رحلة ابن خلدون

محمّد بن تاويت الطنجي

رحلة ابن خلدون

المؤلف:

محمّد بن تاويت الطنجي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: ارتياد الآفاق
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

ب «ويس» (٩٦٩ ـ ١٠٦٧ ه‍) متوليا لخطة القضاء برشيد وغيرها في مصر ، وزار القاهرة فاشترى من مخطوطاتها واستعار ، وكان ما تمكه «مقدمة» ابن خلدون ، ونسخة من هذا الكتاب ـ وكل واحدة منهما كانت نسخة المؤلف (١) ـ فكتب على ظهر الورقة الأولى من هذا الكتاب : «كتاب رحلة ابن خلدون بخطه ، رحمه‌الله تعالى» (٢).

وسجل واضعو فهرس مكتبة «أياصوفيا» نسخة ويسى المذكورة باسم «رحلة ابن خلدون» ، ثم نقلت عنها نسخة أخرى ووضعت في مكتبة «أسعد أفندي» فسميت أيضا «رحلة ابن خلدون» ؛ وعرفت فهارس الآستانة بين العلماء ، فنقلوا عنها فيما كتبوه عن تراث ابن خلدون ـ أن من بين آثاره الفكرية «رحلته».

وهذه التطورات التي مرت بها صيغة العنوان ، قد أدت أخيرا إلى نوع من الارتباك في اسم هذا الكتاب ، ثم في ماهيته ؛ فحينما تحدث العلامة المستشرق كارل بروكلمن في كتابه «تاريخ الأدب العربي» عن مراجع ترجمة ابن خلدون ، أحال على ترجمته الذاتية» Autobiographie «التي تقع في آخر الجزء السابع من «العبر» ، وأحال على «الرحلة» المحفوظة في مكتبة «أسعد أفندي» ، ثم على «التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا» ، المحفوظ بدار الكتب المصرية ، والمجهول المؤلف؟ (٣).

__________________

(١) من الكتب التي استعارها ديوان عبد الله بن الدمينة وقد كتب على ظهر الورقة الأولى منه :

«استعارة العبد المحتاج إلى الله سبحانه ويسى ، من خازن كتب «القبة المنصورية» بمدينة القاهرة في سنة ١٠٠٦. رحم الله امرأ أوصله إليها إن لم يسمحني الزمان بإيصاله ، والحمد لله والصلاة على محمد وآله».

ولم يرد الكتاب إلى مكانه ، بل نقل إلى الآستانة ، وهو الآن محفوظ بمكتبة «رئيس الكتاب» تحت رقم ٩٥٠ / ١.

وانظر ترجمة ويسى المذكور في «عثمانلي مؤلفلري» ٢ / ٤٧٧.

(٢) ليست هذه النسخة بخط المؤلف ، وإنما كتب على بعض حواشيها إلحاقات بخطه ، وانظر ص «ط» حيث ذكر وصفها.

(٣) ٣٣٤٢Brock.S.II والعذر للرجل ما ذكرته من تغير العنوان مع الزمن ، ثم عدم وضوح عبارة «فهرس دار الكتب المصرية».

٤١

ووضع هذه المراجع بهذه الصورة لا يدلك على شيء أكثر من أن مدلولات هذه الأسماء في ذهن العلامة بروكلمن متعددة ، وأن هذه الأسماء تقع على مسميات مختلفة.

والكتاب ـ وقد وضحت أصوله ، وثبتت صلته بالمؤلف ، وعرف اسمه ـ نص كتب باللغة العربية الفصحى ، ولهذه اللغة سنن تجري عليه ، وليس يملك الكاتب بها أن يعدوه ، أو يتجاهل ما منعه هذا السنن أو أباحه.

فما الذي يجب أن نفعل إذا مازلّت بالكاتب القدم ، فأخطأ ـ في كتابته ـ جادة متن اللغة ، أو اشتقاقها ، أو أخطأ في الإعراب؟

أنملك أن نعدل في النص ، ونثبته على حسب ما تقرره القواعد؟ وأين الحصانة التي تتمتع بها نصوص المؤلفين حينذاك؟

والجواب ـ عندي ـ نعم نملك ذلك!

نملك ذلك ما دام المؤلف قد اختار أن يكتب باللغة الفصيحة ، وتقيد بقواعدها الصارمة ، وما دمنا على يقين من أن مخالفته لهذه القواعد لا منفذ في مواطن اختلافها يبيح قبولها أو الإغضاء عنها بوجه.

ولنا السند المتين فيما قرره المحدثون ـ منذ القديم البعيد ـ في الحديث تثبت روايته عندهم ، وفيه مخالفة لوضع من أوضاع اللغة (١).

والمؤلفون أنفسهم أذنوا في هذا النوع من التصرف ، ولم يعدوه افتياتا على نصوصهم.

ولو أن المؤلف حي ، وراجعه قارئ من قرائه فيما وقع له في كتابه من مخالفات لأوضاع اللغة التي يكتب بها ، أكان يصر على خطئه الذي لا يقبل التأويل؟ أم إنه كان يسارع إلى الاعتذار ، ثم إلى إقامة ما كان قد أخطأ فيه؟

ولقد أثبت في هذه الحالة النص في الصلب على ما اقتضته قوانين اللغة ، وأثبته في الحاشية على الصورة التي أورده عليها المؤلف ، واضح الدلالة على مدى معرفته باللغة ، وتمثله لقواعدها ، وأن نحس بالمقدار الذي امتصه الجزء الخارج عن بؤرة

__________________

(١) انظر «تدريب الراوي» ص ١٦٤ ـ ١٦٥.

٤٢

التفكير ، من نشاط عقل ابن خلدون ، حينما كتب هذا النص أو قرأه.

وأحسب أن من الواجبات الأولى على قارئ هذه المخطوطات التي يتيسر فيها وصلها بمؤلفيها أن يعنى بمقدار التركز الذهني للمؤلف حين تأليفه لكتابه أو قراءته له.

والكتاب ـ إلى ما تقدم ـ يحوي حقائق تاريخية ، قال التاريخ فيها كلمته ، وعلمية انتهى العلم قبل المؤلف من تقريرها على وجه ما في المظان الأولى لها ، ولم تعد موطنا للمناقشة.

ومعنى هذا أننا لا نستطيع أن نخرج من حسابنا الرقابة التي تفرضها المقررات التاريخية والعلمية على ما يورده المؤلف من هذه الحقائق في كتابه ؛ ومن هنا جاءت ضرورة استشارة كتب هذا النوع من المعلومات ، والاستعانة بها في التنبيه على ما انحرف فيه المؤلف عن الصراط المستقيم. ولو استفسر المؤلف أيضا عن سبب خلافه للذي خرج عن ميدان الاختلاف بين العلماء ، لأقر ما نص عليه سابقوه واستقرت كلمتهم عليه.

