم ، الأمر جلل ، «والشمس تكبر عن حلي وعن حلل» ، وإن أخذت في شكاة الفراق ، والاستعداء على الأشواق ، اتّسع المجال ، وحصرت (٣) الرّوية والارتجال ، فالأولى أن أترك عذبة اللسان تلعب بها رياح الأشواق ،

__________________

(١) ابن زمرك ينظر إلى قول أبي العلاء المعري :

تحية كسرى في السّناء وتبّع

لربعك لا أرضى تحية أربع

وكانت تحية كسرى السجود له ، أما تحية ملوك العرب من لخم وجذام ، فكانت : «أبيت اللعن» ، ويقول ابن قتيبة في «المعارف» : إن قحطان أول من حياه ولده بتحية الملوك : «أبيت اللعن». وكانت تحية ملوك غسان : «يا خير الفتيان». وانظر لسان العرب «كفر» ، تاريخ الطبري ٢ / ١٦١ ، شروح سقط الزند (البطليوسي) ص ١٥٢٨ ، المعارف لابن قتيبة ص ٢٧١ ، خزانة الأدب ٤ / ١٣٨ ، ٤٣٢ ، ٢٩ ، «ما يعول عليه في المضاف والمضاف إليه» للمحبي ١ / ٥٦١ (مخطوطة دار الكتب).

(٢) يقتفر : يقتفي ، ويتتبّع.

(٣) حصر : عيي.

٣٠٦

وأسلة (١) اليراع تخضب مفارق الطّروس بنجيع الحبر المراق ، وغيرك من تركض في مخاطبته جياد اليراع ، في مجال الرقاع ، مستولية على أمد الإبداع والاختراع ؛ إنّما هو بثّ يبكى ، وفراق يشكى ، فيعلم الله حرصي على أن أشافه عن أنبائك ثغور البروق البواسم ، وأن أحملك الرّسائل حتى مع سفراء النواسم ، وأن أجتلي غرر ذلك الجبين في محيّا الشارق ، (٢) ولمح البارق.

ولقد وجّهت لك جملة من الكتب والقصائد ، ولا كالقصيدة الفريدة في تأبين الجواهر التي استأثر بهنّ البحر ، قدّس الله أرواحهم ، وأعظم أجرك فيهم ، فإنّها أنافت على مائة وخمسين بيتا ، ولا أدري هل بلغكم ذلك أم غاله الضيّاع ، وغدر وصوله بعد المسافة ، والذي يطرق لي سوء الظّنّ بذلك ، ما صدر في مقابله منكم. فإنّي على علم من كرم قصدكم ، وحسن عهدكم.

ومن حين استقلّ نيّركم بذلك الأفق الشرقيّ ، لم يصلني منكم كتاب ، مع علمي بضياع اثنين منها بهذا الأفق الغربي. انتهى.

وفي الكتاب إشارة إلى أنّه بعث قصيدة في مدح الملك الظّاهر صاحب مصر ، ويطلب منّي رفعها إلى السّلطان ، وعرضها عليه بحسب الإمكان ، وهي على رويّ الهمزة ، ومطلعها :

أمدامع منهلّة أم لؤلؤ

لمّا استهلّ العارض المتلألئ

وبعثها في طيّ الكتاب ، واعتذر بأنّه استناب في نسخها ، فكتبت همزة رويّها ألفا ، قال وحقّها أن تكتب بالواو ، لأنّها تبدل بالواو ، وتسهّل بين الهمزة والواو ، وحرف الإطلاق أيضا يسوقها واوا. هذا مقتضى الصناعة ، وإن قال بعض الشيوخ تكتب ألفا على كل حال ، على لغة من لا يسهّل ، لكنّه ليس بشيء.

وأذن لي في نسخ القصيدة المذكورة بالخطّ المشرقيّ لتسهل قراءتها عليهم ففعلت ذلك ، ورفعت النسخة والأصل للسّلطان ، وقرأها كاتب سرّه عليه ، ولم يرجع إليّ

__________________

(١) أسلة اللسان : طرف شباته إلى مستدقّه. وأسلة النصل : مستدقه.

(٢) الشارق : الشمس ؛ وبه فسّر الأهري قولهم : «لا آتيك ماذر شارق».

٣٠٧

منهما شيء ، ولم أستجز أن أنسخها قبل رفعها إلى السّلطان ، فضاعت من يدي.

