رحلة ابن خلدون

محمّد بن تاويت الطنجي

رحلة ابن خلدون

المؤلف:

محمّد بن تاويت الطنجي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: ارتياد الآفاق
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

الهواجس ، (١) فأنا أحاشيكم من استشعار نبوة ، (٢) أو إحقاق ظن (٣) ؛ ولو تعلّق بقلب ساق حرّ ذرء وذرء ، (٤) فحاش لله أن يقدح في الخلوص (٥) لكم ، أو يرجع سوابقكم ، (٦) إنما هو خبيئة الفؤاد إلى الحشر أو اللقاء. ووالله وجميع ما يقسم به ، ما اطّلع على مستكنّه مني غير صديقي وصديقكم الملابس ـ كان ـ لي ولكم الحكيم الفاضل العلم أبي عبد الله الشّقوري أعزّه الله. نفثة مصدور ، ومباثة (٧) خلوص ، إذ أنا أعلم الناس بمكانه منكم ، وقد علم ما كان مني حين مفارقة صاحب تلمسان ، واضمحلال أمره ، من إجماع الأمر على الرّحلة إليكم ، والخفوف (٨) إلى حاضرة البحر للإجازة إلى عدوتكم ، تعرّضت فيها للتّهم ، ووقفت بمجال الظنون ، حتّى تورّطت في الهلكة بما ارتفع عنّي مما لم آته ، ولا طويت العقد عليه ، لولا حلم مولانا الخليفة ، وحسن رأيه في وثبات بصيرته ، لكنت في الهالكين الأولين ؛ كل ذلك شوقا إلى لقائكم ، وتمثّلا لأنسكم ، فلا تظنّوا بي الظنون ، ولا تصدّقوا في التّوهّمات ، فأنا من علمتم صداقة ، وسذاجة ، وخلوصا ، واتّفاق ظاهر وباطن ، أثبت الناس عهدا ، وأحفظهم غيبا ، وأعرفهم بوزن الإخوان ومزايا الفضلاء ؛ ولأمر ما تأخّر كتابي من تلمسان فإنّي كنت أستشعر ممن استضافني ريبا بخطاب

__________________

(١) السخائم : الضغائن ، والموجدة في النفس. والهواجس الخواطر.

(٢) أحاشيكم : أنزهكم. واستشعار النبوة : إضمارها. والنبوة : الجفوة.

(٣) يقول : إني أجلّكم أن تصدقوا في الظنون ، فتحولوها إلى يقين ثابت وحقيقة واقعة.

(٤) ساق حر : ذكر القمارى ، ومن خلقه الوفاء. وبلغني ذرء من خبر : قليل منه. وأرجو أن يكون المعنى : إن وفائي لك بحيث لا تلحقه الريبة ، ولو جاز أن يتعلق بقلب ساق حر ، وقد سار المثل بوفائه ، قليل جدا من عدم الوفاء ، فمعاذ الله أن يتعلّق بقلبي هذا القليل فيقدح في حفظي لعهد الأخوة.

(٥) خلص الشيء خلوصا : صار خالصا ، ويستعمله ابن خلدون بمعنى الإخلاص.

(٦) جمع سابقة ؛ وهي ما تسبق الناس إليه. يريد : أياديكم التي أسديتموها إلي.

(٧) المباثة : مصدر ميمي بمعنى البث ؛ وهو أن تظهر لغيرك ما عندك من سر.

(٨) الخفوف : سرعة السير.

١٨١

سواه ، خصوصا جهتكم ، لقديم ما بين الدولتين من الاتحاد والمظاهرة واتصال اليد ، مع أن الرّسول تردّد إليّ ، وأعلمني اهتمامكم واهتمام السّلطان ، تولاه الله ، باستكشاف ما انبهم (١) من حالي ؛ فلم أترك شيئا مما أعلم تشوّفكم إليه إلا وكشفت له قناعه ، وأمّنته على بلاغه (٢) ؛ ولم أزل بعد انتياش (٣) مولانا الخليفة لذمائي ، وجذبه بضبعيّ (٤) سابحا في تيار الشواغل كما علمتم القاطعة حتى عن الفكر.

وسقطت إليّ بمحل خدمتي من هذه القاصية أخبار خلوصكم (٥) إلى المغرب ، قبل وصول راجلي (٦) إلى الحضرة ، غير جلية ولا ملتئمة ولم يتعيّن ملقى العصا ولا مستقرّ النوى ، (٧) فأرجيت (٨) الخطاب إلى استجلائها ؛ وأفدت (٩) في كتابكم العزيز عليّ ، الجاري على سنن الفضل ، ومذهب المجد ، غريب ما كيّفه القدر من تنويع الحال لديكم ؛ وعجبت من تأتّي (١٠) أملكم الشارد فيه كما كنّا نستبعده عند المفاوضة ؛ فحمدت الله لكم على الخلاص من ورطة الدول على أحسن الوجوه ، وأجمل المخارج الحميدة العواقب في الدنيا والدين ، العائدة بحسن المآل في المخلّف :

__________________

(١) في الأصلين : «أبهم» ، وكتب بخطه في حاشية أصل أياصوفية : «انبهم» ، ووضع عليها علامتي البدلية والصحة : «ب» و «صح».

وقد تبع النحاة في استعمال «انبهم» ؛ ولم يسمع من العرب. والصواب استبهم. وانظر تاج العروس (بهم).

(٢) البلاغ : الإبلاغ ؛ وفي القرآن : «فهل على الرسل إلا البلاغ المبين».

(٣) الانتياش : الإنقاذ من الهلكة.

(٤) الضبع : العضد ؛ وأخذ بضبعيه : أي بعضديه.

(٥) خلص إليه : وصل إليه.

(٦) الراجل : خلاف الفارس ؛ وهو من ليس له ظهر يركبه في سفره.

(٧) مستقر النوى : مكان الإقامة ؛ يقال : استقرت نواهم : أي أقاموا.

(٨) أرجيت ، وأرجأت : أخرت. يهمز ولا يهمز.

(٩) أفدت : استفدت.

(١٠) تأتي الأمر : تهيأ ؛ والتأتي التهيؤ.

١٨٢

من أهل وولد ومتاع وأثر ، بعد أن رضتم جموح (١) الأيام ، وتوقّلتم قلل (٢) العزّ ، وقدتم الدنيا بحذافيرها ، (٣) وأخذتم بآفاق السماء على أهلها ؛ وهنيئا فقد نالت نفسكم التّواقة أبعد أمانيها ، ثم تاقت إلى ما عند الله ؛ وأشهد لما (٤) ألهمتم للإعراض عن الدنيا ونزع اليد من حطامها عند الإصحاب (٥) والإقبال ، ونهى (٦) الآمال ، إلا جذبا وعناية من الله ، وحبّا ؛ وإذا أراد الله أمرا يسّر أسبابه.