والحديث هنا لا يتناول بطبيعة الحال ما خالف فيه المؤلف غيره مخالفة مقصودة دفعه إليها وجه من وجوه النظر ، فإن هذا رأيه ليس مما يباح فيه التبديل والتغيير ، وإنما الحديث عن المخالفة التي تقوم الدلائل القوية على أنها جاءت عفوا لم يكن للقصد فيها مجال.

ولم أهمل ـ في هذا النوع ـ ما أورده المؤلف ، بل أثبته في الحاشية للعلة التي سبق الحديث عنها.

إلى هنا والحديث لم يعد محاولة إقرار النص على الصورة التي يريد مؤلفه أن يتداوله الناس عليها.

وقد عارضته بأصوله المباشرة ، وهي تتمثل في مجموعات تنتسب إلى أصول قديمة الصدور عن المؤلف ، ومتوسطة ، وحديثة ؛ وغير المباشرة ، وهي كتب التراجم والتاريخ وغيرها مما نقل عنها ابن خلدون أو نقلت عنه ، أو تناولت ما تناوله من موضوعات.

٤٣

أما الشروح والتعليقات التي أثبتها في حواشي الكتاب ، فهي نوافل وزيادات تعبّر في أغلب الأحيان ـ عن خبرة خاصة بمقاصد المؤلف أو موضوع الكتاب.

والكتاب ـ كما قدمت ـ مفتاح أول للذي يريد التعرف على ابن خلدون ، وقد رسم لنفسه فيه صورة لم تحل ـ لأسباب مختلفة ـ في عين معاصريه بمصر ، فصنعوا له صورة تختلف عما قاله عن نفسه أشد الاختلاف.

وهنا تبدوا الحاجة الملحة إلى نوع من العناية خاص ، يقصد فيه الوقوف عند مواطن الاختلاف هذه ، التي اعتبرت فيما بعد منافذ واسعة تسربت منها ألوان من النقد شملت الكثير من نواحي حياة ابن خلدون ، بل كادت ـ بما اتسعت ـ أن تمس الثقة بما يرويه.

ولذلك عرضت ما يقوله ابن خلدون في هذا الكتاب ، على كتب أخرى تناولت الموضوع نفسه بالحديث ، وأثبت نصها من غير تصرف فيه ليؤيد رواية ابن خلدون أو ينقضها ، وبذلك أصبح مصدر الحكم لابن خلدون أو عليه غير بعيد عن متناول الناقد النزيه.

وذكر ابن خلدون أمكنة مر بها وشاهدها حينا ، ولمناسبات غير ذلك أحيانا أخرى ، فوجب تحديد هذه الأماكن.

وإذا أبحنا لأنفسنا ـ وكان يجب أن لا نفعل ـ أن نكتفي ـ عند إخراج كتب لا تتوقف الاستفادة منها على الدقة في التحديد ـ بالدلالة العابرة والإشارة السريعة الناقصة ؛ حيث إن أسماء البلاد بتلك الكتب جاءت بطريق العرض ، ولم تقصد بالذكر لذاتها ـ أقول : إذا استبحنا ذلك في إخراج تلك الكتب ـ وفي طبيعتها ما يبرر الاكتفاء باللمحة ـ فإنه لا يصح لنا ذلك بحالة من الأحوال في هذا النوع من الكتب التي تذكر فيها الأمكنة والبلدان ذكرا ذاتيا تلمح فيه النظرة الفاحصة المستقصية.

وحيث إن البلاد وأسماءها معا ، تعرضت ـ بفعل الزمن ـ للتغير ، فقد حاولت ـ قدر جهدي ـ أن أذكر بجانبا لاسم العربي للمكان ، اسمه الذي يكتب بجانبه ـ على المصورات الجغرافية ـ بالحروف اللاتينية ، وأن أضع إزاءه كذلك خطه الطولي والعرضي محددا بالدرجات والدقائق ـ حاولت ذلك رغبة في أن يتضح المكان

٤٤

للقارئ وضوحا لا يشوبه غموض ؛ وهي محاولة كان دون تحقيقها ـ كما قال الأول ـ خرط القتاد.

ولا أجرؤ على دعوى أنني حققت المنهج من ألفه إلى يائه ، فقد عجزت عن تحديد أمكنة ـ مرت بي ـ على الطريق الذي حاولت أن ألزم به نفسي ، فاكتفيت بتحديد «ياقوت» ـ لا أجرؤ على قول ذلك ، ولكنني أزعم أن كثيرا من الأماكن التي ذكرت في هذا الكتاب أمكن تحديدها بحيث يستطاع وضع اليد على مكانها اليوم بالمصورات الجغرافية الحديثة.

وذكر ابن خلدون ـ فيما ذكر في كتابه ـ شيوخه الذين تخرج على أيديهم ، وحلّاهم بحلى كانت ، عند تقديرها ، موضع الريبة والشك يوم تناول ابن خلدون النقد الحديث.

وقد أحسست أن عليّ تجاه ذلك أن أعرض رأي ابن خلدون في شيوخه ، وتقديره لهم ، على كتب التراجم والطبقات ، وأن أزن ما أورده فيهم ـ بالذي يورده غيره ؛ فإذا ما خالفه أتيت بالنص المخالف ، وأشرت إلى موضع الترجمة المخالفة ، أما حين يوافقه غيره ، فقد اكتفيت بالدلالة على موضع الترجمة.

وأحب أن أقول هنا : إنه ، من بين هذه المراجع جميعا ، لم يخالف رأي ابن خلدون فيما علمت ـ في الحلى التي خلعها على شيوخه من تزكية ، وتفوق وبلوغ الدرجات العلى في فرع الثقافة الإسلامية التي اختص كل منهم بإتقانه ، أقول لم يخالفه في ذلك إلا شخص واحد ، وفي مسألة واحدة ، على أن كثيرا من العلماء نظر إلى المسألة ذاتها بالعين التي كان ينظر إليها بها ابن خلدون.

والمسألة هي : «هل كان لناصر الدين المشدالي بصر بعلم الحديث أو لا؟ قال ابن خلدون ـ وقد روى عنه الموطأ ـ : نعم! وقال العلامة الرحالة العبدري في رحلته : لا!

والذي يعرف سعة اطلاع العبدري ، وموهبة النقد النافذ التي كان يتمتع بها ـ لا يسعه إلا أن يضع رأيه ـ على الرغم من انفراده به ـ موضع التقدير.

