محمّد بن تاويت الطنجي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: ارتياد الآفاق
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠
للأمير عبد الرحمن بلدا سجلماسة (١) ودرعة ، (٢) والأعمال التي كانت لجدّه السّلطان أبي علي أخي السّلطان أبي الحسن ، ثم بدا للأمير عبد الرّحمن في ذلك أيام الحصار ، واشتطّ بطلب مراكش وأعمالها ، (٣) فأغضوا له في ذلك ، وشارطوه عليه حتى يتمّ لهم الفتح ، فلمّا انعقد ما بين السّلطان أبي العبّاس ، والوزير أبي بكر ، وخرج إليه من البلد الجديد ، وخلع سلطانه الصبيّ المنصوب ، ودخل السّلطان أبو العبّاس إلى دار الملك ، فاتح ستّ وسبعين ، وارتحل الأمير عبد الرحمن يغذّ السّير إلى مرّاكش ، وبدا للسّلطان أبي العبّاس ، ووزيره محمد بن عثمان في شأنه ، فسرّحوا العساكر في اتّباعه ، وانتهوا خلفه إلى وادي بهت ، (٤) فواقفوه ساعة من نهار ، ثم أحجموا عنه ، وولّوا على راياتهم وسار هو إلى مرّاكش ، ورجع عنه وزيره مسعود بن ماساي ، بعد أن طلب منه الإجازة إلى الأندلس يتودّع بها ، فسرّحه لذلك ، وسار إلى مرّاكش فملكها.
وأمّا أنا فكنت مقيما بفاس ، في ظلّ الدولة وعنايتها ، منذ قدمت على الوزير سنة أربع وسبعين كما مرّ ، عاكفا على قراءة العلم وتدريسه ، فلمّا جاء السّلطان أبو العبّاس ، والأمير عبد الرحمن ، وعسكروا بكدية العرائس ، وخرج أهل الدولة إليهم ،
__________________
(١) تقدم تحديدها.
(٢) درعة (وتنطق اليوم درا ، ولذلك تكتب على الخرائط (Dra : مقاطعة كبيرة خصبة وراء جبال الأطلس ، تقع في شرق إقليم السوس ، وتمتد من شرقه إلى جنوبه ، حيث تتصل بالبحر المحيط ، وتفصل بينها وبين إقليم سلسلة السوس جبال الأطلس الخارجيةAnte Atlas ؛ وفي هذه المقاطعة واد كبير تمده روافد تتفرع من جبال الأطلس ، وحول الوادي وفروعه ، تقوم قرى المقاطعة ، ومدنها الصغيرة ؛ وأكبر هذه المدن ورزازت ourzazate التي تقع في السفح الجنوبي لجبال الأطلس مرتفعة عن سطح البحر بنحو ١٥٠٠ متر ؛ وسكان هذه المقاطعة خليط من العرب وبربر صنهاجة. وهذا الإقليم هو الموطن الأصلي لدولة السعديين بالمغرب. وانظر العبر ٦ / ٣٦٢ ، ٣٦٣ ، الاستقصا ٣ / ٢. وما في ياقوت عن «درعة» أيضا ليس بشيء.
(٣) في العبر ٧ / ٣٤١ : «واشترط عليه الأمير عبد الرحمن التجافي له عن أعمال مراكش ، وأن يبدلوه بها من سجلماسة».
(٤) في «المعجب» لعبد الواحد المراكشي ص ٢٤٣ : «وفيما بين مكناسة ، وسلا نهر يدعى بهتا ، ينصب إلى البحر الأعظم أيضا» ؛ ويسمى اليوم oued Beht ينبع بالقرب من مدينة أزروAzrou ، ثم يتصل بوادي سبوSebou شمال Port Lyautey ، حيث ينصب وادي سبو في المحيط الأطلسي.
من الفقهاء والكتّاب ، والجند ، وأذن للنّاس جميعا في مباكرة أبواب السّلطانين من غير نكير في ذلك ، فكنت أباكرهما معا. وكان بيني وبين الوزير محمد بن عثمان ما مرّ ذكره قبل هذا ، فكان يظهر لي رعاية ذلك ، ويكثر من المواعيد ، وكان الأمير عبد الرحمن يميل إليّ ويستدعيني أكثر أوقاته يشاورني في أحواله ؛ فغصّ بذلك الوزير محمّد بن عثمان ، وأغرى سلطانه فقبض عليّ ، وسمع الأمير عبد الرحمن بذلك ، وعلم أنّي إنّما أوتيت من جرّاه ، فحلف ليقوّضنّ خيامه ، وبعث وزيره مسعود بن ماساي لذلك ، فأطلقوني من الغد ، ثم كان افتراقهما لثالثه. ودخل السّلطان أبو العبّاس دار الملك ، وسار الأمير عبد الرحمن إلى مرّاكش ، وكنت أنا يومئذ مستوحشا ، فصحبت الأمير عبد الرحمن معتزما على الإجازة إلى الأندلس من ساحل أسفي ، (١) معوّلا في ذلك على صحابة الوزير مسعود بن ماساي لهواي فيه ، فلمّا رجع مسعود انثنى عزمي في ذلك ، ولحقنا بونزمار بن عريف بمكانه من نواحي كرسيف (٢) لنقدّمه وسيلة إلى السّلطان أبي العبّاس ، صاحب فاس في الجواز إلى الأندلس ، ووافينا عنده داعي السّلطان فصحبناه إلى فاس ، واستأذنه في شأني ، فأذن لي بعد مطاولة ، وعلى كره من الوزير محمّد بن عثمان ، وسليمان بن
__________________
(١) أسفي Safi) عرضها الشمالي ٣٢ ـ ١٤ ، وطولها الغربي ٩ ـ ١٥) : مدينة في المغرب الأقصى ، تقع على ساحل المحيط ، بينها وبين مراكش ١٥٤ كيلومترا نحو الشمال الغربي. وقد ضبطها ابن خلدون بالحركات بهمزة مفتوح بعدها سين كذلك ، ثم فاء مكسورة بعدها ياء ؛ وهو الضبط الذي ذكره ياقوت بالكلمات ١ / ٢٣٢.