واتّصل بي ما كان من تحفّي (٧) المثابة (٨) المولوية بكم ، واهتزاز الدولة لقدومكم ؛ ومثل تلك الخلافة ، أيّدها الله ، من يثابر على المفاخر ، ويستأثر بالأخاير. وليت ذلك عند إقبالكم على الحظ ، وأنسكم باجتلاب الآمال ، حتى يحسن المتاع بكم ، ويتجمّل السرير الملوكي بمكانكم ، فالظن إن هذا الباعث الذي هزم الآمال ، ونبذ الحظوظ ، وهوّن المفارق العزيز ، يسومكم الفرار إلى الله ، حتى يأخذ بيدكم إلي

__________________

(١) راض الدابة : ذللها. وفرس جموح : عادته أن يركب رأسه فلا يثنيه راكبه. يريد ذللتم الأيام التي لا تسير وفق رغبات الناس ، وجعلتموها تسير حسب رغبتكم.

(٢) توقل في الجبل : صعد فيه ؛ وقلة كل شيء : أعلاه.

(٣) بحذافيرها : بأسرها.

(٤) أدخل ابن خلدون لام الابتداء على «ما» النافية ؛ وهو استعمال شاذ. وقد ورد هذا الاستعمال في قول الشاعر.

لما أغفلت شكرك فاصطنعني

فكيف ومن عطائك جلّ مالي

وفتوى النحاة في ذلك : أن «ما» النافية ، أشبهت «ما» التي بمعنى الذي ، فجاز أن تدخل عليها لام الابتداء. وانظر شرح الرضى على الكافية ٢ / ٣٥٦ ، والخزانة ٤ / ٣٣١.

(٥) الإصحاب : الانقياد من بعد صعوبة. يعني : أعرضت عن الدنيا عند انقيادها لك وإقبالها عليك.

(٦) جمع نهية ؛ وهي غاية الشيء.

(٧) التحفى ، والاحتفاء : المبالغة في الإكرام.

(٨) المثابة : الموضع يثاب ، أي يرجع إليه مرة بعد بعد أخرى. وفي القرآن : [وإذ جعلنا البيت مثابة للناس].

١٨٣

فضاء المجاهدة ، (١) ويستوي بكم على جودي (٢) الرياضة. (٣) والله يهدي للتي هي أقوم. وكأنّي بالأقدام (٤) نقلت ، والبصائر (٥) بإلهام الحق صقلت ، والمقامات (٦) خلفت بعد أن استقبلت ، (٧) والعرفان شيمت أنواره وبوارقه ، والوصول انكشفت حقائقه لمّا ارتفعت عوائقه. وأما حالي ، والظنّ بكم الاهتمام بها ، والبحث عنها ، فغير خفية بالباب المولوي ـ أعلاه الله ـ ومظهرها في طاعته ، ومصدرها عن أمره ، وتصاريفها في خدمته ، والزعم أنّي قمت القام المحمود في التشيع ، والانحياش ، (٨) واستمالة الكافّة ، إلى المناصحة ، ومخالطة القلوب للولاية ، وما يتشوّفه مجدكم ويتطّلع إليه فضلكم واهتمامكم ، من خاصّيّها في

__________________

(١) الفضاء : المستوى من الأرض المتسع. والمجاهدة : أن تحمل النفس على المشاق البدنية ، ومخالفة الهوى. وانظر رسالة القشيرى ص ٥٦ وتعريفات ابن العربي ص ٥.

(٢) الجودى : جبل مطل على جزيرة ابن عمر ؛ وفي قول ابن خلدون هذا : إشارة إلى ما يقال عند قول الله تعالى : [واستوت على الجودي] من رسو سفينة نوح عليه‌السلام على جبل الجودي عند الطوفان. وانظر معجم البلدان ٣ / ١٦٢ ، الدر المنثور للسيوطي ٣ / ٣٣٥ ، تفسير الألوسي ٣ / ٥٧٠.

(٣) الرياضة : تهذيب الأخلاق النفسية.

(٤) جمع قدم ، وهي السابقة التي تثبت للعبد في علم الحق. ويكنى عنها بالقدم ، لأن القدم آخر شيء في الصورة ، وهذه السابقة آخر ما يقرب به العبد من الحق. وانظر القاشاني : «اصطلاحات الصوفية» ٧٧ ـ ١ نسخة الأزهر ، تعريفات الجرجاني ص ١١٥.

(٥) جمع بصيرة ؛ وهي قوة للقلب المنوّر بنور القدس ، يرى بها حقائق الأشياء وبواطنها ؛ وهي للقلب بمنزلة البصر للنفس. انظر تعريفات الجرجاني ص ٣١ والقاشاني ٤٧ ظ (نسخة الأزهر).

(٦) جمع مقام ؛ وهو الموضع يقيم فيه السالك مشتغلا بالرياضة استعدادا لتخطيه بعد استيفاء رسومه.

وانظر رسالة القشيري ص ٣٧.

(٧) يريد : استقبلتها ، فأديت واجباتها ، وتجاوزتها فصارت خلفك ؛ ذلك لأن عزمك الصادق ، سوف ينقلك من مقام إلى مقام أعلى منه ، ويصل بك إلى الله في الزمن القصير.

(٨) الانحياز : التصرف في الأمور.

١٨٤

النفس والولد ، فجهينة خبره (١) مؤدّي كتابي إليكم ، ناشئ تأديبي ، وثمرة تربيتي ، فسهّلوا له الإذن ، وألينوا له جانب النجوى ، (٢) حتى يؤدي ما عندي وما عندكم ، وخذوه بأعقاب الأحاديث أن يقف عند مبادئها ، وائتمنوه على ما تحدّثون ، فليس بظنين (٣) على السر.

وتشوّفي لما يرجع به إليكم سيدي وصديقي وصديقكم المغرب في المجد والفضل ، المساهم في الشدائد ، كبير المغرب ، وظهير الدولة ، أبو يحيى بن أبي مدين (٤) ـ كان الله له ـ في شأن الولد والمخلف ، تشوّف الصّديق لكم ، الضّنين (٥) على الأيام بقلامة الظّفر من ذات يدكم ، فأطلعوني طلع ذلك (٦) ولا يهمّكم ؛ فالفراق الواقع حسن ، والسّلطان كبير ، والأثر جميل ، والعدوّ الساعي قليل وحقير ، والنّية صالحة ، والعمل خالص ، ومن كان لله كان الله له.

واستطلاع الرياسة المزنية الكافلة ـ كافأ الله يدها البيضاء ـ عني وعنكم إلى مثله من أحوالكم استطلاع من يسترجح وزانكم ، ويشكر الزمان على ولاده (٧) لمثلكم.

