الأزهر في ألف عام - ج ١

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي

الأزهر في ألف عام - ج ١

المؤلف:

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٦

لدراسة اللغة الانجليزية ، لإرسال أعضائها إلى البلاد العربية الإسلامية التي لا تجيد التخاطب باللغة العربية.

ولم يكتف فضيلته بذلك بل عنى أيضا بربط الجامع الأزهر بجميع المعاهد الإسلامية في بقاع الأرض ، فاهتم بشئون التعليم في الباكستان والهند والملايو وأندونسيا وأفريقيا الجنوبية.

وإلى جوار هذا وذاك عمل على التمكين لأبناء المسلمين بطلب العلم في الأزهر وفتح أبوابه للوافدين حتى بلغت البعوث الإسلامية في عهده ما يزيد على ألفي طالب ، خصصت لهم أماكن الدراسة والمسكن اللائق.

وأخذ يعمل على زيادة المعاهد الدينية في عواصم المديريات ، وقد افتتحت في عهده أربعة معاهد نظامية كبيرة ، هي معاهد المنصورة والمنيا وسمنود ومنوف.

وهكذا مضى في سياسته الإصلاحية والتوسع في رسالة الأزهر ، وقد نال الأزهر بفضل جهوده وتقواه خيرا كثيرا ، فارتفعت ميزانيته إلى أكثر من مليون جنيه ، ووضع مشروع كادر لتسوية أساتذة الكليات في الأزهر بزملائهم الجامعيين.

وكان من رأيه رحمه الله جعل دراسة الدين مادة أساسية في المدارس ليقي النشىء من الآراء الفاسدة ، وما زال ينافح عن هذا الرأي حتى تحققت أمنيته وتقررت دراسة الدين مادة أساسية في المدارس.

ومنذ شهور مرض مرضا ألزمه الفراش ، ولكن ثقته بالله وشدة إيمانه حفزاه على مقاومة العلة ، وتمكن الأطباء في النهاية من القضاء عليها.

ورأى أن يستجم في الاسماعيلية عند نجله الأستاذ عبد العزيز الشناوي فسافر إليها وكان ينعم فيها بالصحة التامة ، وزاره كثيرون من أصدقائه ومن كبار رجال الأزهر هناك.

ولكن القدر المحتوم أبى إلا أن يوافيه في الاسماعيلية فأصيب بنوبة قلبية

٣٠١

حادة تمكن الأطباء من مقاومتها ، ثم أصيب في عقبها بالتهاب رئوي كان أيسر وأهون ما لقيه في مرضه ، ولكن استعصي دواؤه على الأطباء ، وفاضت روحه الطاهرة إلى بارئها فلقي ربه راضيا مرضيا.

وقد شيعت جنازته يوم الثلاثاء ٥ سبتمبر ١٩٥٠ بما يليق بمكانته التي كانت له في القلوب ، وبأعماله الجليلة في خدمة الإسلام والمسلمين .. وصلى عليه في الأزهر الشريف ، وكبر المؤذنون في شتى المساجد حينما صلى عليه ، ثم وورى جسده الطاهر التراب.

ـ ٧ ـ

لقد كان ـ رحمه الله وطيب ثراه ـ كريم الخلق نبيل النفس رائعا في وقاره وهيبته وسمته وصلاحه وورعه وزهده ، ذا شخصية قوية بارزة.

وكان موضع المهابة من الجميع يجلونه ويحترمونه ويرجعون أإليه يستفتونه ، كان موثوقا بعلمه ورأيه ، واسع الثقافة ، كثير الإطلاع.

اشترك في كل الأعمال التي كانت تبذل لإصلاح الأزهر وتنظيمه في الربع الثاني من القرن العشرين .. وتقول جريدة المصور من مقال عنه بعد وفاته :

كان رحمه الله يتذوق الشعر وينظمه ويقدر الشعراء .. وقد ترك في مكتبته الكبيرة في بيته بالحلمية الجديدة ، مجموعة من دواوين الشعر وكتب الأدب ، غير كتب الدين والتاريخ الإسلامي والبلاغة والفلسفة والأصول والحديث والفقه والتوحيد.

