رحلة ابن خلدون

محمّد بن تاويت الطنجي

رحلة ابن خلدون

المؤلف:

محمّد بن تاويت الطنجي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: ارتياد الآفاق
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

والمصادرة واستباحة الحرم ، ما لم يعهد الناس مثله ؛ ووصل الخبر إلى مصر ، فتجهز السّلطان فرج بن الملك الظّاهر (١) إلى المدافعة عن الشّام ، وخرج في عساكره من التّرك مسابقا المغل وملكهم تم أن يصدّهم عنها.

لقاء الأمير تمر سلطان المغل والطّطر (٢)

لما وصل الخبر إلى مصر بأن الأمير تمر ملك بلاد الرّوم ، وخرّب سيواس ، ورجع إلى الشّام ، جمع السّلطان عساكره ، وفتح ديوان العطاء ، ونادى في الجند بالرحيل إلى الشام ، وكنت أنا يومئذ معزولا عن الوظيفة ، (٣) فاستدعاني دواداره يشبك ، (٤)

__________________

(١) هو الملك الناصر زين الدين أبو السعادات فرج بن الملك الظاهر. له ترجمة في خطط المقريزي ٣ / ٣٩٢ ـ ٣٩٣ طبع مصر.

(٢) في عجائب المقدور ص ٥ ، ٦ : «... اسمه تيمور بتاء مثناة مكسورة ساكنة ، فمثناة تحت ، وواو ساكنة بين ميم مضمومة وراء مهملة ، هذه طريقة إملائه ... لكن كرة الألفاظ الأعجمية إذا تداولها صولجان اللغة العربية خرطها في الدوران على بناء أوزانها .... فقالوا تارة تمور ، وأخرى تمرلنك».

ورأيت البدر العيني في «عقد الجمان» ضبطه بخطّه بالحركات بفتح التاء وضم الميم بعد راء ساكنة ، ثم لام مفتوحة ، فنون ساكنة ، فكاف وفي المنهل الصافي ١ / ٢٢٧ ا ـ ٢٣٤ (نسخة نور عثمانية) : ترجمة واسعة له ، فصّل فيها القول عن نشأته ، وأخلاقه ، وجيوشه.

(٣) في عقد الجمان ، في حوادث سنة ٨٠٣ ، وتاريخ ابن قاضي شهبة كذلك : «... خرج السّلطان الملك الناصر فرج ، ومعه الخليفة المتوكّل على الله ، والقضاة الثلاثة ، وهم صدر الدين المناوي الشافعي ، والقاضي نور الدين علي بن الخلال المالكي ، والقاضي موفق الدين بن الحنبلي ؛ وأما القاضي جمال الدين الملطي الحنفي فإنه ما سار لكونه ضعيفا ، وسار معهم القاضي ولي الدين ابن خلدون المالكي ، وهو معزول».

(٤) هو الأمير يشبك الشعباني كان من أمراء الملك الظاهر ، تقلب في مناصب مختلفة ، وجعل له الملك الظاهر الوصية على أولاده ؛ وفي أيام الملك فرج ، تولّى وظيفة دوادار كبير ، ومشير المملكة.

وانظر تاريخ ابن إياس ٢ / ٣٠٨ ، ٣١٤ ، ٣٣٧. وقد ضبطه البدر العيني بخطّه في «عقد الجمان» بكسر الياء ، وسكون الشين ، وفتح الباء.

٤٠١

وأرادني على السّفر معه في ركاب السّلطان ، فتجافيت عن ذلك. ثم أظهر العزم عليّ بليّن القول ، وجزيل الإنعام فأصخيت ، وسافرت معهم منتصف شهر المولد الكريم من سنة ثلاث ، فوصلنا إلى غزّة ، فأرحنا بها أياما نترقب الأخبار ، ثم وصلنا إلى الشام مسابقين الطّطر إلى أن نزلنا شقحب ، (١) وأسرينا فصبّحنا دمشق ، والأمير تمر في عساكره قد رحل من بعلبكّ (٢) قاصدا دمشق ، فضرب السّلطان خيامه وأبنيته بساحة قبة يلبغا. ويئس الأمير تمر من مهاجمة البلد ، فأقام بمرقب على قبّة يلبغا يراقبنا ونراقبه أكثر من شهر ، تجاول العسكران في هذه الأيام مرات ثلاثا أو أربعا ، فكانت حربهم سجالا ، ثم نمي الخبر إلى السّلطان وأكابر أمرائه ، أنّ بعض الأمراء المنغمسين في الفتنة يحاولون الهرب إلى مصر للثورة بها ، فأجمع رأيهم للرجوع إلى مصر خشية من انتقاض الناس وراءهم ، واختلال الدّولة بذلك ، فأسروا ليلة الجمعة من شهر (.....) ، (٣) وركبوا جبل الصّالحية ، ثم انحطّوا في شعابه ، وساروا على شافة البحر إلى غزّة ، وركب الناس ليلا يعتقدون أن السّلطان سار على الطريق الأعظم إلى مصر ، فساروا عصبا وجماعات على شقحب إلى أن وصلوا إلى مصر ، وأصبح أهل دمشق متحيّرين قد عميت عليهم الأنباء.

وجاءني القضاة والفقهاء ، واجتمعت بمدرسة العادلية ، واتّفق رأيهم على طلب الأمان من الأمير تمر على بيوتهم وحرمهم ، وشاوروا في ذلك نائب القلعة ، فأبى عليهم ذلك ونكره ، فلم يوافقوه. وخرج القاضي برهان الدّين بن مفلح الحنبلي (٤)

__________________

(١) بفتح الشين والحاء المهملة ، وسكون القاف بينهما (كجعفر) ، ويقول المقريزي في الخطط ٣ / ٣٩٩ (طبع مصر): «... إنها بظاهر دمشق» ؛ وزاد في السلوك ص ٩٣٢ : «تحت جبل غباغب» ؛ فهي ـ بناء على هذا ـ في جنوب دمشق. وانظر تاج العروس (شقب).

(٢) بعلبلك : Baal ـ Bek) عرضها الشمالي ٣٣ ـ ٨٥ ، وطولها الشرقي ٣٦ ـ ١١) إحدى مدن لبنان المشهورة ، وهي واقعة في الشمال لمدينة زحلة. وانظر ياقوت ٢ / ٣٣٦ ـ ٣٣٨.

(٣) بياض بالأصلين ، ولعلّه يريد «شهر جمادى الآخرة». وانظر تاريخ ابن إياس ١ / ٣٢٩.

(٤) هو برهان الدين إبراهيم بن محمد بن مفلح (٧٤٩ ـ ٨٠٣) ، وكان يحسن اللغتين : التركية ، والفارسية ، ولعلّهم ـ لذلك ـ اختاروه للسفارة. وانظر ابن إياس ١ / ٣٣٦.

٤٠٢

ومعه شيخ الفقراء بزاوية (....) ، (١) فأجابهم إلى التأمين ، وردّهم باستدعاء الوجوه والقضاة ، فخرجوا إليه متدلّين من السور بما صبّحهم من التقدمة ، فأحسن لقاءهم وكتب لهم الرقاع بالأمان ، وردّهم على أحسن الآمال ، واتفقوا معه على فتح المدينة من الغد ، وتصرّف الناس في المعاملات ، ودخول أمير ينزل بمحل الإمارة منها ، ويملك أمرهم بعزّ ولايته.