وقد قررت لعلومه من مناقبكم ، وبعد شأوكم ، وغريب منحاكم ، ما شهدت به آثاركم الشائعة ، الخالدة في الرسائل المتأدّية ، وعلى ألسنة الصادر والوارد من الكافّة ،

__________________

(١) يشير إلى المثل : «عند جهينة الخبر اليقين». وفي مجمع الأمثال ١ / ٣٠٤ ، وتاج العروس «جفن» ، «جهن» شرح واف لمعنى هذا المثل.

(٢) النجوى : ما ينفرد به الجماعة ، والاثنان (من ديث) سرّا كان أو ظاهرا.

(٣) رجل ظنين : متهم. وهو ينظر إلى قول الله تعالى : [وما هو على الغيب بظنين] (آية ٢٤ من سورة التكوير) ، في قراءة أبي عمرو بن العلاء ، والكسائي ، وابن كثير. وانظر شرح الشاطبية لابن القاصح ص ٢٩٥.

(٤) هو أبو يحيى بن أبي مدين ، كان السّلطان عبد العزيز المريني. سفر عنه لإحضار أولاد ابن الخطيب من الأندلس إلى المغرب. وانظر العبر ٧ / ٣٣٥.

(٥) الضنين : البخيل.

(٦) يقال : أطلعته طلعي ؛ أي أبثثته سري.

(٧) الولاد ، بالكسر : الولادة.

١٨٥

من حمل الدولة ، واستقامة السياسة ، ووقفته على سلامكم ، وهو يراجعكم بالتحية ، ويساهمكم بالدعاء.

وسلامي على سيدي ، وفلذة كبدي (١) ومحل ولدي ، الفقيه الزكي الصدر أبي الحسن نجلكم ، أعزّه الله ، وقد وقع مني موقع البشرى حلوله من الدولة بالمكان العزيز ، والرّتبة النابهة ، والله يلحفكم جميعا رداء العافية والستر ويمهّد لكم محلّ الغبطة والأمن ، ويحفظ عليكم ما أسبغ من نعمته ، ويجريكم على عوائد لطفه وعنايته ، والسلام الكريم يخصّكم من المحبّ الشاكر الدّاعي الشائق شيعة فضلكم : عبد الرحمن بن خلدون ، ورحمة الله وبركاته في يوم الفطر عام اثنين وسبعين وسبع مائة.

وكان بعث إليّ مع كتابه نسخة كتابه إلى سلطانه ابن الأحمر صاحب الأندلس ، عند ما دخل جبل الفتح ، وصار إلى إيالة (٢) بني مرين ، فخاطبه من هنالك بهذا الكتاب ، فرأيت أن أثبته هنا وإن لم يكن من غرض التأليف لغربته ، ونهايته في الجودة ، وإن مثله لا يهمل من مثل هذا الكتاب ، مع ما فيه من زيادة الاطلاع على أخبار الدول في تفاصيل أحوالها. ونص الكتاب :

بانوا فمن كان باكيا يبكي

هذي ركاب (٣) السّرى بلا شكّ

فمن ظهور الرّكاب (٤) معملة

إلى بطون الرّبى (٥) إلى الفلك

__________________

(١) قطعة كبدي.

(٢) الإيالة ، بكسر الهمزة : الولاية ؛ يقال : آل على القوم أولا ، وإيالا ، وإيالة بمعنى ولي عليهم. وانظر تفصيل خبر انتقاله إلى المغرب في العبر ٧ / ٣٣٥.

(٣) الركاب ، بكسر الراء : جمع راكب ؛ والسرى ، كهدى : سير عامة الليل.

(٤) الركاب ، ككتاب : الإبل التي تحمل القوم ، واحدتها راحلة ، ولا واحد لها من لفظها.

(٥) جمع ربوة ؛ وهي ما ارتفع من الأرض.

١٨٦

تصدّع الشّمل مثلما انحدرت

إلى صبوب (١) جواهر السّلك

من النّوى (٢) قبل لم أزل حذرا

هذي النّوى جلّ مالك الملك

مولاي. كان الله لكم وتولّى أمركم. أسلم عليكم سلام الوداع ، وأدعو الله في تيسير اللقاء والاجتماع ، بعد التفرق والانصداع ، وأقرّر لديكم أن الإنسان أسير الأقدار ، مسلوب الاختيار ، متقلّب في حكم الخواطر والأفكار ، وأن لا بدّ لكل أول من آخر ، وأن التفرق لمّا لزم كلّ اثنين بموت أو في حياة ، ولم يكن منه بدّ ، كان خير أنواعه الواقعة بين الأحباب ، ما وقع على الوجوه الجميلة البريئة من الشّرور.

ويعلم مولاي حال عبده منذ وصل إليكم من المغرب بولدكم ، (٣) ومقامه لديكم بحال قلق وقلعة ، (٤) لو لا تعليلكم ، ووعدكم ، وارتقاب اللطائف في تقليب قلبكم ، وقطع مراحل الأيام حريصا على استكمال سنّكم ، ونهوض ولدكم واضطلاعهم بأمركم ، وتمكّن هدنة وطنكم ، وما تحمّل في ذلك من ترك غرضه لغرضكم ، وما استقرّ بيده من عهودكم ، وأن العبد الآن لما تسبّب لكم في الهدنة من بعد الظهور والعز ، ونجح السّعي ، وتأتّى لسنين كثيرة الصّلح ، ومن بعد أن لم يبق لكم بالأندلس مشغب من القرابة ، وتحرك لمطالعة الثغور الغربية ، وقرب من فرضة

__________________

(١) الصبوب ، بالضم : الموضع المنحدر ، كالصبب ؛ وبه فسر وصف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كأنما ينحط من صبب».

(٢) النوى ، مؤنثة : الوجه الذي ينتويه المسافر من قرب أو بعد ..

(٣) حين خلع ابن الأحمر ، انتقل بأهله وولده إلى السّلطان أبي سالم المريني بالمغرب ، يستغيث به لإرجاع ملكه ، وكان بصحبته ابن الخطيب ؛ وقد أكرم نزلهم الملك المريني. وحين عاد لابن الأحمر ملكه ، ذهب إلى الأندلس ، وترك أهله وولده في ضيافة بني مرين ، وبعد استقراره بدار ملكه ، لحق به ابن الخطيب ومعه ولده. إلى هذا يشير في هذه الرسالة. وانظر العبر ٧ / ٣٠٦ ، ٣٣٤.

(٤) يقال : مكان قلعة (كهمزة) : ليس بمستوطن ، وهو على قلعة : أي رحلة.

