رحلة ابن خلدون

محمّد بن تاويت الطنجي

رحلة ابن خلدون

المؤلف:

محمّد بن تاويت الطنجي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: ارتياد الآفاق
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

١
٢

٣

٤

«... وأخبرني القاضي برهان الدين أن تيمور لنك سأله عنّي ، وهل سافرت مع عساكر مصر أو أقمت بالمدينة ، فأخبره بمقامي بالمدرسة حيث كنت ، وبتنا تلك الليلة على أهبة الخروج إليه ، فحدث بين بعض الناس تشاجر في المسجد الجامع ، وأذكر البعض ما وقع من الاستنامة إلى القول ، وبلغني الخبر من جوف الليل ، فخشيت البادرة على نفسي ، وبكرت سحرا إلى جماعة القضاة عند الباب ، وطلبت الخروج أو التدلي من السوّر ، لما حدث عندي من توهمات ذلك الخبر ، فأبوا عليّ أولا ، ثم أصخوا لي ، ودلّوني من السور ، فوجدت بطانته عند الباب ، ونائبه الذي عيّنه للولاية على دمشق ، واسمه شاه ملك ، من بني جفطاي أهل عصابته ، فحيّيتهم وحيّوني ، وفديت وفدّوني ، وقدّم لي شاه ملك ، مركوبا ، وبعث معي من بطانة السلّطان من أوصلني إليه.»

نص الرحلة ص

«ولما قرب سفر تيمور لنك واعتزم علم الرحيل عن الشام ، دخلت عليه ذات يوم ، فلما قضينا المعتاد ، التفت إليّ وقال : عندك بغلة هنا؟ قلت نعم ، قال حسنة؟ قلت نعم ، قال وتبيعها؟ فأنا أشتريها منك ، فقلت : أيدك الله! مثلي لا يبيع من مثلك ، أنّما أناءخدمك بها ، وبأمثالها لو كانت لي ، فقال : أنا أردت أن أكافئك عنها بالإحسان ، فقلت : وهل بقي إحسان وراء ما أحسنت به ، اصطنعتني ، وأحللتني من مجلسك محلّ خواصتك ، وقابلتني من الكرامة والخير بما أرجو الله أن يقابلك بمثله ، وسكت وسكت وحملت البغلة ـ وأنا معه في المجلس ـ إليه ، ولم أرها بعد.».

نص الرحلة ص

٥
٦

استهلال

تهدف هذه السّلسلة بعث واحد من أعرق ألوان الكتابة في ثقافتنا العربية ، من خلال تقديم كلاسيكيّات أدب الرّحلة ، إلى جانب الكشف عن نصوص مجهولة لكتاب ورحّالة عرب ومسلمين جابوا العالم ودوّنوا يوميّاتهم وانطباعاتهم ، ونقلوا صورا لما شاهدوه وخبروه في أقاليمه ، قريبة وبعيدة ، لاسيما في القرنين الماضيين اللذين شهدا ولادة الاهتمام بالتجربة الغربية لدى النّخب العربية المثقفة ، ومحاولة التعرّف على المجتمعات والنّاس في الغرب ، والواقع أنه لا يمكن عزل هذا الاهتمام العربي بالآخر عن ظاهرة الاستشراق والمستشرقين الذين ملؤوا دروب الشّرق ، ورسموا له صورا ستملأ مجلدات لا تحصى عددا ، خصوصا في اللغات الإنكليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية ، وذلك من موقعهم القوي على خارطة العالم والعلم ، ومن منطلق المستأثر بالأشياء ، والمتهيّئ لترويج صور عن «شرق ألف ليلة وليلة» تغذّي أذهان الغربيين ومخيّلاتهم ، وتمهّد الرأي العام ، تاليا ، للغزو الفكري والعسكري لهذا الشرق. ولعل حملة نابليون على مصر ، بكل تداعياتها العسكرية والفكرية في ثقافتنا العربية ، هي النموذج الأتمّ لذلك. فقد دخلت المطبعة العربية إلى مصر مقطورة وراء عربة المدفع الفرنسي

٧

لتؤسس للظاهرة الاستعمارية بوجهيها العسكري والفكري.

على أن الظّاهرة الغربية في قراءة الآخر وتأويله ، كانت دافعا ومحرضا بالنسبة إلى النخب العربية المثقفة التي وجدت نفسها في مواجهة صور غربيّة لمجتمعاتها جديدة عليها ، وهو ما استفز فيها العصب الحضاري ، لتجد نفسها تملك ، بدورها ، الدوافع والأسباب لتشدّ الرحال نحو الآخر ، بحثا واستكشافا ، وتعود ومعها ما تنقله وتعرضه وتقوله في حضارته ونمط عيشه وأوضاعه ، ضاربة بذلك الأمثال للناس ، ولينبعث في المجتمعات العربية ، وللمرة الأولى ، صراع فكري حاد تستقطب إليه القوى الحيّة في المجتمع بين مؤيد للغرب موال له ومتحمّس لأفكاره وصياغاته ، وبين معاد للغرب ، رافض له ، ومستعدّ لمقاتلته.