(٢) كرسيف Guercif) عرضها الشمالي ٣٤ ـ ١٢ ، وطولها الغربي ٥) : مدينة واقعة على نهر ملوية ، في الشرق من مدينة تازا على بعد ٦٨ كيلومترا تقريبا ، ويمر بها الخط الحديدي الذي يصلها بمدينة تاوريرت Taourirt ، ثم بمدينة وجدةOujda.
داود بن أعراب ، (١) ورجال الدّولة.
وكان الأخ يحيى لمّا رحل السّلطان أبو حمّو من تلمسان ، رجع عنه من بلاد زغبة (٢) إلى السّلطان عبد العزيز فاستقرّ في خدمته ، وبعده في خدمة ابنه محمّد السّعيد المنصوب مكانه. ولمّا استولى السّلطان أبو العبّاس على البلد الجديد ، استأذن الأخ في اللحاق بتلمسان ، فأذن له ، وقدم على السّلطان أبي حمّو ، فأعاده إلى كتابة سرّه كما كان أوّل مرّة ، وأذن لي أنا بعده ، فانطلقت إلى الأندلس بقصد القرار والدّعة ، إلى أن كان ما نذكر.
الإجازة ثانية إلى الأندلس ثم إلى تلمسان
واللحاق بأحياء العرب والمقامة عند أولاد عريف
ولمّا كان ما قصصته من تنكّر السّلطان أبي العبّاس صاحب فاس ، والذهاب مع الأمير عبد الرّحمن ، ثم الرجوع عنه إلى ونزمار بن عريف ، طلبا لوسيلته في انصرافي إلى الأندلس بقصد القرار والانقباض ، والعكوف على قراءة العلم ، فتمّ ذلك ، ووقع الإسعاف به بعد الامتناع ، وأجزت إلى الأندلس في ربيع (سنة) (٣) ستّ وسبعين ، ولقيني السّلطان بالبرّ والكرامة وحسن النّزل على عادته ، وكنت لقيت بجبل الفتح كاتب السّلطان ابن الأحمر ، من بعد ابن الخطيب ، الفقيه أبا عبد الله
__________________
(١) سليمان بن داود هذا : هو الذي قتل رجاله بأمره ابن الخطيب. وانظر بعض أخباره في العبر ٧ / ٣١٤ ـ ٣٤٣ ، ٧ / ٢٩٨.
(٢) تغلبت قبائل زغبة أو أمرها على نواحي قابس ، ثم كانت أيام الموحدين متفرقة بين تلمسان والمسلية ، وأقطعهم الموحدون نواحي بحاية. وانظر العبر ٦ / ٤٠ وما بعدها.
(٣) الزيادة عن ط.
بن زمرك ، (١) ذاهبا إلى فاس في غرض التهنئة ، وأجاز إلى سبتة في أسطوله ، وأوصيته بإجازة أهلي وولدي إلى غرناطة ، فلمّا وصل إلى فاس ، وتحدّث مع أهل الدّولة في إجازتهم ، تنكّروا لذلك ، وساءهم استقراري بالأندلس ، واتّهموا أنّي ربّما أحمل السّلطان ابن الأحمر على الميل إلى الأمير عبد الرحمن ، الذي اتّهموني بملابسته ، ومنعوا أهلي من اللّحاق بي ، وخاطبوا السّلطان ابن الأحمر في أن يرجعني إليهم ، فأبى من ذلك ، فطلبوا منه أن يجيزني إلى عدوة تلمسان ، وكان مسعود بن ماساي قد أذنوا له في اللّحاق بالأندلس ، فحملوه على مشافهة السّلطان بذلك ، وأبدوا له أنّي كنت ساعيا في خلاص ابن الخطيب ، وكانوا قد اعتقلوه لأوّل استيلائهم على البلد الجديد وظفرهم به ، وبعث إليّ ابن الخطيب من محبسه مستصرخا بي ، ومتوسّلا. فخاطبت في شأنه أهل الدّولة ، وعوّلت فيه منهم على ونزمار ، وابن ماساي ، فلم تنجح تلك السّعاية ، وقتل ابن الخطيب بمحبسه ، فلمّا قدم ابن ماساي على السّلطان ابن الأحمر ـ وقد أغروه بي ـ فألقى إلى السّلطان ما كان منّي في شأن ابن الخطيب ، فاستوحش لذلك ، وأسعفهم بإجازتي إلى العدوة ، ونزلت بهنين ، والجوّ بيني وبين السّلطان أبي حمّو مظلم ، بما كان مني في إجلاب العرب عليه بالزّاب كما مرّ. فأوعز بمقامي بهنين ، ثم وفد عليه محمّد بن عريف فعذله في شأني فبعث عنّي إلى تلمسان ، واستقررت بها بالعبّاد ، ولحق بي أهلي وولدي من فاس ، وأقاموا معي ، وذلك في عيد الفطر سنة ستّ وسبعين ، وأخذت في بثّ العلم ، وعرض للسّلطان أبي حمّو أثناء ذلك رأي في الدّواودة ، وحاجة إلى استئلافهم ، فاستدعاني ، وكلّفني السّفارة إليهم في هذا الغرض ، فاستوحشت منه ،
__________________
(١) أبو عبد الله محمد بن يوسف الصريحي المعروف بابن زمرك. له ترجمة حافلة في أزهار الرياض ٣ / ٧ ـ ٢٠٦ ، وفي الإحاطة ٢ / ٢٢١ ـ ٢٤٠ ، ونفح الطيب ٤ / ٦٧٩ ـ ٧٥٥ طبع بولاق. وانظر ص ٧٦.