والذين تحدثوا عن ابن الخطيب ـ رحمه‌الله ـ قالوا إنه كان مولعا ـ في كتابته ـ

٤٥

بالإشارة إلى مسائل تاريخية وعلمية ، وأنه كان مغرما بالتورية بمصطلحات العلوم التي كان يعرفها ، وما أوسع ما كان يعرفه ابن الخطيب من العلوم! وقد أورد له ابن خلدون في هذا الكتاب رسائل ، وضح فيها شغفه باستخدام هذه المصطلحات ، وإشارته إلى حقائق تاريخية ، ومقررات علمية ، إشارات عابرة لا يكاد يتكشف المراد منها دون استفتاء مصادرها الأولى ، وفي ذلك الجهد البالغ والمشقة المضنية.

وقد وجدتني ملزما بتحديد موضع الإشارة من بين حوادث التاريخ ، وشرح الكلمة التي لها معنى خاص حدده أقوام من العلماء معينون ، فأصبحوا المرجع الأساسي عند تحديد معنى الكلمة الجديد ، ثم عليّ بعد ذلك دلالة القارئ على موطن التفسير.

ومن هنا طالت الشروح في بعض المواطن وما أردتها أن تطول ، ولكنه ابن الخطيب يغذي أدبه برواسب ثقافته الإسلامية المتشعبة الفروع ، فإذا ما أردت أن تعود بها إلى مواطنها الأولى حيث يتضح لك وجه الدلالة منها ، كان عليك الاستعداد لطواف حول العدد الكثير من مجلدات هذه الثقافة ، غير مريح. وما أكثر ما ضللت السبيل فظلت الكلمات مبهمة المعنى ، غير واضحة المراد!

أما الفهارس فما أحدثت فيها جديدا يدعو إلى الإرشاد والتنبيه ، إلا أن حصولي على نسختي المؤلف جعلني أعنى بالأعلام التي ضبطها فيهما بقلمه ، حيث إن ضبطها توفيقي لا يخضع لقانون ؛ وقد وضعتها في فهرس خاص بها مرتبة على حروف المعجم (١).

وما أحب أن أنهي هذه الكلمة دون أن أعترف بالجميل لأشخاص كان لهم الفضل الكبير في ظهور هذا الكتاب :

معالي الدكتور طه حسين باشا ، حيث شمل عملي في ابن خلدون بعطفه وتشجيعه ، وكان لمعاليه في هذا الكتاب موقف كريم لن أنساه.

والأستاذ الجليل أحمد بك أمين الذي كان هذا الكتاب موضع رعايته منذ بدء عملي فيه ، ولقد تكرم بتقرير طبع هذا الكتاب في «لجنة التأليف» على نفقتها.

__________________

(١) أرجو أن يلاحظ أن الرقم الموضوع بين قوسين في الفهارس يدل على أن للعلم ترجمة عند هذا الرقم.

٤٦

وأستاذي العلامة الثبت أمين بك الخولي الذي كان لملاحظاته القيمة على منهج عملي في ابن خلدون فوائد ذات أثر بعيد.

فإليهم جميعا أرفع شكري واعترافي بالجميل.

وبعد فقد بذلت من جهدي ما استطعت ، فإن وفقت فمن فضل الله ولي العون كان ذلك التوفيق ، وإن كانت الأخرى ـ وما أظنني بمنجاة منها ـ فحسبي أن أنال أجر ما اجتهدت؟

القاهرة في ٦ رجب ١٣٧٠ ه‍ / ١٢ إبريل ١٩٥١ م

محمد بن تاويت الطنجي

٤٧
٤٨

نصّ الرّحلة

التّعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا (١)

وأصل هذا البيت من إشبيلية ؛ انتقل سلفنا ـ عند الجلاء وغلب ملك الجلالقة ابن أدفونش عليها ـ إلى تونس في أواسط المائة السابعة

نسبه

عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن محمد بن الحسن بن محمد بن جابر بن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن خلدون. (٢) لا أذكر من نسبي إلى خلدون غير هؤلاء العشرة ، ويغلب عليّ الظن أنّهم أكثر ، وأنّه سقط مثلهم عددا ؛ لأنّ خلدون هذا هو الداخل إلى الأندلس ، فإن كان أول الفتح فالمدّة لهذا العهد سبعمائة سنة ،

__________________

(١) ختم ابن خلدون الجزء الأخير من تاريخه بالتعريف بنفسه ، وقد ورد عنوان هذا التعريف في النسختين ش ط بهذه الصيغة ، وفي النسختين ب ز : «مؤلف هذا الكتاب». وقد استخدم المؤلف العنوان نفسه هنا ، وأضاف بخطه قوله : «ورحلته غربا وشرقا».

(٢) بفتح الخاء كما ضبطه بخطه بالقلم مرارا ، وكما نص عليه السخاوي في الضوء اللامع ٤ / ١٤٥ ، وأحمد بابا التّنبكتي في نيل الابتهاج ص ١٦٩.

٤٩

فيكونون زهاء العشرين ؛ ثلاثة لكل مائة ، كما تقدم في أول الكتاب الأول (١).

ونسبنا حضر موت ، من عرب اليمن ، إلى وائل بن حجر ، من أقيال العرب ، معروف وله صحبة. قال أبو محمد بن حزم (٢) في كتاب الجمهرة : وهو وائل بن حجر بن سعيد (٣) بن مسروق بن وائل بن النّعمان بن ربيعة بن الحارث بن عوف ابن سعد بن عوف بن عديّ بن مالك بن شرحبيل بن الحارث بن مالك بن مرّة بن حميري بن زيد بن الحضرمي بن عمرو بن عبد الله بن هانئ (٤) بن عوف بن جرشم بن عبد شمس بن زيد بن لأي بن شبت (٥) بن قدامة بن أعجب بن مالك بن لأي بن قحطان. وابنه علقمة (٦) بن وائل وعبد الجبّار بن وائل (٧).

وذكره أبو عمر بن عبد البرّ في (٨) حرف الواو من «الاستيعاب» ، وأنّه وفد (٩)

__________________

(١) انظر المقدمة ص ٨٤ طبع بولاق. حيث قدر أعمار الدول.

(٢) هو أبو محمد على بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري القرطبي (٣٨٤ ـ ٤٥٦) انظر الإحاطة ص ١٤٢ (مخطوط دار الكتب المصرية) وتذكرة الحفاظ ٣ / ٣٢١ ، وتاريخ الأدب العربي لبروكلمن ١ / ٤٠٠ ، والملحق ١ / ٦٩٤.