وخير الشعراء عنده شاعران : المتنبي وشوقي .. وقد عثرت بين أوراقه على بعض القصائد التي نظمها بنفسه أيام الشباب.

أمضى المرحوم الشيخ مأمون الشناوي حياته في الدرس والاطلاع ، وقد اعتاد منذ أيام الشباب أن يتلو بعض الأدعية قبل كل صلاة وبعدها وفي الطريق بين

٣٠٢

البيت ومقر العمل .. وكان يكتب بعضها ويضعها في حافظته لتلازمه على الدوام وتصونه من المكاره .. وظل محافظا على ذلك لا يتهاون فيه إلى أن دعاه الله إليه.

ووجدت بين مخلفاته ورقة كتب فيها بخطه : «يد الله فوق أيديهم» وورقة أخرى كتب فيها بخطه أيضا : «اللهم اهدني من عندك ، وأمنن علي من فضلك ، وانشر علي من رحمتك ، وانزل علي من بركاتك ، اللهم استرني بسترك الجميل ، اللهم ارزقني سعادة الدارين واكفني همهما».

وكان بعد الصلاة يتلو دعاء طويلا هذه بدايته : «الله أكبر الله أكبر ، بسم الله على نفسي وديني ، بسم الله على أهلي ومالي ، بسم الله على كل شيء أعطانيه ربي ، بسم الله خير الأسماء ، بسم الله الذي لا يضر مع اسمه داء ، بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء ، وهو السميع العليم» ...

وقد ساهم رحمه الله في الحركة الوطنية عند قيامها في سنة ١٩١٩ ، فكان يلقي الخطب الحماسية في المساجد والكنائس ويكتب المقالات في الصحف ، بل نظم المظاهرات ، ومشى في طليعتها ، مع أنه كان وقتئذ قاضيا بمحكمة الاسكندرية الشرعية!.

لكنه كان ينفر من الحزبية ، ويرى أن رجل الدين لا ينبغي له أن يجمع بين الدين والسياسة ..

حينما كان إماما في السراي طلب إليه أحد رجال القصر أن ينضم إلى حزب الاتحاد فأبى ، ثم ألح عليه فازداد إباء وقال له : «إنني أستطيع بسهولة أن أخرج من الباب الذي دخلت منه».

وفي اليوم التالي دعاه رئيس الديوان لمقابلته ، وكان المرحوم توفيق نسيم ، وأبلغه أن الملك فؤاد أحيط علما بما حدث ، وأنه سر من موقفه ، ولكنه يأخذ عليه قوله إنه يستطيع الخروج بسهولة من الباب الذي دخل منه .. لأن الدخول من هذا الباب لا يستأثر به فريق من المصريين دون فريق.

٣٠٣

ولم يرث فضيلة الشيخ محمد مأمون الشناوي شيئا عن أبيه. وظل لا يملك إلا مرتبه ، حتى رأى في سنة ١٩٣٠ أن يستبدل بجزء من معاشه قطعة أرض زراعية هي كل ما كان يملك من حطام الدنيا ..

وكان رحمه الله قوي الإيمان ، كثير تحري العدالة ، يحب الهدوء والنظام ، ويشتد في الحق ، ويسوس من مرؤسيه باللين والعطف ، ويقسو أحيانا للتأديب .. وكانت داره في الحلمية الجديدة محط أهل الفضل والعلم والأدب .. وقالت مجلة الأزهر في تأبينه : «انتقل إلى الدار الآخرة في اليوم الرابع من شهر سبتمبر سنة ١٩٥٠ العالم الشيخ محمد مأمون الشناوي شيخ الجامع الأزهر متأثرا بداء عضال ألم به نحو ثلاثة أشهر ، فكان لنعيه أسف عميق لدى كل من عرفه وغشى مجلسه ، لما كان عليه ، رحمه الله ، من محاسن الشيم ، والتواضع ، وحسن الإصغاء لذوي الحاجات.