وإذا كان أدب الرحلة الغربي قد تمكن من تنميط الشرق والشرقيين ، عبر رسم صور دنيا لهم ، بواسطة مخيّلة جائعة إلى السّحري والأيروسيّ والعجائبيّ ، فإن أدب الرحلة العربي إلى الغرب والعالم ، كما سيتّضح من خلال نصوص هذه السلسلة ، ركّز ، أساسا ، على تتبع ملامح النهضة العلميّة والصناعيّة ، وتطوّر العمران ، ومظاهر العصرنة ممثلة في التطور الحادث في نمط العيش والبناء والاجتماع والحقوق. لقد انصرف الرّحالة العرب إلى تكحيل عيونهم بصور النهضة الحديثة في تلك المجتمعات ، مدفوعين ، غالبا ، بشغف البحث عن الجديد ، وبالرغبة العميقة الجارفة لا في الاستكشاف فقط ، من باب الفضول المعرفي ، وإنما ، أساسا ، من باب طلب العلم ، واستلهام التجارب ، ومحاولة الأخذ بمعطيات التطور الحديث ، واقتفاء أثر الآخر للخروج من حالة الشّلل الحضاريّ التي وجد العرب أنفسهم فريسة لها. هنا ، على هذا المنقلب ، نجد أحد المصادر الأساسية المؤسّسة للنظرة الشرقية المندهشة بالغرب وحضارته ، وهي نظرة المتطلّع إلى المدنيّة وحداثتها من

٨

موقعه الأدنى على هامش الحضارة الحديثة ، المتحسّر على ماضيه التليد ، والتّائق إلى العودة إلى قلب الفاعلية الحضارية.

إن أحد أهداف هذه السّلسلة من كتب الرحلات العربية إلى العالم ، هو الكشف عن طبيعة الوعي بالآخر الذي تشكّل عن طريق الرحلة ، والأفكار التي تسرّبت عبر سطور الرّحالة ، والانتباهات التي ميّزت نظرتهم إلى الدول والناس والأفكار. فأدب الرحلة ، على هذا الصعيد ، يشكّل ثروة معرفيّة كبيرة ، ومخزنا للقصص والظواهر والأفكار ، فضلا عن كونه مادة سرديّة مشوّقة تحتوي على الطريف والغريب والمدهش مما التقطته عيون تتجوّل وأنفس تنفعل بما ترى ، ووعي يلمّ بالأشياء ويحلّلها ويراقب الظواهر ويتفكّر بها.

أخيرا ، لابد من الإشارة إلى أن هذه السّلسلة التي قد تبلغ المائة كتاب من شأنها أن تؤسس ، وللمرة الأولى ، لمكتبة عربية مستقلّة مؤلّفة من نصوص ثريّة تكشف عن همّة العربيّ في ارتياد الآفاق ، واستعداده للمغامرة من باب نيل المعرفة مقرونة بالمتعة ، وهي إلى هذا وذاك تغطي المعمور في أربع جهات الأرض وفي قارّاته الخمس ، وتجمع إلى نشدان معرفة الآخر وعالمه ، البحث عن مكونات الذات الحضارية للعرب والمسلمين من خلال تلك الرحلات التي قام بها الأدباء والمفكرون والمتصوفة والحجاج والعلماء ، وغيرهم من الرّحالة العرب في أرجاء ديارهم العربية والإسلامية.

محمد أحمد خليفة السويدي

٩
١٠

المقدّمة

لم ينل كاتب في العربيّة ما ناله ابن خلدون من مكانة وشهرة ، ولم يحظ عالم في التاريخ والاجتماع بما حظي به هذا العلامة من قراءة وبحث وجدال حول أعماله ، لا سيّما مقدمته التي تجمع حركة الفكر العربيّ على اعتبارها فتحا فكريا وأساسا متقدما لعلم الاجتماع.

