رحلة ابن خلدون

محمّد بن تاويت الطنجي

رحلة ابن خلدون

المؤلف:

محمّد بن تاويت الطنجي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: ارتياد الآفاق
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

ووبذة ، (١) والغارين (٢) وبيغه (٣) وحصن السهلة ، (٤) في عام ؛ ثم دخول بلد إطريرة (٥) : بنت إشبيلية عنوة ، (٦) والاستيلاء علي ما يناهز خمسة آلاف من

__________________

(١) وبذة (Huete عرضها الشمالي ١٠ ـ ٤٠ ، وطولها الغربي ٤٤ ـ ٢) : مدينة حصينة على واد بقرب أقليش. وهي بالفتح ثم بالسكون ، وبالذال المعجمة.

وانظر ياقوت ٨ / ٣٩٦ ، تاج العروس ٢ / ٥٨٣ ، الروض المعطار ص ١٩٤ ، صفة إفريقية والأندلس ص ١٧٥.

(٢) الغارين (Algarinejo عرضه الشمالي ١٧ ـ ٣٧ ، وطوله الغربي ٨ ـ ٤) حصن يقع في السفح الجنوبي للجبل المسمّى (» Monte frio «على أحد فروع وادي شنيل (jenil). والمفهوم من بغية الرواد ٢ / ١٨٧ ، في رسالة لابن الخطيب ، أنه كان مركزا يغزو منه المسيحيّون بلاد الإسلام المجاورة.

(٣) بيغه (Priego عرضها الشمالي ٢٦ ـ ٣٧ ، وطوله الغربي ٨ ـ ٤). وبيغو ، وباغو ، وباغه ، وباغة ، كلها أشكال لرسم هذه الكلمة ؛ تجدها في نفح الطيب ١ / ٩٤ ، ٥٩٠ (طبع ليدن) ، تاج العروس ٦ / ٦ ، المقدسي ص ٢٢٣ ، ٢٣٥ ، الإدريسي ص ٢٠٤ ، بغية الرواد ٢ / ١٧٩ ، ياقوت ٢ / ٣٣٩.

أما اسمها ، فقد قال المقري في نفح الطيب : «ومن أعمال غرناطة الكبار : عمل باغه ، والعامّة يقولون بيغه ؛ وإذا نسبوا إليه قالوا بيغي. ويتابع العلامتان دوزي ، ودي غويه في ترجمتهما لوصف إفريقية والأندلس للإدريسي ص ٢٥٢ تحوّل هذا الاسم ، فينتهيان إلى أن إحدى الصيغتين : Pege ,Pego قد شكلت في النهاية الاسم الحالي ، وهوPriego. وهي مدينة جبلية صغيرة تبعد عن قرطبة ٣٦ ميلا ، نحو الجنوب الشرقي.

(٤) لم أعثر على هذا المكان فيما رجعت إليه من كتب الجغرافيا والتقويم ، ويفهم من رسالة لابن الخطيب وردت في بغية الرواد ٢ / ١٨٠ أنه قريب من جبل الفتح (جبل طارق).

(٥) إطريرةUtrera) عرضها الشمالي ١٤ ـ ٣٧ ، وطولها الغربي ٥٠ ـ ٥). مدينة تقع في الجنوب الشرقي لمدينة إشبيلية ، على بعد ٣٩ كيلومترا. وقد ضبطها ابن خلدون بالحركات بكسر الهمزة ، وسكون الطاء. وكذلك ضبطها ابن خلدون بالحركات بكسر الهمزة ، وسكون الطاء. وكذلك ضبطها بالكلمات الزبيدي في تاج العروس ٣ / ٣٥٨.

(٦) ارجع إلى الحاشية رقم (١٩).

١٦١

السّبي ؛ ثم فتح دار الملك ، ولدة (١) قرطبة (٢) : مدينة جيان (٣) عنوة في اليوم الأغر المحجل ، وقتل المقاتلة ، وسبي الذرية ، وتعفية الآثار حتى لا يلم بها العمران ، ثم افتتاح مدينة أبّدة التي تلف جيان في ملاءتها : دار التّجر ، والرّفاهية ، والبنى الحافلة ، والنّعم الثّرّة ، نسأل الله ـ جلّ وعلا ـ أن يصل عوائد نصره ، ولا يقطع عنّا سبب رحمته ، وأن ينفع بما أعان عليه من السعي في ذلك والإعانة عليه.

ولم يتزيّد من الحوادث إلا ما علمتم ، من أخذ الله لنسمة السّوء ، وخبث الأرض ، المسلوب من أثر الخير : عمر بن عبد الله ، وتحكّم شرّ الميتة في نفسه ، وإتيان النكال على حاشيته ، والاستئصال على ذاته (٤) ؛ والاضطراب مستول على الوطن بعده ، إلا أنّ الغرب على علاته لا يرجحه غيره.

والأندلس اليوم شيخ غزاتها الأمير عبد الرّحمن (٥) بن علي بن السّلطان أبي علي ، بعد وفاة الشيخ أبي الحسن : علي بن بدر الدين (٦) رحمه‌الله. وقد استقرّ بها ـ بعد انصراف سيّدي ـ الأمير المذكور ، والوزير مسعود بن رحّو (٧) وعمر بن عثمان ابن سليمان.

__________________

(١) اللدة : الترب.

(٢) ارجع إلى الحاشية رقم (٤٥).

(٣) أبّدةUbeda) عرضها الشمالي ٢ ـ ٣٨ ، وطولها الغربي ٢٣ ـ ٣) بضم الهمزة وفتح الباء المشددة ، ثم دال مفتوحة مهملة ، (وفي الروض المعطار أنها معجمة) ، وبعدها هاء تأنيث : مدينة من كورة جيان ، تعرف بأبدة العرب ، تبعد عن مدينة جيان ٧٥ كيلومترا نحو الشمال الشرقي.

وانظر ياقوت ١ / ٧٣ ، اللباب في تهذيب الأنساب ١ / ١٧ صفة إفريقية والأندلس ص ٢٠٣.

(٤) قتل سنة ٧٦٨ ، وسبب مقتله مفصل في العبر ٧ / ٣٢٣ ن وانظر الحاشية رقم (٦٦١) ، واللمحة البدرية ص ١٠٦ ، وبغية الرواد ٢ / ٩٥ ، ١٠١.

(٥) هو عبد الرحمن بن على أبي يفلوسن بن السّلطان أبي علي أحد أمراء بني مرين ؛ تولى إمارة الغزو بالأندلس بعد موت علي بن بدر الدين. وانظر العبر ٧ / ٣٧٨.

(٦) علي بن بدر الدين بن موسى بن رحّو. لقب أبوه بهذا اللقب الشرقي على يد أحد أشراف مكة الوافدين على المغرب. أخباره مذكورة في العبر ٧ / ٣٧٦ ـ ٣٧٨.

(٧) مسعود بن رحّو بن علي بن ماساي ، وزير الأمير عبد الرحمن المتقدم الذكر. انظر العبر ٧ / ٣٧٨.

١٦٢

والسّلطان ملك النصارى بطره ، (١) قد عاد إلى ملكه بإشبيلية ، وأخوه مجلب عليه بقشتالة ، وقرطبة مخالفة عليه ، قائمة بطائفة من كبار النصارى الخائفين على أنفسهم ، داعين لأخيه ، والمسلمون قد اغتنموا هبوب هذه الرّيح.