وزمرك بفتح الزاي والراء ، بينهما ميم ساكنة ؛ وقد اضطرب ضبط ابن خلدون له ؛ فضبطه هنا بفتح الزاي والميم ، وسكون الراء ، وفي مكان آخر بفتح الزاي والراء وسكون الميم بينهما. والضبط الذي رجحته يستند إلى سجعة ؛ فقد ألف أحد أمراء بني الأحمر كتابا سماه : «البقيّة والمدرك ، من كلام ابن زمرك».
ونكرته على نفسي ، لما آثرته من التخلّي والانقطاع ، وأجبته إلى ذلك ظاهرا ، وخرجت مسافرا من تلمسان حتى انتهيت إلى البطحاء ، (١) فعدلت ذات اليمين إلى منداس ، (٢) ولحقت بأحياء أولاد عريف قبلة جبل كزول ، (٣) فتلقّوني بالتّحفّي والكرامة ، وأقمت بينهم أياما حتى بعثوا عن أهلي وولدي من تلمسان ، وأحسنوا العذر إلى السّلطان عنّي في العجز عن قضاء خدمته ، وأنزلوني بأهلي في قلعة ابن سلامة ، (٤) من بلاد بني توجين (٥) التي صارت لهم بإقطاع
__________________
(١) كان موقع البطحاء البسيط الذي بين مدينةRelizane ، وبسيط وادي شلف. وانظر ما سبق من القول في (البطحاء ، شلف) ، وبغية الرواد ، الترجمة الفرنسية ٢ / ٩٧.
(٢) منداس : ضبطها بالحركات بفتح الميم والدال ، وبينهما نون ساكنة ؛ وبعد الدال ألف بعدها سين مفتوحة ، وتكتب اليوم : mendes ؛ وهي قرية تقع الآن غرب تيارت Tiaret في جنوب مدينةRelizane بين Iouarsenis ، وجزول. وانظر ترجمة بغية الرواد ٢ / ٢٤٦ ـ ٢٤٨ ، وترجمة مقدمة ابن خلدون ١ / LXVII.
(٣) يقع جبل كزول في الجنوب الغربي لمدينة تيارت Tiaret على بعد ١٠ كيلومترات.
(٤) قلعة ابن سلامة (أو بني سلامة) هذه ، وتسمى قلعة تاوغزوت Taoughzout ؛ تقع في مقاطعة وهران Oran من بلاد الجزائرAlger ، وتبعد بنحو ستة كيلومترات إلى الجنوب الغربي من مدينةFrenda (ذات العرض الشمالي ٣٥ ـ ٦ ، والطول الشرقي ١ ـ ٢٥) التي تقع على وادي التحت ـ et Tahet ؛ كما تبعد عن مدينة تيارت Tiaret في الجنوب الغربي أيضا بتسع مراحل.
أما سلامة الذي تنسب إليه ، أو إلى بنيه ، القلعة ؛ فهو سلامة بن علي بن نصر بن سلطان رئيس بني يدللتن من بطون توجين. سكن تاوغزوت ، واختط بها القلعة ، فنسبت إليه ، وإلى بنيه ، وكانت من قبل رباطا لبعض العرب المنقطعين من سويد. انظر العبر ٧ / ١٣٠ ، ١٣٦ ، ١٦٣ ؛ بغية الرواد (الترجمة) ٢ / ٣٠٧ ، مقدمة ابن خلدون (الترجمة) ١ / LVII الحاشية رقم ٣.
(٥) كان لبني توجين من الأراضي ما بين قلعة سعيدةSaida) حيث العرض الشمالي ٣٤ ـ ٥٠ ، والطول الشرقي ١٠) في الغرب ، إلى المديةMedea) حيث العرض الشمالي ٣٦ ـ ١١ والطول الشرقي ٢ ـ ٥١) في الشرق ؛ وكانت لهم قلعة ابن سلامة ، ومنداس ، ووانشريس. وانظر العبر ٦ / ٤٥.
السّلطان ، (١) فأقمت بها أربعة أعوام ، متخلّيا عن الشواغل كلّها ، وشرعت في تأليف هذا الكتاب ، وأنا مقيم بها ، وأكملت المقدّمة منه على ذلك النحو الغريب ، الذي اهتديت إليه في تلك الخلوة ، فسالت فيها شآبيب الكلام والمعاني على الفكر ، حتى امتخضت زبدتها ، وتألّفت نتائجها ، وكانت من بعد ذلك الفيئة إلى تونس كما نذكره.