لكن هذا الكتاب لابن خلدون ، وهو عمل قائم في ذاته ، بالشكل الذي أراده له واضعه ، ظلّ طوال الوقت ملحقا بكتاب «العبر» ، ومتواريا في ظلّه المديد ، ولم تتبلور صورته كتابا مستقلا إلا بجهود العالم المغربي محمد ابن تاويت الطنجي المتوفى سنة ١٩٦٣ ، والذي صرف نحوا من عشر سنوات في تحقيقه ومقابلة مخطوطاته العديدة مع المصادر والمظانّ المعاصرة له والسابقة عليه ، بما في ذلك تعليق هوامشه التي يمكن أن نعدّها ، من دون مبالغة ، السّراج الذي أنار جوانب العمل ، وكشف غوامضه ، وربطه بالمحيط الثقافيّ لعصره وبالأصول المعرفية التي خرج منها ابن خلدون بفكره البصير.

ذكره المستشرق كارل بروكلمان في كتابه «تاريخ الأدب العربي» بصفته ترجمة ذاتية» Autobiographie «وجزءا من كتاب «العبر». واختلط عليه الأمر ، عندما ذكر الكتاب في مكان آخر معتبرا أنه لمؤلّف مجهول.

ولئن كان جزء من الكتاب بمثابة ترجمة شخصيّة ، فإن الجزء الأكبر منه

١١

عبارة عن رسائل ، ويوميات صاحب «المقدمة» خلال أسفاره ورحلاته المتكررة ما بين المغرب والأندلس ، ورحلته إلى المشرق العربي ، نحو مصر أولا ، فالجزيرة العربية لقضاء فريضة الحج ، ثم الحج إلى بيت المقدس ، وأخيرا رحلته المثيرة إلى دمشق أثناء غزو التتار للمدينة سنة ٨٠٣ ه‍ ١٤٠٠. وبالتالي فهو «تعريف» ـ سيرة ذاتية ، وكتاب «رحلة» معا. ظل صاحبه يضيف إليه ويبدّل في نسخه حتى أواخر أيام حياته. ومن هنا ، من كثرة الإضافة إلى النّسخ ، فضلا عن ارتباط الكتاب بكتاب آخر ، تسبب ابن خلدون لقرائه بتلك الحيرة من أمر الكتاب وهويّته المستقلّة.

ويتضمّن الكتاب أيضا ، أخبار تولّيه المناصب وعزله عنها في المشرق العربي ، وما لعبه من أدوار في السياسة والقضاء ، وما تضلّع به من أدوار في الوساطة بين سلاطين المشرق وسلاطين المغرب ، وبين أهل دمشق وتيمورلنك لأيام قبل وقوعها في قبضة التتار.

هناك من يصنف هذه الرحلة في عداد الرحلات الفهرسية التي يتوخى أصحابها من الترحال التعريف بالأعلام من علماء وشيوخ وسلاطين ورجالات دولة ، ومن بين هؤلاء الحسن الشاهدي في كتابه «ادب الرحلة بالمغرب في العصر المريني» المطبوع في الرباط سنة ١٩٩٠. ولا نتفق مع هذا الرأي ، فالرحلة تشمل ما هو أبعد من ذلك ، ويجوز أن ينطبق هذا التوصيف على مستوى منها ، خصوصا في القسم الأول الذي ضم مادونه ابن خلدون عن جولاته وأسفاره في المغرب ، وبين المغرب والأندلس.

II

فرغ ابن تاويت الطنجي من كتابة مقدّمة هذا الكتاب في ٦ رجب سنة ١٣٧٠ ه‍ ـ ١٢ أبريل سنة ١٩٥١ م في القاهرة ، وهي سنة طبع الكتاب ، ليقدّم للقارىء العربي المفتاح الأول لمعرفة شخصية ابن خلدون. وها هو يخرج الكتاب ، وللمرة الأولى ، كما أراده مؤلّفه أن يكون : كتابا مستقلا. ورغم أن أجزاء أساسية من هذا الأثر نشرت في القاهرة مرتين ، سنة ١٨٦٤ ، وسنة ١٩٠٦ ، إلا أن عمل ابن تاويت كان من الدقّة العلميّة والإشراق الفكري ، بحيث أعاد بناء الكتاب بناء جديدا ، استدرك معه كلّ التغييرات والإضافات والشّروح والملاحظات التي دوّنها ابن خلدون ، على مدار