وخرق الله لهم عوائد في باب الظّهور والخير ، لم تكن تخطر في الآمال. وقد تلقّب السّلطان ـ أيّده الله ـ بعقب هذه المكيّفات ، ب «الغني بالله» وصدرت عنه مخاطبات ، بمجمل الفتوح ومفصّلها ، يعظم الحرص على إيصالها إلى تلك الفضائل لو أمكن.

وأما ما يرجع إلى ما يتشوّف إليه ذلك الكمال من شغل الوقت ، فصدرت تقاييد ، وتصانيف ، يقال فيها ـ بعد ما أعملته تلك السيادة من الانصراف ـ يا إبراهيم ، ولا إبراهيم اليوم. (٢)

منها : أن كتابا رفع إلى السّلطان في المحبّة ، (٣) من تصنيف ابن أبي حجلة (٤) من المشارقة ، أشار الأصحاب بمعارضته ، فعارضته ، وجعلت الموضوع أشرف ، وهو محبّة الله ، فجاء كتابا (٥) ادّعى الأصحاب غرابته. وقد وجّه إلى المشرق صحبة

__________________

(١) هوPierre le Cruel ، وأخوه ، المجلب عليه ، هو : le Comte Henri de Traslamar ، وانظر بغية الرواد ٢ / ٢٠٦.

وقشتالة (Castille) : كورة كانت تشمل مقاطعتي طليطلة (toledo) وكوينكة (Cuenca). وانظر ياقوت ٧ / ٩٣.

(٢) لعله يشير إلى قوله تعالى : [يا إبراهيم أعرض عن هذا]. آية ٧٦ من سورة هود.

(٣) هو ديوان الصبابة. وقد طبع بمصر سنة ١٣٠٢ ه‍.

(٤) أبو العباس أحمد بن يحيى بن أبي بكر بن أبي حجلة التلمساني (٧٢٥ ـ ٧٧٦) أديب صوفي ؛ كان يكثر الحط على أهل «الوحدة» وخصوصا ابن الفارض ؛ وعارض جميع قصائده بقصائد نبوية ، وامتحن بسبب ذلك. وانظر الدرر الكامنة ١ / ٣٢٩.

(٥) يتحدث ابن الخطيب عن كتابه : «روضة التعريف بالحب الشريف» ؛ وهو كتاب يقل أن يوجد نظيره بين كتب التصوف في المكتبة الإسلامية ؛ تحدث فيه عن مذاهب الصوفية ، وعن طريقة أهل «الوحدة المطلقة» ، فنسبه أعداؤه إلى القول بالحلول ، فكان هذا الكتاب من أسباب محنته التي انتهت بقتله رحمه‌الله. ولا تزال المكتبة الإسلامية تحتفظ بنسخ من هذا الكتاب ؛ وفي المجموعة القيمة من المخطوطات التي صورتها جامعة الدول العربية ثلاث نسخ خطية منه.

١٦٣

كتاب : «تاريخ غرناطة» ، (١) وغيره من تآليفي. وتعرّف تحبيسه بخانقاه سعيد السعداء (٢) من مصر ؛ وانثال الناس عليه ، وهو في لطافة الأغراض ، يتكلّف أغراض المشارقة. من ملحه :

سلّمت لمصر في الهوى من بلد

يهديه هواؤه لدى استنشاقه

من ينكر دعواي فقل عنّي له

تكفي امرأة العزيز من عشّاقه؟

والله يرزق الإعانة في انتساخه وتوجيهه. وصدر عنّي جزء سمّيته : «الغيرة على أهل الحيرة» (٣) ؛ وجزء سميته : «حمل الجمهور على السّنن المشهور». (٤)

__________________

(١) في نفح الطيب ٤ / ٢٤٨ ـ ٢٥١ : وصف لهذه النسخة التي أرسلها ابن الخطيب لتوقف بخانقاه سعيد السعداء ، والتي لا تزال قطعة منها في مكتبة رواق المغاربة من جامع الأزهر الشريف.

ومن الطريف أن ابن أبي حجلة السابق الذكر ، والذي عارض ابن الخطيب كتابه ؛ هو الذي كان يتولى نظارة خانقاه سعيد السعداء في هذا الوقت. وانظر نفح الطيب أيضا ٤ / ٢٨٥.

(٢) والخانقاه ، بالكاف ، وبالقاف ، (Khangah) وترسم «خانكه» أيضا : مسكن للصوفية المنقطعين للعبادة ، والأعمال الصالحة. وهذه الخانقاه كانت دارا للأستاذ قنبر ، أو «عنبر» ، أحد خدام القصر أيام الفاطميين ، وكان يلقب بسعيد السعداء.

وقد خصصها صلاح الدين الأيوبي سنة ٥٦٩ للفقراء الصوفية الورادين من البلاد الشاسعة ، وجعل لها أوقافا ، ولذلك تعرف أيضا بالخانقاه الصالحية ؛ وهي أول خانقاه عملت بمصر.

انظر خطط المقريزي ٤ / ٢٧٣ ـ ٢٧٥ ، كنوز الذهب في تاريخ حلب (مخطوط ٨٣٧ تاريخ تيمور) F ـ ـ ـ Steingass ,Pers.Engl.Dict.

(٣) ذكره في نفح الطيب ٤ / ٢٤٤ في عداد مؤلفات ابن الخطيب.

(٤) ذكره في النفح أيضا ٤ / ٢٤٤.

١٦٤

والإكباب على اختصار كتاب «التّاج» (١) للجوهري ، (٢) وردّ حجمه إلى مقدار الخمس ، مع حفظ ترتبيه السّهل ؛ والله المعين على مشغلة تقطع بها هذه البرهة القريبة البداءة من التّتمّة ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

والمطلوب المثابرة على تعريف يصل من تلك السيادة والنبوّة ، إذ لا يتعذّر وجود قافل من حجّ ، أو لاحق بتلمسان. يبعثها السيد الشريف منها ؛ فالنفس شديدة التعطّش ، والقلوب قد بلغت ـ من الشّوق والاستطلاع ـ الحناجر.

والله أسأل أن يصون في البعد وديعتي منك لديه ، ويلبسك العافية ، ويخلّصك وإياي من الورطة ، ويحملنا أجمعين على الجادّة ، ويختم لنا بالسّعادة. والسّلام الكريم عودا على بدء ، ورحمة الله وبركاته ، من المحبّ المتشوّق ، الذّاكر الدّاعي ، ابن الخطيب. في الثاني من جمادى الأولى من عام تسعة وستّين وسبعمائة. انتهى.

فأجبته عن هذه المخاطبات ، وتفاديت من السّجع خشية القصور عن مساجلته ، فلم يكن شأوه يلحق. ونصّ الجواب :

سيّدي مجدا وعلوا ، وواحدي ذخرا مرجوا ، ومحلّ والدي برّا وحنوّا. ما زال الشوق ـ مذ نأت بي وبك الدار ، واستحكم بيننا البعاد ـ يرعي سمعي أنباءك ، ويخيّل إليّ من أيدي الرياح تناول رسائلك ، حتى ورد كتابك العزيز على استطلاع ، وعهد غير مضاع ، وودّ في أجناس وأنواع ، فنشر بقلبي ميت السّلو ، وحشر أنواع المسرّات ، وقدح للقائك زناد الأمل ، ومن الله أسأل الإمتاع بك قبل الفوت على ما يرضيك ، ويسني أمانيّ وأمانيك. وحيّيته تحيّة الهائم ، لمواقع الغمائم ، والمدلج ، (٣)

__________________

(١) هو كتاب «تاج اللغة ، وصحاح العربية» ، وقد طبع ببولاق سنة ١٢٨٢ ه‍ ولم يذكر صاحب نفح الطيب هذا المختصر ـ الذي يتحدث عنه ابن الخطيب هنا ـ بين مؤلفات ابن الخطيب.