الفيئة إلى السّلطان أبي العباس بتونس والمقام بها
ولما نزلت بقلعة ابن سلامة بين أحياء أولاد عريف ، وسكنت منها بقصر أبي بكر بن عريف الذي اختطّه بها ، وكان من أحفل المساكن وأوثقها. ثم طال مقامي هنالك ، وأنا مستوحش من دولة المغرب وتلمسان ، وعاكف على تأليف هذا الكتاب ، وقد فرغت من مقدّمته لى أخبار العرب والبربر وزناتة ، وتشوّفت إلى مطالعة الكتب والدواوين التي لا توجد إلا بالأمصار ، بعد أن أمليت الكثير من حفظي ، وأردت التّنقيح والتّصحيح ، ثم طرقني مرض أوفى بي على الثّنيّة ، لولا ما تدارك من لطف الله ، فحدث عندي ميل إلى مراجعة السّلطان أبي العبّاس ، والرحلة إلى تونس ، حيث قرار آبائي ومساكنهم ، وآثارهم ، وقبورهم ، فبادرت إلى خطاب السّلطان بالفيئة إلى طاعته والمراجعة ، وانتظرت ، فما كان غير بعيد ، وإذا بخطابه وعهوده بالأمان ، والاستحثاث للقدوم ، فكان الخفوف للرحلة ، فظعنت عن أولاد عريف مع عرب الأخضر من بادية رياح ، كانوا هنالك ينتجعون الميرة بمنداس. وارتحلنا في رجب سنة ثمانين ، وسلكنا القفر إلى الدّوسن من أطراف الزّاب. ثم صعدت إلى التّل مع حاشية يعقوب بن علي وجدتهم بفرفار ، (٢) الضيعة التي اختطّها بالزّاب ،
__________________
(١) في العبر ٦ / ٤٦ : «وأقطع السّلطان أبو عنان ، ونزمار بن عريف «السرسو» Pl.du Sersou) ، وقلعة ابن سلامة ، وكثيرا من بلاد توجين».
(٢) فرفار (Farfar) : واحة صغيرة تقع على بعد ٣٣ كيلومترا من مدينة بسكرة ، في الجنوب الغربي لها.
فرحلتهم معي إلى أن نزلنا عليه بضاحية قسنطينة ، ومعه صاحبها الأمير إبراهيم بن السّلطان أبي العبّاس بمخيمه ، وفي عسكره فحضرت عنده ، وقسم لي من برّه ، وكرامته فوق الرضى ، وأذن لي في الدخول إلى قسنطينة ، وإقامة أهلي في كفالة إحسانه ، بينما أصل إلى حضرة أبيه. وبعث يعقوب بن علي معي ابن أخيه أبي دينار في جماعة من قومهم ، وسرنا إلى السّلطان أبي العبّاس ، وهو يومئذ قد خرج من تونس في العساكر إلى بلاد الجريد ، (١) لاستنزال شيوخها عن كراسي الفتنة التي كانوا عليها ، فوافيته بظاهر سوسة ، فحيّا وفادتي ، وبرّ مقدمي ، وبالغ في تأنيسي ، وشاورني في مهمّات أموره ، ثم ردّني إلى تونس ، وأوعز إلى نائبه بها مولاه فارح (٢) بتهيئة المنزل ، والكفاية في الجراية ، والعلوفة ، وجزيل الإحسان ، فرجعت إلى تونس في شعبان من السّنة ، وآويت إلى ظلّ ظليل من عناية السّلطان وحرمته ، وبعثت عن الأهل والولد ، وجمعت شملهم في مرعى تلك النّعمة ، وألقيت عصا التّسيار ، وطالت غيبة السّلطان إلى أن افتتح أمصار الجريد ، وذهب فلّهم في النواحي ، ولحق زعيمهم يحيى بن يملول (٣) ببسكرة ، ونزل على صهره ابن مزني ، وقسم السّلطان بلاد الجريد بين ولده ، فأنزل ابنه محمد المنتصر (٤)
__________________
(١) بلاد الجريد ، وتسمى الجريد أيضا : مقاطعة في القسم الجنوبي للملكة التونسية.
(٢) فارح بن مهدي الحاجب ، من موالي السّلطان أبي سعيد بن أبي سالم. كان مجربا للأمور ، عارقا ، مجيدا في التدبير ، متسما بالأمانة. له ترجمة في جذوة الاقتباس ص ٣١٦ ، والعبر ٧ / ٣٥٣ وما بعدها ، والاستقصا ٢ / ١٤٦.
(٣) يحيى بن محمد بن أحمد بن يملول أمير توزر. يرجع نسبهم ـ فيما يقولون ـ إلى تنوخ من طوالع العرب الداخلة للمغرب ؛ وأخبارهم مفصلة في العبر ٦ / ٤١٢ ـ ٤١٨. وقد ضبط ابن خلدون «يملول» بفتح الياء وسكون الميم ، وضم اللام بعدها واو ، فلام ؛ وتنطق اليوم إملول بهمزة مكسورة بدل الياء ؛ وهي قاعدة صوتية تكاد تطرد في النطق المغربي فيما أوله ياء ، وما قبل آخره حرف مد ؛ فيقولون في مثل : يكون ، ويدوم ، ويموت ، ويعيش ويطير ، ويقول ، وينام : إكون ، إدوم ، إموت ، إعيش ، إطير ، إقول ، إنام ـ بهمزات مكسورات بدل الياء.
(٤) انظر بعض أخباره في العبر ٦ / ٣٩٨.