١٢

سنوات ، ووزّعها على النّسخ المختلفة للكتاب ، وهي كثيرة ، فاختلفت باختلافها ، وتعدّدت بتعدّدها ، وكلّها تقع في باب استدراك العالم القلق فكره ، والمفكّر النّاقد ، الذي لا يستثني من ممارسته النقدية ، مراجعة نظرته الخاصّة وأحكامه وآراءه. ليأتي ابن تاويت فيمرّ عليها كلّها (النسخ واختلافاتها) مرور عالم متأنّ ، وباحث يتطلع إلى الأكمل ، فلا يرضى ، بدوره ، عن عمله حتى يراه أقرب في صياغته الأخيرة ، من الصورة التي ربّما طمح إليها ابن خلدون. لقد فحص ابن تاويت الاختلافات في النّسخ المختلفة من مخطوطات الكتاب فحصا دقيقا ، فثبّتها في مواضعها من نسخة أخيرة أراد لها أن تكون المرجع الجامع الذي لا جدال في اشتماله على كلّ ما نثره ابن خلدون هنا وهناك من جديد ومختلف في النّسخ التي نسخها بنفسه أو تلك التي أشرف على نسخها لتكون لهذا السلطان ، أو ذاك الأمير ، أو هذا العالم ، ليخلص ، من ثمّ المحقّق الفذّ إلى النسخة التي بين أيدينا من الكتاب.

ويهمنا أن نشير ، هنا ، إلى أن ما وقف عليه ابن تاويت من اختلاف في النّسخ المتعدّدة للعمل ليس مصدره اختلاف الأشخاص المرسلة إليهم النّسخ وحسب ، وإنما أيضا ، التطوّر الذي طرأ على فكر ابن خلدون واتّساع آفاق ثقافته ونضج تأملاته مع تقدّم الزّمن ، فكانت (الإضافات ـ الاستدراكات) مع كلّ نسخة جديدة تحمل رؤى وأفكارا جديدة ، وإعادة نظر في المسائل تكشف عن وعي متجدّد وفكر خلّاق.

III

من المؤسف أنّنا لا نملك ترجمة وافية لمحقّق هذا الكتاب ، وحسب عبد الله الجراري في كتابه «التأليف ونهضته بالمغرب في القرن العشرين ، من ١٩٠٠ إلى ١٩٧٢» ، كانت نشأة محمد بن تاويت الطنجي في بلده طنجة نشأة علمية. وفي الأربعينات شدّ رحاله نحو الشرق ، فوصل إلى القاهرة على سبيل تحقيق بعض الكتب. وهناك عقد صلات وثيقة مع طه حسين وأحمد أمين وأمين الخولي وغيرهم من كبار المفكّرين والكتاب المصريين. وتمكّن من إقامة صلات مهمّة بالأوساط العلميّة ، ولقي اعترافا بعلمه وسعة ثقافته ، ولم يلبث أن حاز تقدير الحياة الثقافيّة العربيّة في مصر لما قام به من جهود في تحقيق بعض المخطوطات العربيّة القديمة ،

١٣

وبينها هذا الكتاب ، ولما تمّ نشره من كتب تحت إشرافه.

وقد شارك ابن تاويت في نشاط معهد المخطوطات العربيّة التابع لجامعة الدول العربية وكان أول من فهرس محتويات المعهد من المخطوطات.

في أواسط الخمسينات اختارته جامعة أنقرة أستاذا بها لخبرته النادرة بالتّراث العربي المخطوط ، فانتقل الطنجي إلى تركيا ، حيث عمل أستاذا في المعهد الإسلامي في استانبول. وهناك قام بتحقيق «جذوة المقتبس» لأبي عبد الله الحميدي (ت. ٨٨٤ ه‍. ١٠٩٥ م) والجذوة ، كما ينبّه الجراري ، عبارة عن تراث أندلسي احتوى مجموعة مهملة من تراجم رجالات الفردوس تقع في عشرة أجزاء حديثة. ويرجّح المصدر نفسه أن يكون من أكبر الحوافز على البحوث القيّمة التي قدّمها الطنجي وجوده بين مجلّدات مكتبات استانبول يجول بين الدفاتر والأوراق والخروم كمنقّب يغوص في مختلف الأبحاث ، وهو ما زاد في علمه وتطلّعه للبحث أكثر فأكثر في كنوز التراث.

من آثاره العلميّة أيضا إلى جانب تحقيق «رحلة ابن خلدون» الذي نظنّ أن عمله عليه بدأ في طنجة ، ثم انتقل معه إلى مصر ، وتركيا ، وأتمّه في القاهرة ، حيث كتب له المقدّمة ، تحقيق «أخلاق الوزيرين» لأبي حيان التوحيدي (ت حوالي ٣١١ ه‍ ٩٢٦ م) ، وقد قام بالاشتراك مع العلامة علال الفاسي بتحرير وتقويم نصّ «مختصر العين» لأبي بكر بن الحسن الزبيدي (ت ٣٧٩ ه‍ ٩٩٨) ، والتعليق على حواشيه والتقديم له. وتحقيق وتقديم كتاب «الإعلام بحدود قواعد الإسلام» لأبي الفضل عياض اليحصبي السبتي (ت. ٥٤٤ ه‍ ١١٤٩ م). ويحسب له ، في إطار نشاطه العلمي ، عنايته بالجزء الأول من كتاب القاضي عياض «ترتيب المدارك ، وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك» وقد عارضه بأصوله وعلّق حواشيه وقدّم له ، ولم يظهر هذا العمل إلى النور إلا بعد وفاته.