(٢) هو أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري المتوفى سنة ٣٦٣ أو ٤٠٠. شافه العرب العاربة في ديارهم بالبادية ، بعد ما درس اللغة بالعراق رواية ودراية ، ثم التزم ذكر الصحيح مما سمع ، فكتب «الصحاح».

وهو لهذا كله لا يزال يتبوأ المكانة الأولى بين معاجم العربية.

انظر البغية ص ١٩٥ ، تاج العروس ١ / ٢١ ، ٢٣.

(٣) أدلج : سار الليل كله.

١٦٥

للصباح المتبلّج (١) وأملّ على مقترح الأولياء ، خصوصا فيك ؛ من اطمئنان الحال ، وحسن القرار ، وذهاب الهواجس ، وسكون النفرة ، وعموما في الدولة ، من رسوخ القدم ، وهبوب ريح النصر ، والظهور على عدو الله ، باسترجاع الحصون التي استنقذوها (٢) في اعتلال الدولة ، وتخريب المعاقل التي هي قواعد النصرانية ، غريبة لا تثبت إلا في الحلم ، وآية من آيات الله. وإنّ خبيئة هذا الفتح في طيّ العصور السابقة ، إلى هذه المدّة الكريمة ، لدليل على عناية الله بتلك الذّات الشريفة ، حين ظهرت على يدها خوارق العادة ، وما تجدّد آخر الأيام من معجزات الملّة ، ولكم فيها ـ والحمد لله ـ بحسن التدبير ، ويمن النّقيبة ، (٣) من حميد الأثر ، وخالد الذكر ، طراز (٤) في حلّة الخلافة النّصرية ، وتاج في مفرق الوزارة. كتبها الله لكم فيما يرضاه من عباده.

ووقفت عليه الأشراف من أهل ذا القطر المحروس ؛ وأذعته في الملأ سرورا بعزّ الإسلام ، وإظهارا لنعمة الله ، واستطرادا لذكر الدولة المولويّة بما تستحقّه من طيب الثناء ، والتماس الدعاء ، والحديث بنعمتها ، والإشادة بفضلها على الدول السالفة والخالفة وتقدّمها ، فانشرحت الصّدور حباء (٥) وامتلأت القلوب إجلالا وتعظيما ، وحسنت الآثار اعتقادا ودعاء.

وكان كتاب سيّدي لشرف تلك الدولة عنوانا ، ولما عساه يستعجم من لغتي في مناقبها ترجمانا (٦) ؛ زاده الله من فضله ، وأمتع المسلمين ببقائه. وبثثته (٧)

__________________

(١) تبلج الصبح : أسفر وأضاء ؛ وصبح أبلج : مشرق مضيء.

(٢) استنقذوها : أنقذوها ، وخلصوها.

(٣) يقال : رجل ميمون النقيبة ؛ أي منجح الفعال ، مظفّر المطالب.

(٤) الطراز : ما ينسج من الثباب للسلطان ، وعلم الثوب.

(٥) حابى الرجل حباء : نصره ، واختصه ، ومال إليه.

(٦) ترجمان : بفتح التاء والجيم ، وضم التاء والجيم ، وفتح التاء وضم الجيم.

(٧) وبثثته ؛ هو معطوف على قوله قبل : «وحييته تحية الهائم». وبالأصول : «وبثته» بالإدغام ؛ ولعله تحريف.

١٦٦

شكوى الغريب ، من السوق المزعج ، والحيرة التي تكاد تذهب بالنفس أسفا ، للتجافي عن مهاد الأمن ، والتقويض عن دار العزّ ، بين المولى المنعم ، والسيد الكريم ، والبلد الطيب ، والإخوان البررة ، [ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير]. (١) وإن تشوّفت السيادة الكريمة إلى الحال ، فعلى ما علمتم ، سيرا مع الأمل ، ومغالبة للأيام على الحظّ ، وإقطاعا للغفلة جانب العمر :

هل نافعي والجدّ في صبب

مرّي مع الآمال في صعد

رجع الله بنا إليه. ولعلّ في عظتكم النافعة ، شفاء هذا الدّاء العياء إن شاء الله ، على أنّ لطف الله مصاحب ، وجوار هذه الرياسة المزنية ـ وحسبك بها علمية ـ عصمة وافية (٢) صرفت وجه القصد إلى ذخيرتي التي كنت أعتدّها منهم كما علمتم ، على حين تفاقم الخطب ، وتلوّن الدهر ، والإفلات من مظانّ النّكبة ، وقد رتعت (٣) حولها ، بعد ما جرّته الحادثة بمهلك السّلطان المرحوم على يد ابن عمّه ، قريعه في الملك ، وقسيمه في النّسب ، والتياث الجاه ، (٤) وتغيّر السّلطان ، واعتقال الأخ المخلّف ، واليأس منه ، لو لا تكييف الله في نجائه ، (٥) والعيث بعده في المنزل والولد ، واغتصاب الضيّاع (٦) المقتناة من بقايا ما متّعت به الدولة النّصرية ـ أبقاها الله ـ من النّعمة ؛ فآوى إلى الوكر ، (٧) وساهم في الحادث ، وأشرك في الجاه والمال ، وأعان على نوائب الدهر ، وطلب الوتر ، (٨) حتى رأى الدّهر مكاني ، وأمّل

__________________

(١) آية ١٨٨ من سورة الأعراف.

(٢) وافية : بالغة تمام الكمال.

(٣) طفت بها ، ودرت حولها ؛ وفي الحديث : «إنه من يرتع حول الحمى يوشك أن يخالطه».

(٤) التاث : تلطخ ؛ والتياث : عطف على «ما جرته».

(٥) النجاء : النجاة ، وهو المصدر الممدود لنجا ، والمقصور نجاة.

(٦) جمع ضيعة ؛ وهي العقار.

(٧) وكر الطائر : عشه ، والكلام على التشبيه.

(٨) طلب الثأر.

١٦٧

الملوك استخلاصي ، وتجاروا في إتحافي. والله المخلّص من عقال الآمال ، والمرشد إلى نبذ هذه الحظوظ المورّطة.

وأنبأني سيّدي بما صدر عنه من التصانيف الغريبة ، والرسائل البليغة ، في هذه الفتوحات الجليلة ، وبودّي لو وقع الإتحاف بها أو بعضها ، فلقد عاودني النّدم على ما فرّطت.

وأما أخبار هذا القطر فلا زيادة على ما علمتم ، من استقرار السّلطان أبي إسحق ابن السّلطان أبي يحيى (١) بتونس مستبدا بأمره بالحضرة بعد مهلك شيخ الموحدين أبي محمد بن تافراكين القائم بأمره ، رحمة الله عليه ، مضايقا في جبابة الوطن ، وأحكامه بالعرب المستظهرين بدعوته ، مصانعا لهم بوفره على أمان الرّعايا والسابلة ، (٢) لو أمكن ، حسن السياسة جهد الوقت ، ومن انتظام بجاية محل دولتنا في أمر صاحب قسنطينة وبونة ، غلابا كما علمتم ، محمّلا الدولة بصرامته وقوة شكيمته فوق طوقها ، من الاستبداد والضرب على أيدي المستغلّين من الأعراب ، منتقض الطاعة أكثر أوقاته لذلك ، إلا ما شمل البلاد من تغلّب العرب ، ونقص الأرض من الأطراف والوسط ، وخمود ذبال الدول في كل جهة ، وكلّ بداية فإلى تمام.