وأخبرني القاضي برهان الدين أنه سأله عنّي ، وهل سافرت مع عساكر مصر أو أقمت بالمدينة ، فأخبره بمقامي بالمدرسة حيث كنت ، وبتنا تلك الليلة على أهبة الخروج إليه ، فحدث بين بعض الناس تشاجر في المسجد الجامع ، وأنكر البعض ما وقع من الاستنامة إلى القول. وبلغني الخبر من جوف الّليل ، فخشيت البادرة على نفسي ، وبكرت سحرا إلى جماعة القضاة عند الباب ، وطلبت الخروج أو التدلّي من السّور ، لما حدث عندي من توهمات ذلك الخبر ، (٢) فأبوا عليّ أولا ، ثم أصخوا لي ، ودلّوني من السور ، فوجدت بطانته عند الباب ، ونائبه الذي عيّنه للولاية على دمشق ، واسمه شاه ملك ، من بني جقطاي أهل عصابته ، فحيّيتهم وحيّوني ، وفدّيت وفدّوني ، وقدّم لي شاه ملك ، مركوبا ، وبعث معي من بطانة السّلطان من أوصلني إليه. فلما وقفت بالباب خرج الإذن بإجلاسي في خيمة هنالك تجاور خيمة جلوسه ، ثم زيد في التعريف باسمي أنّي القاضي المالكي المغربي ، فاستدعاني ، ودخلت عليه بخيمة جلوسه ، متكئا على مرفقه ، وصحاف الطّعام تمرّ بين يديه ، يشير بها إلى عصب المغل جلوسا أمام خيمته ، حلقا حلقا. فلما دخلت

__________________

(١) بياض في الأصلين.

(٢) في السلوك سنة ٨٠٣ ورقة ٢٣٨ ب (نسخة الفاتح): «... وكان قاضي القضاة ولي الدين عبد الرحمن بن خلدون المالكي بداخل دمشق ، فلما علم بتوجّه السّلطان ، (اختفى بدمشق جماعة من المماليك والأمراء ، وشاع الخبر أنّهم توجّهوا إلى مصر ليسلطنوا لاجين الجركسي ، فركب الأمراء ، وأخذوا السّلطان ، وخرجوا بغتة ، وساروا يريدون مصر). عن السلوك للمقريزي ورقة ٢٣٦) تدلى من سور المدينة ، وسار إلى تيمور ، فأكرمه ، وأجلّه ، وأنزله عنده ، ثم أذن له في المسير إلى مصر ، فسار إليها».

٤٠٣

عليه فاتحت بالسّلام ، وأوميت إيماءة الخضوع ، فرفع رأسه ، ومدّ يده إليّ فقبّلتها ، وأشار بالجلوس فجلست حيث انتهيت. ثم استدعى من بطانته الفقيه عبد الجبّار بن النعمان من فقهاء الحنفية بخوارزم ، (١) فأقعده يترجم ما بيننا ، وسألني من أين جئت من المغرب ، ولما (٢) جئت؟ ، فقلت : جئت من بلادي لقضاء الفرض ، ركبت إليها (٣) البحر ، ووافيت مرسى الإسكندرية يوم الفطر سنة أربع (وثمانين) (٤) من هذه المائة الثامنة ، والمفرحات بأسوارهم لجلوس الظّاهر على تخت الملك لتلك العشرة الأيام بعددها. فقال لي : وما فعل معك؟ ، قلت كلّ خير ، برّ مقدمي ، وأرغد قراي ، وزوّدني للحجّ ، ولما رجعت وفرّ جرايتي ، وأقمت في ظلّه ونعمته ، رحمه‌الله وجزاه. فقال : وكيف كانت توليته إياك القضاء؟ فقلت : مات قاضي المالكية قبل موته بشهر ، وكان يظنّ بي المقام المحمود في القيام بالوظيفة ، وتحرّي المعدلة والحق ، والإعراض عن الجاه ، فولّاني مكانه ، ومات لشهر بعدها ، فلم يرض أهل الدّولة بمكاني ، فأدالوني منها بغيري جزاهم الله. فقال لي : وأين

__________________

(١) هو : «عبد الجبار بن النعمان المعتزلي ، أحد خواص تيمور الذين طافوا معه البلاد ، وأهلكوا العباد ، وأظهروا الظلم والفساد. ذكره علاء الدين في «اريخ حلب» وقال : اجتمعت به ، فوجدته ذكيا فاضلا ، وسألته عن مولده ، فقال : يكون لي نحو الأربعين. ورأيت شرح الهداية لأكمل الدين ، وقد طالعه عبد الجبار المذكور ، وعلّم على مواضع منه ، ذكر أنّها غلط. وذكره ابن المبرد في «الرياض» وقال : كان له معرفة بالفقه ، والعلوم العقلية ، وكان يمتحن العلماء ويناظرهم بين يدي اللّنك. وهو من قلّة الدين على جانب كبير. توفي سنة ٨٠٨ ه‍» (عن «الطبقات السنية في تراجم الحنفية» لتقي الدين التميمي ، ورقة ٢٠١ أ(نسخة نور عثمانية) ، وفي «السلوك» ورقة ٢٥٢ ب سنة ٨٠٥ (نسخة الفاتح): «... ذو القعدة ، مات عبد الجبار رئيس الفقهاء عند تيمور لنك». وانظر «عجائب المقدور» ص ١١١.

(٢) كذا في الأصلين بإثبات ألف «ما» المجرورة عند الاستفهام ؛ وهي لغة حكوها عن الأخفش.

(٣) كذا في الأصلين ٥٤.

(٤) سقط ما بين القوسين في الأصلين.