(٣) ما ذكره ابن خلدون في نسب جدّه وائل عن الجمهرة (١١١ ب) هو أحد قولين ذكرهما معا ابن عساكر ، والمزّى. وقد خلط ابن حجر في الإصابة وتهذيب التهذيب بين القولين فجاء ما كتبه مشوّها غير متلائم. انظر المزّى (ورقة ٧٢٨ و) وابن عساكر ج ٤٥ / ١٤٨.

(٤) الزيادة عن الجمهرة ، وابن عساكر ، والمزّى.

(٥) قيدها بخطه بفتح الشين وسكون الباء الموحدة بعدها مثناة فوقية.

(٦) ترجمته في المزّى ورقة ٤٧٧ ظ ، تهذيب التهذيب ٧ / ٢٨٠.

(٧) في الأصل والجمهرة وش ط ز «وعبد الجبار بن علقمة بن وائل» وهو خطأ والتصحيح عن المزّى ورقة ٣٨٣ و، تهذيب التهذيب ٦ / ١٠٥.

(٨) هو الحافظ أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البرّ النمرى القرطبى (٣٦٨ ـ ٤٦٣). نفح الطيب ١ / ١١٩ ، ١٢٣ ، وتاريخ الأدب العربي لبروكلمن ١ / ٣٦٧ والملحق ١ / ٦٢٨.

(٩) انظر قصة وفادته على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «عام الوفود» في القسم الثاني من الجزء الثاني من تاريخ ابن خلدون ص ٥٦.

٥٠

على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبسط له رداءه ، وأجلسه عليه ، وقال : «اللهم بارك في وائل بن حجر وولده وولد ولده إلى يوم القيامة».

وبعث معه معاوية بن أبي سفيان إلى قومه يعلّمهم القرآن والإسلام ، فكانت له بذلك صحابة مع معاوية. ووفد عليه لأول خلافته وأجازه ، فردّ عليه جائزته ولم يقبلها. ولمّا كانت واقعة (١) حجر بن عديّ الكندي بالكوفة ، اجتمع رؤوس أهل اليمن ، وفيهم وائل هذا ، فكانوا مع زياد (٢) بن أبي سفيان عليه ، حتّى أوثقوه وجاؤوا به إلى معاوية ، فقتله كما هو معروف.

قال ابن حزم (٣) : ويذكر بنو خلدون الإشبيليّون من ولده ، وجدّهم الداخل من الشّرق خالد المعروف بخلدون بن عثمان بن هانئ بن الخطاب بن كريب (٤) بن معد يكرب ابن الحارث بن وائل بن حجر. قال : وكان من عقبه كريب بن عثمان بن خلدون وأخوه خالد ، وكانا من أعظم ثوّار الأندلس.

قال ابن حزم : وأخوه محمّد كان من عقبه أبو العاصي عمرو بن محمد بن خالد بن محمّد بن خلدون.

وبنو أبي العاصي : محمّد ، وأحمد ، وعبد الله. قال : ـ وأخوهم عثمان ، وله عقب. ومنهم الحكيم المشهور بالأندلس من تلاميذ مسلمة المجريطي ، (٥) وهو أبو

__________________

(١) ذكرت هذه الواقعة مفصلة في كتاب الأغاني (١٦ / ٢ ـ ١١ (بولاق).

(٢) هو زياد بن أبي سفيان ، ويقال ابن أبيه ؛ أخو معاوية بن أبي سفيان. ولد عام الفتح بالطائف ، وتوفي بالكوفة عام ٥٣ ه‍. انظر المعارف ص ١٥١.

(٣) انظر جمهرة الأنساب لوحة ١١١ ب.

(٤) قيده بخطه بضم الكاف وفتح الراء.

(٥) هو أبو القاسم مسلمة بن أحمد المجريطي. فلكي راصد ، له تأليف في الفلك والفلسفة والسحر والكيمياء. انظر طبقات الأمم لصاعد ص ٦٩ ، وعيون الأنباء ٢ / ٣٩ وأخبار الحكماء ص ٣٢٦.

٥١

مسلم عمر بن محمد (١) بن بقيّ بن عبد الله بن بكر بن خالد بن عثمان بن خالد بن عثمان ابن خلدون الدّاخل. وابن عمّه أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله. قال : ولم يبق من ولد كريب الرئيس المذكور إلا أبو الفضل بن محمد بن خلف بن أحمد ابن عبد الله بن كريب ـ انتهى كلام ابن حزم.

سلفه بالأندلس

ولمّا دخل خلدون بن عثمان جدّنا إلى الأندلس ، نزل بقرمونة (٢) في رهط من قومه حضر موت ، ونشأ بيت بنيه بها ، ثم انتقلوا إلى إشبيلية. (٣) وكانوا في جند اليمن ، وكان لكريب من عقبه وأخيه خالد ، الثورة المعروفة بأشبيلية أيام الأمير عبد الله المرواني ، (٤) ثار على ابن أبي عبدة ، وملكها من يده أعواما ، ثم ثار عليه إبراهيم ابن حجّاج ، بإملاء الأمير عبد الله وقتله ، وذلك في أواخر المائة الثالثة.

__________________

(١) في عيون الأنباء (٢ / ٤١) ، وطبقات صاعد (ص ٧١): «عمر بن أحمد بن خلدون». وابن خلدون هذا هو أحد أشراف إشبيلية ، وكان فيلسوفا مهندسا طبيبا. توفي سنة ٤٤٩ ه‍. وقد أخطأ الأستاذ قدري حافظ طوقان في «تراث العرب العلمي في الرياضيات والفلك» ص ١٣٤ حيث حسبه عبد الرحمن بن خلدون صاحب المقدمة ، ولم يلتفت إلى الفارق الزمني الفسيح بين وفاتي الرجلين (٣٥٩ سنة).

(٢) قرمونةCarmona) عرضها الشمالي ٢٦ ـ ٣٧ وطولها الشرقي ٤٥ ـ ٥) بفتح القاف وسكون الراء وتحريكها ، بعدها ميم مضمومة فنون مفتوحة بعد واو ساكنة : مدينة بالأندلس. ياقوت ٧ / ٧٢ تاج العروس ٩ / ٢٣ الروض المعطار ص ١٥٨.

(٣) إشبيليةSevilla) أوSeville عرضها الشمالي ٢٤ ـ ٣٧ وطولها الغربي ٥ ـ ٦) عاصمة بني عباد من ملوك الطوائف بالأندلس. ياقوت ١ / ٣٥٤ تاج العروس ٧ / ٣٨٦ الروض المعطار ص ١٨.

(٤) هو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الأموي سابع الخلفاء من بني أمية بالأندلس (٢٧٠ ـ ٣٠٠) انظر تاريخ ابن خلدون ٣ / ١٣٧.