بتوزر ، (١) وجعل نفطة ، (٢) ونفزاوة (٣) من أعماله ، وأنزل ابنه أبا بكر بقفصة ، (٤) وعاد إلى تونس مظفّرا ، ماهدا ، فأقبل عليّ ، واستدناني لمجالسته ، والنّجيّ في خلوته ، فغصّ بطانته بذلك ، وأفاضوا في السّعايات عند السّلطان فلم تنجح ، وكانوا يعكفون على إمام الجامع ، وشيخ الفتيا ، محمد بن عرفة ، (٥) وكانت في قلبه نكتة من الغيرة من لدن اجتماعنا في المربى بمجالس الشيوخ ، فكثيرا ما كان يظهر شفوفي عليه ، وإن كان أسنّ منّي ، (٦) فاسودّت تلك النّكتة في قلبه ، ولم تفارقه. ولمّا قدمت تونس انثال عليّ طلبة العلم من أصحابه وسواهم ، يطلبون الإفادة والاشتغال ، وأسعفتهم بذلك ، فعظم عليه. وكان يسرّ التّنفير إلى الكثير منهم فلم يقبلوا ، واشتدّت غيرته ، ووافق ذلك اجتماع البطانة إليه ، فاتّفقوا على شأنهم في التأليب عليّ ، والسعاية بي ، والسّلطان خلال ذلك معرض عنهم في
__________________
(١) توزرTozeur) عرضها الشمالي ٣٤ ، وطولها الشرقي ٨ ـ ١٠) ؛ ضبطها ابن خلدون بضم التاء ، (وفي ياقوت بفتحها) ، وسكون الواو بعدها زاي مفتوحة : مدينة واقعة على الحافة الشمالية لشط الجريدChott El ـ Djerid ، بينها وبين نفطة عشرة فراسخ (مرحلة). وانظر ياقوت ٢ / ٤٢٨ ، ٨ / ٣٠٤.
(٢) نفطة ، بفتح النون ، وسكون الفاء بعدها طاء مفتوحة ، ثم هاء تأنيث : مدينة من مدن بلاد الجريد بجنوب تونس ؛ تبعد عن توزر بعشرة فراسخ. وانظر ياقوت ٨ / ٣٠٤.
(٣) نفزاوة. ضبطها ابن خلدون بفتح النون (وفي ياقوت بكسرها) ، ويتفقان على تسكين الفاء ، وبينها وبين نفطة مرحلة واحدة. وانظر ياقوت ٨ / ٣٠٤.
(٤) قفصةGafsa) عرضها الشمالي ٣٤ ـ ٢٢ ، وطولها الشرقي ٨ ـ ٢٩) : مدينة من مدن الجريد في الشمال الشرقي لتوزر ، وتبعد عن نفطة مرحلتين. وانظر ياقوت ٨ / ٣٠٤.
(٥) أبو عبد الله محمد بن محمد بن عرفة الورغمي التونسي (٧١٦ ـ ٨٠٣). يتبوّأ المكانة العالية بين علماء المالكية ؛ درس بالزيتونة ، وأمّ بها خمسين عاما. دخل مصر حاجّا سنة ٧٩٢ ه ، وأجاز ابن حجر العسقلاني ؛ وله تآليف. ترجمته في الضوء اللامع ٩ / ٢٤٠ ـ ٢٤٢ ، الديباج ص ٣٣٧ ، نيل الابتهاج ص ٢٧٤ ، طبقات القراء ٢ / ٢٤٣.
(٦) ولد ابن عرفة قبل ابن خلدون بست عشرة سنة حيث كانت ولادته عام ٧١٦ ، وولادة ابن خلدون عام ٧٣٢.
ذلك ، وقد كلّفني بالإكباب على تأليف هذا الكتاب لتشوّفه إلى المعارف والأخبار ، واقتناء الفضائل ، فأكملت منه أخبار البربر ، وزناته. وكتبت من أخبار الدّولتين وما قبل الإسلام ما وصل إليّ منها ، وأكملت منه نسخة رفعتها إلى خزانته ، وكان ممّا يغرون به السّلطان عليّ ، قعودي عن امتداحه ، فإنّي كنت قد أهملت الشّعر وانتحاله جملة ، وتفرّغت للعلم فقط ، (١) فكانوا يقولون له إنّما ترك ذلك استهانة بسلطانك ، لكثرة امتداحه للملوك قبلك ، وتنسّمت ذلك عنهم من جهة بعض الصّديق من بطانتهم ، فلمّا رفعت له الكتاب ، وتوّجته باسمه ، أنشدته ذلك اليوم ، هذه القصيدة أمتدحه ، وأذكر سيره وفتوحاته ، وأعتذر عن انتحال الشّعر ، وأستعطفه بهدية الكتاب إليه ، وهي هذه :
هل غير بابك للغريب مؤمّل |
|
أو عن جنابك للأماني معدل |
هي همة بعثت إليك على النّوى |
|
عزما كما شحذ الحسام الصّيقل (٢) |
متبوّأ الدّنيا ومنتجع المنى |
|
والغيث حيث العارض المتهلّل |
حيث القصور الزّاهرات منيفة |
|
تعنى بها زهر النجوم وتحفل |
حيث الخيام البيض يرفع للعلا |
|
والمكرمات طرافها (٣) المتهدّل |
__________________
(١) استعمل ابن خلدون «قط» في الإثبات ، وهو استعمال جائز ، وردت به أحاديث صحيحة. وانظر تاج العروس «قط» ، شرح درة الغواص ص ٢٩ ـ ٣١.
(٢) الصيقل (كحيدر) : شحاذ السيوف ، وجلّاؤها.
(٣) الطراف : بيت من أدم ؛ والطراف من الخباء : ما رفعت من نواحيه لتنظر إلى خارج.