وأما أخبار المغرب الأقصى والأدنى فلديكم طلعه ، (٣) وأما المشرق فأخبار الحاجّ هذه السنة من اختلاله ، وانتقاض سلطانه ، وانتزاء الجفاة على كرسيّه ، وفساد المصانع والسّقايات المعدّة لوفد الله وحاجّ بيته ، ما يسخن العين ويطيل البثّ ، حتى لزعموا أن الهيعة (٤) اتّصلت بالقاهرة أياما ، وكثر الهرج (٥) في طرقاتها وأسواقها ،

__________________

(١) انظر العبر ٦ / ٣٧٣ وما بعدها.

(٢) السابلة : الطريق.

(٣) يقال أطلعته طلعى ؛ أي أبثثته سرى.

(٤) الهيعة : كل ما أفزعك من صوت ؛ والصوت الشديد.

(٥) الهرج : الفتنة والاختلاط.

١٦٨

لما وقع بين أسندمر (١) المتغلّب بعد يلبغا (٢) الخاسكي ، وبين سلطانه ظاهر القلعة ، من الجولة التي كانت دائرتها عليه ، أجلت عن زهاء الخمسمائة قتلى ، من حاشية وموالي يلبغا ، وتقبّض على الباقين ، فأودع منهم السجون ، وصلب الكثير ، وقتل أسندمر في محبسه ، وألقي زمام الدولة بيد كبير من موالي السّلطان ، فقام بها مستبدا ، وقادها مستقلا ، وبيد الله تصاريف الأمور ، ومظاهر الغيوب ، جلّ وعلا.

ورغبتي من سيدي ـ أبقاه الله ـ أن لا يغبّ خطابه عني ، متى أمكن ، يصل بذلك مننه الجمّة ، وأن يقبّل عنّي أقدام تلك الذات المولوية ، ويعرّفه بما عندي من التشيّع لسلطانه ، والشكر لنعمته ، وأن تنهوا عني لحاشيته وأهل اختصاصه ، التحية ، المختلسة من أنفاس الرياض ، كبيرهم وصغيرهم.

وقد تأدّى مني إلى حضرته الكريمة خطاب على يد الحاجّ نافع ـ سلّمه الله ـ تناوله من الأخ يحيى عند لقائه إياه بتلمسان ، بحضرة السّلطان أبي حمّو ـ أيّده الله ـ فربّما يصل ، وسيّدي يوضّح من ثنائي ودعائي ما عجز عنه الكتاب. والله يبقيكم ذخرا للمسلمين ، وملاذا للآملين بفضله. والسلام عليكم وعلى من لاذ بكم من السادة الأولاد المناجيب ، والأهل والحاشية والأصحاب ، من المحبّ فيكم ، المعتدّ بكم شيعة فضلكم ، ابن خلدون ، ورحمة الله وبركاته.

عنوانه : سيدي وعمادي ، وربّ الصنائع والأيادي ، والفضائل الكريمة الخواتم والمبادي ، إمام الأمة ، علم الأئمة ، تاج الملّة ، فخر العلماء الجلّة ، عماد الإسلام ، مصطفى الملوك الكرام ، نكتة الدول ، كافل الإمامة ، تاج الدول ، أثير الله ، وليّ أمير المسلمين الغني بالله ـ أيّده الله ـ الوزير أبو عبد الله بن الخطيب ، أبقاه الله ، وتولّى

__________________

(١) في الأصلين ، ش : سندمر بدون ألف في أوله ؛ وهو الأمير الدوادار الكبير في دولة الأشرف ، كان دويدارا عند يلبغا الناصري ثم ثار عليه. مات بالإسكندرية سنة ٧٦٩. ترجمته في الدرر الكامنة ١ / ٥٣٨٦ وانظر ثورته في العبر ٥ / ٤٥٦ ـ ٧٤٥٧.

(٢) يلبغا بن عبد الله الخاصكي (الخاسكي) نسبه إلى خواص السّلطان ؛ ورأيت مجظ بدر الدين العيني في «عقد الجمان» (سنة ٨٠٢ ضبطه بضم الياء ، والباء وبينهما لام ساكنة ، تقدمت ترجمته في ص ٤٧. وانظر العبر ٥ / ٤٥٢ ـ ٤٥٣ ؛ حيث القول المفصل في ثورته هذه.

١٦٩

عن المسلمين جزاءه.

وكتب إلي من غرناطة :

يا سيّدي ووليّي ، وأخي ومحلّ ولدي! كان الله لكم حيث كنتم ، ولا أعدمكم لطفه وعنايته. لو كان مستقرّكم بحيث يتأتّى لي إليه ترديد رسول ، أو إيفاد متطلّع ، أو توجيه نائب ، لرجعت على نفسي باللائمة في إغفال حقّكم ، ولكنّ العذر ما علمتم ، واحمدوا الله على الاستقرار في كهف ذلك الفاضل الذي وسعكم كنفه. وشملكم فضله شكر الله حسبه الذي لم يخلف ، وشهرته التي لم تكذب.

وإنّي اغتنمت سفر هذا الشيخ ، وافد الحرمين بمجموع الفتوح ، (١) في إيصال كتابي هذا ، وبودّي لو وقفتم على ما لديه من البضاعة التي أنتم رئيسها وصدرها ، فيكون لكم في ذلك بعض أنس ، وربّما تأدّى ذلك في بعضه ممّا لم يختم عليه ، وظاهر الأمور نحيل عليه في تعريفكم بها ، وأما البواطن فممّا لا يتأتّى كثرة وضنانة ، وأخصّ ، بالصاد ، ما أظن تشوّفكم إليه حالي. فاعلوا أنّي قد بلغ بي الماء الزّبى ، (٢) واستولى علي سوء المزاج المنحرف ، وتوالت الأمراض ، وأعوز العلاج ، لبقاء السبب ، والعجز عن دفعه. وهي هذه المداخلة جعل الله العاقبة فيها إلى خير ؛ ولم أترك وجها من وجوه الحيلة إلا بذلته. فما أغنى ذلك عنّي شيئا ، ولو لا أنني بعدكم شغلت الفكر بهذر التأليف ، مع الزّهد ، وبعد العهد ، وعدم الإلماع بمطالعة الكتب ، لم يتمشّ حالي من طريق فساد الفكر إلى هذا الحد ، وآخر ما صدر عنّي كنّاش (٣) سميته

__________________

(١) كانت عادتهم أن يبعثوا بأخبار فتوحهم ، وتوسعاتهم التي تحصل في كل سنة ، وفي عهد كل ملك ، يبعثون بها إلى الملوك المعاصرين عامة ، وإلى الحرم النبوي بوجه خاص. وإلى هذا يشير ابن الخطيب.

(٢) الزبى : جمع زبية ؛ وهي الرابية التي لا يعلوها الماء ، فإذا بلغها السيل كان جارفا مجحفا. وهو مثل يضرب للشيء يتجاوز الحد ويتفاقم. مجمع الأمثال ١ / ٦٠ ، لسان (زبى).