١٨٧

المجاز ، (١) واتصال الأرض ببلاد المشرق ، طرقته الأفكار ، وزعزعت صبره رياح الخواطر ، وتذكّر إشراف العمر على التّمام ، وعواقب الاستغراق ، وسيرة الفضلاء عند شمول البياض ، فغلبته حال شديدة هزمت التّعشق (٢) بالشمل الجميع ، والوطن المليح ، والجاه الكبير ، والسّلطان القليل النظير ، وعمل بمقتضى قوله : «موتوا قبل أن تموتوا». (٣) فإن صحّت هذه الحال المرجوّ من إمداد الله ، تنقّلت الأقدام إلى أمام ، وقوي التّعلق بعروة الله الوثقى ، وإن وقع العجز ، وافتضح العزم ، فالله يعاملنا بلطفه.

وهذا المرتكب مرام صعب ، لكن سهّله عليّ أمور : منها أن الانصراف لما لم يكن منه بدّ ، لم يتعين على غير هذه الصورة ، إذ كان عندكم من باب المحال. ومنها أن مولاي لو سمح لي في غرض الانصراف ، لم تكن لي قدرة على موقف وداعه ، لا والله! ولكان الموت أسبق إلي ، وكفى بهذه الوسيلة الحبّية ـ التي يعرفها ـ وسيلة. ومنها حرصي على أن يظهر صدق دعواي فيما كنت أهتف به ، وأظنّ أنّي لا أصدق. ومنها اغتنام المفارقة في زمن الأمان ، والهدنة الطويلة ، والاستغناء ، إذ كان الانصراف المفروض ضروريا قبيحا في غير هذه الحال. ومنها ـ وهو أقوى الأعذار ـ أنني مهما لم أطق تمام هذا الأمر ، أو ضاق ذرعي به ، لعجز ، أو مرض ، أو خوف طريق ، أو نفاد زاد ، أو شوق غالب ، رجعت رجوع الأب الشفيق ، إلى الولد البرّ الرّضي ، إذ لم أخلّف ورائي مانعا من الرجوع ، من قول قبيح أو فعل ، بل خلّفت الوسائل المرعية ، والآثار الخالدة ، والسّير الجميلة ، وانصرفت بقصد شريف فقت به أشياخي ، وكبار وطني ، وأهل طوري ، وتركتكم على أتمّ ما أرضاه ، مثنيا عليكم ،

__________________

(١) يريد : الميناء الذي يجاز منه إلى المغرب من الأندلس ؛ وهو جبل طارق.

(٢) التعشق : اللزوم للشيء من غير مفارقة.

(٣) في «المقاصد الحسنة» للسخاوي ص ٢٠٦ ، و «التخريجات المختصرة» لأبي الحسن بن ناصر الدين (نسخة نور عثمانية رقم ٧١٧) ورقة ٨٦ ظ ، و «موضوعات» على القاري ص ٨٧ ـ كلهم نقلا عن ابن حجر العسقلاني : «أنه حديث غير ثابت» ؛ وأضاف على القاري قوله : «قلت : هو من كلام الصوفية ، والمعنى : موتوا اختيارا قبل أن تموتوا اضطرارا ؛ والمقصود بالموت الاختياري : ترك الشهوات ، وما يترتّب عليها من الزلات والغفلات».

١٨٨

داعيا لكم. وإن فسح الله في الأمد ، وقضى الحاجة ، فأملى العودة إلى ولدي وتربتي ، وإن قطع الأجل ، فأرجو أن أكون ممّن وقع أجره على الله. (١)

فإن كان تصرفي صوابا ، وجاريا على السداد ، فلا يلام من أصاب ، وإن كان عن حمق ، وفساد عقل ، فلا يلام من اختلّ عقله ، وفسد مزاجه ، بل يعذر ، ويشفق عليه ، ويرحم ، وإن لم يعط مولاي أمري حقّه من العدل ، وجلبت الذّنوب ، وحشرت بعدي العيوب ، فحياؤه وتناصفه ينكر ذلك ، ويستحضر الحسنات ، من الترّبية والتعليم وخدمة السلف وتخليد الآثار وتسمية الولد وتلقيب السّلطان ، والإرشاد للأعمال الصّالحة والمداخة والملابسة ، لم يتخلّل ذلك قطّ خيانة في مال ولا سرّ ، ولا غشّ في تدبير. ولا تعلّق به عار ، ولا كدّره نقص ، ولا حمل عليه خوف منكم ، ولا طمع فيما بيدكم ، فإن لم تكن هذه دواعي الرّعي والوصلة والإبقاء ، ففيم تكون بين بني آدم.

وأنا قد رحلت. فلا أوصيكم بمال ، فهو عندي أهون متروك ، ولا بولد فهم رجالكم ، وخدّامكم ، وممّن يحرص مثلكم على الاستكثار منهم ، ولا بعيال ، فهي من مربيات بيتكم ، وخواصّ داركم ؛ إنّما أوصيكم بحظّي العزيز ـ كان ـ عليّ بوطنكم ، وهو أنتم ، فأنا أوصيكم بكم ، فارعوني فيكم خاصّة ، أوصيكم بتقوى الله ، والعمل لغد ، وقبض عنان اللهو في موطن الجدّ ، والحياء من الله الذي محّص وأقال ، وأعاد النعمة بعد زوالها (٢) «لينظر كيف تعملون». (٣) وأطلب منكم عوض ما وفّرته عليكم ، من زاد طريق ، ومكافأة ، وإعانة ، زادا سهلا عليكم ، وهو أن تقولوا لي : غفر الله لك ما ضيّعت من حقّي خطأ أو عمدا ؛ وإذا فعلتم ذلك فقد رضيت.

واعلموا أيضا على جهة النصيحة أن ابن الخطيب مشهور في كل قطر ، وعند كل

__________________

(١) يشير إلى قول الله تعالى : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) آية ١٠٠ من سورة النساء.

(٢) يشير إلى حادثة خلع ابن الأحمر عن ملكه ، والتجائه إلى بني مرين بالمغرب لإعادة ملكه إليه.

والحديث في ذلك مفصّل في العبر ٧ / ٣٠٦ ـ ٣٠٩ ، ٣٣٣ / ٣٣٤.

(٣) اقتباس من الآية ١٢٩ من سورة الأعراف.

١٨٩

ملك ، واعتقاده ، وبرّه ، والسؤال عنه ، وذكره بالجميل ، والإذن في زيارته ، نجابة منكم ، وسعة ذرع (١) ودهاء ، فإنّما كان ابن الخطيب بوطنكم سحابة رحمة نزلت ، ثم أقشعت ، (٢) وتركت الأزاهر تفوح ، والمحاسن تلوح ، ومثاله معكم مثال المرضعة أرضعت السياسة ، والتّدبير الميمون ، ثم رقدتكم في مهد الصّلح والأمان ، وغطّتكم بقناع العافية ، وانصرفت إلى الحمّام تغسل اللبن والوضر ، وتعود ، فإن وجدت الرّضيع نائما فحسن ، أو قد انتبه فلم تتركه إلا في حدّ الفطام. ونختم لكم هذه الغزارة (٣) بالحلف الأكيد : إني ما تركت لكم وجه نصيحة في دين ، ولا في دنيا ، إلا وقد وفّيتها لكم ، ولا فارقتكم إلا عن عجز ، ومن ظنّ خلاف هذا فقد ظلمني وظلمكم ، والله يرشدكم ويتولّى أمركم. ونقول : خاطركم في ركوب البحر.