حيث الحمى للعزّ في ساحاته |
|
ظلّ أفاءته الوشيج الذّبّل (١) |
حيث الكرام ينوب عن نار القرى |
|
عرف الكباء بحيّهم والمندل) (٢) |
حيث الرّماح يكاد يورق عودها |
|
ممّا تعلّ من الدماء وتنهل |
حيث الجياد أملّهنّ بنو الوغى |
|
ممّا أطالوا في المغار وأوغلوا |
حيث الوجوه الغرّ قنّعها الحيا |
|
والبشر في صفحاتها يتهلّل |
حيث الملوك الصّيد والنّفر الألى |
|
عزّ الجوار لديهم والمنزل |
من شيعة المهدي بل من شيعة التّوحيد (٣) جاء به الكتاب يفصّل
بل شيعة الرحمن ألقى حبّهم |
|
في خلقه فسموا بذاك وفضّلوا |
شادوا على التّقوى مباني عزّهم |
|
لله ما شادوا بذاك وأثّلوا |
__________________
(١) الوشيج : أصلب القنا. والذبل ، جمع ذابل ؛ وهو القنا الدقيق اللاصق القشر ؛ وذلك أمتن ما يكون.
(٢) الكباء : المتبخر به كالمندل.
(٣) يريد مهدي الموحدين ؛ وهو محمد بن تومرت ، مؤسس الدولة الموحدية بالمغرب. انظر ترجمته في المعجب للمراكشي ١١٥ ـ ١٢٥ ، الوفيات ٢ / ٤١ ، طبقات الشافعية ٤ / ٧١ ، ٥ / ٧٠ ، العبر ٦ / ٢٢٥.
وقد جعل أصل دعوته نفي التجسيم الذي آل إليه مذهب أهل المغرب حيث تركوا التأويل في المتشابه من النصوص الشرعية ؛ وسمى دعوته دعوة أهل التوحيد ، وأتباعه بالموحدين. وانظر العبر ٦ / ٢٦٦.
قوم أبو حفص (١) أب لهم وما |
|
أدراك والفاروق (٢) جدّ أوّل |
نسب كما اطّردت أنابيب القنا (٣) |
|
وأتى على تقويمهنّ معدّل |
سام على هام الزمان كأنّه |
|
للفخر تاج بالبدور مكلّل |
فضل الأنام حديثهم وقديمهم |
|
ولأنت إن فضلوا أعزّ وأفضل |
وبنوا على قلل النجوم ووطّدوا |
|
وبناؤك العالي أشدّ وأطول |
ولقد أقول لخائض بحر الفلا |
|
والليل مزبدّ الجوانب أليل (٤) |
ماض على غول الدّجى لا يتّقي |
|
تيها وذابله ذبال مشعل (٥) |
متقلب فوق الرّحال كأنّه |
|
طيف بأطراف المهاد موكّل |
__________________
(١) هو أبو حفص عمر بن عبد الله الصنهاجي ، ويعرف بأزناج ، وعمر ومزال ؛ وكان يسمى قبل «فصكة» ، أو «فار صكات» ، فسماه ابن تومرت عمر ويعرفونه بعمر انيتي ، من أهل تينملل من قبيلة مسكّالة. كان من أوائل أصحاب ابن تومرث منشئ دولة الموحدين ، ووزر لعبد المؤمن بن علي وإليه تنتسب الدولة الحفصية. وانظر العبر ٦ / ٢٧٥ ، المعجب ص ١٢٥ وما بعدها.
(٢) ذكر ابن خلدون في العبر ٦ / ٢٧٥ : أن نسب الحفصيين ينتهي إلى عمر بن الخطاب ونقل ذلك عن ابن نخيل وغيره من الموحدين وإلى ذلك يشير هنا.
(٣) أنبوب الرمح ، والقصبة : كعبهما. والجمع أنابيب.
(٤) بحر مزبد : مائج يقذف بالزبد ؛ والكلام على التوسع. وليل أليل : شديد طويل.
(٥) الذابل : القنا الدقيق اللّاصق الليط. والذبال ، جمع ذبالة ؛ وهي الفتيلة.
يبغي منال الفوز من طرق الغنى |
|
ويرود مخصبها الذي لا يمحل |
أرح الرّكاب فقد ظفرت بواهب |
|
يعطي عطاء المنعمين فيجزل |
لله من خلق كريم في النّدى |
|
كالرّوض حيّاه ندى مخضل |
هذا أمير المؤمنين إمامنا |
|
في الدّين والدّنيا إليه الموئل |
هذا أبو العبّاس خير خليفة |
|
شهدت له الشّيم التي لا تجهل |
مستنصر بالله في قهر العدا |
|
وعلى إعانة ربّه متوكّل |
سبق الملوك إلى لعلا متمهّلا |
|
لله منك السابق المتمهّل |
فلأنت أعلى المالكين وإن غدوا |
|
يتسابقون إلى العلاء وأكمل |
قايس قديما منكم بقديمهم |
|
فالأمر فيه واضح لا يجهل |
دانوا لقومكم بأقوم طاعة |
|
هي عروة الدين التي لا تفصل |
سائل تلمسانا بها وزناتة |
|
ومرين قبلهم كما قد ينقل |
واسأل بأندلس مدائن ملكها |
|
تخبرك حين استيأسوا واستوهلوا |
واسأل بذا مرّاكشا وقصورها |
|
ولقد تجيب رسومها من يسأل |
يا أيها الملك الذي في نعته |
|
ملء القلوب وفوق ما يتمثّل |
لله منك مؤيّد ، عزماته |
|
تمضي كما يمضي القضاء المرسل |
جئت الزمان بحيث أعضل خطبه |
|
فافترّ عنه وهو أكلح أعصل (١) |
والشمل من أبنائه متصدّع |
|
وحمى خلافته مضاع مهمل |
والخلق قد صرفوا إليك قلوبهم |
|
ورجوا صلاح الحال منك وأمّلوا |
فعجلته لمّا انتدبت لأمره |
|
بالبأس والعزم الذي لا يمهل |
ذلّلت منه جامحا لا ينثني |
|
سهّلت وعرا كاد لا يتسّهل |
وألنت من شرس العتاة وذدتّهم |
|
عن ذلك الحرم الذي قد حلّلوا |
كانت لصولة صولة ولقومه |
|
يعدوا ذؤيب بها وتسطو المعقل |
ومهلهل تسدي وتلحم في التي |
|
ما أحكموها بعد فهي مهلهل |
المراد بصولة هنا صولة بن خالد بن حمزة أمير أولاد أبي الليل. وذؤيب : هو ابن عمّه أحمد بن حمزة. والمعقل فريق من العرب من أحلافهم. ومهلهل : هم بنو
__________________
(١) الكلوح : تكشر في عبوس ، ودهر كالح على المثل. وأعصل : معوج شديد ملتو.