٥٢

وتلخيص الخبر عن ثورته ، (١) على ما نقله ابن سعيد (٢) عن الحجاري (٣) وابن حيّان (٤) وغيرهما ، وينقلونه عن ابن الأشعث مؤرخ إشبيلية : أن الأندلس لما اضطربت بالفتن أيام الأمير عبد الله تطاول رؤساء إشبيلية إلى الثّورة والاستبداد ، وكان رؤساؤها المتطاولون إلى ذلك في ثلاثة بيوت : بيت بني أبي عبدة ، ورئيسهم يومئذ أميّة بن عبد الغافر بن أبي عبدة ، وكان عبد الرحمن الداخل ولّى أبا عبده إشبيلية وأعمالها ، وكان حافده أمية من أعلام الدولة بقرطبة ، ويولونه الممالك الضخمة. وبيت بني خلدون هؤلاء ، ورئيسهم كريب المذكور ، ويردفه أخوه خالد.

قال ابن حيّان : وبيت بني خلدون إلى الآن في إشبيلية نهاية في النّباهة ، ولم تزل أعلامه بين رياسة سلطانية ورياسة علمية.

ثم بيت بني حجّاج ، ورئيسهم يومئذ عبد الله. قال ابن حيّان : هم ـ يعني بني حجّاج ـ من لخم ، وبيتهم إلى الآن في إشبيلية ثابت الأصل ، نابت الفرع موسوم بالرياسة السّلطانية والعلمية. فلمّا عظمت الفتنة بالأندلس أعوام الثمانين والمائتين ، وكان الأمير عبد الله قد ولّى على إشبيلية أميّة بن عبد الغافر ، وبعث معه ابنه محمدا ، وجعله في كفالته ، فاجتمع هؤلاء النّفر ، وثاروا بمحمّد بن الأمير عبد الله

__________________

(١) تفصيل خبر هذه الثورة في تاريخ ابن خلدون ٤ / ١٣٥.

(٢) علي بن موسى بن سعيد العنسي الغرناطي (٦١٠ ـ ٦٧٣) صاحب كتابي «المغرب» و «المشرق» وغيرهما. يعتمد عليه ابن خلدون كثيرا في النسب والتاريخ.

ترجمته في فوات ابن شاكر ٢ / ١١٢ ، نفح الطيب ١ / ٦٣٤ ـ ٧٠٧ ، ٢ / ٥٣٤ ـ ٥٣٧ حسن المحاضرة ١ / ١١٢.

(٣) أبو محمد عبد الله بن إبراهيم الحجارى (نسبة إلى وادي الحجارة) الصنهاجي من أهل القرن السابع ألف كتاب «المسهب في غرائب المغرب» ابتدأ به من فتح الأندلس وانتهى إلى سنة ٦٣٠ ، انظر نفح الطيب ١ / ٤٨٣ ، ٢ / ٤٠٦.

(٤) أبو مروان حيان بن خلف بن حسين بن حيان القرطبي (٣٧٧ ـ ٤٦٩) مؤرخ الأندلس بلا جدال. له كتاب «المتين» في التاريخ ، و «المقتبس» في تاريخ الأندلس ، وكتاب «معرفة الصحابة». وفيات ١ / ٢١٠ ، ذخيرة ابن بسام المجلد الثاني من القسم الأول ص ٨٤ ، الإعلان بالتوبيخ ص ١٢٣.

٥٣

وبأمية صاحبهم ، وهو يمالئهم على ذلك ، ويكيد بابن الأمير عبد الله. وحاصروهما في القصر ، حتّى طلب منهم الّلحاق بأبيه فأخرجوه ، واستبدّ أمية إشبيلية ، ودس على عبد الله بن حجّاج من قتله ، وأقام أخاه إبراهيم مكانه. وضبط إشبيلية ، واسترهن أولاد بني خلدون وبني حجّاج ، ثم ثاروا به ، وهمّ بقتل أبنائهم فراجعوا طاعته. وحلفوا له ، فأطلق أبناءهم فانتقضوا ثانية. وحاربوه فاستمات وقتل حرمه ، وعقر خيوله ، وأحرق موجوده. وقاتلهم حتى قتلوه مقبلا غير مدبر ، وعاثت العامّة في رأسه. وكتبوا إلى الأمير عبد الله بأنه خلع فقتلوه ، فقبل منهم مداراة ، وبعث عليهم هشام بن عبد الرحمن من قرابته ، فاستبدّوا عليه ، وفتكوا بابنه ، وتولّى كبر ذلك كريب بن خلدون ، واستقلّ بإمارتها.

وكان إبراهيم بن حجّاج بعد ما قتل أخوه عبد الله ـ على ما ذكره ابن سعيد عن الحجاري ـ سمت نفسه إلى التّفرد ، فظاهر ابن حفصون (١) أعظم ثوار الأندلس يومئذ ، وكان بمالقة (٢) وأعمالها إلى رندة ، (٣) فكان له منه ردء. ثم انصرف إلى مداراة كريب بن خلدون وملابسته ، فردفه في أمره ، وشركه في سلطانه ، وكان في كريب تحامل على الرّعية وتعصّب ، فكان يتجهّم لهم ، ويغلظ عليهم ، وابن حجّاج يسلك بهم الرفق والتلطف في الشفاعة لهم عنده ، فانحرفوا عن كريب إلى إبراهيم.

ثم دسّ إلى الأمير عبد الله يطلب منه الكتاب بولاية إشبيلية ، لتسكن إليه العامّة ، فكتب إليه العهد بذلك. وأطلع عليه عرفاء البلد ، مع ما أشربوا من حبّه ، والنّفرة عن كريب ، ثم أجمع الثورة ، وهاجت العامّة بكريب فقتلوه ، وبعث برأسه إلى الأمير عبد

__________________

(١) هو عمر بن حفصون بن عمر بن جعفر دميان بن فرغلوش بن أذفونش القس. أول ثائر بالأندلس ، وهو الذي افتتح الخلاف بها ، وفارق الجماعة أيام محمد بن عبد الرحمن سنة ٢٧٠. وتوفي سنة ٣٠٦ وانظر ثورته في تاريخ ابن خلدون ٤ / ١٣٤ وما بعدها.

(٢) مالقةMalaga) عرضها الشمالي ٤٥ ـ ٣٦ ، وطولها الغربي ١٠ ـ ٦) بفتح اللام والقاف مدينة معروفة من مدن الأندلس الساحلية. ياقوت ٧ / ٣٦٧. الروض المعطار ص ١٧٧.

(٣) رندةRonda) عرضها الشمالي ٤٥ ـ ٣٦ وطولها الشرقي ١٠ ـ ٥) بضم فسكون فدال مفتوحة مدينة شهيرة بالأندلس. ياقوت ٤ / ٢٩٣. الروض ص ٧٩.