وقد تلقى رحمه الله العلم في الأزهر ، ونال درجة العالمية في سنة ١٩٠٦ ، وعين مدرسا في معهد الاسكندرية ، ثم تولى القضاء بالمحاكم الشرعية ، وتقلب في وظائفها واشتهر فيها بإيثار العدل والإنصاف. وفي سنة ١٩١٦ اختير ليكون إماما في السراي فظل في هذا المنصب نحو خمس سنين ، وفي سنة ١٩٣١ ، حين وضع للتدريس بالأزهر نظام جديد ، وقسمت الدراسة العالية فيه إلى ثلاثة فروع ، وأنشئت لها كليات ثلاث : واحدة للشريعة وأخرى لأصول الدين ، وثالثة للغة ، اختير الشيخ رحمه الله شيخا لكلية الشريعة ، فمكث يشغل منصبه فيها بكفاية محمودة ، وعمل قرابة ثلاث عشرة سنة. وفي سنة ١٩٤٤ أسندت إليه وكالة الجامع الأزهر ، وكان المرحوم الشيخ مصطفى المراغي شيخا له ، فلبث في هذا المنصب حتى توفي الأستاذ المذكور ، وترددت الحكومة في تخير رجل كفء لشغل منصب المشيخة ، فوقع الاختيار على المرحوم الأستاذ مصطفى عبد الرازق ، فرأى أن قانون الأزهر يشترط فيمن يتولى هذه الوظيفة أن يكون من هيئة كبار العلماء. ولم يكن الأستاذ المذكور منها ، فاستحسن أن ينقح هذا القانون حتى يتسع لتعيين

٣٠٤

من يصلح ممن لا تنطبق عليه شروطه من أجلاء العلماء ، ما دامت تتوافر فيه المؤهلات العلمية والأدبية. فلما عرض هذا الحل على المرحوم الشيخ محمد مأمون الشناوي أبى ورأى أن يستقيل من منصبه ، وأن يتولى هذا الأمر غيره. فقبلت استقالته ومضت الحكومة في إصلاح ذلك القانون ، وعين المرحوم الشيخ مصطفى عبد الرازق شيخا للأزهر : فلما كانت سنة ١٩٤٨ وتوفي الأستاذ المذكور ، أسندت الحكومة مشيخة الأزهر إلى الشيخ محمد مأمون الشناوي في الشهر الأول من تلك السنة فلبث فيها إلى أن وافاه أجله في الحين الذي ذكرناه آنفا. ومما يجب تسجيله للأستاذ المرحوم حالة الاستقرار الذي شمل جميع طلبة الكليات والمعاهد الأزهرية ، وما قام به للأزهريين من مساواة خريجيهم بخريجي الجامعة المصرية في المرتبات ، ومن عمله على تحقيق أمانيهم.

٣٠٥

الأستاذ الأكبر الشيخ عبد المجيد سليم

كان الأستاذ الأكبر عبد المجيد سليم من العلماء القلائل الذين قل أن شهد لهم الأزهر مثيلا : في سعة الأفق ، وجلال الخلق ، وعظمة النفس ، وقوة النزوع إلى المثل العليا ، فهو بحق خلف عظيم لأسلاف كرام.

تتلمذ على الإمام محمد عبده ، فتخرج عالما قديرا ، وشيخا جليلا ، وما لبث أن جعلته مواهبه وكفايته وشخصيته علما بين زملائه العلماء. وشاهد الأحداث الكبرى في تاريخ الوطن الديني والفكري والاجتماعي والسياسي ، واشترك فيها موجها وهاديا وشغل الكثير من المناصب الدينية الجليلة في الأزهر والقضاء الشرعي والإفتاء ، وكان لآرائه الدينية صداها البعيد في العالم الإسلامي كافة ، ثم عهد إليه بالإشراف على الدراسات العليا في الأزهر الجامعي ، ثم صارت إليه رياسة لجنة الفتوى ، فكان له في كل ناحية أعمال خالدة مأثورة .. وإصلاح الأزهر الجامعي في شتى أطواره المختلفة في العصر الحديث مدين لفضيلته بالرأي والتوجيه.

وقد ولد الشيخ عبد المجيد سليم في ١٣ أكتوبر ١٨٨٢ ، وتخرج من الأزهر عام ١٩٠٨ ، حاملا العالمية من الدرجة الأولى .. وشغل وظائف التدريس والقضاء والإفتاء ومشيخة الجامع الأزهر. ومكث في الإفتاء قرابة عشرين عاما. وله من الفتاوى ما يربو على خمسة آلاف.