ولعلّ من بين أسباب سفر ابن تاويت إلى المشرق ، في ما يشبه الانخلاع من المغرب ، وإقامته في مصر وتركيا ، شعورا بالإحباط لا نعرف مصدره ، لكنّ إشارة وردت في ترجمة الجراري له تجعلنا نستنتج ذلك : «... وقد يكون هذا (أي سفره) لأنه لم يجد بغيته الثقافيّة تتحقّق ببلده المغرب. وللبحر متسع من الأرض».

١٤

ولا يختلف ابن تاويت في إيثاره الهجرة إلى المشرق على البقاء في المغرب عن ابن خلدون نفسه الذي اكتشف أن الإقامة بالمغرب باتت مستحيلة بسبب القلاقل السياسية ، وفي عام ٧٨٤ ه‍ ١٣٨٢ تعلل بالحج وغادر المغرب إلى غير رجعه.

وإن كان ابن خلدون قد صرف السنوات الأخيرة من عمره في القاهرة متقلبا في المناصب الفقهية والسياسية ، قبل أن ينقطع نهائيا إلى الفيوم ويتوفى هناك سنة ٨٠٨ ه‍ ١٤٠٥ ، فإن ابن تاويت أمضى سنواته الأخيرة عالما منقطعا إلى العلم في استانبول حيث توفي ودفن هناك.

IV

ينبّهنا ابن تاويت إلى مسألة بالغة الأهمية ، ولعلّها أن تكون من بين دوافع صاحب «المقدمة» لكتابة التعريف بنفسه ، مفادها أن «رأي ابن خلدون في نفسه ، ورأي معاصريه فيه ، بمصر بوجه خاص ، لا يكادان يلتقيان». ولا يتوقف ابن تاويت عند هذه المسألة فيتوسّع فيها ، لكنّه يكتفي بالإشارة. إنما يمكن للقارىء أن يفيد من ملاحظات المحقّق في هوامش الكتاب بصدد بعض الحوادث والمواقف التي عرضت لابن خلدون ، فذكرها على نحو ، وأوردها غيره من المؤرخين المعاصرين له على نحو مختلف.

V

المتتبّع لمسار رحلة ابن خلدون يكتشف أنها تنقسم ، بالضرورة إلى قسمين كبيرين ، الأول : رحلاته في بلاد المغرب (تونس ، الجزائر ، الأندلس ، المغرب الأقصى) ، والثاني : رحلته المشرقية. ففي أول سنة ٧٥٣ ه‍ كان انطلاقه من تونس وصولا إلى مدن وأماكن شتى في الجزائر ، فزار بلاد هوارة ، أوبّة ، تبسّة ، قفصة ، بسكرة ، البطحاء ، بجاية. ثم نحو الأندلس عبر سبتة ، فرضة المجاز ، جبل الفتح ، فغرناطة ، وإشبيلية ، وإلبيرة ، ساحل المرية ، حيث كان هناك في منتصف سنة ٧٦٦.

ثم العودة عبر الطريق نفسها ، مرورا ببجاية ، أحياء يعقوب بن علي. ليرتحل إلى بسكرة ثانية ، ثم نراه يتجول بين القطفا ، المسيلة ، الزّاب ، البطحاء ، هنين ، وصولا

١٥

إلى تلمسان التي كانت حاضرة علمية بارزة. وسوف يتكرّر مرات عديدة ظهور ابن خلدون في المدن والأماكن المذكورة آنفا ، لا سيّما بسكرة (على تخوم الصحراء الجزائرية) ، وكذلك تلمسان ، إلى أن يعود إلى المغرب الأقصى سنة ٧٧٤ صارفا نحو سبع سنوات في ذلك الشطر من بلاد المغرب في حركة نشطة ، تارة لنيل العلم على أيدي كبار علماء عصره ، والخطابة والتدريس ، وأخرى في مناصب علميّة ووساطات شبه رسميّة ، في فترات من حكم المرينيين شهدت دسائس وصراعات لم يكن ابن خلدون بعيدا عنها ، وكاد أحيانا أن يكون ضحيّة لها ، لا سيّما في عهد أبي عنان في فاس الذي ناداه ليلتحق بمجلسه العلمي بعدما ذاع صيته في تونس خلال فترة انضمامه إلى حضرة أبي الحسن المريني الذي جمع العلماء من حوله في مجلس معتبر. ومعروف أنّ نهاية فترة أبي عنان ، وهو السلطان نفسه الذي رعى ابن بطوطة ، شهدت ظهور عدد من المتنازعين على السلطة ، وهي فترة قضاها ابن خلدون معتقلا في السجن بسبب انخراطه في اللّعبة السياسيّة ، بكل ما كان يميّزها من مكائد ودسائس ومؤامرات شارك المؤرّخ في بعضها لصالح أبي سالم المريني صاحب بجاية الذي ثار على السلطان أبي عنان يحاول الاستقلال ببلده ، لكنّه لم يستقلّ بها إلا بعد وفاة أبي عنان ، فدخلها وفي ركابه ابن خلدون الذي أفرج عنه سنة ٧٦٠ ه‍.