وكان في الكتاب فصل عرّفني فيه بشأن الوزير مسعود بن رحّو المستبدّ بأمر المغرب لذلك العهد ، وما جاء به من الانتقاض عليهم ، والكفران لصنيعهم ، يقول فيه :

كان مسعود بن رحّو الذي أقام بالأندلس عشرين عاما يتبنّك النّعيم ، (١) ويقود الدنيا ، ويتخيّر العيش والجاه ، قد أجيز صحبة ولد أبي عنان ، كما تعرّفتم من نسخة كتاب أنشأته بجبل الفتح لأهل الحضرة ، فاستولى على المملكة ، وحصل على الدنيا ، وانفرد برياسة دار المغرب ، لضعف السّلطان رحمه‌الله ، ولم يكن إلا أن كفرت الحقوق ، وحنظلت (٢) نخلته السّحوق ، (٣) وشفّ (٤) على سواد جلدته العقوق ، (٥) وداخل من بسبتة ، فانتقضت طاعة أهلها ، وظنّوا أن القصبة لا تثبت لهم ، وكان قائدها الشيخ البهمة ، فلّ الحصار وحلي القتال ، ومحشّ الحرب ، أبو زكرياء بن شعيب ، فثبت للصدمة ، ونوّر للأندلس (٦) فبادره المدد من الجبل ، ومن مالقة. وتوالت الأمداد ، وخاف أهل البلد ، وراجع شرفاؤه ، ودخلوا القصبة. واستغاث أهل البلد بمن جاورهم وجاءهم المدد أيضا. دخل الصالحون في رغبة هذا المقام ، ورفع القتال. وفي أثناء ذلك غدروا ثانية ، فاستدعى الحال إجازة السّلطان المخلوع أبي العباس (٧) لتبادر القصبة به ، ويتوجّه منها إلى المغرب ، لرغبة

__________________

(١) تبنّك في النعيم : أقام به ، وتمكن.

(٢) حظلت النخلة : فسدت أصول سعفها. وفي الأصول «حنظلت» ، وهي لغة أنكرتها جمهرتهم.

وانظر تاج العروس «حنظل» ٧ / ٣٩٢ ، ٣٩٣.

(٣) نخلة سحوق : طويلة.

(٤) شف : وضح وظهر.

(٥) انظر خبر تمرده على ابن الأحمر في الاستقصا ٢ / ١٣٨ وما بعدها.

(٦) نوّر : أضاء ؛ ويريد أو قد نار الاستغاثة ، وطلب النجدة.

(٧) هو السّلطان أبو العباس بن أبي سالم. وانظر أسباب خلعه ، وعودته إلى الملك في العبر ٧ / ٣٤٩ ٣٥٤ ، الاستقصا ٣ / ١٣٩.

٣٠٨

(بني) (١) مرين وغيرهم فيه ، وهو ولد السّلطان المرحوم أبي سالم الذي قلّدكم رياسة داره ، وأوجب لكم المزية على أوليائه وأنصاره انتهى.

وبعده فصل آخر يطلب فيه كتبا من مصر يقول فيه :

والمرغوب من سيّدي أن يبعث لي ما أمكن من كلام فضلاء الوقت وأشياخهم على الفاتحة ، إذ لا يمكن بعث تفسير كامل ، لأنّي أثبت في تفسيرها ما أرجو النفع به عند الله. وقد أعلمتكم أن عندي التفسير الذي أوصله إلى المغرب عثمان التجاني من تأليف الطيّبي ، (٢) والسفر الأول من تفسير أبي حيّان ، (٣) وملخّص

__________________

(١) الزيادة عن ش.

(٢) الحسين بن محمد (أو عبد الله) بن عبد الله شرف الدين الطيبي (.... ـ ٧٤٣) له حاشية قيمة على «الكشاف» في أربع مجلدات ضخمة (من مخطوطات دار الكتب) ؛ وجاء في الدرر الكامنة : «ثم شرع في جمع كتاب في التفسير». فلا ندري أي الكتابين يطلب ابن زمرك.

ترجمة الطيبي في : الدرر الكامنة ٢ / ٦٨ ، بغية الوعاة ص ٢٢٨ ، البدر الطالع ١ / ٢٢٩ ، شذرات الذهب ٦ / ١٣٧.

(٣) أثير الدين محمد بن يوسف بن علي بن يوسف النحوي الغرناطي (٦٥٤ ـ ٧٤٥) ، دخل مصر ودرس بها النحو والتفسير ، فكان في طليعة من وطّد قواعد المدرسة النحوية الأندلسية بمصر. ومن قرأ كتبه في النحو عامة ، ومقدمة تفسيره «البحر المحيط» خاصة ، عرف أيّ مكانة عليا كان يحتلها بين نحاة العربية ؛ تحدث عن نفسه كثيرا في أول «البحر» الذي طبع بمصر في ٨ مجلدات سنة ١٣٢٨ ه‍ على نفقة سلطان المغرب الأقصى سابقا المرحوم المولى عبد الحفيظ. وانظر ترجمته في طبقات السبكي ٦ / ٣١ ، البغية ص ١٢١ ، الدرر الكامنة ٤ / ٣٠٢ ، نفح الطيب بولاق ١ / ٥٩٨.