ولقد تولى مشيخة الأزهر مرتين ، أقيل في أولهما لأنه نقد الملك.

٣٠٦

وقد ركز نشاطه في السنوات الأخيرة في الاشتغال بجماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية ، وقد جعلت هذه الجماعة من أهدافها أن تتفاهم الطوائف الإسلامية على ما ينفع المسلمين ، وأن تعمل على نسيان الخلاف واستلال الضغائن من بينهم ، وله في هذه الناحية كتابات ورسائل ومراسلات بينه وبين كثير من علماء البلاد الإسلامية ، فلم يقتصر فضله على العلم في مصر ، ولكنه تجاوز ذلك إلى آفاق الإسلام ، وإلى كل الطوائف.

ولفضيلته عدة رسائل مخطوطة ، وقد أثر عنه الشجاعة في قول الحق والجهر به أمام الحكام دون خوف أو حذر ، وقد استقال من الإفتاء عام ١٩٤٦ حين وجد حكومة ذلك العهد تريد التدخل في شؤون الأزهر ، وقال لرئيس ديوان الملك حين حذره من الخطر الذي سيلحقه : «إنني ما دمت أتردد بين بيتي والمسجد فلا خطر علي». عين فضيلته في مشيخة الأزهر للمرة الأولى يوم ٢٦ ذي الحجة عام ١٣٦٩ ه‍ ـ الثامن من شهر أكتوبر عام ١٩٥٠ وأعفي من المنصب في ٤ سبتمبر ١٩٥١ ثم تولى المشيخة لثاني مرة في ١٠ فبراير ١٩٥٢ واستقال من المنصب في ١٧ سبتمبر ١٩٥٢ ، وتوفي عليه رحمة الله في صباح يوم الخميس ١٠ من صفر ١٣٧٤ ه‍ ـ ٧ من أكتوبر ١٩٥٤ ، تاركا ذكريات إسلامية لا تنسى.

٣٠٧

الأستاذ الأكبر الشيخ ابراهيم حمروش

ملء القلوب والأسماع ، وحديث الخاصة والعامة ، وشخصية تكاد من جلالتها وتواضعها تعد مع الخالدين الأوائل من كبار أئمة الإسلام .. حجة في علوم الدين واللغة والأدب ، وإمام في المعقول والمنقول ، وشيخ كثير من علماء الأزهر المعاصرين ، تتلمذوا عليه ، ونهلوا من معين علمه الفياض ، واستمعوا لأحاديثه وآرائه في اللغة والبلاغة والأدب ، وفي علوم الشريعة وأحكامها ، وفي دقائق الاجتماع والتاريخ ، فكان لهم من ذلك علم غزير ، ومدد فياض .. ومجلسه العامر يفيض بالجديد الطريف من معارفنا الحاضرة ، وبالتليد القديم من علوم الأوائل ومعارفها ، وإلى جانب ذلك النكتة الرائقة والفكاهة الشائقة ، والآداب الرفيعة ، في سمت الصالحين الورعين ، والزاهدين العابدين ، مع التقوى والتواضع ، وعفة اللسان ، وطهارة القلب ، ويقظة الضمير. وهو صوفي ورع ، محب لآل البيت ، كثير الإجلال لذكرهم ، مع التوكل على الله والتباعد عن السياسة. وهو من أرومة عربية طيبة ، من عرب إقليم البحيرة ، حفظ القرآن ، وجاور في الأزهر ، وتتلمذ على الإمام محمد عبده ، ونال العالمية من الدرجة الأولى ، وشغل منصب التدريس في الأزهر ، ثم في مدرسة القضاء الشرعي ، ثم تدرج في مناصب القضاء ، ثم اختير شيخا لمعهد أسيوط ، فشيخا لمعهد الزقازيق ، فعميدا لكلية اللغة العربية ، فشيخا لكلية الشريعة .. ثم أسندت إليه رياسة لجنة الفتوى بالأزهر الشريف ، ثم منصب المشيخة العظمى ،

٣٠٨

والامامة الكبرى للإسلام والمسلمين. إلى جانب عضويته في مجمع اللغة العربية منذ نشأته حتى اليوم ، ولقد عاش طول حياته يحلم بإصلاح الأزهر ويعمل مع العاملين لهذا الهدف ، ويشترك في جميع اللجان التي ألفت لذلك.