(٣) الكناش : الدفتر تقيد فيه الفوائد والشوارد للضبط ، يستعمله المغاربة كثيرا إلى اليوم. وانظر تاج العروس ٤ / ٣٤٧.

١٧٠

باستنزال اللطف الموجود ، في أسر الوجود. (١) أمليته في هذه الأيام التي أقيم بها رسم النيابة عن السّلطان في سفره إلى الجهاد. بودّي لو وقفتم عليه. وعلى كتابي في المحبّة ، وعسى الله أن ييسّر ذلك.

ومع هذا كلّه. والله ما قصرت في الحرص على إيصال مكتوب إليكم. إما من جهة أخيكم ، أو من جهة السيّد الشّريف أبي عبد الله. حتى من المغرب إذا سمعت الرّكب يتوجّه منه فلا أدري هل بلغكم شيء من ذلك أم لا. والأحوال كلّها على ما تركتموها عليه. وأحبابكم بخير ، على ما علمتم من الشوق والتشوف والارتماض (٢) لمفارقتكم. ولا حول ولا قوّة إلا بالله.

والله يحفظكم ، ويكون لكم ، ويتولّى أموركم ، والسلام عليكم ورحمة الله. من المحبّ الواحش الشّيخ ابن الخطيب. في غرة ربيع الثاني من عام أحد وسبعين وسبعمائة.

وبباطنه مدرجة نصّها :

سيّدي رضي الله عنكم. استقرّ بتلمسان ، في سبيل تقلّب ومطاوعة مزاج تعرفونه. صاحبنا المقدّم في صنعة الطب أبو عبد الله الشّقوري. فإن اتّصل بكم فأعينوه على ما يقف عليه اختياره وهذا لا يحتاج معه إلى مثلكم. (٣)

عنوانه : سيّدي ومحلّ أخي. الفقيه الجليل. الصدر الكبير المعظم ، الرئيس الحاجب ، العالم الفاضل ، الوزير ابن خلدون. وصل الله سعده ، وحرس مجده ، بمنّه.

وإنما طولت بذكر هذه المخاطبات ، وإن كانت ، فيما يظهر ، خارجة عن غرض الكتاب. لأن فيها كثيرا من أخباري. وشرح حالي. فيستوفي ذلك منها من يتشوف إليه من المطالعين للكتاب.

__________________

(١) ذكره المقري في نفح الطيب ٤ / ٢٤٤ ، بين مؤلفات ابن الخطيب بهذا العنوان : «استنزال اللطف الموجود ، في سر الوجود».

(٢) الحزن لمفارقتكم.

(٣) كذا في الأصول ؛ والمراد أن ما يختاره لا يحتاج في اختياره إلى مثلكم.

١٧١

ثم إن السّلطان أبا حمّو لم يزل معتملا في الإجلاب على بجاية. واستئلاف قبائل رياح (١) لذلك ، ومعوّلا على مشايعتي فيه ، ووصل يده مع ذلك بالسّلطان أبي إسحاق ابن السّلطان أبي بكر صاحب تونس من بني أبي حفص ، لما كان بينه وبين أبي العباس (٢) صاحب بجاية وقسنطينة ، وهو ابن أخيه ، من العداوة التي تقتضيها مقاسمة النسب والملك ، وكان يوفد رسله عليه في كل وقت ، ويمرون بي ، وأنا ببسكرة ، فأؤكد الوصلة (٣) بمخاطبة كل منهما ، وكان أبو زيّان (٤) ابن عم السّلطان أبي حمّو بعد إجفاله عن بجاية ، واختلال معسكره ، قد سار في أثره إلى تلمسان ، وأجلب على نواحيها ، فلم يظفر بشيء ، وعاد إلى بلاد حصين ، فأقام بينهم ، واشتملوا عليه ، ونجم (٥) النفاق في سائر أعمال المغرب الأوسط ، واختلف أحياء زغبة على السّلطان ، وانتبذ الكثير عنه إلى القفر. ولم يزل يستألفهم حتى اجتمع له الكثير منهم ، فخرج في عساكره في منتصف تسع وستين (٦) إلى حصين وأبي زيّان ، واعتصموا بجبل تيطري ، (٧) وبعث إليّ في استنفار الدّواودة للأخذ بحجزتهم (٨) من جهة الصحراء ، وكتب يستدعي أشياخهم : يعقوب بن علي كبير

__________________

(١) هم من أعز قبائل بني هلال ، وأكثرهم جمعا. وقد أطال ابن خلدون القول في قبائل رياح ، وما كان لها من الأحداث في المغرب في العبر ٦ / ٣١ ـ ٤٠.

(٢) هو أبو العباس بن أبي عبد الله بن أبي بكر. انظر بعض أخباره في العبر ٦ / ٣٦٩ ـ ٣٧٠.

(٣) الوصلة (بالضم) : الاتصال ، وكل ما اتصل بشيء ، فالذي بينهما وصلة.

(٤) أبو زيان ؛ هو محمد بن السّلطان أبي سعيد عثمان بن عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن.

وانظر أخباره في العبر ٧ / ١٢٥ ـ ١٣٩ ، وبغية الرواد ٢ / ١٨٤ ، ١٨٥ ، والاستقصا ٢ / ١٣٨ وما بعدها.

(٥) نجم : طلع وظهر.

(٦) انظر تفصيل هذه الحوادث في بغية الرواد ٢ / ١٩٩ سنة ٧٦٩.

(٧) هو جبل أشير الذي كانت فيه المدينة (أشير) ؛ وقد بنى زيرى بن مناد الضنهاجي ، حيث أسس مدينة أشير ، في هذا الجبل حصنا حصينا ، وصفه يحيى بن خلدون في بغية الرواد ٢ / ١٨٥ بقوله :

«معقل تيطرى المشهور الحصانة ، الآخذ من الصحراء والتل ، والمزاحم بمناكبه السحاب». وانظر العبر ٦ / ٦٤.

(٨) الحجزة «بالضم» : معقد الإزار.

١٧٢

أولاد محمد ، وعثمان بن يوسف كبير أولاد سباع بن يحيى. وكتب إلى ابن مزنى قعيدة وطنهم بإمدادهم في ذلك ، فأمدّهم ، وسرنا مغرّبين إليه ، حتى نزلنا القطفا قبلة تيطري ، وقد أحاط السّلطان به من جانب التل ، على أنه إذا فرغ من شأنهم سار معنا إلى بجاية وبلغ الخبر إلى صاحب بجاية أبي العباس ، فاستألف من بقي من قبائل رياح ، وعسكر بطرف ثنية القصاب المفضية إلى المسيلة. وبينما نحن على ذلك اجتمع المخالفون من زغبة ، وهم خالد بن عامر كبير بني عامر وأولاد عريف كبراء سويد ، ونهضوا إلينا بمكاننا من القطفا ، فأجفلت أحياء الدّواودة ، وتأخرنا إلى المسيلة ، ثم إلى الزّاب. وسارت زغبة إلى تيطري ، واجتمعوا مع أبي زيّان وحصين ، وهجموا على معسكر السّلطان أبي حمّو ففلّوه ورجع منهزما إلى تلمسان. ولم يزل من بعد ذلك على استئلاف زعبة ورياح يؤمّل الظّفر بوطنه وابن عمّه ، والكرّة على بجاية عاما فعاما ، وأنا على حالي في مشايعته ، وإيلاف ما بينه وبين الدّواودة ، والسّلطان أبي إسحاق صاحب تونس ، وابنه خالد من بعده. ثم دخلت زغبة في طاعته ، واجتمعوا على خدمته ، ونهض من تلمسان لشفاء نفسه من حصين وبجاية ، وذلك في أخريات إحدى وسبعين ، فوفدت عليه بطائفة من الدّواودة أولاد عثمان بن يوسف بن سليمان لنشارف أحواله ، ونطالعه بما يرسم لهم في خدمته ، فلقيناه بالبطحاء ، وضرب لنا موعدا بالجزائر ، انصرف به العرب إلى أهليهم ، وتخلّفت بعدهم لقضاء بعض الأغراض واللحاق بهم ، وصلّيت به عيد الفطر على البطحاء ، وخطبت به ، وأنشدته عند انصرافه من المصلّى أهنيه بالعيد ، وأحرّضه :