٣٠٩

إعرابه ، (١) وكتاب المغني لابن هشام (٢) وسمعت عن بدأة تفسير للإمام بهاء الدين بن عقيل ، (٣) ووصلت إلي بدأة من كلام أكمل الدين الأثيري (٤) رضي الله عن جميعهم. ولكن لم يصل إلا للبسملة ، وذكر أبو حيان في صدر تفسيره أن

__________________

(١) لخص إعراب «البحر المحيط» شخصان ، كلاهما كان تلميذا لأبي حيان ؛ أحدهما برهان الدين السفاقصي (له ترجمة في نيل الابتهاج ص ٣٩) وسمى كتابه «المجيد ، في إعراب القرآن المجيد».

والثاني منهما : شهاب الدين أحمد بن يوسف بن عبد الدائم الحلبي الشافعي الشهير بالسمين (له ترجمة في البغية ص ١٧٥ والدرر الكامنة ١ / ٣٣٩) ، وسمّى كتابه «الدر المصون في علم الكتاب المكنون» ، وهما من مخطوطات دار الكتب.

(٢) جمال الدين عبد الله بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري (٧٠٨ ـ ٧٦١) النحوي المصري الطائر الصيت. وفيه وردت كلمة ابن خلدون : «مازلنا ونحن بالمغرب نسمع أنه ظهر بمصر عالم بالعربية يقال له ابن هشام أنحى من سيبويه» له ترجمة في البغية ص ٢٩٣ ، الدرر الكامنة ٢ / ٣٠٨ ، ابن تغرى بردي ٦ / ٧٣ ، البدر الطالع ١ / ٤٠٠ ـ ٤٠٢ ، حسن المحاضرة ١ / ٣٠٩. وقد طبع كتابه القيم «المغني» مرارا. وانظر كلمة لابن خلدون عن كتاب «المغني» في «مقدمته» في آخر فصل «النحو» منها.

(٣) عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله ... بن عقيل القرشي الهاشمي (٦٩٨ ـ ٧٦٩) بهاء الدين النحوي المعروف. من تآليفه تفسير للقرآن ، وصل فيه إلى آخر سورة «آل عمران». له ترجمة في الدرر الكامنة ٢ / ٢٦٦ ، درة الحجال لابن القاضي ٢ / ٣٤٧ ـ ٣٤٨ ، حسن المحاضرة ١ / ٣١٠ ، بغية الوعاة ص ٢٨٤.

(٤) لعله أكمل الدين محمد بن محمود (أو محمد) البابرتي الحنفي المتوفى سنة ٧٨٦ ، له حاشية على «الكشاف» ، توجد في مكتبة (داماد زاده تحت رقم ٢٧٠). والملاحظ أن الذين عرفوا به لم يصفوه جميعا ب «الأثيرى». وانظر حسن المحاضرة ١ / ٢٢٣ ، خطط المقريزي ٤ / ١١٤ طبع مصر ، الدرر الكامنة ٤ / ٢٥٠.

٣١٠

شيخه سليمان النقيب ، (١) أو أبو سليمان. لا أدري الآن ، صنّف كتابا في البيان في سفرين ، جعله مقدمة في كتاب تفسيره الكبير ، فإن أمكن سيّدي توجيهه. انتهى.

وفي الكتاب فصول أخرى في أغراض متعدّدة لا حاجة إلى ذكرها هنا. ثم ختم الكتاب بالسلام ، وكتب اسمه : محمد بن يوسف بن زمرك (٢) الصريحي ، وتاريخه العشرون من محرّم تسع وثمانين.

وكتب إليّ قاضي الجماعة بغرناطة ، أبو الحسن علي بن الحسن البنّي (٣) :

الحمد لله ، والصلاة والسلام على سيّدنا ومولانا محمّد رسول الله.

يا سيّدي وواحدي ودّا وحبّا ، ونجيّ الرّوح بعدا وقربا. أبقاكم الله ، وثوب سيادتكم سابغ ، وقمر سعادتكم ـ كلّما أفلت الأقمار ـ بازغ ، أسلّم بأتم السلام عليكم ، وأقرّر بعض ما لدي من الأشواق إليكم ، من حضرة غرناطة ـ مهّدها الله ـ ، عن ذكر لكم يتضوّع طيبه ، وشكر لا يذوي ـ وإن طال الزمان ـ رطيبه ، وقد كان بلغ ما جرى من تأخيركم عن الولاية التي تقلّدتم أمرها ، وتحمّلتم مرّها ، فتمثّلت بما قاله شيخنا أبو الحسن ابن الجيّاب ، (٤) عند انفصال صاحبه الشريف أبي

__________________

(١) هو جمال الدين أبو عبد الله محمد بن سليمان بن الحسين بن الحسين المقدسي الحنفي عرف بابن النقيب (٦١١ ـ ٦٩٨). أخذ عنه أبو حيان ، واعتمد عليه كثيرا في تفسيره ، وانظر البحر المحيط ١ / ٦ ، ١١. حيث تجد الحديث عنه ، وعن تفسيره القيم. له ترجمة في طبقات المفسرين للداودي ورقة ٧٥ ـ ٧٦ (نسخة أسعد أفندي).

(٢) ضبطه ابن خلدون هنا بالحركات ، بفتح الزاي والميم ، وسكون الراء وقد تقدم الضبط الذي رجعناه لهذا العلم في ص ٢٢٦.