مهلهل ابن قاسم أنظارهم وأقتالهم. (١) ثم رجعت إلى وصف العرب وأحيائهم :
عجب الأنام لشأنهم بادون قد |
|
قذفت بحيّهم المطيّ الذلّل |
رفعوا القباب على العماد وعندها |
|
الجرد السّلاهب (٢) والرّماح العسّل(٣) |
في كلّ ظامي التّرب متّقد الحصى |
|
تهوي للجّته الظّماء فتنهل |
جنّ شرابهم السّراب ورزقهم |
|
رمح يروح به الكميّ ومنصل |
حيّ حلول بالعراء ودونهم |
|
قذف النوى (٤) إن يظعنوا أو يقبلوا |
كانوا يروعون الملوك بما بدوا |
|
وغدت ترفّه بالنعيم وتخضل |
فبدوت لا تلوي على دعة ولا |
|
تأوي إلى ظلل القصور تهدّل |
طورا يصافحك الهجير وتارة |
|
فيه بخفّاق البنود تظلّل |
وإذا تعاطي ضمّرا يوم الوغى |
|
كأس النّجيع فبالصّهيل تعلّل |
__________________
(١) جمع نظر ؛ كمثل وزنا ومعنى. والأقتال ؛ جمع قتل (بكسر القاف) ؛ وهو القرن في القتال وغيره.
(٢) السلاهب ، جمع سلهب : وهو الطويل العظيم من الخيل.
(٣) رمح عاسل : لدن مضطرب ؛ والجمع عسّل.
(٤) نية قذف (بضمتين) : بعيدة. والنوى ، والنية : الوجه ينويه المسافر من قرب أو بعد. وهي مؤنثة.
وهذا التفسير أنسب من الذي مرّ في سابقا.
مخشوشنا في العزّ معتملا له |
|
في مثل هذا يحسن المستعمل |
تفري حشا البيداء لا يسري بها |
|
ركب ولا يهوي إليها جحفل |
وتجرّ أذيال الكتائب فوقها |
|
تختال في السّمر الطوال وترفل |
ترميهم منها بكلّ مدجّج |
|
شاكي السلاح إذا استعار الأعزل |
وبكلّ أسمر غصنه متأوّد |
|
وبكلّ أبيض شطّه متهدّل |
حتى تفرّق ذلك الجمع الألى |
|
عصفت بهم ريح الجلاد فزلزلوا |
ثم استملتهم بأنعمك التي |
|
خضعوا لعزّك بعدها وتذلّلوا |
ونزعت من أهل الجريد غواية |
|
كانت بهم أبدا تجدّ وتهزل |
خرّبت من بنيانها ما شيّدوا |
|
وقطعت من أسبابها ما أصّلوا |
ونظمت من أمصاره وثغوره |
|
للملك عقدا بالفتوح يفصّل |
فسددتّ مطلع النفاق وأنت لا |
|
تنبو ظباك ولا العزيمة تنكل (١) |
بشكيمة مرهوبة وسياسة |
|
تجري كما يجري فرات سلسل |
__________________
(١) تنكل : تجين ، وتنكص.
عذب الزمان لها ولذّ مذاقه |
|
من بعد ما قد مرّ منه الحنظل |
فضوى الأنام لعزّ أروع مالك |
|
سهل الخليقة ، ماجد متفضّل |
وتطابقت فيك القلوب على الرّضى |
|
سيّان منها الطفل والمتكهّل |
يا مالكا وسع الزمان وأهله |
|
دعة وأمنا فوق ما قد أمّلوا |
فالأرض لا يخشى بها غول ولا |
|
يغدو بساحتها الهزبر المشبل |
والسّفر يجتابون كلّ تنوفة (١) |
|
سرب القطا ما راعهنّ الأجدل (٢) |
سبحان من بعلاك قد أحيا المنى |
|
وأعاد حلي الجيد وهو معطّل |
سبحان من بهداك أوضح للورى |
|
قصد السّبيل فأبصر المتأمّل (٣) |
فكأنّما الدنيا عروس تجتلى |
|
فتميس في حلل الجمال وترفل |
وكأنّ مطبقة البلاد بعد له |
|
عادت فسيحا ليس فيه مجهل |
وكأنّ أنوار الكواكب ضوعفت |
|
من نور غرّته التي هي أجمل |
__________________
(١) التنوفة : القفر من الأرض لا ماء فيه.
(٢) الأجدل : الصقر.