٥٤

الله ، واستقرّ بإمارة إشبيلية.

قال ابن حيّان : وحصّن مدينة قرمونة من أعظم معاقل الأندلس ، وجعلها مرتبطا لخيوله ، وكان ينتقل بينها وبين إشبيلية. واتخذ الجند ورتّبهم طبقات ، وكان يصانع الأمير عبد الله بالأموال والهدايا ، ويبعث إليه المدد في الصّوائف. (١) وكان مقصودا ممدّحا ، قصده أهل البيوتات فوصلهم ، ومدحه الشعراء فأجازهم ، وانتجعه أبو عمر ابن عبد ربّه صاحب العقد ، (٢) وقصده من بين سائر الثوار ، فعرف حقّه ، وأعظم جائزته.

ولم يزل بيت بني خلدون بإشبيلية ـ كما ذكره ابن حيّان وابن حزم وغيرهما ـ سائر أيام بني أمية إلى أزمان الطّوائف ، (٣) وانمحت عنهم الإمارة بما ذهب لهم من الشوكة.

ولما علا كعب بن عبّاد (٤) بإشبيلية ، واستبدّ على أهلها ، استوزر من بني خلدون هؤلاء ، واستعملهم في رتب دولته ، وحضروا معه وقعة الزّلّاقة (٥) كانت لابن عبّاد وليوسف بن تاشفين (٦) على ملك الجلالقة ، فاستشهد فيها طائفة كبيرة من بني

__________________

(١) الصوائف جمع صائفة وهي غزوات المسلمين إلى بلاد الروم. سميت صوائف لأنهم كانوا يغزون صيفا تفاديا من شدّة البرد والثلج (تاج العروس).

(٢) أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه القرطبي (٢٤٦ ـ ٣٢٨) صاحب كتاب العقد الفريد ترجمته في الوفيات ١ / ٣٩ اليتيمة ١ / ٤١٢ معجم ياقوت ٢ / ٦٧.

(٣) يبتدئ عصر ملوك الطوائف بالأندلس بنهاية الخلافة الأموية ، وينتهي بغلبة يوسف بن تاشفين المرابطي عليهم جميعا ، واستيلائه على الأندلس. انظر تاريخ ابن خلدون ٤ / ١٥٦ وما بعدها.

(٤) أبو القاسم المعتمد محمد بن المعتضد بن عباد (٤٣١ ـ ٤٨٨) أكبر ملوك الطوائف بالأندلس ترجمته في : الوفيات ٣ / ٣٦. المعجب ص ٦٣ ؛ نفح الطيب ٢ / ٤٦٩ تاريخ ابن خلدون ٤ / ١٥٦ وما بعدها.

(٥) وقعة الزلاقة هذه من المعارك ذات الأثر البعيد في الحياة الإسلامية بالأندلس ، ولذلك أكثر المؤرخون من الحديث عنها. انظر مثلا نفح الطيب ٢ / ٥٢٣ والوفيات ٢ / ٤٠ ، ٤٨٣ ، والروض المعطار ص ٨٣ ـ ٩٥ ، الاستقصا ١ / ١١١ ـ ١١٩.

(٦) انظر ترجمة يوسف بن تاشفين (٤١٠ ـ ٥٠٠) في الوفيات ٢ / ٤٨١.

٥٥

خلدون هؤلاء ، ثبتوا في الجولة مع ابن عبّاد فاستلحموا في ذلك الموقف. ثم كان الظهور للمسلمين ، ونصرهم الله على عدوّهم. ثم تغلب يوسف بن تاشفين والمرابطون على الأندلس ، واضمحلّت دولة العرب وفنيت قبائلهم.

سلفه بأفريقية

ولمّا استولى الموحّدون (١) على الأندلس ، وملكوها من يد المرابطين ، وكان ملوكهم : عبد المؤمن وبنيه. وكان الشّيخ أبو حفص كبير هنتاتة زعيم دولتهم ، (٢) وولّوه على إشبيلية وغرب الأندلس مرارا ، ثم ولّوا ابنه عبد الواحد عليها في بعض أيامهم ، ثم ابنه أبا زكرياء كذلك ، فكان لسلفنا بإشبيلية اتصال بهم ، وأهدى بعض أجدادنا من قبل الأمهات ، ويعرف بابن المحتسب ، للأمير أبي زكرياء (٣) يحيى بن عبد الواحد ابن أبي حفص أيام ولايته عليهم ، جارية من سبي الجلالقة ، اتخذها أمّ

__________________

(١) تبتدئ دولة الموحدين بالمغرب سنة ٥١٤ على يد مهدي الموحدين محمد بن تومرت وتنتهي سنة ٦٦٨ ه‍. وامتدّ سلطانها إلى الأندلس من سنة ٥٤٠ ـ ٦٠٩ ه‍ تقريبا انظر جذوة الاقتباس ص ٩٧ ـ وتاريخ أبي الفداء ٢ / ٢٤٣.

(٢) هو أبو حفص عمر بن يحيى بن محمد الهنتاتي ، أول التابعين لمهدي الموحدين من بين قومه ، والمختص بصحابته ، ومن هنا انتظم في سلك العشرة السابقين إلى دعوة ابن تومرت. وكان يسمّى بين الموحدين بالشيخ. وإلى أبي حفص هذا تنتسب الدولة الحفصية بإفريقية. وليس صحيحا ما يتوهّم من أنّها من ذريّة أبي حفص عمر بن الخطاب ثاني الخلفاء الراشدين ، انظر ابن خلدون ٦ / ٢٧٥ ، ٢٦٧ ، ٢٢٧ ، والمعجب للمراكشي ص ١٢٥.

(٣) هو الأمير أبو زكريا يحيى بن عبد الواحد الحفصي ملك جل إفريقية ، وبايعه أهل الأندلس ، وأمّله أهل شرق الأندلس لصدّ هجوم ملكي أرغون وقشتالة ، فأوفدوا إليه كاتب ابن مرذنيش أبا عبد الله ابن الأبّار ، فأنشده القصيدة السينية المشهورة.

أدرك بخيلك خيل الله أندلسا

إن السبيل إلى منجاتها درسا

انظر صبح الأعشى ٥ / ١٢٧ وابن خلدون ٦ / ٢٨١ وأزهار الرياض ٣ / ٢٠٥ وما بعدها.