(٣) ضبطه ابن خلدون بالحركات في «طب» بضم الباء ، وبكسرها. وهو نسبة إلى «بنة» وقد ذكرها ياقوت ١ / ٢٩٤ ، وصاحب تاج العروس ، (بن) ولم يذكرا فيها ضم الباء.

(٤) هو أبو الحسن علي بن محمد بن سليمان بن علي بن سليمان الغرناطي الشهير بابن الجياب (٦٧٣ ـ ٧٤٩). له ترجمة واسعة في نفح الطيب ٣ / ٢٢٦ ـ ٢٤٥ ، ٢٦٤ ـ ٢٦٥ طبع بولاق.

٣١١

القاسم (١) عن خطّة القضاء :

لا مرحبا بالنّاشز الفارك

إذ جهلت رفعة مقدارك

لو أنّها قد أوتيت رشدها

ما برحت تعشو إلى نارك (٢)

ثم تعرّفت كيفية انفصالكم ، وأنّه كان عن رغبة من السّلطان المؤيّد هنالكم ، فردّدت ـ وقد توهّمت مشاهدتكم ـ هذه الأبيات (٣) :

لك الله يا بدر السّماحة والبشر

لقد حزت في الأحكام منزلة الفخر

ولكنّك استعفيت عنها تورّعا

وتلك سبيل الصّالحين كما تدري

جريت على نهج السّلامة في الذي

تخيّرته أبشر بأمنك في الحشر

وحقّق بأن العلم ولاك خطّة

من العزّ لا تنفكّ عنها مدى العمر

تزيد على مرّ الجديدين جدّة

وتسري النجوم الزاهرات ولا تسري

__________________

(١) هو أبو القاسم محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله الحسني السبتي المعروف بالشريف الغرناطي (٦٩٨ ـ ٧٦٠) له ترجمة في «المرقبة العليا» ١٧١ ـ ١٧٧ ، «الإحاطة» ٢ / ١٢٩ ، «ديباج» ٢٩٠.

(٢) انظر «رفع الحجب المستورة» ١ / ١٨ للشريف الغرناطي هذا حيث أورد البيتين ضمن أبيات أخر ، والإحاطة ٢ / ١٢٠.

(٣) الأبيات من قصيدة لأبي الحسن النباهي ، أوردها في كتابه «المرقبة العيا» ص ١٥٨ وما بعدها.

وفي نفح الطيب ٣ / ٢٠٣ بولاق ، يختلف المروي منها عما في «المرقبة العليا».

٣١٢

ومن لاحظ الأحوال وازن بينها

ولم ير للدّنيا الدّنية من خطر

وأمسى لأنواع الولايات نابذا

فغير نكير أن تواجه بالنكر

فيهنيك يهنيك الذي أنت أهله

من الزّهد فيها والتّوقّي من الوزر

ولا تكترث من حاسديك فإنّهم

حصى والحصى لا يرتقي مرتقى البدر

ومن عامل الأقوام بالله مخلصا

له منهم نال الجزيل من الأجر

بقيت لربع الفضل تحمي ذماره

وخار لك الرّحمن في كلّ ما تجري

إيه سيدي رضي الله عنكم وأرضاكم ، وأطنبتم في كتابكم في الثناء على السّلطان الذي أنعم بالإبقاء ، والمساعدة على الانفصال عن خطّة القضاء ، واستوهبتم الدعاء له ممّن هنا من الأولياء ، ولله درّكم في التنبيه على الإرشاد إلى ذلكم ، فالدّعاء له من الواجب ، إذ فيه استقامة الأمور ، وصلاح الخاصّة والجمهور ، وعند ذلك ارتفعت أصوات العلماء والصلحاء بهذا القطر له ولكم بجميل الدعاء. أجاب الله فيكم أحسنه وأجمله ، وبلّغ كل واحد منكم ما قصده وأمّله. وأنتم أيضا من أنتم من أهل العلم والجلالة ، والفضل والأصالة ، وقد بلغتم بهذه البلاد الغاية من التّنويه ، والحظّ الشّريف النبيه ، لكن أراد الله سبحانه أن يكون لمحاسنكم في تلك البلاد المعظّمة ظهور ، وتحدث بعد الأمور أمور ؛ وبكلّ اعتبار ، فالزمان بكم ـ حيث كنتم ـ مباه ، والمحامد مجموعة لكم جمع تناه. ولما وقف على مكتوبكم إليّ مولانا السّلطان أبو عبد الله ، أطال الثناء على مقاصدكم ، وتحقّق صحيح ودادكم ، وجميل اعتقادكم ، وعمّر مجلسه يومئذ بالثّناء عليكم ، والشّكر لما لديكم.

ثم ختم الكتاب بالسلام من كاتبه علي بن عبد الله بن الحسن مؤرّخا بصفر

٣١٣

تسعين. وفي طيّه مدرجة بخطّه ، (وقد قصر فيها عن الإجادة) نصّها :

سيّدي رضي الله عنكم وأرضاكم ، وأظفر يمناكم بنوائب مناكم.