ولقد تخرج الشيخ إبراهيم حمروش من الأزهر ، عام ١٩٠٦ ، وعين مدرسا في الأزهر ، ثم اختير للتدريس في مدرسة القضاء الشرعي ١٩٠٩ ، ومكث مدرسا بها حتى سنة ١٩١٦ ، ثم عين قاضيا في المحاكم الشرعية ، وظل يرقى في مناصبها ، إلى أن اختير عام ١٩٢٨ شيخا لمعهد أسيوط ، ونقل بعد شهور شيخا لمعهد الزقازيق ، ولما أنشئت الكليات الأزهرية اختير عام ١٩٣٢ شيخا لكلية اللغة العربية ، وفي عام ١٩٤٤ اختير شيخا لكلية الشريعة ، ثم استقال من منصبه عام ١٩٤٦ احتجاجا على السراي لتدخلها في شؤون الأزهر ، وعين عام ١٩٥٠ رئيسا للجنة الفتوى .. وهو عضو في المجمع اللغوي بالقاهرة منذ إنشائه عام ١٩٣٢.

وللأستاذ الأكبر مكانته الكبيرة في قلوب الأزهريين ، فهو حيثما حل وحيثما كان موضع التجلة والاحترام والتقدير ، من كل أزهري وكل مسلم .. ومكانته العظيمة في العالم الإسلامي في غنى عن البيان.

وإن معاهد الأزهر وكلياته لتفخر بجهوده في تنظيمها وفي توجيهها لأداء رسالتها ، ولقد نال مكانته المرموقة بما فطر عليه من نبل خلق وعظمة شخصية وسعة علم وصلاح وإيمان ...

كان في الوظائف الكبرى التي تقلدها مثالا عاليا للرئيس اليقظ العادل والإمام الراعي الساهر ، والشيخ الحكيم المدبر ، والعالم الحاني على طلاب العلم وشيوخه. وقد تولى الشيخ حمروش مشيخة الأزهر للمرة الأولى في ٤ سبتمبر عام ١٩٥١ وكانت له مواقف خالدة في الحركة الوطنية المصرية الأخيرة ، وأعفي من منصبه في ١٠ فبراير عام ١٩٥٢ لاشتراكه في الحركة الوطنية التي قام بها الشعب وقيادته للمظاهرة الشعبية

٣٠٩

التي خرجت تهتف بحرية مصر ، ومقالاته عن وجوب محاربة الاستعمار ، وأذكر أنه لما تولى المشيخة للمرة الأولى استقبل في الأزهر استقبالا حافلا ، وهنأته بهذه الأبيات :

عاد الدين مجده وسلامه

وحمى الدين هذه أيامه

ودع الأزهر الغداة ليالي

ه ، ونادته بالمنى أحلامه

تلك آماله الكبار ، وهذا

شيخه الأكبر الحكيم إمامه

يشهد الله أنه كاهل الدين ،

وللأزهر العريق سنامه

إن (إبراهيم) الملاذ لبيت الله

تسعى بسعيه أعلامه

أمة واحدة ، وفي الله مسعاه ،

وللحق عزمه ومقامه

أمل المسلمين ، والنور يهدي

ليس إلا للمكرمات اعتزامه

يا إمام الإسلام بايعك الأزهر

شيخا له ، وأنت سلامه

تلك آماله إليك ، وهذا

في يديك الكريمتين زمامه

وعلى منكبيك برد جلال

صيغ من نسج الصالحات وسامه

سر على يمن الله تحرس بيت العلم

في يمنى راحتيك وسامه

جمعت حولك القلوب وهذا البي

ت جذلان من هداك ابتاسمه

والشيخ حمروش ، هو البقية الباقية من علماء الأزهر الأعلام ، ومن الجيل القديم ، الذين يعتز بهم الأزهر الحديث ، والذين ليس لهم نظير في العلم والغيرة على شؤون الإسلام والعروبة ، أمد الله في حياته .. وما من أزهري اليوم إلا وهو من تلامذته ، أو من تلامذة تلامذته ..