٥٦

ولد ، وكان له منها ابنه أبو يحيى زكريا ولي عهده الهالك في أيامه ، وأخواه : عمر وأبو بكر ، وكانت تلقّب أم الخلفاء. انتقل الأمير أبو زكريا إلى ولاية إفريقية سني العشرين والستمائة. ودعا لنفسه بها ، وخلع دعوة بني عبد المؤمن سنة خمس وعشرين. واستبدّ بإفريقية ، وانتقضت دولة الموحّدين بالأندلس ، وثار عليهم ابن هود. (١) ثم هلك واضطربت الأندلس ، وتكالب الطاغية عليها ، وردّد الغزو إلى الفرنتيرة (٢) هي بسيط قرطبة وإشبيلية إلى جيّان ، (٣) وثار ابن الأحمر بغرب الأندلس من حصن أرجونة ، (٤) يرجو التماسك لما بقي من رمق الأندلس. وفاوض أهل الشورى يومئذ بإشبيلية. وهم بنو الباجي ، وبنو الجدّ ، وبنو الوزير ، وبنو سيّد الناس ، وبنو خلدون. وداخلهم في الثورة على ابن هود ، وأن يتجافوا للطاغية عن الفرنتيرة ، ويتمسكوا بالجبال الساحلية وأمصارها المتوعرة ، من مالقه إلى غرناطة (٥) إلى المريّة ، (٦) فلم يوافقوه على بلدهم.

__________________

(١) محمد بن يوسف بن محمد بن عبد العظيم بن هود الجذامي. انظر أخبار ثورته في تاريخ ابن خلدون ٤ / ١٦٨.

(٢) الفرنتيرة هي : بسيطة قرطبة وإشبيلية وطليطلة وجيان ، آخذة من جوف (شمال) الجزيرة من المغرب إلى المشرق (ابن خلدون ٤ / ١٧٩).

(٣) جيان Jaen) عرضها الشمالي ٤٩ ـ ٣٧ ، وطولها الغربي ٤٦ ـ ٣) بفتح الجيم وتشديد الياء المفتوحة المثناة من تحت ، ثم ألف ونون. صبح الأعشى ٥ / ٢٢٩ ، الروض المعطار ص ٧٠ ، ياقوت ٣ / ١٨٥.

(٤) أرجونةArjona) عرضها الشمالي ٥٢ ـ ٣٧ ، وطولها الشرقي ٦ ـ ٤ تقريبا) بفتح فسكون فجيم مضمومة بعدها واو ساكنة ثم نون مفتوحة بعدها هاء التأنيث. ياقوت ١ / ١٨١ ، الروض المعطار ص ١٢.

(٥) ويقال أغرناطةGranada) عرضها الشمالي ١٠ ـ ٣٧ ، وطولها الغربي ٣٢ ـ ٣) ياقوت ٦ / ٢٧٩.

الروض المعطار ص ٢٣.

(٦) المريةAlmeria) عرضها الشمالي (١٥ ـ ٣٦ ، وطولها الغربي ٣٠ ـ ٢) مدينة ساحلية بجنوب شرق الأندلس. ياقوت ٧ / ٤٢ ، الروض المعطار ص ١٨٣.

٥٧

وكان مقدّمهم أبو مروان الباجي ، فنابذهم ابن الأحمر وخلع طاعة الباجي ، وبايع مرّة لابن هود ، ومرّة لصاحب مراكش (١) من بني عبد المؤمن ، ومرّة للأمير أبي زكرياء صاحب إفريقية. ونزل غرناطة ، واتخذها دارا لملكه ، وبقيت الفرنتيرة وأمصارها ضاحية من ظلّ الملك ، فخشي بنو خلدون سوء العاقبة مع الطاغية ، وارتحلوا من إشبيلية إلى العدوة ، ونزلوا سبتة (٢) وأجلب الطاغية على تلك الثغور ، فملك قرطبة ، (٣) وإشبيلية ، وقرمونة وجيّان وما إليها ، في مدة عشرين سنة. ولما نزل بنو خلدون سبتة أصهر إليهم العزفيّ (٤) بأبنائه وبناته ، فاختلط بهم ، وكان له معهم صهر مذكور. وكان جدّنا الحسن بن محمد ، وهو سبط ابن المحتسب ، قد أجاز فيمن أجاز معهم ، فذكر سوابق سلفه عند الأمير أبي زكرياء ، فقصده وقدم عليه فأكرم قدومه. وارتحل إلى المشرق ، فقضى فرضه. ثم رجع ولحق بالأمير أبي زكرياء على بونة ، (٥) فأكرمه ، واستقرّ في ظلّ دولته ، ومرعى نعمته ، وفرض له الأرزاق ، وأقطع الإقطاع. وهلك هنالك ، فدفن ببونة. وخلّف ابنه محمدا أبا بكر ، فنشأ في

__________________

(١)(Marrakesh) بالفتح ثم التشديد وضم الكاف : مدينة عظيمة بالمغرب الأقصى ، اختطها يوسف بن تاشفين في حدود سنة ٤٧٠ ، وكانت عاصمة دولة الموحدين. عرضها الشمالي ٣٥ ـ ٣١ ، وطولها الغربي ٠ ـ ٨. ياقوت ٨ / ٧.

(٢) سبتة (Ceuta) بفتح السين وسكون الباء ، عرضها الشمالي (٥٥ ـ ٣٥ ، وطولها الغربي ٢٠ ـ ٥) ؛ مدينة ساحلية من مدن المغرب الأقصى ، لها الماضي المجيد في الثقافة الإسلامية ، ياقوت ٥ / ٢٦ تاج العروس ١ / ٥٤٩ أزهار الرياض ١ / ٢٩ ـ ٣٧.

(٣) قرطبةCordoba) عرضها الشمالي ٥٠ ـ ٣٧ ، وطولها الغربي ٥٠ ـ ٤) مدينة مشهورة بالأندلس ، كانت مستقرّ الخلافة أيام الأمويين ، ولها المكان الأول في تاريخ الحضارة الإسلامية في الغرب الإسلامي. ياقوت ٧ / ٥٣ ـ ٥٥ الروض المعطار ص ١٥٣ ـ ١٥٨.

(٤) انظر أخبار بني العزفيّ في تاريخ بن خلدون ٦ / ٣٤٣ ، ٧ / ١٨٦ ، ٢٢٨ ، ٢٤٦.

(٥) بونةBona) أو (Boune ، وتسمّى بلد العنّاب (عنابة) بضم الباء بعدها واو ساكنة ثم نون مفتوحة :

مدينة بالجزائر على ساحل البحر الأبيض عرضها الشمالي ٠٠ ـ ٣٧ وطولها الشرقي ٤٢ ـ ٧.

ياقوت ١ / ٣١٠ تاج العروس ٩ / ١٤٩ ، ٥ / ١٠٦.