هذي الديار فحيّهنّ صباحا

وقف المطايا (١) بينهنّ طلاحا(٢)

لا تسأل الأطلال إن لم تروها

عبرات عينك واكفا ممتاحا

__________________

(١) جمع مطية : وهي الناقة أو البعير يمتطي ظهره.

(٢) جمع طلح «بالكسر» : وهي الناقة أضمرها الكلال ، وأجهدها الإعياء من طول السفر.

١٧٣

فلقد أخذن على جفونك موثقا

أن لا يرين مع البعاد شحاحا

إيه عن الحيّ الجميع وربّما

طرب الفؤاد لذكرهم فارتاحا

ومنازل للظّاعنين استعجمت

حزنا وكانت بالسّرور فصاحا

وهي طويلة ، ولم يبق في حفظي منها إلا هذا.

وبينما نحن في ذلك ، بلغ الخبر بأن السّلطان عبد العزيز (١) صاحب المغرب الأقصى من بني مرين ، قد استولى على جبل عامر بن محمد الهنتاتي بمراكش ، وكان آخذا بمخنّقه (٢) منذ حول ، وساقه إلى فاس فقتله بالعذاب ، وأنه عازم على النهوض إلى تلمسان ، لما سلف من السّلطان أبي حمّو أثناء حصار السّلطان عبد العزيز لعامر في جبله ، من الإجلاب على ثغور المغرب ، ولحين وصول هذا الخبر ؛ أضرب السّلطان أبو حمّو عن ذلك الشأن الذي كان فيه ، وكرّ راجعا إلى تلمسان. وأخذ في أسباب الخروج إلى الصحراء ، مع شيعة بني عامر من أحياء زغبة ، فاستألف ، وجمع ، وشدّ الرّحال ، وقضى عيد الأضحى ، وطلبت منه الإذن في الانصراف إلى الأندلس ، لتعذّر الوجهة إلى بلاد رياح ، وقد أظلم الجوّ بالفتنة ، وانقطعت السّبل ، فأذن لي ، وحمّلني رسالة فيما بينه وبين السّلطان ابن الأحمر. وانصرفت إلى المرسى بهنين ؛ وجاءه الخبر بنزول صاحب لمغرب تازا في عساكره ، فأجفل بعده من تلمسان ، ذاهبا إلى الصحراء عن طريق البطحاء. وتعذّر عليّ ركوب البحر من هنين فأقصرت ، وتأدّى الخبر إلى السّلطان عبد العزيز بأنّي مقيم بهنين ، وأن معي وديعة احتملتها إلى صاحب بالأندلس ، تخيّل ذلك بعض الغواة ، فكتب

__________________

(١) هو أبو فارس عبد العزيز بن أبي العباس بن أبي سالم المريني ولي سنة ٧٩٦ بعد وفاة أبيه أبي سالم ، وتوفي سنة ٧٩٩. انظر الاستقصا ٢ / ٨٤١ وما بعدها.

(٢) المخنق : موضع الخنق من العنق.

١٧٤

إلى السّلطان عبد العزيز فأنفذ من وقته سرية (١) من تازا (٢) تعترضني لاسترجاع تلك الوديعة ، واستمرّ هو إلى تلمسان ، ووافتني السرية بهنين وكشفوا الخبر فلم يقفوا على صحته ، وحملوني إلى السّلطان ، فلقيته قريبا من تلمسان ، واستكشفني عن ذلك الخبر ، فأعلمته بيقينه. وعنّفني على مفارقة دارهم ، فاعتذرت له بما كان من عمر بن عبد الله المستبدّ عليهم ، وشهد لي كبير مجلسه ، ووليّ أبيه وابن وليّه : ونزمار بن عريف ، ووزيره عمر بن مسعود بن منديل بن حمامة ، واحتفّت الألطاف. وسألني في ذلك المجلس عن أمر بجاية ، وأفهمني أنه يروم تملّكها. فهوّنت عليه السبيل إلى ذلك ، فسرّ به ، وأقمت تلك الليلة في الاعتقال. ثم أطلقني من الغد ، فعمدت إلى رباط الشيخ الولي أبي مدين ، ونزلت بجواره مؤثرا للتّخلّي والانقطاع للعلم لو تركت له.

__________________

(١) السرية : قطعة من الجيش. ويقال : خير السرايا أربع مئة.

(٢) تازا (تازة) Taza) عرضها الشمالي ٤ ـ ٣٤ ، وطولها الغربي ٤) : مدينة في المغرب الأقصى ، تبعد عن فاس نحو الشرق ١٢٧ كيلو مترا ؛ وهي إحدى المدن الحربية القديمة بالمغرب ؛ أسست قبل الفتح الإسلامي بكثير. ولمكانتها الحربية اتخذها الحسن بن إدريس الثاني مقرّا حربيا ، وعنى بها عبد المؤمن الموحدي فجعلها حصنا مانعا ، وفي أيام المرنيين اتخذها أبو يعقوب المريني عاصمته ، وقاعدة لغزو تلمسان ، ولا تزال حتى اليوم مركزا حربيا يحسب له حسابه. وقد نسب إلى تازا علماء كثير. انظر تاج العروس ٤ / ١٢.

١٧٥

مشايعة السّلطان عبد العزيز صاحب المغرب

على بني عبد الواد

ولما دخل السّلطان عبد العزيز تلمسان ، واستولى عليها ، وبلغ خبره إلى أبي حمّو وهو بالبطحاء ، فأجفل من هنالك ، وخرج في قومه وشيعته من بني عامر ، ذاهبا إلى بلاد رياح ، فسرّح السّلطان وزيره أبا بكر بن غازي في العساكر لاتباعه. (١) وجمع عليه أحياء زغبة والمعقل باستئلاف وليّه ونزمار (٢) وتدبيره ؛ ثم أعمل السّلطان نظره ورأى أن يقدّمني أمامه إلى بلاد رياح لأوطّد أمره ، وأحملهم على مناصرته ، وشفاء نفسه من عدوّه ، بما كان السّلطان آنس منّي من استتباع رياح ، وتصريفهم فيما أريده من مذاهب الطاعة ، فاستدعاني من خلوتي بالعبّاد عند رباط الوليّ أبي مدين. (٣) وأنا قد أخذت في تدريس العلم ، واعتزمت على الانقطاع ، فآنسني ، وقرّبني ، ودعاني إلى ما ذهب إليه من ذلك فلم يسعني إلا إجابته ، وخلع عليّ ، وحملني ، وكتب إلى شيوخ الدّواودة بامتثال ما ألقيه إليهم من أوامره. وكتب إلى يعقوب بن علي ، وابن مزنى بمساعدتي على ذلك ، وأن يحاولوا على استخلاص أبي حمّو من بين أحياء بني عامر ، ويحولوه إلى حي يعقوب بن علي ؛ فودعته وانصرفت في عاشوراء اثنين وسبعين ، فلحقت الوزير في عساكره وأحياء العرب من المعقل وزغبة على البطحاء. ولقيته ، ودفعت إليه كتاب السّلطان ، وتقدّمت أمامه. وشيّعني ونزمار يومئذ ، وأوصاني بأخيه محمد. وقد كان أبو حمّو قبض عليه عندما أحسّ منهم بالخلاف ، وأنهم يرومون الرحلة إلى المغرب. وأخرجه معه من تلمسان مقيدا ، واحتمله في معسكره ، فأكد عليّ ونزمار يومئذ في المحاولة على استخلاصه بما