انتهت نسخة الكتاب ، وفي طيّها هذه الأبيات :

صاب (٤)مزن(٥) الدموع منجفن صبّك (٦)

عند ما استروح (٧) الصبا من مهبّك

كيف يسلو يا جنّتي عنك قلب

كان قبل الوجود جنّ بحبّك

ثم قل كيف كان بعد انتشاء ال

روح (٨) من أنسك الشّهيّ وقربك

__________________

(١) يقال : رجل واسع الذّرع ، والذراع : أي متسع الخلق.

(٢) أقشع السحاب : تفرق وأقلع.

(٣) الغزارة : الكثرة من كل شيء ؛ ويريد هنا : الكثرة من الكلام ليس تحتها طائل. و «العرارة» ، بالعين المهملة : سواء الخلق.

(٤) صاب المطر ، يصوب : نزل.

(٥) المزن : السحاب.

(٦) الصب : العاشق.

(٧) استروح : اشتم.

(٨) انتشاء الروح : سكر الروح ، من انتشى بمعنى سكر.

١٩٠

لم يدع بيتك المنيع حماه

لسواه إلا إلى بيت ربك

أول عذري الرّضا فما جئت بدعا

دمت والفضل والرّضا من دأبك

وإذا ما ادّعيت كربا لفقدي

أين كربي ووحشتي من كربك

ولدي في ذراك (١) وكري (٢) في دو

حك (٣) لحدي وتربتي في تربك

يا زمانا أغرى الفراق بشملي

ليتني أهبتي أخذت (٤) لحربك

أركبتني صروفك الصّعب (٥) حتى

جئت بالبين وهو أصعب صعبك

وكتب آخر النّسخة يخاطبني :

هذا ما تيسّر ، والله وليّ الخيرة لي ولكم من هذا الخباط (٦) الذي لا نسبة بينه وبين أولي الكمال. ردّنا الله إليه ، وأخلص توكّلنا عليه ، وصرف الرّغبة إلى ما لديه.

وفي طيّ النسخة مدرجة نصّها :

رضي الله عن سيادتكم. أونسكم بما صدر منّي أثناء هذا الواقع مما استحضره الولد في الوقت ، وهو يسلّم عليكم بما يجب لكم ، وقد حصل من حظوة هذا المقام الكريم

__________________

(١) في ذراك : في كنفك.

(٢) وكر الطائر : عشه.

(٣) جمع دوحة ؛ وهي الشجرة العظيمة.

(٤) أخذ أهبته : أعد عدته.

(٥) ركب الصعب والذلول : الأمر الشديد والسهل.

(٦) الخباط ، كغراب : داء مثل الجنون.

١٩١

على حظّ وافر ، وأجزل إحسانه ، ونوّه بجرايته ، وأثبت الفرسان خلفه. والحمد لله انتهى.

ثم اتّصل مقامي ببسكرة ، والمغرب الأوسط مضطرب بالفتنة المانعة من الاتّصال بالسّلطان عبد العزيز ، وحمزة بن علي بن راشد ببلاد مغراوة ، والوزير عمر بن مسعود في العساكر يحاصره بحصن تاجحمومت ، وأبو زيّان العبد الوادي ببلاد حصين ، وهم مشتملون عليه وقائمون بدعوته.

ثم سخط السّلطان وزيره عمر بن مسعود ، ونكر منه تقصيره في أمر حمزة وأصحابه ، فاستدعاه إلى تلمسان ، وقبض عليه ، وبعث به إلى فاس معتقلا ، فحبس هناك ، وجهّز العساكر مع الوزير أبي بكر بن غازي ، فنهض إليه ، وحاصره ففرّ من الحصن ، ولحق بمليانة مجتازا عليها ، فأنذر به عاملها فتقبّض عليه ، وسيق إلى الوزير في جماعة من أصحابه ، فضرب أعناقهم ، وصلبهم عظة ومزدجرا لأهل الفتنة.

ثم أوعز السّلطان إلى الوزير بالمسير إلى حصين ، وأبي زيّان ، فسار في العسكر ، واستنفر أحياء العرب من زغبة فأوعبهم ، ونهض إلى حصين ، فامتنعوا بجبل تيطري ، ونزل الوزير بعساكره ومن معه من أحياء زغبة على الجبل تيطري من جهة التل ، فأخذ بمخنّقهم ، وكاتب السّلطان أشياخ الدّواودة من رياح بالمسير إلى حصار تيطري من جهة القبلة. وكاتب أحمد بن مزنى صاحب بسكرة بإمدادهم بأعطياتهم وكتب إليّ يأمرني بالمسير بهم لذلك ، فاجتمعوا عليّ ، وسرت بهم أول سنة أربع وسبعين ، حتى نزلنا بالقطفة ، (١) ووفدت ، في جماعة منهم ، على الوزير بمكانه من حصار تيطري ، فحدّ لهم حدود الخدمة ، وشارطهم على الجزاء. ورجعنا إلى أحيائهم بالقطفة ، فاشتدّوا في حصار الجبل ، وألجؤوهم بسوامهم (٢) وظهرهم (٣) إلى قنّته ،

__________________

(١) تقع القطفة شرقي مدينة مليانة ؛ وفي بغية الرواد ٢ / ٨١ : «... نزلوا القطفة من بلاد حصين ، فرحل مشرقا إليهم ، ونزل مليانة».

(٢) السوام ، والسائمة : الإبل الراعية ، والمال الرّاعي.

(٣) الظهر : الركاب التي تحمل الإنسان في السفر.

١٩٢

فهلك لهم الخفّ والحافر ، (١) وضاق ذرعهم (٢) بالحصار من كلّ جانب ، وراسل بعضهم في الطاعة خفية ، فارتاب بعضهم من بعض ، فانفضّوا ليلا من الجبل ، وأبو زيّان معهم ، ذاهبين إلى الصحراء ؛ واستولى الوزير على الجبل بما فيه من مخلّفهم. ولما بلغوا مأمنهم من القفر ، نبذوا إلى أبي زيّان عهده. (٣) فلحق بجبال غمّرة ، ووفد أعيانهم على السّلطان عبد العزيز بتلمسان ، وفاءوا إلى طاعته ، فتقبّل فيئتهم ، وأعادهم إلى أوطانهم. وتقدّم إليّ الوزير ـ عن أمر السّلطان ـ بالمسير مع أولاد يحيى بن علي بن سباع ، للقبض على أبي زيّان في جبل غمّرة ، وفاء بحقّ الطاعة ، لأن غمّرة من رعاياهم ، فمضينا لذلك ، نجده عندهم ، وأخبرونا أنّه ارتحل عنهم إلى بلد واركلا (٤) من مدن الصحراء ، فنزل على صاحبها أبي بكر بن سليمان ، فانصرفنا من هنالك. ومضى أولاد يحيى بن علي إلى أحيائهم ، ورجعت أنا إلى أهلي ببسكرة ، وخاطبت السّلطان بما وقع في ذلك ، وأقمت منتظرا أوامره حتى جاءني استدعاؤه إلى حضرته ، فارتحلت إليه.