أعتذر لكم عن الكتاب المدرج هذا طيّه بغير خطي ، فإنّي في الوقت بحال مرض من عينيّ ، ولكم العافية الواقية ، فيسعني سمحكم ، وربما أن لديكم تشوقا لما نزل في هذه المدّة بالمغرب من الهرج حاطه الله ، وأمن جميع بلاد المسلمين.

والموجب أن الحصّة الموجّهة لتلك البلاد في خدمة أميرهم الواثق ، ظهر له ولوزيره ومن ساعده على رأيه إمساكها رهينة ، وجعلهم في القيود إلى أن يقع الخروج لهم عن مدينة سبتة. وكان القائد على هذه الحصّة العلج المسمّى مهنّد ، وصاحبه الفتى المدعو نصر الله. وكثر التردّد في القضية ، إلى أن أبرز القدر توجيه السّلطان أبي العبّاس ـ تولاه الله ـ صحبة فرج بن رضوان بحصّة ثانية ، وكان ما كان ، حسبما تلقيتم من الركبان ، هذا ما وسع الوقت من الكلام. ثم دعا ، وختم.

وإنّما كتبت هذه الأخبار وإن كانت خارجة عن غرض هذا التعريف بالمؤلف ، لأنّ فيها تحقيقا لهذه الواقعات ، وهي مذكورة في أماكنها من الكتاب ، فربّما يحتاج الناظر إلى تحقيقها من هذا الموضع.

وبعد قضاء الفريضة ، رجعت إلى القاهرة محفوفا بستر الله ولطفه ولقيت السّلطان ، فتلقّاني ـ أيّده الله ـ بمعهود مبرّته وعنايته. وكانت فتنة الناصري (١) بعدها سنة إحدى وتسعين. ولحقت السّلطان النكبة التي محصه الله فيها وأقاله ، وجعل إلى الخير فيها عاقبته ومآله ، ثم أعاده إلى كرسيه للنظر في مصالح عباده ، فطوّقه القلادة التي ألبسه كما كانت ، فأعاد لي ما كان أجراه من نعمته ، ولزمت كسر البيت ممتّعا بالعافية ، لابسا برد العزلة ، عاكفا على قراءة العلم وتدريسه ، لهذا العهد فاتح سبع وتسعين. (٢)

__________________

(١) يأتي حديثه مفصلا عن فتنة الناصري هذه فيما بعد.

(٢) هنا تنتهي النسخ : الظاهري ، ش ، ط ، ز ، ونسخة نور عثمانية. وقد اختلفت عبارة «الختم» فيها ، وسنذكرها عند الحديث عن هذه النسخ ، وتقديرها والمقارنة بينها.

٣١٤

ولاية الدّروس والخوانق

أهل هذه الدولة التركية بمصر والشام معنيّون ـ على القدم منذ عهد مواليهم ملوك بني أيوب ـ بإنشاء المدارس لتدريس العلم ، والخوانق لإقامة رسوم الفقراء في التخلق بآداب الصوفيّة السّنيّة في مطارحة الأذكار ، ونوافل الصلوات. أخذوا ذلك عمّن قبلهم من الدوال الخلافية ، فيختطّون مبانيها ويقفون الأراضي المغلّة للإنفاق منها على طلبة العلم ، ومتدرّبي الفقراء ، وإن استفضل الريع شيئا عن ذلك ، جعلوه في أعقابهم خوفا على الذّرّية الضّعاف من العيلة. (١) واقتدى بسنّتهم في ذلك من تحت أيديهم من أهل الرّياسة والثروة ، فكثرت لذلك المدارس والخوانق بمدينة القاهرة ، وأصبحت معاشا للفقراء من الفقهاء والصوفية ، وكان ذلك من محاسن هذه الدولة التركية ، وآثارها الجميلة الخالدة. (٢)

وكنت لأوّل قدومي على القاهرة ، وحصولي في كفالة السّلطان ، شغرت مدرسة بمصر من إنشاء صلاح الدين بن أيوب ، وقفها على المالكية يتدارسون بها الفقه ، ووقف عليها أراضي من الفيّوم تغلّ القمح ، فسمّيت لذلك القمحيّة ، كما وقف أخرى على الشّافعية هنالك ، وتوفي مدرّسها حينئذ ، فولاني السّلطان تدريسها ، وأعقبه بولاية قضاء المالكية سنة ستّ وثمانين ، (٣) كما ذكرت ذلك من قبل ، وحضرني يوم جلوسي للتدريس فيها جماعة من أكابر الأمراء تنويها بذكري ، وعناية من السّلطان ومنهم بجانبي ، وخطبت يوم جلوسي في ذلك الحفل بخطبة ألممت فيها

__________________

(١) العيلة (بفتح العين) : الفقر والفاقة.