٤٠٤

ولدك؟ ، (١) فقلت : بالمغرب الجوّاني كاتب (٢) للملك الأعظم هنالك. فقال وما معنى الجوّاني في وصف المغرب؟ ، فقلت هو في عرف خطابهم معناه الدّاخلي ، أي الأبعد ، لأن المغرب كلّه على ساحل البحر الشّامي من جنوبه ، فالأقرب إلى هنا برقه ، وإفريقية ، (٣) والمغرب الأوسط (٤) : تلمسان وبلاد زناتة ؛ والأقصى : فاس ومراكش ، وهو معنى الجوّاني. فقال لي : وأين مكان طنجة من ذلك المغرب؟ فقلت : في الزّاوية التي بين البحر المحيط ، والخليج المسمّى بالزّقاق ، وهو خليج البحر الشّامي ، فقال : وسبته؟ فقلت : على مسافة من طنجة على ساحل الزّقاق ، ومنها التّعدية إلى الأندلس ، لقرب مسافته ، لأنها هناك نحو العشرين ميلا. فقال : وفاس؟ (٥) فقلت : ليست على البحر ، وهي في وسط التّلول ، وكرسيّ ملوك المغرب من بني مرين. فقال (٦) : وسجلماسة؟ قلت : في الحدّ ما بين الأرياف والرّمال من جهة الجنوب. فقال : لا يقنعني هذا ، وأحبّ أن تكتب لي بلاد المغرب كلّها ، أقاصيها وأدانيها وجباله وأنهاره وقراه وأمصاره ، حتى كأني أشاهده. فقلت : يحصل ذلك بسعادتك ، وكتبت له بعد انصرافي من المجلس لما طلب من ذلك ، وأوعبت الغرض فيه في مختصر وجيز يكون قدر اثنتي عشرة من الكراريس المنصّفة القطع ؛ ثم أشار إلى خدمه بإحضار طعام من بيته يسمونه الرشتة ، ويحكمونه على أبلغ ما يمكن ، فأحضرت الأواني منه ، وأشار بعرضها عليّ ، فمثلت قائما ، وتناولتها وشربتو استطبت ، ووقع ذلك منه أحسن المواقع ، ثم جلست وسكتنا ، وقد غلبني الوجل بما وقع من نكبة قاضي القضاة الشافعية ، صدر الدين المناوي ، أسره التّابعون لعسكر مصر. بشقحب ، وردّوه ، فحبس عندهم في طلب الفدية منه ، فأصابنا من

__________________

(١) كذا في الأصلين.

(٢) كذا في الأصلين.

(٣) هي المملكة التونسية اليوم.

(٤) مكانه اليوم بلاد «الجزائر».

(٥) سقط من أصل أيا صوفيا.

(٦) سقط من أصل أيا صوفيا.

٤٠٥

ذلك وجل ، فزوّرت في نفسي كلاما أخاطبه به ، وأتلطّفه بتعظيم أحواله ، وملكه. وكنت قبل ذلك بالمغرب قد سمعت كثيرا من الحدثان في ظهوره ، وكان المنجّمون المتكلّمون في قرانات العلويين (١) يترقّبون القران العاشر في المثلّثة الهوائية ، (٢) وكان يترقّب عام ستة وستين من المائة السّابعة. فلقيت ذات يوم من عام أحد وستين بجامع القرويين من فاس ، الخطيب أبا عليّ بن باديس خطيب قسنطينة ، وكان ماهرا في ذلك الفن ، فسألته عن هذا القران المتوقّع ، وما هي آثاره؟ فقال لي : يدلّ على ثائر عظيم في الجانب الشّمالي الشرقي ، من أمة بادية أهل خيام ، تتغلّب على الممالك ، وتقلب الدّول ، وتستولي على أكثر المعمور. فقلت : ومتى زمنه؟ فقال : عام أربعة وثمانين تنتشر أخباره. وكتب لي بمثل ذلك الطّبيب ابن زرزر اليهودي ، طبيب ملك الإفرنج ابن أذفونش ومنجّمه. وكان شيخي رحمه‌الله إمام المعقولات محمد بن إبراهيم الآبلي متى فاوضته في ذلك ، أو سايلته عنه يقول : أمره قريب ، ولا بدّ لك إن عشت أن تراه.

وأما المتصوفة فكنّا نسمع عنهم بالمغرب ترقّبهم لهذا الكائن ، ويرون إن القائم به هو الفاطميّ المشار إليه في الأحاديث النّبوية (٣) من الشيعة وغيرهم ، فأخبرني يحيى بن عبد الله حافد الشيخ أبي يعقوب البادسي كبير الأولياء بالمغرب ، إن الشيخ قال لهم ذات يوم ، وقد انفتل من صلاة الغداة : إن هذا اليوم ولد فيه القائم الفاطمي ، وكان ذلك في عشر الأربعين من المائة الثامنة ؛ فكان في نفسي من ذلك كلّه ترقّب له.

__________________

(١) الكوكبان العلويان : زحل ، والمشتري ؛ والمراد بالقران ـ عند الإطلاق ـ اجتماع المشتري ، وزحل خاصة (مفاتيح العلوم ص ٢٣٢).

(٢) المثلثة : كل ثلاثة بروج تكون متفقة في طبيعة واحدة من الطبائع الأربع. (مفاتيح العلوم ص ٢٢٦).

ولعل ابن خلدون كان يعرف أن تيمور لنك «كان يعتمد على أقوال الأطباء والمنجمين ، ويقربهم ويدنيهم ، حتى إنه كان لا يتحرك بحركة إلا باختيار فلكي» ، فحدثه بهذا الحديث. وانظر المنهل الصافي ١ / ٤٢٧ أ(نسخة دار الكتب).

(٣) ذكر هذه الأحاديث في المقدمة ص ١٥١ وما بعدها ، طبع بولاق.

٤٠٦

فوقع في نفسي لأجل الوجل الذي كنت فيه أن أفاوضه في شيء من ذلك يستريح إليه ، ويأنس به مني ، ففاتحته وقلت : أيّدك الله! لي اليوم ثلاثون أو أربعون سنة أتمنّى لقاءك. فقال لي التّرجمان عبد الجبّار : وما سبب ذلك؟ فقلت : أمران ، الأول أنك سلطان العالم ، وملك الدّنيا ، وما أعتقد أنّه ظهر في الخليقة منذ آدم لهذا العهد ملك مثلك ، ولست ممن يقول في الأمور بالجزاف ، فإني من أهل العلم ، وأبّين ذلك فأقول : إن الملك إنما يكون بالعصبية ، وعلى كثرتها يكون قدر الملك ، واتفق أهل العلم من قبل ومن بعد ، أن أكثر أمم البشر فرقتان : العرب والتّرك ، وأنتم تعلمون ملك العرب كيف كان لمّا اجتمعوا في دينهم على نبيّهم ، وأما الترك ففي مزاحمتهم لملوك الفرس وانتزاع ملكهم أفراسياب خراسان من أيديهم شاهد بنصابهم من الملك. ولا يساويهم في عصبيتهم أحد من ملوك الأرض من كسرى ، أو قيصر ، أو الإسكندر ، أو بختنصّر ، أما كسرى فكبير الفرس ومليكهم ، وأين الفرس من الترك؟ وأما قيصر والإسكندر فملوك الروم ، وأين الروم من الترك؟ وأما بختنصّر فكبير أهل بابل ، والنّبط. وأين هؤلاء من التّرك ، وهذا برهان ظاهر على ما ادّعيته في هذا الملك.

وأما الأمر الثّاني مما يحملني على تمنّي لقائه ، فهو ما كنت أسمعه من أهل الحدثان بالمغرب ، والأولياء ، وذكرت ما قصصته من ذلك قبل. فقال لي : وأراك قد ذكرت بختنصّر مع كسرى ، وقيصر ، والإسكندر ، ولم يكن في عدادهم ، لأنهم ملوك أكابر. وبختنصّر قائد من قواد الفرس ، كما أنا نائب من نواب صاحب التّخت ، وهو هذا ، وأشار إلى الصّفّ القائمين وراءه ، وكان واقفا معهم ، وهو ربيبه الذي تقدّم لنا أنّه تزوّج أمّه بعد أبيه ساطلمش فلم يلفه هناك ، وذكر له القائمون في ذلك الصفّ أنه خرج عنهم.