VI

وبالعودة إلى الشطر المغربي من رحلة ابن خلدون نراه يغادر بسكرة يوم المولد النبوي ، سنة ٧٧٤ متجها نحو مليانة ، ومن هناك يقصد فاس ، ويتنقّل بينها وبين آسفي على البحر الأطلسي ، قبل أن يقوم برحلة أخرى إلى الأندلس ، يعود بعدها إلى تلمسان ، فالبطحاء ، فمنداس ، فقسنطينة (في الجزائر). وعند هذا الحدّ من جولاته المغربية ، نجده يصل تونس ، ثم يعبر إلى تبسّة الجزائرية ، وتكون تونس مرة أخرى آخر محطة له قبل شروعه في رحلته نحو المشرق.

VII

وصل ابن خلدون إلى مرسى الإسكندرية يوم عيد الفطر من سنة ٧٨٤ ، وحلّ في

١٦

القاهرة في أول ذي القعدة من السّنة نفسها. وفي منتصف رمضان سنة ٧٨٩ غادر مرسى الطور ، على الجانب الشرقي من بحر السويس متّجها إلى الديار المقدّسة لقضاء فريضة الحجّ ، عبر ميناء ينبع ، وفي ثاني ذي الحجة وصل إلى مكّة ، فقضى فريضة الحج ، وعاد إلى مصر عبر ينبع الميناء ، ومرّ بساحل القصير ، ومدينة قوص (قاعدة الصّعيد). ووصل إلى القاهرة في شهر جمادى الأولى من سنة ٧٩٠ ه‍. وفي سنة ٨٠٢ سافر إلى بلاد الشام حاجا إلى بيت المقدس. ولعلّه لم يكن ليخطر في باله أن يعود مرّة أخرى إلى هذه البلاد بالطّريقة التي تمّت بها. ففي سنة ٨٠٣ شدّ الرّحال إلى الشام في ركاب الجيش المتهيّئ للمدافعة عنها في وجه تيمور لنك وجيشه. فوصل إلى غزّة ومنها إلى دمشق.

وبعد فترة عصيبة قضاها في دمشق ، عاد إلى مصر عبر غزّة فوصلها في شعبان من سنة ٨٠٣ ه‍ ، بعد أن شهد حادثا تاريخيا دراماتيكيا سيكون له أبلغ الأثر على المشرق العربي برمّته ، ألا وهو سقوط دمشق في يد التّتار واحتلالها والتنكيل بأهلها كما سنعرض لاحقا.

والواقع أن سيرة ابن خلدون في المشرق العربي ، كما يتّضح في هذا الكتاب ، تنطوي على شيء غير قليل من الالتباس في بعض جوانبها ، ولا يطمح تحقيق ابن تاويت لهذا الكتاب إلى رفع الالتباس عن هذه السّيرة ، بمقدار ما يحاول أن يكون أمينا لرواية ابن خلدون لسيرته الذاتية ، ودقيقا ما استطاع في تخريج يوميّات رحلته بين مغرب العالم الإسلامي ومشرقه.

على أن الفرق والاختلاف بين رواية ابن خلدون وروايات آخرين للوقائع نفسها ، إنما نجد نموذجا له في واقعة لقاء ابن خلدون بتيمور لنك. فالمؤرّخ الذي وصل إلى دمشق الشام سنة ٨٠٣ قادما من مصر في صحبة السلطان الملك الناصر فرج في عهد الخليفة العباسي المتوكّل على الله ، كان وسلطانه يسابقان التّتار إليها ، وحين دخلها السلطان ضرب خيامه وأبنيته بساحة قبّة يلبغا. وحسب رواية ابن خلدون فقد يئس تيمور لنك من اقتحام المدينة ، وظلّ الطّرفان في حالة استعداد وترقّب ورصد أكثر من شهر. تجاول العسكران خلالها ثلاث مرات أو أربع ، من دون أن تكون الغلبة لطرف ، لكنّ خبرا جاء من مصر عن وقوع فتنة هناك جعل الملك النّاصر ينسحب من المدينة

١٧

بعسكره ، ويسارع إلى مصر للحفاظ على ملكه ، تاركا دمشق تحت الحصار.