(٢) تحدث ابن خلدون في «المقدمة» (ص ٣٨٠ طبع بيروت) عن الأسباب التي كانت تحدو بأمراء الترك أن يكثروا من بناء المدارس والربط والخوانق في القاهرة ـ بما يحسن الرجوع إليه.

(٣) في «السلوك» (١١٠ ب نسخة الفاتح) سنة ٧٨٦ :

«وفي خامس عشرينه (المحرم) ، درّس شيخنا أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون بالمدرسة القمحية بمصر ، عوضا عن علم الدين البساطي بعد موته ، وحضر معه بها الأمير الطنبغا الجوباني ، والأمير يونس الدوادار ، وقضاة الأربعة والأعيان».

٣١٥

بذكر القوم بما يناسبهم ، ويوفي حقّهم ووصفت المقام ، وكان نصّها :

الحمد لله الذي بدأ بالنعم قبل سؤالها ، ووفّق من هداه للشّكر على منالها ، وجعل جزاء المحسنين في محبّته ، ففازوا بعظيم نوالها ؛ وعلّم الإنسان الأسماء والبيان ، وما لم يعلم من أمثالها ، وميّزه بالعقل الذي فضّله على أصناف الموجودات وأجيالها ، وهداه لقبول أمانة التكليف ، وحمل أثقالها ؛ وخلق الجن والإنس للعبادة ، ففاز منهم بالسعادة من جدّ في امتثالها ، ويسّر كلا لما خلق له ، (١) من هداية نفسه أو إضلالها ، وفرغ ربّك من خلقها وخلقها وأرزاقها وآجالها.

والصلاة على سيّدنا ومولانا محمد نكتة الأكوان وجمالها ، والحجّة البالغة لله على كمالها ، الذي رقّاه في أطوار الاصطفاء ، وآدم بين الطّين والماء ، فجاء خاتم أنبيائها وأرسالها ، (٢) ونسخ الملل بشريعته البيضاء فتميّز حرامها من حلالها ، ورضي لنا الإسلام دينا ، فأتمّ علينا النعمة بإكمالها. (٣)

والرّضى عن آله وأصحابه غيوث رحمته المنسجمة وطلالها ، (٤) وليوث ملاحمه (٥) المشتهرة وأبطالها. وخير أمّة أخرجت للناس ، في توسّطها واعتداله ، وظهور الهداية والاستقامة في أحوالها ، صلّى الله عليه وعليهم صلاة تتّصل الخيرات باتّصالها ، وتنال البركات من خلالها.

أما بعد فإنّ الله سبحانه لما أقرّ هذه الملّة الإسلامية في نصابها ، وشفاها من

__________________

(١) يشير إلى الحديث : «كل ميسر لما خلق له» ، الذي رواه الإمام أحمد في مسنده» ، وانظر «كنوز الحقائق» للمناوى.

(٢) ورد في كلام كثير من علماء المغرب والأندلس ، جمع رسول على «أرسال». ولم يرد في معاجم اللغة هذا الجمع.

(٣) يشير إلى الآية ٣ من سورة المائدة : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ، وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً).

(٤) الطلال جمع طلل ؛ وهو أخف المطر.

(٥) الملاحم جمع ملحمة ؛ وهي الوقعة العظيمة القتل ، وموضع القتال ، والحرب.

٣١٦

أدوائها وأوصابها ، (١) وأورث الأرض عباده الصّالحين من أيدي غصّابها ، بعد أن باهلت فارس بتاجها ، وعصابها ، (٢) وخلت الروم إلى تماثيلها وأنصابها ، وجعل لها من العلماء حفظة وقوّاما ، ونجوما يهتدي بها التّابع وأعلاما ، يقرّبونها للدّراية تبيانا وإفهاما ، ويوسعونها بالتدوين ترتيبا وإحكاما ، وتهذيبا لأصولها وفروعها ونظاما. ثمّ اختار لها الملوك يرفعون عمدها ، ويقيمون صغاها (٣) بإقامة السياسة وأودها ، ويدفعون بعزائمهم الماضية في صدر من أرادها بكياد أو قصدها ؛ فكان لها بالعلماء الظّهور والانتشار ، والذّكر السّيّار ، والبركات المخلّدة والآثار ، ولها بالملوك العزّ والفخار ، والصولة التي يلين لها الجبّار ، ويذلّ لعزّة المؤمنين بها الكفّار ، ويجلّل وجوه الشّرك معها الصّغار ، ولم تزل الأجيال تتداول على ذلك والأعصار ، والدّول تحتفل والأمصار ، والليل يختلف والنهار ، حتى أظلّت الإسلام دول هذه العصابة المنصورة من الترك ، الماحين بأنوار أسنّتهم ظلم الضّلالة والشّك ، القاطعين بنصالهم المرهفة علائق المين والإفك ، المصيبين بسهامهم النّافذة ثغر الجهالة والشّرك ، المظهرين سرّ قوله : «لا تزال طائفة من أمّتي» (٤) فيما يتناولونه من الأخذ والترك ، ففسحوا خطّة الإسلام ، وقاموا بالدعوة الخلافية أحسن القيام ، وبثّوها في أقصى التخوم من الحجاز والشام ، واعتمدوا في خدمة الحرمين الشريفين ما فضلوا به ملوك الأنام. واقتعدوا كرسيّ مصر الذي ألقت له الأقاليم يد الاستسلام ، على قدم الأيّام ، فزخر بها منذ دولتهم بحر العمران ، وتجاوبت فيها المدارس بترجيع المثاني والقرآن ، وعمّرت المساجد بالصّلوات والأذان ، تكاثر عدد الحصى والشّهبان ، وقامت المآذن على قدم