فرجع إليّ فقال : ومن أيّ الطوائف هو بختنصّر؟ فقلت : بين الناس فيه خلاف ، فقيل من النّبط بقيّة ملوك بابل ، وقيل من الفرس الأولى ، فقال : يعني من ولد منوشهر. (١) قلت نعم هكذا ذكروا ، فقال : ومنوشهر له علينا ولادة من قبل

__________________

(١) منوجهر بالجيم المتوسطة بينها وبين الشين اسم ملك من الفرس الأول ، ومعناه فضيّ الطلعة ، وذلك لبهائه ؛ فان مينو بالفارسية : الفضة ، فاقتصروا على حذف الياء وقالوا منو. وجهر : الطلعة.

(عن هامش أصل أيا صوفيا).

٤٠٧

الأمّهات. ثم أفضت مع الترجمان في تعظيم هذا القول منه ، وقلت له : وهذا ممّا يجعلني على تمنّي لقائه.

فقال الملك : وأيّ القولين أرجح عندك فيه؟ فقلت أنّه من بقيّة ملوك بابل ، فذهب هو إلى ترجيح القول الآخر. فقلت : يعكّر علينا رأي الطبري ، فإنه مؤرخ الأمة ومحدثهم ، ولا يرجحه غيره ، فقال : وما علينا من الطبري؟ نحضر كتب التاريخ للعرب والعجم ، ونناظرك. فقلت : وأنا أيضا أناظر على رأي الطّبري ، وانتهى بنا القول ، فسكت ، وجاءه الخبر بفتح باب المدينة ، وخروج القضاة وفاء بما زعموا من الطاعة التي بذل لهم فيها الأمان ، فرفع من بين أيدينا ، لما في ركبته من الداء ، وحمل على فرسه فقبض شكائمه ، واستوى في مركبه. وضربت الآلات حفافيه حتى ارتجّ لها الجوّ. وسار نحو دمشق ، ونزل في تربة منجك عند باب الجابية ، فجلس هناك ، ودخل إليه القضاة وأعيان البلد ، ودخلت في جملتهم ، فأشار إليهم بالانصراف ، وإلى شاه ملك نائبه أن يخلع عليهم في وظائفهم ، وأشار إليّ بالجلوس ، فجلست بين يديه ؛ ثم استدعى أمراء دولته القائمين على أمر البناء ، فأحضروا عرفاء البنيان المهندسين ، وتناظروا في إذهاب الماء الدائر بحفير القلعة ، لعلّهم يعثرون بالصّناعة على منفذه ، فتناظروا في مجلسه طويلا ، ثم انصرفوا ، وانصرفت إلى بيتي داخل المدينة بعد أن استأذنته في ذلك ، فأذن فيه ، وأقمت في كسر البيت ، واشتغلت بما طلب مني في وصف بلاد المغرب ، فكتبته في أيام قليلة ، ورفعته إليه فأخذه من يدي ، وأمر موقّعه بترجمته إلى اللسان المغلي. ثم اشتدّ في حصار القلعة ، ونصب عليها الآلات من المجانيق ، والنّفوط ، والعرّادات ، والنقب ، فنصبوا لأيام قليلة ستّين منجنيقا إلى ما يشاكلها من الآلات الأخرى ، وضاق الحصار بأهل القلعة ، وتهدّم بناؤها من كل جهة ، فطلبوا الأمان.

وكان بها جماعة من خدّام السّلطان ومخلّفه ، فأمّنهم السّلطان تمر ، وحضروا عنده ، وخرب القلعة وطمس معالمها ، وصادر أهل البلد على قناطر من الأموال استولى عليها عد أن أخذ جميع ما خلّفه صاحب مصر هنالك ، من الأموال ، والظّهر ، والخيام ، ثم أطلق أيدي النّهّابة على بيوت أهل المدينة ، فاستوعبوا أناسيها ، وأمتعتها ، وأضرموا النّار فيما بقي من سقط الأقمشة والخرثيّ ، فاتصلت النار بحيطان

٤٠٨

الدّور المدعمة بالخشب ، فلم تزل تتوقّد إلى أن اتصلت بالجامع الأعظم ، وارتفعت إلى سقفه ، فسال رصاصه ، وتهدّمت سقفه وحوائطه ، وكان أمرا بلغ مبالغه في الشّناعة والقبح ؛ وتصاريف الأمور بيد الله يفعل في خلقه ما يريد ، ويحكم في ملكه ما يشاء.

وكان أيام مقامي عند السّلطان تمر ، خرج إليه من القلعة يوم أمّن أهلها رجل من أعقاب الخلفاء بمصر ، من ذرية الحاكم العبّاسي (١) الذي نصبه الظاهر بيبرس ، فوقف إلى السّلطان تمر يسأله النّصفة في أمره ، ويطلب منه منصب الخلافة كما كان لسلفه ، فقال له السّلطان تمر : أنا أحضر لك الفقهاء والقضاة ، فإن حكموا لك بشيء أنصفتك فيه. واستدعى الفقهاء والقضاة ، واستدعاني فيهم ، فحضرنا عنده وحضر هذا الرجل الذي يسأل منصب الخلافة ، فقال له عبد الجبّار : هذا مجلس النصفة فتكلّم. فقال : إن هذه الخلافة لنا ولسلفنا ، وإن الحديث (٢) صحّ بأن الأمر لبني العبّاس ما بقيت الدّنيا ، يعني أمر الخلافة. وإني أحقّ من صاحب المنصب الآن بمصر ، لأن آبائي الذين ورثتهم كانوا قد استحقّوه ، وصار إلى هذا بغير مستند ، فاستدعى عبد الجبّار كلا منّا في أمره ، فسكتنا برهة ، ثم قال : ما تقولون في هذا الحديث ، فقال برهان الدّين بن مفلح : الحديث ليس بصحيح. واستدعى ما عندي في ذلك فقلت : الأمر كما قلتم من أنّه غير صحيح ، فقال السّلطان تمر : فما الذي أصار الخلافة لبني العبّاس إلى هذا العهد في الإسلام؟ وشافهني بالقول ، فقلت : أيّدك الله! اختلف المسلمون من لدن وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، هل يجب على المسلمين ولاية رجل منهم يقوم بأمورهم في دينهم ودنياهم ، أم لا يجب ذلك؟ فذهبت طائفة إلى أنه لا يجب ، ومنهم الخوارج ، وذهب الجماعة إلى وجوبه ، واختلفوا في مستند ذلك الوجوب ، فذهب الشيعة كلّهم إلى حديث الوصية ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أوصى بذلك لعليّ ، واختلفوا في تنقّلها عنه إلى عقبه

__________________

(١) هو أبو العبّاس أحمد بن أبي علي الحسن القسّي المتوفى سنة ٧٠١ وانظر ترجمته في تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ١٩٢ ـ ١٩٤.

(٢) في تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ١٠٠ ، ١٠١ بعض الآثار التي تمسك بها العبّاسيون في خلافتهم.