وإذا كانت واقعة سقوط هذه المدينة العظيمة تحت سيوف التّتار هي واحدة من الوقائع الأكثر شؤما في تاريخها ، لما شهدته خلال ذلك من فظائع تقشعرّ لها الأبدان ، فإنّ هذه المصادفة ستشكّل علامة فارقة في حياة ابن خلدون. ولعلّ هذا العلامة الكبير ما كان ليخطر في باله يوما أن يلعب دور الوسيط بين المدينة وتيمور لنك الذي نصب خيمته تحت أسوارها وضرب الحصار عليها ، فدافعت المدينة عن نفسها متّحدة إلى أن بدأت بوادر الفرقة تدبّ بسبب خلاف بين القلعة المدافعة عنها وبعض القضاة الذين يئسوا من إمكان استمرار المدينة في الصمود ، إثر انسحاب السلطان الناصر فرج منها ، وخافوا على أنفسهم وعلى رعاياهم من مذبحة لا تبقي أحدا في دمشق ، فآثروا تسليم المدينة. لكنّ أهل القلعة رفضوا الاستسلام لتيمور لنك وعساكره وقرّروا مواصلة الدفاع.

هنا يبرز دور ابن خلدون الذي طلب من القضاة الذين اجتمعوا في مدرسة العادلية ، وشكّلوا بحضوره وفدا للقاء تيمور ، وبحث صيغة الاستسلام ، أن يساعدوه على الخروج معهم. وبالفعل ، فإنّ ابن خلدون سيتدلّى من السور ويخرج من المدينة المحاصرة بعد عودة الوفد من اللقاء الأول له مع تيمور. رأس الوفد القاضي برهان الدين بن إبراهيم بن محمد بن مفلح ، وكان يجيد إلى جانب اللغة العربية ، اللغتين التركية والفارسية.

يذكر ابن خلدون في يوميّاته عن هذه المحنة أنه خلال اللقاء الذي دار بين القضاة الدمشقيين وتيمور سأل الأخير عن ابن خلدون بالاسم ، وما إذا كان فرّ مع الفارّين إلى القاهرة أم بقي في المدينة؟ فقيل له : لا ، لم يخرج ، وهو موجود في المدرسة العادليّة حيث يقيم. ويذكر ابن خلدون أن تيمور أحسن لقاء الوفد ، وكتب له الرّقاع بالأمان ، وردّ أعضاءه إلى المدينة بوعود وآمال عراض ، إذا ما أمكنهم إقناع المدافعين بالكفّ عن الأعمال الحربيّة وفتح الأبواب لجيشه.

في تلك الليلة بات ابن خلدون على أهبة الخروج للقاء تيمور لنك ، ولما علم المدافعون عن المدينة بأخبار الوفد والمفاوضات دارت سجالات واسعة بين الدّاعين إلى الصّمود والقتال ، وبين القائلين بالاستسلام. ووقعت شجارات يذكر المؤرخ أحدها

١٨

بقوله : «فحدث بين بعض الناس تشاجر في المسجد الجامع ، وأنكر البعض ما وقع من الاستنامة إلى القول (أي الاطمئنان إلى وعود التتار)». وهنا يعبّر ابن خلدون عن خشيته على نفسه من أذى الرافضين الاستسلام. وعلى الأرجح أن المؤرخ لم ينم تلك الليلة ، وفي الفجر سيكون عند السور. يقول : «... وبكّرت سحرا إلى جماعة القضاة عند الباب ، وطلبت الخروج أو التدلّي من السور ، لما حدث عندي من توهّمات ذلك الخبر ، فأبوا عليّ أولا ، ثم أصحوا ، ودلّوني من السّور ، فوجدت بطانته يقصد تيمور ـ عند الباب ، ونائبه الذي عيّنه للولاية على دمشق». وكان هذا التتاريّ يدعى شاه ملك ، يصف ابن خلدون لقاءه به على النحو التالي : «فحيّيتهم وحيّوني ، وفدّيت وفدّوني ، وقدّم لي شاه ملك ، مركوبا ، وبعث معي من بطانة السلطان من أوصلني إليه.». ثم أنزل ابن خلدون في خيمة مجاورة لخيمة تيمور لنك ، إلى أن أذن له بالدخول. فسأله عن سبب وجوده في المشرق ، فأجابه : فرض الحج. ثم سأله عن ظروف تولّيه القضاء المالكي في مصر ، فأجابه عن سؤاله ، وعند ما سأله عن ابنه ، وعرف منه أنه كاتب للملك الأعظم في المغرب الجواني ، إذ ذاك سأله تيمور عن المغرب ، وعن موقع طنجة وسبتة وفاس وسجلماسة ، فحدّدها له. لكن تيمور عاد فطلب منه أن يضع كتابا حول بلاد المغرب يحدّد له فيه أقاصيها وأدانيها وجبالها وأنهارها وقراها وأمصارها حتّى كأنه يشاهدها ، فكتب له مختصرا في جغرافية المغرب يقع في ١٢ من الكراريس ، كما قال. وصار يدخل عليه ، حتى بعد أن اجتاح تيمور المدينة.