__________________

(١) الوصب : الوجع ، والمرض ؛ والجمع أوصاب.

(٢) العصاب : ما يعصب به الرأس من عمامة أو نحوها.

(٣) الصّغا : الميل.

(٤) حديث رواه البخاري في آخر باب «علامة النبوة في الإسلام» ، ومسلم في بابي «الإمارة» ، و «الإيمان» ، وانظر شرح العيني على «صحيح» البخاري ٧ / ٥٧٩ ، وشرح النووي على «صحيح» مسلم ١ / ٥٥ ، ٢ / ٢٠٦.

٣١٧

الاستغفار والسّبحان (١) معلنة بشعار الإيمان ، وازدان جوّها بالقصر والإيوان فالإيوان ، ونظّم دستها بالعزيز ، والظّاهر ، والأمير ، والسّلطان ؛ فما شئت من ملك يخفق العزّ في أعلامه ، وتتوقّد في ليل المواكب نيران الكواكب من أسنّته وسهامه ، ومن أسرة للعلماء تتناول العلم بوعد الصّادق ولو تعلّق بأعنان السّماء ، (٢) وتنير سراجه في جوانب الشّبة المدلهمّة الظّلماء ؛ ومن قضاة يباهون بالعلم والسؤدد عند الانتماء ، ويشتملون الفضائل والمناقب اشتمال الصّمّاء ، (٣) ويفصلون الخصومات برأي يفرق بين اللّبن والماء.

ولا كدولة السّلطان الظّاهر ، والعزيز القاهر ، يعسوب (٤) العصائب والجماهر ، ومطلع أنواع العزّ الباهر ، ومصرّف الكتائب تزري بالبحر الزاخر ، وتقوم بالحجّة للقسيّ على الأهلّة في المفاخر ، سيف الله المنتضى على العدوّ الكافر ، ورحمته المتكفّلة للعباد باللّطف السّاتر ، ربّ التّيجان والأسرّة والمنابر ، والأواوين العالية والقصور الأزاهر ، والملك المؤيّد بالبيض البواتر ، والرّماح الشّواجر ، (٥) والأقلام المرتضعة أخلاف (٦) العزّ في مهود المحابر ، والفيض الربّاني الذي فاق قدرة القادر ، وسبقت به العناية للأواخر ، سيّد الملوك والسلاطين ، كافل أمير المؤمنين ، أبو سعيد أمدّه الله بالنّصر المصاحب ، والسعد المؤازر ، وعرّفه آثار عنايته في الموارد والمصادر ، وأراه حسن العاقبة في الأولى وسرور المنقلب في الآخرة فإنّه لما تناول الأمر بعزائمه وعزمه ، وآوى الملك إلى كنفه العزيز وحزمه ، أصاب شاكلة الرأي عندما سدّد من سهمه ، وأوقع

__________________

(١) السبحان : التسبيح.

(٢) أعنان السماء : نواحيها ، وما اعترض من أقطارها.

(٣) اشتمال الصماء : أن تجلل جسدك بثوبك نحو شملة الأعراب بأكسيتهم ؛ وهي أن يرد الكساء من قبل يمينه على يده اليسرى ، وعاتقه الأيسر ، ثم يرده ثانية من خلفه على يده اليمنى ، وعاتقه الأيمن فيغطيهما جميعا.

(٤) اليعسوب : أمير النحل.

(٥) الشواجر من الرماح : المتداخلة حين القتال.

(٦) أخلاف الضرع : أطرافه. والكلام على التشبيه.

٣١٨

الرّعايا في ظلّ من أمنه ، وعدل من حكمه ، وقسم البأس والجود بين حربه وسلمه ، ثم أقام دولته بالأمراء الذين اختارهم باختيار الله لأركانها ، وشدّ بهم أزره في رفع القواعد من بنيانها ، من بين مصرّف لعنانها ، متقدّم القدم على أعيانها ، في بساط إيوانها ، وربّ مشورة تضيء جوانب الملك بلمعانها ، ولا يذهب الصّواب عن مكانها ، ومنفّذ أحكام يشرق الحقّ في بيانها ، ويضوع العدل من أردانها (١) ونجيّ خلوة (٢) في المهم الأعظم من شأنها ، وصاحب قلم يفضي بالأسرار إلى الأسل الجرّار ، فيشفي الغليل بإعلانها. حفظ الله جميعهم وشمل بالسّعادة والخيرات المبدأة المعادة تابعهم ومتبوعهم.