٤٠٩

إلى مذاهب كثيرة تشذّ عن الحصر. وأجمع أهل السّنّة على إنكار هذه الوصية ، وأن مستند الوجوب في ذلك إنما هو الاجتهاد ، يعنون أن المسلمين يجتهدون في اختيار رجل من أهل الحق والفقه والعدل ، يفوّضون إليه النظر في أمورهم.

ولما تعدّدت فرق العلوية وانتقلت الوصية بزعمهم من بني الحنفيّة إلى بني العبّاس ، أوصى بها أبو هاشم بن محمد بن الحنفية إلى محمد بن علي بن عبد الله ابن عبّاس ، وبثّ دعاته بخراسان. وقام أبو مسلم (١) بهذه الدعوة ، فملك ، خراسان والعراق ، ونزل شيعتهم الكوفة ، واختاروا للأمر أبا العباس السفّاح (٢) بن صاحب هذه الدّعوة ، ثم أرادوا أن تكون بيعته على إجماع من أهل السنّة والشيعة ، فكاتبوا كبار الأمة يومئذ ، وأهل الحل والعقد ، بالحجاز ، والعراق ، يشاورونهم في أمره ، فوقع اختيارهم كلّهم على الرضى به ، فبايع له شيعته بالكوفة بيعة إجماع وإصفاق ، ثم عهد بها إلى أخيه المنصور ، (٣) وعهد بها المنصور إلى بنيه ؛ فلم تزل متناقلة فيهم ، إما بعهد أو باختيار أهل العصر ، إلى أن كان المستعصم آخرهم ببغداد. فلمّا استولى عليها هولاكو وقتله ، افترق قرابته ، ولحق بعضهم بمصر ، وهو أحمد الحاكم من عقب الرّاشد ، فنصبه الظّاهر بيبرس بمصر ، بممالأة أهل الحلّ والعقد من الجند ، والفقهاء ، وانتقل الأمر في بيته إلى هذا الذي بمصر ، لا يعلم خلاف ذلك. فقال لهذا الرّافع : قد سمعت مقال القضاة ، وأهل الفتيا ، وظهر أنه ليس لك حقّ تطلبه عندي. فانصرف راشدا.

__________________

(١) أبو مسلم عبد الرحمن بن مسلم الخراساني. له ترجمة واسعة في وفيات ابن خلكان ١ / ٣٥٢ ـ ٣٥٦.

(٢) أبو العبّاس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عبّاس (١٠٤ ـ ١٣٦) وانظر تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٩٩ وما بعدها.

(٣) أبو جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس (٩٥ ـ ١٥٨). تاريخ الخلفاء ١٠١ ـ ١٠٦.

٤١٠

الرجوع عن هذا الأمير تمر إلى مصر

كنت لما لقيته ، وتدلّيت إليه من السور كما مرّ ، أشار عليّ بعض الصّحاب ممن يخبر أحوالهم بما تقدمت له من المعرفة بهم ، فأشار بأن أطرفه ببعض هدية ، وإن كانت نزرة فهي عندهم متأكدة في لقاء ملوكهم ، فانتقيت من سوق الكتب مصحفا رائعا حسنا في جزء محذو ، وسجّادة أنيقة ، ونسخة من قصيدة البردة المشهورة للأبوصيري (١) في مدح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأربع علب من حلاوة مصر الفاخرة. وجئت بذلك فدخلت عليه ، وهو بالقصر الأبلق جالس في إيوانه ، فلمّا رآني مقبلا مثل قائما وأشار إلي عن يمينه ، فجلست وأكابر من الجقطية حفافية ، فجلست قليلا ، ثم استدرت بين يديه ، وأشرت إلى الهدية التي ذكرتها ، وهي بيد خدّامي ، فوضعتها ، واستقبلني ، ففتحت المصحف فلما رآه وعرفه ، قام مبادرا فوضعه على رأسه. ثم ناولته البردة ، فسألني عنها وعن ناظمها ، فأخبرته بما وقفت عليه من أمرها. ثم ناولته السّجادة ، فتناولها وقبلها. ثم وضعت علب الحلوى بين يديه ، وتناولت منها حرفا على العادة في التأنيس بذلك. ثم قسم هو ما فيها من الحلوى بين الحاضرين في مجلسه ، وتقبّل ذلك كلّه ، وأشعر بالرّضى به. ثم حومت على الكلام بما عندي في شأن نفسي ، وشأن أصحاب لي هنالك. فقلت أيدك الله! لي كلام أذكره بين يديك ، فقال : قل. فقلت أنا غريب بهذه البلاد غربتين ، واحدة من المغرب الذي هو وطني ومنشئي وأخرى من مصر وأهل جيلي بها ، وقد حصلت في ظلك ، وأنا أرجو رأيك لي فيما يؤنسني في غربتي ، فقال : قل الذي تريد أفعله لك ، فقلت : حال الغربة أنستني ما أريد ، وعساك ـ أيدّك الله ـ أن تعرف لي ما أريد. فقال : انتقل من المدينة إلى الأردو (٢) عندي ، وأنا إن شاء الله أوفى كنه قصدك. فقلت يأمر لي بذلك نائبك شاه ملك ، فأشار إليه بإمضاء ذلك ، فشكرت ودعوت

__________________

(١) هو شرف الدين أبو عبد الله محمد بن سعيد الدلاصي البوصيري الصنهاجي (٦٠٨ ـ ٦٩٤) على خلاف في تاريخ الوفاة. له ترجمة في فوات الوفيات ٢ / ٢٠٥ ـ ٢٠٩ ، حسن المحاضرة ١ / ٣٦٠.

(٢) الأردو : المعسكر (تركية).

٤١١

وقلت : وبقيت لي أخرى ، فقال : وما هي؟ فقلت : هؤلاء المخلّفون عن سلطان مصر. من القرّاء والموقّعين ، والدواوين ، (١) والعمال ، صاروا إلى إيالتك والملك لا يغفل مثل هؤلاء فسلطانكم كبير ، وعمالاتكم متّسعة ، وحاجة ملككم إلى المتصرفين في صنوف الخدم أشدّ من حاجة غيركم ، فقال وما تريد لهم؟ قلت : مكتوب أمان يستنيمون إليه ، ويعوّلون في أحوالهم عليه. فقال لكاتبه : أكتب لهم بذلك ، (٢) فشكرت ودعوت. وخرجت مع الكاتب حتى كتب لي مكتوب اأمان ، وختمه شاه ملك بخاتم السّلطان ، وانصرفت إلى منزلي. ولما قرب سفره واعتزم علم الرحيل عن الشام ، دخلت عليه ذات يوم ، فلما قضينا المعتاد ، التفت إليّ وقال : عندك بغلة هنا؟ قلت نعم ، قال حسنة؟ قلت نعم ، قال وتبيعها؟ فأنا اشتريها منك ، فقلت : أيدك الله! مثلي لا يبيع من مثلك ، إنّما أنا أخدمك بها ، وبأمثالها لو كانت لي ، فقال : أنا أردت أن أكافئك عنها بالإحسان ، فقلت : وهل بقي إحسان وراء ما أحسنت به ، اصطنعتني ، وأحللتني من مجلسك محلّ خواصّك ، وقابلتني من الكرامة والخير بما أرجو الله أن يقابلك بمثله ، وسكت وسكتّ وحملت البغلة ـ وأنا معه في المجلس ـ إليه ، ولم أرها بعد.