٥٨

جوّ تلك النعمة ومرعاها. وهلك الأمير أبو زكرياء ببونة سنة سبع وأربعين ، وولي ابنه المستنصر محمد ، فأجرى جدّنا أبا بكر على ما كان لأبيه. ثم ضرب الدهر ضربانه ، وهلك المستنصر سنة خمس وسبعين ، وولي ابنه يحيى ، وجاء أخوه الأمير أبو إسحق من الأندلس ، بعد أن كان فرّ أمام أخيه المستنصر. فخلع يحيى ، واستقلّ هو بملك إفريقية ، ودفع جدّنا أبا بكر محمدا إلى عمل الأشغال في الدّولة ، على سنن عظماء الموحدين فيها قبله ؛ من الانفراد بولاية العمال ، وعزلهم وحسبانهم ، على الجباية ، فاضطلع بتلك الرّتبة. ثم عقد السّلطان أبو إسحق لابنه محمّد ، وهو جدّنا الأقرب ، على حجابة ولي عهده ابنه أبي فارس أيام أقصاه إلى بجاية. (١) ثم استعفى جدّنا من ذلك فأعفاه ، ورجع إلى الحضرة. ولما غلب الدّعيّ بن أبي عمارة (٢) على ملكهم بتونس ، اعتقل جدّنا أبا بكر محمدا ، وصادره على الأموال ، ثمّ قتله خنقا في محبسه. وذهب ابنه محمد جدّنا الأقرب مع السّلطان أبي إسحق وأبنائه إلى بجاية ، فقبض عليه ابنه أبو فارس ، وخرج في العساكر هو وأخوته لمدافعة الدّعيّ ابن أبي عمارة ، وهو يشبّه بالفضل ابن المخلوع ، حتى إذا استلحموا بمرّماجنّة (٣) خلص جدّنا محمد مع أبي حفص / ابن الأمير أبي زكرياء من الملحمة ، ومعهما الفازازي وأبو الحسين ابن سيّد الناس ، فلحقوا بمنجاتهم من قلعة سنان. وكان الفازازي من صنائع المولى أبي حفص ، وكان يؤثره عليهم. فأمّا أبو الحسين ابن سيّد الناس فاستنكف من

__________________

(١) بجاية (Bougie) بكسر الباء ، وتخفيف الجيم المفتوحة ، ثم ياء مفتوحة بعد ألف ، وتسمى الناصرية نسبة إلى بانيها الناصر بن علناس بن خمّاد بن زيرى الصنهاجي ـ بناها في حدود سنة ٤٥٧ : مدينة بالجزائر تقع على ساحل البحر الأبيض وكانت قاعدة المغرب الأوسط. عرضها الشمالي ٥٠ ـ ٣٦ وطولها الشرقي ٠٠ ـ ٥. ياقوت ٢ / ٦٢ ، تاج العروس ١٠ / ٣١.

(٢) هو أحمد بن مرزوق بن أبي عمارة من بيوتات بجاية الطائرين عليها من المسيلة. انظر تاريخ ابن خلدون ٦ / ٢٩٦ ، ٣٠٢ ، والإحاطة ١ / ١٧٤ ، صبح الأعشى ٥ / ١٢٨.

(٣)(Marmajena) بفتح الميم وسكون الراء (وفي ضبط ابن خلدون بتشديد الراء المفتوحة) وفتح الميم ثم ألف بعدها جيم مفتوحة ، فنون مشددة مفتوحة : قرية بإفريقية لقبيلة هوارة البربرية ، تقع في الشمال الغربي لمدينة تبسّه ، وفي شرقي قلعة سنان. ياقوت ٨ / ٢٩.

٥٩

إيثار الفازازي عليه ، بما كان أعلى رتبة منه ببلده إشبيلية ، ولحق بالمولى أبي زكرياء الأوسط بتلمسان ، (١) وكان من شأنه ما ذكرناه. وأمّا محمد بن خلدون فأقام م الأمير أبي حفص ، وسكن لإيثار الفازازي. ولما استولى أبو حفص على الأمر رعى له سابقته ، وأقطعه ، ونظمه في جملة القواد ومراتب أهل الحروب ، واستكفى به في الكثير من أهل ملكه ، ورشّحه لحجابته من بعد الفازازي. وهلك ، فكان من بعده حافد أخيه المستنصر أبو عصيدة ، واصطفى لحجابته محمد بن إبراهيم الدّبّاغ كاتب الفازازي ، وجعل محمد ابن خلدون رديفا في حجابته. فكان كذلك إلى أن هلك السّلطان ، وجاءت دولة الأمير خالد ، فأبقاه على حاله من التجلّة والكرامة ، ولم يستعمله ولا عقد له ، إلى أن كانت دولة أبي يحيى بن اللحياني ، فاصطنعه ، واستكفى به عندما نبضت عروق التغلب للعرب ؛ ودفعه إلى حماية الجزيرة من دلاج ، (٢) أحد بطون سليم الموطنين بنواحيها ، فكانت له في ذلك آثار مذكورة. ولمّا انقرضت دولة ابن اللحياني خرج إلى المشرق ، وقضى فرضه سنة ثمان عشرة ، وأظهر التوبة والإقلاع ، وعاود الحج متنفّلا سنة ثلاث وعشرين ، ولزم كسر بيته. وأبقى السّلطان أبو يحيى عليه نعمته في كثير مما كان بيده من الإقطاع والجراية ، ودعاه إلى حجابته مرارا ، فامتنع.

أخبرني محمد بن منصور بن مزنى ، (٣) قال : لما هلك الحاجب محمد بن عبد العزيز الكردي المعروف بالمزوار ، سنة سبع وعشرين وسبعمائة ، استدعى السّلطان جدّك محمد بن خلدون ، وأراده على الحجابة ، وأن يفوّض إليه في أمره ، فأبى واستعفى ، فأعفاه ، ووامره فيمن يوليه حجابته ، فأشار عليه بصاحب الثغر : بجاية ، محمد بن أبي الحسين بن سيّد الناس ، لاستحقاقة ذلك بكفايته واضطلاعه ، ولقديم صحابة بين سلفهما بتونس ، وبإشبيلية من قبل. وقال له : هو أقدر على ذلك بما هو

__________________

(١)(Tlemcen) بكسرتين وسكون الميم وسين. وبعضهم يقول : تنمسان ، بالنون عوض اللام. مدينة مشهورة بالمغرب عرضها الشمالي ٥١ ـ ٣٤ ، وطولها الغربي ١٥ ـ ١.

(٢) انظر بعض أخبار دلاج في تاريخ ابن خلدون ٦ / ٧٣ ، ٧٥.

(٣) كان ابن مزنى هذا صديقا لابن خلدون. انظر العبر ٦ / ٣٣٨.

٦٠