ولمّا سبحت في اللّجّ الأزرق ، وخطوت من أفق المغرب إلى أفق المشرق ، حيث نهر النهار ينصبّ من صفحه المشرق ، وشجرة الملك التي اعتزّ بها الإسلام تهتزّ في دوحه المعرق ، وأزهار الفنون تسقط علينا من غصنه المورق ، وينابيع العلوم والفضائل تمدّ وشلنا (٣) من فراته المغدق ، أولوني عناية وتشريفا ، وغمروني إحسانا ومعروفا ، وأوسعوا بهمتي (٤) إيضاحا ، ونكرتي تعريفا ، ثم أهّلوني للقيام بوظيفة السّادة المالكية بهذا الوقف الشريف ، من حسنات السّلطان صلاح الدين أيّوب ملك الجلاد والجهاد ، وما حي آثار التثليث والرفض الخبيث من البلاد ، ومطهّر القدس الشريف من رجس الكفر بعد أن كانت النّواقيس والصّلبان فيه بمكان العقود من الأجياد ، وصاحب الأعمال المتقبّلة يسعى نورها بين يديه في يوم التّناد ، (٥) فأقامني السّلطان ـ أيّده الله ـ لتدريس العلم بهذا المكان ، لا تقدما على الأعيان ، ولا رغبة عن الفضلاء من أهل الشّان ، وإنّي موقن بالقصور ، بين أهل العصور ، معترف بالعجز

__________________

(١) الأردان : الأكمام. وفي الكلام تجوز.

(٢) النجىّ الشخص الذي تسارّه ، وفلان نجى فلان ، أي يناجيه دون سواه.

(٣) الوشل : الماء القليل.

(٤) البهمة : السواد ، ويريد بها ما يقابل الوضوح.

(٥) يوم التناد : يوم ينادي «أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله».

وانظر لسان العرب.

٣١٩

عن المضاء في هذا القضاء ، وأنا أرغب من أهل اليد البيضاء والمعارف المتّسعة الفضاء ، أن يلمحوا بعين الارتضاء ، ويتغمّدوا بالصّفح والإغضاء ، والبضاعة بينهم مزجاة ، (١) والاعتراف من اللوم ـ إن شاء الله ـ منجاة ، والحسنى من الإخوان مرتجاة. والله تعالى يرفع لمولانا السّلطان في مدارج القبول أعماله ، ويبلّغه في الدارين آماله ، ويجعل للحسنى والمقرّ الأسنى ، منقلبه ومآله ؛ ويديم على السّادة الأمراء نعمته ، ويحفظ على المسلمين بانتظام الشّمل دولتهم ودولته ، ويمدّ قضاة المسلمين وحكّامهم بالعون والتسديد ، ويمتّعنا بانفساح آجالهم إلى الأمد البعيد ، ويشمل الحاضرين برضوانه في هذا اليوم السعيد ، بمنّه وكرمه.

وانفضّ ذلك المجلس ، وقد شيّعتني العيون بالتّجلّة والوقار ، وتناجت الّفوس بالأهلية للمناصب ، وأقمت على الاشتعال بالعلم وتدريسه إلى أن سخط السّلطان قاضي المالكية يومئذ في نزعة من النّزعات الملوكية ، فعزله ، واستدعاني للولاية في مجلسه ، وبين أمرائه ، فتفاديت من ذلك ، وأبى إلا إمضاءه. وخلع عليّ ، وبعث معي من أجلسني بمقعد الحكيم في المدرسة الصالحية (٢) في رجب ست وثمانين ، فقمت في ذلك المقام المحمود ، ووفّيت عهد الله في إقامة رسوم الحقّ ، وتحرّي المعدلة ، حتى سخطني من لم ترضه أحكام الله ، ووقع من شغب أهل الباطل والمراء ما تقدّم ذكره.

وكنت عند وصولي إلى مصر بعثت عن ولدي من تونس ، فمنعهم سلطان تونس من اللّحاق بي اغتباطا بمكاني ، فرغبت من السّلطان أن يشفع عنده في شأنهم ، فأجاب ، وكتب إليه بالشفاعة ، فركبوا البحر من تونس في السفين ، فما هو إلا أن وصلوا إلى مرسى الإسكندرية ، فعصفت بهم الرياح وغرق المركب بمن فيه ، وما فيه ، وذهب الموجود والمولود ، فعظم الأسف ، واختلط الفكر ، وأعفاني السّلطان من هذه الوظيفة وأراحني ، وفرغت لشأني من الاشتغال بالعلم تدريسا وتأليفا.

__________________

(١) بضاعة مزجاة : قليلة.

(٢) نسبة إلى بانيها الملك الصالح نجم الدين أيوب. وفي الخطط للمقريزي ٤ / ٢٠٩ ـ ٢١١ طبع مصر ، حديث واف عنها.

٣٢٠