ثم دخلت عليه يوما آخر فقال لي : أتسافر إلى مصر؟ فقلت أيّدك الله ، رغبتي إنما هي أنت ، وأنت قد آويت وكفلت ، فإن كان السّفر إلى مصر في خدمتك فنعم ، وإلا

__________________

(١) كذا في الأصلين. ولعل الصواب : «بالدواوين» ، أو «وأصحاب الدواوين».

(٢) ذكر هذه الشفاعة المقريزي في السلوك ورقة ٢٣٩ ب في حوادث سنة ٨٠٣ (نسخة الفاتح).

٤١٢

فلا بغية لي فيه ، فقال لا ، بل تسافر إلى عيالك وأهلك ، (١) فالتفت إلى ابنه ، وكان مسافرا إلى شقحب لمرباع دوابّه ، واشتغل يحادثه ، فقال لي الفقيه عبد الجبّار الذي كان يترجم بيننا : إن السّلطان يوصي ابنه بك ، فدعوت له ، ثم رأيت أن السّفر مع ابنه غير مستبين الوجهة ، والسفر إلى صفد أقرب السواحل إلينا أملك لأمري ، فقلت له ذلك ، فأجاب إليه ، وأوصى بي قاصدا كان عنده من حاجب صفد ابن الدّويداري ، (٢) فوادعته وانصرفت ، واختلفت الطريق مع ذلك القاصد ، فذهب عنّي ، وذهبت عنه. وسافرت في جمع من أصحابي ، فاعترضتنا جماعة من العشير قطعوا علينا الطّريق ، ونهبوا ما معنا ، ونجونا إلى قرية هنالك عرايا. واتّصلنا بعد يومين أو ثلاث بالصّبيبة فخلفنا بعض الملبوس ، وأجزنا إلى صفد ، فأقمنا بها أياما. ثم مرّ

__________________

(١) من تاريخ ابن قاضي شهبة لوحة ١٨١ سنة ٨٠٣ : «... وفي مستهل شعبان ، وصل إلى القاهرة ولي الدين ابن خلدون المالكي ، والقاضي صدر الدين ابن العجمي كاتب الدست ، والقاضي سعد الدين ابن القاضي شرف الدين الحنبلي أيضا ، وكانوا من جملة المنقطعين بالشام ، وكان القاضي ابن خلدون قد خرج مع القضاة من دمشق إلى تمر لنك ، ولما عرفه عظّمه كثيرا ، وسأله أن يكتب له مدن المغرب ، والمفاوز بها (كذا) ، وأسماء قبائل العرب بها (كذا) ، فلما قرئت عليه بالأعجمي أعجبته وقال : صنّفت أخبار المغرب فقط؟ فقال : لا. أخبار الشرق ، والغرب ، وأسماء الملوك ؛ وقد كتبت ترجمتك ، وأريد أقرؤها (كذا) عليك ، فما كان منها صحيحا تركته ، وما كان غير صحيح أصلحته ، فأذن له فقرأ نسبه فقال : من أين عرفته؟ فقال : سألت عنه التجار الثقاة الواردين ، ثم قرأ فتوحاته وأحواله ، وابتداء أمره ، ومنام (كذا) رآه والده ، فأعجبه ذلك كثيرا فقال : تهيأ حتى تذهب معي إلى بلادي ، فقال له : في مصر من يحبني وأحبه ، ولا بدّ لك من قصد مصر في هذه المرة أو في غيرها ، وأنا أذهب وأهيئ أمري ، وأذهب في خدمتك ، فأذن له في الذهاب إلى مصر ، وأن يستصحب معه من شاء. هكذا حكى لي ذلك القاضي شهاب الدين بن العز ، وأنه كان حاضرا لبعض ذلك». وفيه كما ترى ـ مخالفة لما يقصّه ابن خلدون عن نفسه.

(٢) في عجائب المقدور ص ١١٣ : «... وكان في صفد تاجر من أهل البلاد أحد الرؤساء والتجار ، يدعى علاء الدين ، وينسب إلى دوادار ، كان تقدمت له خدمة على السّلطان ، فولاه حجابة ذلك المكان.

٤١٣

بنا مركب من مراكب ابن عثمان سلطان بلاد الرّوم ، وصل فيه رسول كان سفر إليه عن سلطان مصر ، ورجع بجواب رسالته ، فركبت معهم البحر إلى غزّة ، ونزلت بها ، وسافرت منها إلى مصر ، فوصلتها في شعبان من هذه السّنة ، وهي سنة ثلاث وثمانمائة ، وكان السّلطان صاحب مصر ، قد بعث من بابه سفيرا إلى الأمير تمر إجابة إلى الصلح الذي طلب منه ، فأعقبني إليه. فلما قضى رسالته رجع ، وكان وصوله بعد وصولي ، فبعث إليّ مع بعض أصحابه يقول لي : إن الأمير تمر قد بعث معي إليك ثمن البغلة التي ابتاع منك ، وهي هذه فخذها ، فإنّه عزم علينا من خلاص ذمّته من مالك هذا. فقلت لا أقبله إلا بعد إذن من السّلطان الذي بعثك إليه ، وأما دون ذلك فلا ، ومضيت إلى صاحب الدّولة فأخبرته الخبر فقال وما عليك؟ فقلت إن ذلك لا يجمل بي أن أفعله دون اطلاعكم عليه ، فأغضى عن ذلك ، وبعثوا إليّ بذلك المبلغ بعد مدّة ، واعتذر الحامل عن نقصه بأنه أعطيه كذلك ، وحمدت الله على الخلاص.

وكتبت حينئذ كتابا إلى صاحب المغرب ، عرّفته بما دار بيني وبين سلطان الطّطر تمر ، وكيف كانت واقعته معنا بالشّام ، وضمّنت ذلك في فصل من الكتاب نصّه :

زوإن تفضّلتم بالسؤال عن حال المملوك ، فهي بخير والحمد لله ، وكنت في العام الفارط توجّهت صحبة الرّكاب السّلطاني إلى الشام عندما زحف الطّطر إليه من بلاد الروم ، والعراق ، مع ملكهم تمر ، واستولى على حلب ، وحماة ، وحمص ، وبعلبكّ ، وخرّبها جميعا ، وعاثت عساكره فيها بما لم يسمع أشنع منه. ونهض السّلطان في عساكره لاستنقاذها ، وسبق إلى دمشق ، وأقام في مقابلته نحوا من شهر ، ثم قفل راجعا إلى مصر ، وتخلّف الكثير من أمرائه وقضاته ، وكنت في المخلّفين. وسمعت أن سلطانهم تمر سأل عنّي ، فلم يسع إلّا لقاؤه ، فخرجت إليه من دمشق ، وحضرت مجلسه ، وقابلني بخير ، واقتضيت منه الأمان لأهل دمشق ، وأقمت عنده خمسا وثلاثين يوما ، أباكره وأراوحه. ثمّ صرفني ، وودّعني على أحسن حال ، ورجعت إلى مصر. وكان طلب منّي بغلة كنت أركبها فأعطيته إياها ، وسألني البيع فتأفّفت منه ، لما كان يعامل به من الجميل ، فبعد انصرافي إلى مصر بعث إليّ بثمنها مع رسول كان من جهة السّلطان هنالك ، وحمدت الله تعالى على الخلاص من ورطات الدنيا.