(٣) سقط هذا البيت من ط.
وكأنّما رفع الحجاب لناظر |
|
فرأى الحقيقة في الذي يتخيّل |
ومنها في العذر عن مدحه :
مولاي غاضت فكرتي وتبلّدت |
|
منّي الطّباع فكلّ شيء مشكل |
تسمو إلى درك الحقائق همّتي |
|
فأصدّ عن إدراكهنّ وأعزل |
وأجد ليلي في امتراء قريحتي (١) |
|
وتعود غورا بينما تسترسل |
فأبيت يعتلج الكلام بخاطري |
|
والنظم يشرد والقوافي تجفل |
من بعد حول أنتقيه ولم يكن |
|
في الشعر حولي يعاب ويهمل (٢) |
فأصونه عن أهله متواريا |
|
أن لا يضمّهم وشعري محفل |
وهي البضاعة في القبول نفاقها |
|
سيّان فيها الفحل والمتطفّل |
وبنات فكري إن أتتك كليلة |
|
مرهاء (٣) تخطر في القصور وتخطل |
__________________
(١) امتراء القريحة : استدرارها.
(٢) يشير إلى ما عرف عن زهير بن أبي سلمى الشاعر ، من أنه عمل سبع قصائد في سبع سنين ، فكانت تسمى حوليات زهير ، لأنه يحوك القصيدة في سنة. وانظر الخصائص لابن جني ١ / ٣٣٠ ، ثمار القلوب للثعالبي ص ١٧١.
(٣) امرأة مرهاء : غير مكتحلة ؛ وعين مرهاء : خالية من الكحل. ويريد أن قصيدته هذه ، تنقصها الزينة والاحتفال.
فلها الفخار إذا منحت قبولها |
|
وأنا على ذاك البليغ المقول |
ومنها في ذكر الكتاب المؤلّف لخزانته :
وإليك من سير الزمان وأهله |
|
عبرا يدين بفضلها من يعدل |
صحفا تترجم عن أحاديث الألى |
|
غبروا فتجمل عنهم وتفصّل |
تبدي التبابع والعمالق سرّها |
|
وثمود قبلهم وعاد الأول (١) |
والقائمون بملّة الإسلام من |
|
مضر وبربرهم إذا ما حصّلوا (٢) |
لخّصت كتب الأولين لجمعها |
|
وأتيت أولها بما قد أغفلوا |
وألنت حوشيّ الكلام كأنّما |
|
شرد اللّغات بها لنطقي ذلّل |
أهديت منه إلى علاك جواهرا |
|
مكنونة وكواكبا لا تأفل (٣) |
وجعلته لصوان ملكك مفخرا |
|
يبأى (٤) النّدي به ويزهو المحفل |
__________________
(١) سقط البيت من الظاهري.
(٢) سقط البيت من الظاهري.
(٣) سقط هذا البيت من ط.
(٤) يبأى : يفخر.
والله ما أسرفت فيما قلته |
|
شيئا ولا الإسراف مما يجمل |
ولأنت أرسخ في المعارف رتبة |
|
من أن يموّه عنده متطفّل |
فملاك كلّ فضيلة وحقيقة |
|
بيديك تعرف وضعها إن بدّلوا |
والحقّ عندك في الأمور مقدّم |
|
أبدا فماذا يدّعيه المبطل |
والله أعطاك التي لا فوقها |
|
فاحكم بما ترضى فأنت الأعدل |
أبقاك ربّك للعباد تربّهم |
|
فالله يخلقهم ورعيك يكفل |
وكنت لما انصرفت عنه من معسكره على سوسة (١) إلى تونس ، بلغني ـ وأنا مقيم بها ـ أنّه أصابه في طريقه مرض ، وعقبه إبلال ، فخاطبته بهذه القصيدة :
ضحكت وجوه الدّهر بعد عبوس |
|
وتجلّلتنا رحمة من بوس |
وتوضّحت غرر البشائر بعد ما |
|
انبهمت (٢) فأطلعا حداة العيس(٣) |
صدعوا بها ليل الهموم كأنّما |
|
صدعوا الظلام بجذوة المقبوس |
__________________
(١) تقدم تحديد «سوسة».
(٢) سبق القول فيما في استعمال كلمة «انبهم».
(٣) جمع أعيسن أو عيساء ؛ وهي التي في لونها أدمة.
فكأنّهم بثّوا حياة في الورى |
|
نشرت لها الآمال من مرموس (١) |
قرّت عيون الخلق منها بالتي |
|
أضفت من النعماء خير لبوس |
فكأنّ قومي نادمتهم قرقف (٢) |
|
شربوا النعيم لها بغير كؤوس |
يتمايلون من المسرّة والرّضى |
|
ويقابلون أهلّة بشموس |
من راكب وافى يحيّي راكبا |
|
وجليس أنس قاده لجليس |
ومشفّع لله يؤنس عنده |
|
أثر الهدى في المعهد المأنوس |
يعتدّ منها رحمة قدسية |
|
فيبوء للرّحمن بالتّقديس |
طبّ بإخلاص الدّعاء وإنّه |
|
يشفي من الداء العياء ويوسي |
(والمعني به إمام الجامع الأعظم ، جامع الزّيتونة بتونس). (٣)
يا ابن الخلائف والذين بنورهم |
|
نهجت سبيل الحقّ بعد دروس |
والنّاصر الدّين القويم بعزمة |
|
طرد استقامتها بغير عكوس |
__________________
(١) المرموس : المقبور.
(٢) القرقف : الخمر.
(٣) ساقط من طب.