فصل

وكان الوزير ابن الخطيب آية من آيات الله في النظم والنثر ، والمعارف والأدب ، لا ساجل مداه ، (٥) ولا يهتدى فيها بمثل هداه.

__________________

(١) الخف للبعير والناقة ، بمنزلة الحافر للفرس. وفي الحديث : «لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر» ؛ فالخف الإبل. والحافر الفرس ، والنصل السهم يرمي به. ويكون الحافر للخيل والبغال والحمير.

(٢) ضاق به ذرعا : مثل يضرب للذي سقطت قوته دون بلوغ الأمر ، والاقتدار عليه.

(٣) نبذ العهد : نقضه ، وألقاه إلى من كان بينه وبينه.

(٤) واركلاWargla) عرضها الشمالي ٣٢ ، وطولها الشرقي ٢٥ ـ ٥) : مدينة بصحراء الجزائر في جنوب مدينةTuggurt ، ويصل بينهما طريق تسلكه القوافل. وتقع في واحة بها ماء وكلأ ونخيل ؛ وبها تسمى الناحية كلها. ويقال لها : «واركلان» ، و «وارجلن». انظر ياقوت ٨ / ٤١٤ ، الإدريسي ص ١٢٠ بغية الرواد ٢ / ٢٣ ، ٢٣.

(٥) المدى : الغاية.

١٩٣

فممّا كتب عن سلطانه إلى سلطان تونس جوابا عن كتاب وصل إليه مصحوبا بهدية من الخيل والرّقيق ، فراجعهم عنه بما نصّه إلى آخره :

الخلافة التي ارتفع في عقائد فضلها الأصيل القواعد الخلاف ، واستقلّت مباني فخرها الشائع ، وعزّها الذائع ، على ما أسّسه الأسلاف ووجب لحقّها الجازم ، وفرضها اللازم ، الاعتراف ، ووسعت الآملين لها الجوانب الرحيبة والأكناف ، فامتزاجنا بعلائها (١) المنيف ، وولائها الشريف ، كما امتزج الماء والسّلاف ، وثناؤنا على مجدها الكريم وفضلها العميم ، كما تأرجت الرياض الأفواف ، (٢) لما زارها الغمام الوكّاف ، (٣) ودعاؤنا بطول بقائها ، واتصال علائها ، يسمو به إلى قرع أبواب السموات العلا الاستشراف ، (٤) وحرصنا على توفية حقوقها العظيمة ، وفواضلها (٥) العميمة ، لا تحصره الحدود ، ولا تدركه الأوصاف ، وإن عذر في التّقصير عن نيل ذلك المرام الكبير الحقّ والإنصاف. خلافة وجهة تعظيمنا إذ توجّهت الوجوه ، ومن نؤثره إذا أهمّنا ما نرجوه ، ونفدّيه ونبدّيه (٦) إذ استمنح

__________________

(١) العلاء : الشرف.

(٢) كذا بالأصول ؛ ولعل أصل الكلام : «الرياض بالأفواف» ؛ والفوف ، بالضم : الزهر ، والجمع أفواف.

(٣) وكف الماء : سال.

(٤) الاستشراف : التطلع إلى الشيء.

(٥) الفواضل : الأيادي الجميلة.

(٦) فداه : قال له جعلت فداك ؛ ونبديه : نبرزه. ولعل المعنى : نضعه في مكان بارز ممتاز.

١٩٤

المحبوب واستدفع المكروه ، السّلطان الكذا بن أبي اسحق ابن السّلطان الكذا ، (١) أبي يحيى بن أبي بكر ابن السّلطان الكذا ، أبي زكرياء ابن السّلطان الكذا ، أبي إسحاق ابن الأمير الكذا ، أبي زكرياء ابن الشيخ الكذا ، أبي محمد بن عبد الواحد ابن أبي حفص ، أبقاه الله ومقامه مقام إبراهيم رزقا وأمانا. لا يخض جلب الثمرات إله وقتا ولا يعين زمانا ، وكان على من يتخطف الناس من حوله (٢) مؤيّدا بالله معانا.

معظّم قدره العالي على الأقدار ، ومقابل داعي حقّه بالابتدار ، المثني على معاليه المخلّدة الآثار ، في أصونة (٣) النّظام والنّثار ، (٤) ثناء الروضة المعطار ، على الأمطار ،

__________________

(١) أدخل ابن الخطيب «أل» على «كذا» الموضوعة للكناية عما لم يرد المتكلم ذكره. وقد شاع في رسائله هذا الاستعمال ؛ فقد ورد في الاستقصا ٢ / ٩٦ ، نفح الطيب ـ أزهرية ٤ / ١٣٧. والمكنّى عنه في هذه الرسالة هي الأوصاف التي حلّى بها سلطان تونس ، ونصّها حسبما وردت في ريحانة الكتاب لابن الخطيب ورقة ٢٥ أو صبح الأعشى ٦ / ٥٣٦ : «الخليفة ، الجليل ، الكبير ، الشهير ، الإمام ، الهمام ، الأعلى ، الأوحد ، الأصعد ، الأسمى ، الأعدل ، الأفضل ، الأسنى ، الأطهر ، الأظهر ، الأرضى ، الأحفل ، الأكمل ، أمير المؤمنين أبي إسحاق بن الخليفة الإمام ، البطل الهمام ، عين الأعيان ، وواحد الزمان ، الكبير الشهير ، الطاهر الظاهر ، الأوحد ، الأعلى ، الحسيب ، الأصيل ، الأسمى ، العادل ، الحافل ، الفاضل ، المعظّم ، الموقر ، الماجد ، الكامل ، الأرضى ، المقدس ، أمير المؤمنين أبي يحيى ، أبي بكر بن السّلطان الكبير ، الجليل ، الرفيع ، الماجد ، الظاهر ، الطاهر ، المعظم ، الموقر ، الأسمى ، المقدس ، المرحوم أبي زكريا بن الخليفة الإمام المجاهد الهمام ، (الشهير ، الخطير ، بطل الميدان ، مفخر الزمان ، الطاهر الظاهر ، الأمضى ، المقدس ، الأرضى ، أمير المؤمنين أبي إسحاق بن الخليفة) الهمام ، الإمام ، ذي الشهرة الجامحة ، والمفاخر الواضحة ، علم الأعلام ، فخر السيوف والأقلام ، المعظم ، الممجّد ، المقدس الأرضى ، أمير المؤمنين المستنصر بالله أبي عبد الله بن أبي زكريا بن عبد الواحد بن أبيحفص الخ».