٤١٤

وهؤلاء الطّطر هم الذين خرجوا من المفازة وراء النّهر ، بينه وبين الصين ، أعوام (١) عشرين وستمائة مع ملكهم الشهير جنكيز خان وملك المشرق كلّه من أيدي السّلجوقية ومواليهم إلى عراق العرب ، وقسم الملك بين ثلاثة من بنيه وهم جقطاي ، وطولي ، ودوشي خان :

فجقطاي كبيرهم ، وكان في قسمته تركستان وكاشغر ، والصّاغون ، والشّاش وفرغانة ، وسائر ما وراء النّهر من البلاد.

وطولى كان في قسمته أعمال خراسان ، وعراق العجم ، والرّيّ إلى عراق العرب ، وبلاد فارس ، وسجستان ، والسند ، وكان أبناؤه : قبلاي ، وهولاكو.

ودوشي خان كان في قسمته بلاد قبجق ، ومنها صراي ، وبلاد التّرك إلى خوارزم. وكان لهم أخ رابع يسمى أوكداي كبيرهم ، ويسمّونه الخان ، ومعناه صاحب التّخت ، وهو بمثابة الخليفة في ملك الإسلام ؛ وانقرض عقبه ، وانتقلت الخانية إلى قبلاي ، ثم إلى بني دوشي خان ، أصحاب صراي. واستمرّ ملك الطّطر في هذه الدّول الثلاث ، وملك هولاكو بغداد ، وعراق العرب ، إلى ديار بكر ونهر الفرات. ثم زحف إلى الشام وملكها ، ورجع عنها ، وزحف إليها بنوه مرارا ، وملوك مصر من الترك يدافعونهم عنها ، إلى أن انقرض ملك بني هولاكو أعوام أربعين وسبعمائة ، وملك بعدهم الشيخ حسن النّوين وبنوه. وافترق ملكهم في طوائف من أهل دولتهم ، وارتفعت نقمتهم عن ملوك الشام ومصر. ثم في أعوام السّبعين أو الثمانين وسبعمائة ، ظهر في بني جقطاي وراء النّهر أمير اسمه تيمور ، وشهرته عند الناس تمر ، وهو كافل لصبّي متّصل النّسب معه إلى جقطاي في آباء كلّهم ملوك ، وهذا تمر بن طرغاي هو ابن عمّهم ، كفل صاحب التخت منهم اسمه محمود ، وتزوّج أمّه صرغتمش ، ومدّ يده إلى ممالك التتر كلّها ، فاستولى عليها إلى ديار بكر ، ثم جال في بلاد الروم والهند ، وعاثت عساكره في نواحيها ، وخرّب حصونها ومدنها ، في أخبار يطول شرحها. ثم زحف بعد ذلك إلى الشام ، ففعل به ما فعل ، والله غالب على أمره. ثم رجع آخرا إلى بلاده ، والأخبا تتصل بأنّه قصد سمرقند ، وهي كرسيه.

__________________

(١) كذا بالأصلين ، وهو تعبير مألوف في أسلوب ابن خلدون.

٤١٥

والقوم في عدد لا يسعه الإحصاء ، إن قدرت ألف ألف فغير كثير ، ولا تقول أنقص ، وإن خيّموا في الأرض ملأوا السّاح ، وإن سارت كتائبهم في الأرض العريضة ضاق بهم الفضاء ، وهم في الغارة والنهب والفتك بأهل العمران ، وابتلائهم بأنواع العذاب ، على ما يحصلونه من فئاتهم آية عجب ، وعلى عادة بوادي الأعراب.

وهذا الملك تمر من زعماء الملوك وفراعنتهم ، والنّاس ينسبونه إلى العلم ، وآخرون إلى اعتقاد الرفض ، لما يرون من تفضيله لأهل البيت ، وآخرون إلى انتحال السّحر ، وليس من ذلك كلّه في شيء ، إنّما هو شديد الفطنة والذّكاء ، كثير البحث واللّجاج بما يعلم وبما لا يعلم ، (١) عمره بين الستّين والسبعين ، وركبته اليمنى عاطلة من سهم أصابه في الغارة أيام صباه على ما أخبرني ، فيجرّها في قريب المشي ، ويتناوله الرجال على الأيدي عند طول المسافة ، وهو مصنوع له ، والملك لله يؤتيه من يشاء من عباده.

ولاية القضاء الثالثة والرابعة والخامسة بمصر

كنت ـ لمّا أقمت عند السّلطان تمر تلك الأيام التي أقمت ـ طال مغيبي عن مصر ، وشيّعت الأخبار عنّي بالهلاك ، فقدّم للوظيفة من يقوم بها من فضلاء المالكية ، وهو جمال الدين الأقفهسي (٢) ، غزير الحفظ والذّكاء ، عفيف النّفس عن التّصدّي لحاجات النّاس ، ورع في دينه ، فقلّدوه منتصف جمادى الآخرة من السنة.

فلمّا رجعت إلى مصر ، عدلوا عن ذلك الرأي ، وبدا لهم في أمري ، فولّوني في أواخر شعبان من السنة ، واستمررت على الحال التي كنت عليها من القيام بالحقّ ، والإعراض عن الأغراض ، والإنصاف من المطالب ، ووقع الإنكار عليّ ممّن لا يدين

__________________

(١) في المنهل الصافي ١ / ٤٢٣ ، ٤٢٧ (نسخة دار الكتب) ، بعض الأمثلة لحب تيمور في الجدل واللجاج.

(٢) هو عبد الله بن مقداد بن إسمعيل بن عبد الله الأفقهسي ، جمال الدين المالكي المتوفى سنة ٨٢٣. له ترجمة في «رفع الأصر» ١٣٦ أ(نسخة دار الكتب).

٤١٦

للحق ، ولا يعطي النّصفة من نفسه ، فسعوا عند السّلطان في ولاية شخص من المالكية يعرف بجمال الدين البساطي (١) ، بذل في ذلك لسعاة داخلوه ، قطعة من ماله ، ووجوها من الأغراض في قضائه. قاتل الله جميعهم ، فخلعوا عليه أواخر رجب ، سنة أربع وثمانمائة. ثم راجع السّلطان بصيرته ، انتقد رأيه ، ورجع إليّ الوظيفة خاتم سنة أربع ، فأجريت الحال على ما كان. وبقي الأمر كذلك سنة وبعض الأخرى. وأعادوا البساطي إلى ما كان ، وبما كان ، وعلى ما كان ، وخلعوا عليه سادس ربيع الأول سنة ست (٢) ، ثم أعادوني عاشر شعبان سنة سبع (٣) ، ثم أدالوا به منّي أواخر ذي القعدة (٤) من السنة وبيد الله تصاريف الأمور.