أما موضع الخلاف في الرّواية فهو ما كان من طلب ابن خلدون السفر إلى مصر.

يقول العلامة في متن رحلته :

«ثم دخلت عليه يوما آخر فقال لي : أتسافر إلى مصر؟ فقلت أيّدك الله ، رغبتي إنما هي أنت ، وأنت قد آويت وكفلت ، فإن كان السّفر إلى مصر في خدمتك فنعم ، وإلا فلا بغية لي فيه ، فقال لا ، بل تسافر إلى عيالك وأهلك».

ويقابل ابن تاويت هذا المفصل من رواية ابن خلدون برواية من تاريخ ابن شهبة الذي أوردها على النحو التالي : قال تيمور لابن خلدون : «تهيأ حتى تذهب معي إلى بلادي ، فقال له : في مصر من يحبني وأحبه ، ولا بدّ لك من قصد مصر في

١٩

هذه المرّة أو في غيرها ، وأنا أذهب وأهيئ أمري ، وأذهب في خدمتك ، فأذن له في الذّهاب إلى مصر ، وأن يستصحب معه من شاء.».

أيّ الروايتين هي الأصح؟

بصرف النظر عن الجواب فإنّ الفصل المتعلّق بلقاء تيمور لنك يعتبر وثيقة تاريخيّة مهمّة ، يمكن قراءتها في مستويات عدّة ، ففي جانب من النصّ تتجلّى لغة ابن خلدون الموضوعيّة الخالية من أي مبالغة ، والبعيدة عن الحماسة ؛ لغة تقرير ورصد وإخبار. وعلى رغم أنها أقرب إلى سرديّات أدب الرحلة منها إلى الدرس والتحليل العلمي الذي طبع آثار ابن خلدون كعالم اجتماع ومؤرخ ، فإنّ ما يسرده في رحلته عن هذا اللقاء يترك المجال واسعا ، وبحرّية كبيرة ، أمام التكهّن والتحليل والقراءة المعاصرة. فهو لم يصمت عمّا وسم شخصه من خضوع خلال اللقاء ، ولا هو سكت عن محاولته استمالة تيمور لنك عن طريق الخطاب والهديّة. ففي خطابه زيغ ومواربة وتدليس واستعمال للخرافة لم يعهد عنه في كتاباته أو في نظرته إلى الأشياء ، لا سيّما عند ما يمثّل ابن خلدون الشوق للقاء من كتبت له الأقدار أن يلتقي به ، على حدّ تعبيره. أما الهديّة : المصحف ، والسجّادة والقصيدة وعلب الحلوى التي أهداها لتيمور ، فهي توحي بما هو أكثر من تصرّف الخائف من طاغية ، وبما قد يعتبر تحيّة وترحابا. إنها في تلك اللحظة العصيبة بالنّسبة إلى مدينة محاصرة فعلة غريبة شيئا ما من عالم هو قاض وفقيه ومؤرّخ له مكانته في ديار الإسلام ، لا سيّما بإزاء ما قام به ، وما كان يتوقّع أن يقوم به سفّاح يطوّق مدينة ويتأهّب للانقضاض عليها كتيمور لنك.

هنا في هذا النصّ القيّم ، في ما يعكسه من أحوال شخصيّة لعالم كبير ، في برهة غير شخصيّة أبدا ، وما يحمله من دلالات استثنائيّة في حركة الكاتب والمثقّف باتجاه الغازي العدوّ ، يمكننا أن نقف على نموذج في سلوك المثقّف ، لا نغامر في إطلاق توصيف جازم في رخاوته ، لكنّنا ندعو ، أقلّه ، إلى التأمّل فيه ، في سياق الضرورة القائلة بأهمية إعادة النظر والبحث في جذور الأشياء لفهم ظواهر حديثة تتعلّق بموقف المثقّف من الطاغية أكان أهليا أم غريما خارجيا وعدوا غازيا له سمعة كتلك التي أسبغتها على تيمور لنك أعماله الوحشيّة بحقّ الإنسان والمدنيّة في التّاريخ.

٢٠