وقد وضع بين قوسين ما أضيف من الريحانة إلى النص المروي في صبح الأعشى.

(٢) إشارته إلى الآيات ٣٥ ـ ٣٧ من سورة إبراهيم واضحة.

(٣) جمع صوان ؛ وهو ما صنت به الشيء.

(٤) النثار : النثر.

١٩٥

الداعي إلى الله بطول بقائه في عصمة منسدلة الأستار ، وعزّة ثابتة المركز مستقيمة المدار ، وأن يختم له بعد بلوغ غايات الحال ، ونهاية الأعمال ، بالزّلفى وعقبى الدار.

(عبد الله الغنيّ بالله أمير المسلمين ، محمد بن مولانا أمير المسلمين ، أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر). (١)

سلام كريم كما حملت أحاديث الأزهار نسمات الأسحار ، وروت ثغور الأقاحي والبهار ، عن مسلسلات الأنهار ، وتجلّى على منصّة الاشتهار ، وجه عروس النهار ، يخصّ خلافتكم الكريمة النّجار ، العزيزة الجار ، ورحمة الله وبركاته.

أما بعد حمد الله الذي أخفى حكمته البالغة عن أذهان البشر ، فعجزت عن قياسها ، وجعل الأرواح «أجنادا مجنّدة» ـ كما ورد في الخبر (٢) ـ تحن إلى أجناسها ، منجد هذه الملّة من أوليائه الجلّة بمن يروض الآمال بعد شماسها ، (٣) وييسّر الأغراض قبل التماسها ، ويعنى بتجديد المودّات في ذاته وابتغاء مرضاته على حين أخلاق لباسها ، الملك الحقّ ، واصل الأسباب (بحوله) بعد انتكاث أمراسها ، (٤) ومغني النفوس بطوله ، بعد إفلاسها حمدا يدرّ أخلاف (٥) النّعم بعد إبساسها ، (٦) وينشر رمم الآمال من أرماسها ، (٧) ويقدّس النفوس بصفات ملائكة السموات بعد إبلاسها. (٨)

__________________

(١) الزيادة عن نثير الجمان ؛ وهي ضرورية.

(٢) يشير إلى الحديث : «الأرواح جنود مجندة ، ما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف» الذي أخرجه مسلم في «الأدب» من صحيحه. وانظر المقاصد الحسنة للسخاوي ص ٢٣ / ٢٤.

(٣) شمست الدابة شماسا : شردت وجمحت.

(٤) جمع مرس ؛ وهو الحبل. وانتكث الحبل : انتقض بعد أن كان مبرما.

(٥) الأخلاف ، جمع خلف (بالكسر) ؛ وهو الضرع.

(٦) أبس بالناقة : دعا ولدها لتدر على حالبها.

(٧) جمع رمس ؛ وهو القبر.

(٨) الإبلاس : القنوط ، وقطع الرجاء.

١٩٦

والصلاة والسلام على سيّدنا ومولانا محمّد رسوله سراج الهداية ونبراسها (١) عند اقتناء الأنوار واقتباسها ، مطهّر الأرض من أوضارها وأدناسها ، ومصطفى الله من بين ناسها ، وسيّد الرّسل الكرام ما بين شيثها وإلياسها ، الآتي مهيمنا على آثارها ، في حين فترتها (٢) ومن بعد نصرتها واستيئاسها ، (٣) مرغم الضّراغم في أخياسها ، (٤) بعد افترارها وافتراسها ، (٥) ومعفر أجرام الأصنام ومصمت أجراسها.

والرضا عن آله وأصحابه وعترته وأحزابه ، حماة شرعته البيضاء وحرّاسها ، وملقحي غراسها ، ليوث الوغى عند احتدام (٦) مراسها ، (٧) ورهبان الدّجى تتكفّل مناجاة السّميع العليم ، في وحشة الليل البهيم بإيناسها ، وتفاوح نسيم الأسحار ، عند الاستغفار ، بطيب أنفاسها.

والدّعاء لخلافتكم العلية المستنصرية بالصّنائع التي تشعشع أيدي العزّة القعساء (٨) من أكواسها ، ولا زالت العصمة الإلهية كفيلة باحترامها واحتراسها ، وأنباء الفتوح ، المؤيّدة بالملائكة والرّوح ، ريحان جلاسها وآيات المفاخر التي ترك الأول للآخر ، مكتتبة الأسطار بأطراسها ، وميادين الوجود مجالا لجياد جودها وباسها ، والعزّ والعدل منسوبين لفسطاطها (٩) وقسطاسها ، وصفيحة (١٠) النصر العزيز تقبض

__________________

(١) النبراس (بالكسر) : المصباح.

(٢) الفترة : ما بين كل نبيين ، أو رسولين من زمان انقطعت فيه الرسالة.

(٣) استيأس : يئس ؛ وابن الخطيب ينظر إلى الآية : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا ...).

(٤) جمع خيس ؛ وهو موضع الأسد.

(٥) افتر الأسد : أبدى أسنانه ؛ يريد بعد أن كانت تفتر عن أسنانها وتفترس.

(٦) الاحتدام : شدة الحر ، واحتدمت النار : التهبت.

(٧) المراس : المضاربة.

(٨) عزة قعساء : ثابتة.

(٩) الفسطاط : المدينة ، ومجتمع أهل المصر حول جامعهم.

(١٠) الصفيحة : السيف العريض.

١٩٧

كفّها ، المؤيّدة بالله ، على رياسها ، (١) عند اهتياج أضدادها ، وشره (٢) أنكاسها ، (٣) لانتهاب البلاد وانتهاسها (٤) وهبوب رياح رياحها وتمرد مرداسها. (٥)

فإنا كتبناه إليكم ـ كتب الله لكم من كتائب نصره أمدادا تذعن أعناق الأنام ، لطاعة ملككم المنصور الأعلام ، عند إحساسها ، (٦) وآتاكم من آيات العنايات ، آية تضرب الصخرة الصمّاء ، ممّن عصاها بعصاها ، فتبادر بانبجاسها ، (٧) ـ من حمراء غرناطة ، حرسها الله ، وأيام الإسلام ، بعناية الملك العلام ، تحتفل وفود الملائكة الكرام ، لولائمها وأعراسها ، وطواعين الطّعان ، في عدوّ الدين المعان ، تجدّد عهدها

__________________

(١) رئاس السيف ، ورياسه : مقبضه ، وقائمه.

(٢) الشره : شدة الحرص ، وأسوؤه.

(٣) الأنكاس : جمع نكس ؛ وهو الرجل الضعيف.