(تم الكتاب والحمد لله)

__________________

(١) يوسف بن خالد بن نعيم بن نعيم بن محمد بن حسن بن علي بن محمد بن علي ، جمال الدين. له ترجمة في «رفع الإصر» ٢٧٨ أ(نسخة دار الكتب).

(٢) انظر «عقد الجمان» للعيني ، في حوادث سنة ٨٠٦ لوحة ١٩٨.

(٣) في صبح الأعشى ١١ / ١٨٩ نص «التقليد» الذي تولى به البساطي القضاء بعد ابن خلدون ، وهو مما يحسن الاطلاع عليه. وانظر «عقد الجمان» للعيني لوحة ٢١٥.

(٤) الذي في «عقد الجمان» للعيني لوحة ٢١٦ في حوادث سنة ٨٠٧ ، أن الذي خلف ابن خلدون هو جمال الدين الأقفهسي. ولعل ابن خلدون أعرف بمن ولي بدله.

٤١٧
٤١٨

ملحق

ابن خلدون والجغرافيا في المغرب

في القرنين ١٥ و ١٦

أغناطيوس كراتشكوفسكي

لعلّ من المناسب ، ونحن ننتقل من القرن الرابع عشر إلى القرن الخامس في تحليلنا للأدب الجغرافي العربي ، أن نقف قليلا لنلقي نظرة على الآراء الجغرافية لدى ابن خلدون ، ليس ذلك فقط لأن ابن خلدون قد ولد في عام ٧٣٢ ه‍ ١٣٣٢ وأكمل مصنّفه الأساسي في الربع الأخير من القرن الرابع عشر حوالي عام ٧٨٠ ه‍ ١٣٧٨ وظلّ يضيف إليه إلى وفاته في عام ٨٠٨ ه‍ ـ ١٤٠٦ وبهذا يقف على الحدّ الفاصل بين قرنين ؛ أقول ليس لهذه الأسباب فحسب ، بل لأنّ «مقدمة» كتابه في التاريخ تستهدف وضع علم جديد في الحضارة البشرية ، وتعرض لنا خلاصة لجميع معارف العصور السالفة في مختلف الميادين ؛ وهي تعطي فكرة جلية عن المستوى الذي بلغه العلم في العالم الإسلامي في بداية القرن الخامس عشر ، وذلك على يد واحد من أبرز علماء الإسلام ، زد على هذا أنّ ابن خلدون إنّما يمثّل من ناحية أصله وسيرة حياته مزيجا طريفا لحضارة ذلك العصر (١).

فأبو عبد الرحمن بن محمد بن خلدون ينتمي إلى فرع من كنده كان يقيم قبل الإسلام بحضرموت ، وقد دخل أجداده الأندلس مع الفتح واستقرّوا بقرمونه وإشبيلية ، وظهر من بينهم على مرّ القرون عدد من رجال الإدارة والفقهاء ؛ وفي الأندلس اتّخذ أول أجداده الاسم المغربي ابن خلدون. وبسقوط إشبيلية في عام ١٢٤٨ انتقل بنو خلدون إلى شمال إفريقيا واستقرّوا نهائيا بتونس ، وبها توفي في عام ٧٤٩ ه‍ ١٣٤٨ والده ، الذي كان بدوره فقيها وإداريا ، وذلك بالطاعون الذي اجتاح

__________________

(١) عما ظهر عن ابن خلدون من دراسات وأبحاث راجع كتاب عبد الرحمن بدوي «مؤلفات ابن خلدون» القاهرة ١٩٦٢ ؛ وراجع أيضا «أعمال مهرجان ابن خلدون». القاهرة ١٩٦٢. (المترجم).

٤١٩

العالم آنذاك ، والذي شهده ابن بطوطة في موضع آخر. ولد ابن خلدون بتونس في عام ٧٣٢ ه‍ ١٣٣٢ وبدأ وهو في سنّ مبكّرة حياته المستقلّة التي أحاط بها الكثير من القلق والاضطراب. وعلى الرغم من ميله الشديد إلى الدراسة فإنّ هذا لم يحل بينه وبين التقلّب في المناصب الحكومية طوال حياته تقريبا ، فشغل عددا من الوظائف الإدارية والكتابية قرّبته إلى حياة البلاط ، والدسائس السياسية التي شارك فيها أحيانا بنصيب وافر. وقد عاش ابن خلدون في جميع الإمارات التي تقاسمت المغرب آنذاك ، فإلى جانب تونس أقام بفاس متمتّعا بعطف السلطان أبي عنان من بني مرين ، وهو نفس ذلك السلطان الذي عاش في كنفه ابن بطّوطة ، وقد مرّت بنا قبل قليل إشارة ابن خلدون إلى هذا الأخير. وكان من بين أصدقاء ابن خلدون حين إقامته بغرناطة الوزير المشهور والأديب الكبير ابن الخطيب ، الذي أصبح فيما بعد عدوّا لدودا له ؛ وفي عام ٧٦٥ ه‍ ١٣٦٣ اختاره أمير غرناطة ليكون سفيره إلى ملك قشتالة. ولم يقدّر لابن خلدون أن يستقرّ طويلا في موضع ما ، فعند رجوعه إلى إفريقيا أخذ يتنقّل بين عدد من المدن مثل : بجاية ، وبسكره ، وتلمسان ، وفاس ، ثم رجع إلى الأندلس. وقد استطاع مرّة أن يخلو إلى نفسه بضعة أعوام ، وذلك ابتداء من عام ٧٧٦ ه‍ ١٣٧٥ في بقعة شبة بدوية هي قلعة ابن سلامة من أعمال وهران ، انقطع فيها للقراءة والتأليف ، عاملا دون كلل في تحضير مقدّمة تاريخه. وفي خلال زيارة له إلى تونس بهدف جمع المادّة العلمية لتاريخه تبيّن له أنّ الإقامة بالمغرب لم تعد في مصلحته بسبب الاضطرابات السياسيّة ، فقرّر مغادرة تونس إلى المشرق متعلّلا بالحجّ ، وخرج من المغرب إلى غير رجعه في عام ٧٨٤ ه‍ ١٣٨٢. وبعد أن أقام بعض الوقت بالإسكندرية غادرها إلى القاهرة التي كانت تعدّ بحق مركز الثقافة الإسلامية في ذلك العصر ؛ وهنا تمتّع ابن خلدون برعاية السلطان المملوكي برقوق ، وشغل في عهده وعهد ابنه السلطان فرج منصب قاضي قضاة المالكية لمرّات عديدة ابتداء من عام ٧٨٦ ه‍ ١٣٨٤ ؛ وأدّى فريضة الحجّ لأوّل مرّة في عام ٧٨٩ ه‍ ـ ١٣٨٧. وقد لاحقته الدسائس في مصر ، فأعفي من منصبه القضائي ستّ مرّات ، وأمضى بضعة أعوام انقضت عام ٧٩٧ ه‍ ـ ١٣٩٤ في عزلة بالفيّوم ، كان من أسبابها الحزن العميق الذي أصابه بسبب نكبة أسرته في حادث غرق سفينة. وفي بداية القرن

٤٢٠