__________________

(١) ذكرت هذه الأحداث مفصلة في العبر ٧ / ٣٢٩ وما بعدها.

(٢) هو الشيخ أبو يعقوب ونزمار بن عريف بن يحيى. كان ولي بني مرين فعهدوا إليه بمنصب الشوار ، والوزارة. وجاءت أخباره متفرقة في العبر ٧ / ٣٢٩ ، ٣٣٠ وما بعدها.

(٣) أبو مدين : شعيب بن الحسن الأندلسي. صوفي شهير ، يعرف بأبي مدين الغوث. له ترجمة مطولة في البستان ص ١٠٨ ـ ١١٤ ، وجذوة الاقتباس ص ٣٣٢ ، أحمد بابا ص ١٢٧.

١٧٦

أمكن. وبعث معي ابن أخيه عيسى في جماعة من سويد يبذرق (١) بي ويتقدم إلى أحياء حصين بإخراج أبي زيّان من بينهم ، فسرنا جميعا ، وانتهينا إلى أحياء حصين ، وأخبرهم فرح بن عيسى بوصية عمّه ونزمار إليهم ، فنبذوا إلى أبي زيّان عهده ، وبعثوا معه منهم من أوصله إلى بلاد رياح ، ونزل على أولاد يحيى بن علي بن سباع ، وتوغّلوا به في القفر ، واستمريت أنا ذاهبا إلى بلاد رياح ؛ فلما انتهيت إلى المسيلة (٢) ألفيت السّلطان أبا حمّو وأحياء رياح معسكرين قريبا منها في وطن أولاد سباع بن يحيى من الدّواودة ، وقد تساتلوا (٣) إليه ، وبذل فيهم العطاء ليجتمعوا إليه. فلمّا سمعوا بمكاني بالمسيلة ، جاؤوا إليّ فحملتهم على طاعة السّلطان عبد العزيز ، وأوفدت أعيانهم وشيوخهم على الوزير أبي بكر بن غازي ، فلقوه ببلاد الدّيالم عند نهر واصل ، فأتوه طاعتهم ، ودعوه إلى دخول بلادهم في اتباع عدوه ، ونهض معهم ، وتقدّمت أنا من المسيلة إلى بسكرة ، فلقيت بها يعقوب بن علي. واتفق هو وابن مزنى على طاعة السّلطان ، وبعث ابنه محمّدا للقاء أبي حمّو وأمير بني عامر خالد بن عامر ، يدعوهم إلى نزول وطنه ، والبعد به عن بلاد السّلطان عبد العزيز ، فوجده متدلّيا من المسيلة إلى الصّحراء. ولقيه على الدّوسن (٤) وبات ليلته يعرض عليهم التحول من وطن أولاد سباع إلى وطنهم بشرقيّ الزّاب. وأصبح يومه كذلك ، فما راعهم آخر النّهار إلا انتشار العجاج خارجا إليهم من أفواه الثّنية ، فركبوا يستشرفون ، وإذا بهوادي الخيل طالعة من الثّنية ، وعساكر بني مرين والمعقل وزغبة

__________________

(١) البذرقة ، بالذال المعجمة ، وبالمهملة أيضا : الخفارة ؛ والمبذرق : الخفير. وانظر ص ٥٦.

(٢) المسيلة ، بالفتح ثم الكسر ، والياء الساكنة بعدها لام : مدينة بالجزائر ؛ كانت تسمى بالمحمدية نسبة إلى أبي القاسم محمد بن المهدي الفاطمي «القائم» الذي اختطها سنة ٣١٥. وهي واقعة شمال شط الحضنةChott el Hodna ، بعيدة عنه بنحو ٣٨ كيلومترا ؛ وفي الشرق ، إلى الجنوب قليلا ، من مدينة أشيرAchir ، وبينهما نحو ٨٧ كيلومترا.

(٣) تساتل القوم : خرجوا متتابعين واحدا بعد واحد.

(٤) الدوسن ED ـ Dousen قرية من قرى الزاب تبعد ٦٠ كيلومترا إلى الجنوب الغربي من بسكرة.

انظر ترجمة بغية الرواد ٢ / ٢٩٥.

١٧٧

متتالية أمام الوزير أبي بكر بن غازي ، قد دلّ بهم الطريق وفد أولاد سباع الذين بعثتهم من المسيلة ؛ فلما أشرفوا على المخيّم ، أغاروا عليه مع غروب الشمس ، فأجفل بنو عامر ، وانتهب مخيّم السّلطان أبي حمّو ورحائله وأمواله. ونجا بنفسه تحت الليل ، وتمزّق شمل ولده وحرمه ، حتى خلصوا إليه بعد أيام ، واجتمعوا بقصور مصاب (١) من بلاد الصحراء وامتلأت أيدي العساكر والعرب من نهابهم. وانطلق محمد بن عريف في تلك العيهة. أطلقه الموكلون به ، وجاء إلى الوزير وأخيه ونزمار ، وتلقّوه بما يجب له. وأقام الوزير أبو بكر بن غازي على الدّوسن أياما أراح فيها. وبعث إليه ابن مزنى بطاعته ، وأرغد له من الزاد والعلوفة ، (٢) وارتحل راجعا إلى المغرب ، وتخلّفت بعده أياما عند أهلي ببسكرة. ثم ارتحلت إلى السّلطان في وفد عظيم من الدّواودة ، يقدمهم أبو دينار (٣) أخو يعقوب بن علي ، وجماعة من أعيانهم ، فسابقنا الوزير إلى تلمسان ، وقدمنا على السّلطان ، فوسعنا من حبائه (٤) وتكرمته ، ونزله ما بعد العهد بمثله. ثم جاء من بعدنا الوزير أبو بكر بن غازي على الصحراء ، بعد أن مرّ بقصور بني عامر (٥) هنالك فخرّبها ، وكان يوم قدومه على السّلطان يوما مشهودا ، وأذن بعدها لوفود الدّواودة بالانصراف إلى بلادهم. وقد كان ينتظر بهم قدوم الوزير ، ووليّه ونزمار بن عريف ، فودّعوه ، وبالغ في الإحسان إليهم ، وانصرفوا إلى بلادهم. ثم أعمل نظره في إخراج أبي زيّان من بين أحياء الدّواودة لما خشي من رجوعه إلى حصين ، فوامرني

__________________

(١) رسمه على قاعدته ، التي قررها صدر المقدمة ، بصورة صاد وسطها زاي ، إشارة إلى أن الصادي تنطق مشمة بالزاي ؛ ومكان قصور مصاب جنوب المكان المسمى : Laghuat ، وشمال Ghardaia بالجزائر ، وأظن أنها كانت تقع على الوادي المسمى.W.Nessa

(٢) العلوفة (بالضم) : العلف.