ومن كلماته هذه الكلمة التي ألقاها في الأزهر في ذكرى الهجرة وهي : بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين : شاعت في الأمم السابقة خرافات وعقائد باطلة لم تكن وليدة بحث ودروس ونظر واستدلال ، وإنما هي أقوال ملفقة مما يأخذها الخلف عن السلف ، ويقلد فيها الأبناء آباءهم ، من غير فهم ولا روية ، وهي موضع تقديرهم ، ومحل اعتبارهم ، وأشد الناس تمسكا بها

٣١٠

ومحافظة عليها المترفون ، لأنهم يعتقدون أن في الدين زوالا لهيبتهم وذهابا لعظمتهم ، قال تعالى : (وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) ، وقد أرسل الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلّم إلى الناس كافة بدينه الذي ارتضاه لخلقه ، واختاره لعباده ، من يوم مبعثه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، فكان موقف أمته منه موقف الأمم السابقة من رسلها ، ولم تستحدث الأيام خلقا ، ولا حالت من الزمن العهود.

بدأ محمد صلى الله عليه وسلّم ، بدعوة العرب ، وكانوا وقتئذ أقل الناس حظا وأشقاهم عيشا ، وأبينهم ضلالة ، بأسهم بينهم شديد ، يقتتلون لأقل الأمور وأحقر الأسباب ، وكانوا متفرقين لا تجمعهم وحدة ، ولا يشملهم نظام ، وكان يجاور العرب دولتان عظيمتان : دولة الفرس ، ودولة الروم الشرقية ، استولت كل واحدة منهما على ما جاورها من بلاد العرب ، وجعلت عليه حاكما من العرب ، يعمل لها وينفذ إرادتها ، ويرعى مصالحها ، وبهذا الوضع كان العرب محصورين في جزيرتهم ، قانعين بما فيها من مفاوز وصحراوات. دعاهم صلى الله عليه وسلّم إلى خير الأمور ، وأفضل الأعمال : دعاهم إلى عبادة الله وحده ، وترك عبادة الأصنام ، لأنها لا تضر ولا تنفع ، ولا تعطي ولا تمنع ، ولا تدفع عن نفسها أذاة ، ولا تميط قذاة ، ولا تخلق حصاة ، ومع ظهور الحجة ووضوح البرهان ، وتنبيههم للحق في كثير من الآيات ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ، إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) إلى غير ذلك من الأمثال التي صرفها الله تعالى في كتابه ، ومع كل ذلك لم يؤمنوا به ، بل كذبوه أشد تكذيب وبالغوا في الإنكار ، وقالوا : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ). ومن جهلهم زعموا أن دعوة النبي صلى الله عليه وسلّم الناس إلى عبادة الله ، وترك عبادة الأصنام ، لم تكن إلا لأنه صلوات الله عليه يكره الأصنام ، ويريد الانتقام منها ، لأن بعضها اعتراه بسوء ، وألحق به ضررا ، فقالوا : (إِنْ نَقُولُ إِلَّا