(٤) انتهس اللحم : أخذه بمقدم أسنانه. والمراد الاستيلاء على الأراضي وانتقاصها من الأطراف ، فعل من يتنقص قطعة اللحم بالأكل.

(٥) رياح من أكثر القبائل الهلالية جمعا ، وأوفرهم عددا. وأبوهم : رياح بن أبي ربيعة بن نهيك بن هلال بن عامر. والرياسة على رياح في عهد ابن خلدون لأبناء داود بن مرداس بن رياح ؛ وإلى داود هذا تنتسب «الدّواودة».

وقد أفاض الحديث عن هذه القبائل ، وعما كان لها من آثار في المغرب ، وعن منازلها ورؤسائها ـ ابن خلدون في العبر ٦ / ٣١ ـ ٣٧.

(٦) الإحساس : الرؤية والعلم.

(٧) انبجس الماء : تفجر ؛ وفي الكلام معنى الآية :

(... وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ ، فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) الخ. ١٦٠ من سورة الأعراف.

١٩٨

بعام عمواسها. (١)

والحمد لله حمدا معادا يقيّد شوارد النّعم ، ويستدرّ مواهب الجود والكرم ويؤمّن من انتكاث الجدود (٢) وانتكاسها ، (٣) وليّ الآمال ومكاسها ، (٤) وخلافتكم هي المثابة التي يزهى الوجود بمحاسن مجدها ، زهو الرياض بوردها وآسها ، وتستمدّ أضواء الفضائل من مقباسها ، (٥) وتروي رواة الإفادة ، والإجادة غريب الوجادة ، (٦) عن ضحّاكها وعبّاسها. (٧) وإلى هذا أعلى الله معارج قدركم ، وقد فعل ، وأنطق بحجج فخركم من احتفى وانتعل ، فإنّه وصلنا كتابكم الذي حسبناه ، على صنائع الله لنا ، تميمة (٨) لا تلقع (٩) بعدها عين ، وجعلناه ـ على حلل مواهبه ـ قلادة لا يحتاج معها زين ، ودعوناه من جيب الكنانة (١٠) آية بيضاء الكتابة ، لم يبق معها شكّ ولا

__________________

(١) عمواس ، بفتح العين والميم ، وبسكون الميم مع فتح العين أو كسرها : قرية بفلسطين بين الرملة وبيت المقدس. وفيها وقع الطاعون الذي كان في سنة ١٨ ه‍ ، مات فيه كثير من الناس ، ويقال إنه أول طاعون كان في الإسلام. وانظر تاريخ الطبري ٤ / ٢٠١ ـ ٢٠٣ ، معجم البكري ٣ / ٩٧١ ، ياقوت ٦ / ٢٢٥ ، تاج العروس (عمس).

(٢) انتكث : انصرف. والجد : الحظ والبخت ، والجمع : الجدود.

(٣) انتكس : انقلب على رأسه ، وخاب وخسر.

(٤) المكاس : المشاحة ، والمشاكسة.

(٥) أقبس فلان : أعطى نارا ، والمقباس : ما قبست به النار.

(٦) الوجادة (بالكسر) : أن تجد بخط غيرك شيئا ، فتقول عند الرواية : وجدت بخط فلان كذا ؛ وحينذاك يقال : «هذه رواية بالوجادة». وللمحدثين في كيفية التحديث عن طريق الوجادة ، ودرجة الثقة بها ، وشروطها ؛ تفصيل تجده في (فتح المغيث) للعراقي ٣ / ١٥ وما بعدها.

(٧) المسمون ب «الضحاك» ، و «عباس» من المحدثين كثير ، وليس يريد ابن الخطيب أحدا منهم بعينه ، وإنما يقصد إلى «الطباق» بين ضحاك ، وعباس.

(٨) التميمة : عوذة تعلق على الإنسان يتعوذ بها.

(٩) لقعة بعينه : أصابه بها ، ويقول أبو عبيدة : إن اللقع لم يسمع إلا في الإصابة بالعين.

(١٠) الكنانة : جعبة السهام تتخذ من جلود لا خشب فيها.

١٩٩

مين ، وقرأنا منه وثيقة ودّ هضم فيها عن غريم الزمان دين ، ورأينا منه إنشاء ، خدم اليراع بين يديه وشاء ، واحتزم بهميان (١) عقدته مشّاء ، وسئل عن معانيه الاختراع فقال : «إنا أنشأناهن إنشاء» ، فأهلا به من عربي أبي يصف السانح والبانة ، (٢) ويبين فيحسن الإبانة ، أدى الأمانة ، وسئل عن حيّه فانتمى إلى كنانة ، (٣) وأفصح وهو لا ينبس ، (٤) وتهللت قسماته وليل حبه يعبس ، وكأن خاتمه المقفل على صوانه ، (٥) المتحف بباكر الورد في غير أوانه ، رعف من مسك عنوانه ، ولله من قلم دبّج تلك الحلل ، ونقع بمجاج (٦) الدواة المستمدّة من عين الحياة الغلل ، (٧) فلقد تخارق في الجود ، مقتديا بالخلافة التي خلد فخرها في الوجود ، فجاد بسرّ البيان ولبابه ، وسمح في سبيل الكرم حتى بماء شبابه ، وجمع لفرط بشاشته وفهامته ، بعد شهادة السيف بشهامته ، فمشى من الترحيب ، في الطّرس الرحيب ، على أمّ هامته.

وأكرم به من حكيم ، أفصح بملغوز (٨) الإكسير ، (٩) في اللفظ اليسير ، وشرح

__________________

(١) الهميان (بالكسر) : المنطقة ؛ والكلام على تشبيه القلم المتخذ من القصب ، وفي وسطه عقدة ، بالرجل قد اتخذ منطقة في وسطه.

(٢) السانح : ما أتاك من عن يمينك من ظبي أو طير ؛ وهو مما يتيمنون به. والبانة واحدة البان ؛ وهو شجر يسمو ويطول في استواء مثل نبات الأثل ، ويتخذ منه دهن.

(٣) كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر ، أبو القبيلة ؛ وهو الجد الرابع للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٤) ما نبس بكلمة : أي ما تكلم.

(٥) الصوان : ما تصون به الشيء.

(٦) مجاج الدواة : ما تمجه.

(٧) نقع الماء غلته : أروى عطشه.

(٨) كذا في الأصول. والصواب «ملغز» ، لأن فعله رباعي.

(٩) الإكسير : الكيمياء ، وهي كلمة مولدة. ولأهل الصنعة في الإكسير كلام مغلق طويل فيه العجب. ويطلقون الإكسير أيضا على «الحجر المكرم» ؛ وهو المادة التي تلقى على المواد حال ذوبانها ، فتحولها إلى ذهب أو فضة بزعمهم. وانظر تاج العروس (كسر) وشفاء الغليل ص ١٦.

٢٠٠