(٣) هو أبو دينار يعقوب بن علي بن أحمد ؛ شيخ قبائل رياح. له في الأحداث السياسية بالمغرب في هذا العهد الآثار البعيدة المدى. انظر بغية الرواد ٢ / ٢٠١ ، ١١٣ ، والعبر ٧ / ٣٣٠.

(٤) الحباء (بالكسر) : العطاء.

(٥) كانت هذه القصور كما يفهم من حديث ابن خلدون عنها ـ بالصحراء ، في جهة القبلة من الجبل المسمّى بجبل راشد. وانظر العبر ٧ / ١٣٣ ، ٣٢٩.

١٧٨

في ذلك ، وأطلقني إليهم في محاولة انصرافه عنهم ، فانطلقت لذلك ؛ وكان أحياء حصين قد توجّسوا الخيفة من السّلطان وتنكّروا له ، وانصرفوا إلى أهلهم بعد مرجعهم من غزاتهممع الوزير ، وبادروا باستدعاء أبي زيّان من مكانه عند أولاد يحيى (١) بن علي ، وأنزلوه بينهم ، واشتملوا عليه ، وعادوا إلى الخلاف الذي كانوا عليه أيام أبي حمّو ، واشتعل المغرب الأوسط نارا. ونجم صبيّ من بيت الملك في مغراوة ، وهو حمزة ابن علي بن راشد (٢) ؛ فرّ من معسكر الوزير ابن غازي أيام مقامه عليها فاستولى على شلف ، وبلاد قومه. (٣) وبعث السّلطان وزيره عمر بن مسعود (٤) في العساكر لمنازلته ، وأعيا داؤه ، وانقطعت أنا ببسكرة ، وحال ذلك ما بيني وبين السّلطان إلا بالكتاب والرسالة. وبلغني في تلك الأيام وأنا ببسكرة مفر الوزير ابن الخطيب من الأندلس ، (٥) وقدومه على السّلطان بتلمسان ، توجّس الخيفة من سلطانه ، بما كان له من الاستبداد عليه ، وكثرة السّعاية من البطانة فيه ، فأعمل الرّحلة إلى الثغور المغربية لمطالعتها بإذن سلطانه ، فلما حاذى جبل الفتح (٦) قفل الفرضة ، (٧) دخل إلى الجبل ، وبيده عهد السّلطان عبد العزيز إلى القائد هنالك

__________________

(١) هم أولاد يحيى بن علي بن سباع من الدواودة. انظر العبر ٧ / ١٣٢.

(٢) هو حمزة بن علي بن راشد من آل ثابت بن منديل ؛ أمير من أمراء مقراوة. كان أبوه علي أميرا ، وجدّه راشد أميرا أيضا ؛ وحارب ملوك بني عبد الواد بني راشد هؤلاء وصالحوهم ؛ وكانت العلاقات بينهم لا تحسن إلا لتسوء من جديد. فثورة حمزة هذه ليست جديدة على هذا البيت. انظر العبر ٧ / ١٣٣ ، ٣٣٠ ، ٣٣١.

(٣) يريد بلاد مغراوة ، ويأتي قوله الصريح في هذا ، وانظر العبر ٧ / ٣٣٠.

(٤) هو عمر بن مسعود بن منديل بن حمامة. انظر العبر ٧ / ٣٣٠.

(٥) قد فصل ابن خلدون الحديث عن مفر ابن الخطيب ، وقدومه إلى تلمسان ، وبيّن الدواعي السياسية التي دفعته إلى الفرار في العبر ٨ / ٣٣٢ ـ ٣٣٦ ، ٧ / ٣٤١ ـ ٣٤٢.

(٦) يريد جبل طارق. وقد تقدم في ص ٨٢ ، ويسمى جبل الفتح ؛ سماه بذلك عبد المؤمن بن علي عاهل الدولة الموحدية ـ حين نزل به قاصدا بلاد الأندلس للجهاد. انظر المعجب للمراكشي ص ١٣٧ وسير النبلاء للذهبي نسخة أحمد الثالث ١٠ / ١٩١٠ أ: ورقة ٢٠٠ ظ ، في ترجمة عبد المؤمن.

(٧) فرضة البحر (بالضم) : محط السفن.

١٧٩

بقبوله. وأجاز البحر من حينه إلى سبتة ، وسار إلى السّلطان بتلمسان ، وقدم عليهما في يوم مشهود ، وتلقّاه السّلطان من الحظوة والتقريب وإدرار النّعم بما لا يعهد مثله. وكتب إليّ من تلمسان يعرّفني بخبره ، ويلمّ ببعض العتاب على ما بلغه من حديثي الأول بالأندلس. ولم يحضرني الآن كتابه ، فكان جوابي عنه ما نصّه :

الحمد لله ولا قوّة إلا بالله ، ولا رادّ لما قضاه الله.

يا سيدي ونعم الذّخر الأبدي ، والعروة الوثقى التي اعتلقتها يدي ، (١) أسلم عليكم سلام القدوم ، على المخدوم ، والخضوع ، للملك المتبوع ، لا بل أحيّيكم تحية المشوق ، للمعشوق ، والمدلج ، (٢) للصباح المتبلّج ، (٣) وأقرّر ما أنتم أعلم بصحيح عقدي في من حبّي لكم ، ومعرفتي بمقداركم ، وذهابي إلى أبعد الغايات في تعظيمكم ، والثّناء عليكم ، والإشادة في الآفاق بمنقاقبكم ، ديدنا (٤) معروفا ، وسجيّة (٥) راسخة ، يعلم الله وكفى به شهيدا ، وبهذا كما في علمكم قسما (٦) ما اختلف لي فيه أول وآخر ، ولا شاهد ولا غائب. وأنتم أعلم بما في نفسي ، وأكبر شهادة (٧) في خفايا ضميري. ولو كنت ذاك ، فقد سلف من حقوقكم ، وجميل أخذكم ، واجتلاب الحظّ ـ لو هيّأه القدر ـ بمساعيكم ، وإيثاري بالمكان من سلطانكم ، ودولتكم ، ما يستلين معاطف القلوب ، ويستل (٨) سخائم

__________________

(١) اعتلق الشيء ، وبه : أحبه ؛ كتعلقه ، وتعلق به.

(٢) أدلج : سار الليل كله ، أو جزءا منه.

(٣) تبلج الصبح : أسفر وأضاء.

(٤) الديدن : العادة.

(٥) السجية : الخلق.

(٦) الكلام على معنى : «وبهذا ، كما في علمكم ، أقسم قسما الخ».

(٧) الشهادة : الحضور ؛ وليس يبعد أن يكون أصل الكلام : «وأكبر شهادة بما في خفايا ضميري» ، فسقطت كلمة «بما» من الأصول.

(٨) استلان الشيء : ألانه. (أساس). ومعاطف القلوب : مثانيها ؛ ومن كلامهم : «رزقك الله عيشا تلين لك مثانيه ومعاطفه». يريد : أسديت إلي من خيرك ما من شأنه أن يصل إلى أعماق القلوب.

(وانظر اللسان (ثنى).

١٨٠