٣١١

اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) ، فكان ذلك صراعا بين الحق والباطل ، وبين الحجة والبرهان ، والجهل والطغيان ، ولم يقفوا عند التكذيب والإنكار ، بل تجاوزا ذلك إلى إيذائه وإيذاء من شرح الله صدورهم للإسلام ، فقبلوا دعوته ؛ وآمنوا برسالته. وفازوا بشرف السبق ، وكلما بالغوا في الإيذاء ، بالغ صلى الله عليه وسلّم في الصبر ، واجتهد في الدعوة ، وكان صلى الله عليه وسلّم شديد الحرص ، عظيم الاهتمام بكثرة الأعوان والأنصار ، ليتمكن بذلك من أداء مهمته ، وتبليغ رسالته ، فكان عليه السلام يتلقى من أقبلوا إلى مكة في موسم الحج ، فيدعوهم إلى الإسلام ، ويقرأ عليهم القرآن ، فما أجابه أحد ، ومنهم من رد عليه ردا قبيحا ، وقد اجتهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم في مقابلة الوفود ، ولم يصرفه إيذاء قريش عن دعوته ، ولا الرد القبيح عن السعي في إدراك طلبته ، فكان يقابل الوفود في كل موسم ، ففي موسم التقى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بجماعة من الخزرج ، ولما عرض عليهم الإسلام قبلوه ، فكان ذلك الاجتماع مقدمة النجح ووسيلة الفوز ، فإنهم لما عادوا إلى أهلهم بالمدينة ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، والدين الذي يدعو إليه ، فأسلم منهم كثيرون ، وفي موسم آخر حضر جمع من مسلمي المدينة والتقى بهم رسول الله وبايعوه ، إن هاجر إليهم ، على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم ، وبعد ذلك أمر صلوات الله عليه ، أصحابه بالهجرة إلى المدينة واللحوق بإخوانهم ، وقال لهم : «إن الله قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها» فخرجوا أرسالا ، رجالا ونساء ، إلا من حيل بينهم وبين الهجرة من المستضعفين ، ولما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد صارت له شيعة وأصحاب من غير بلدهم ، وخرج أصحابه من المهاجرين إليهم ، وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم ، ائتمروا على قتله قبل الهجرة حتى يأمنوا حربه. ولما علم رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما أجمعت عليه قريش وعرف الليلة التي يريدون الفتك به في صبحها ، توجه صلوات الله عليه إلى أبي بكر ، وأخبره أن الله أذن له بالهجرة ، فسأله الصحبة ، فأجابه إليها ، واتعد على الهجرة في تلك الليلة ، وقد أمر النبي صلوات الله عليه علي بن ابي طالب أن ينام مكانه في تلك الليلة ويتسجى ببرده لئلا يرتاب أحد في وجوده ، وأصبحت فتيان قريش ينتظرون

٣١٢

خروجه صلى الله عليه وسلّم للفتك به ، فإذا بعلي يخرج إليهم ، فعلموا أنهم باتوا يحرسون عليا. ولما علمت قريش بذلك ثارت ثائرتهم وأخذوا يقتصون الأثر ، وجعلوا لمن يأتي به حيا مائة من الابل ، وهاجر صلى الله عليه وسلّم بإذن الله وفي رعايته وحفظه إلى أن بلغ المدينة ، ولما استقر بالمدينة أخذ ينشر دعوته ويبلغ رسالته إلى أن بلغ كل ما امر بتبليغه ، وبذلك تمت الشريعة ، وكمل النظام الذي وضعه العليم الحكيم.

والشريعة التي بلغها سمو بالعقول عن التقليد ، واتباع القول بلا دليل ، وأمر بالنظر فيما بث الله في الآفاق من آيات. ونصب في الكون من دلائل تدفعها إلى الاذعان بوجود الله ، وبما له من صفات الكمال : من القدرة التامة والعلم المحيط والتفرد بالسلطان فيما عداه ، يمضي فيه حكمه وينفذ قضاؤه ، وعبادة وخضوع وتقرب وخشوع. شكرا لمن خلقهم ، وأسبغ عليهم النعم الظاهرة والباطنة ، وتهذيب نفوس ، وتطهير قلوب ، وبعد عن الآثام والذنوب ، وتنزه عن الصغائر ، وصدق في القول ، وإخلاص في العمل ، وأمر بالمعروف ، ونهي عن المنكر ، وشجاعة ونجدة ، وإعداد عدة لارهاب الأعداء ، ومساواة فكلهم عند الله سواء ، لا فرق بين عظيم وحقير وغني وفقير ، لا فضل لأحد على أحد إلا بتقوى الله والتقرب منه ، ومساعدة الضعفاء والمحتاجين ، وتعاون وتناصر ، وتواد وتراحم وتعاطف وطاعة الله ورسوله وأولي الأمر من المسلمين. إلى غير ذلك مما أمرت به الشريعة. وحثت عليه. ورغبت فيه. وقد اعد الله تعالى للذين يعملون الصالحات سعادة الدنيا والآخرة ، قال تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ. وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً). وقد عملت الأمة بتلك الشريعة ، فآتت اعمالها الصالحة أكلها ، وأثمرت ثمرتها في بناء الأمة على أسس متينة ، وأخلاق عظيمة ، وربطت بينها برباط التعاون والمساواة والألفة والمحبة ، والدين والخلق ، فاتحدت بعد تفرق ،

٣١٣

وقويت بعد ضعف ، وسعدت بعد شقاء ، وعزت بعد ذل. فعظم قدرها وعلا شأنها ، وأحكم أمرها ، فغيرت وجه التاريخ ، وفكت الحصر الذي ضربته دولة الفرس ودولة الروم. وفتحت بلاد الأعداء الذين كانوا يكيدون لها ويعملون على مضايقتها. ولا زالت الدولة الإسلامية تنتقل من فتح إلى فتح ومن نصر إلى نصر ، وعاشت قوية عزيزة ، تقدرها الأمم ، ويرهبها الأعداء ولما انحرفت عن العمل بالدين ، واتباع هدى سيد المرسلين ، اعتراها الضعف والوهن ، فلانت قناتها. وذهبت هيبتها.

وقد توفي رحمه الله عصر يوم الاثنين ٢٥ جمادي الأولى ١٣٨٠ ه‍ ١٤ نوفمبر ١٩٦٠ وشيعت جنازته في اليوم التالي إلى مقبرة سيدي جلال في ١٥ نوفمبر ١٩٦٠.

وكتب عباس محمود العقاد في يومياته في الأخبار (عدد ٢٣ / ١١ / ١٩٦٠) يقول :

كان صاحب الفضيلة الشيخ إبراهيم حمروش بقية صالحة من بقايا المدرسة الإمامية التي استفادت من قدوة أستاذها الشيخ محمد عبده في العناية بعلوم اللغة والأدب والحكمة إلى جانب العناية بعلوم الفقه والشريعة.

كان الأستاذ الإمام يعني بالأدب واللغة فيدرس نهج البلاغة ومقامات البديع ويعني بالفلسفة الإسلامية فيكتب رسالة التوحيد ويعلق على «العقائد العضدية» ويهدي طلا به إلى أسرار حكمة الغزالي في مطولاته ومختصراته ، ويعني بالفقه والشريعة فيلقي دروسه في تفسير القرآن الكريم ويكتب تقريراته الوافية في إصلاح المحاكم الشرعية.

وبهذه القدوة العالية كان تلاميذه الأوائل يقتدون ويهتدون ومنهم فقيد اللغة والفقه الأستاذ حمروش شيخ الأزهر الأسبق وعضو مجمع اللغة العربية ، الذي فقده العالم العربي والعالم الاسلامي ، منذ أيام.

كان عجبا في سرعة الشاهد من الشعر والنثر على خاطره وعلى

٣١٤

لسانه ، وكان من شواهده في جلسة قريبة من جلسات لجنة الأصول بالمجمع أن بعض الزملاء تذاكروا شروط السن فسمعنا الشيخ ـ كعادته ـ عند حضور الشاهد يهمس ببيت التميمي الذي يقول فيه :

وإن امرأ قد سار خمسين حجة

إلى منهل من ورده لقريب

وهو بيت يكثر فيه تبديل العدد على حسب المناسبة ، فصاحب البيت يقول «خمسين حجة» ، وبديع الزمان في مقامته الأهوازية يقول «عشرين حجة» و... والشيخ حمروش يرويها أولا «ستين حجة» ثم يذكر أنه جاوزها فيصلح وزن الشطر على الثامنين ، ويعود قائلا :

وان امرأ يسعى ثمانين حجة

إلى منهل من ورده لقريب

وهكذا كنا نسمع منه الشواهد الحاضرة حين يستشهد بها في موضعها من الدلالة على الأحكام اللغوية ، ثم يتصرف فيها ـ متبسطا ـ على حسب الحالة الحاضرة كما يقول :

ولم يكن من المتشددين في استناده إلى أقوال الشعراء والرواة ، فانه كان على خلاف علماء اللغة الذين يقفون بالحجة عند اقوال المخضرمين ـ يتوسع فيستشهد أحيانا بأقوال العباسيين من أمثال بشار وأبي نواس ، بل يستشهد أحيانا بأقوال المولدين المتأخرين إذا درجت في مدارج الاستعمال الشائع ، ويظرف غاية الظرف حين تسمعه في وقاره وسمته يروي بيتا لأبي نواس أو لبشار لا يتحرج فيه هذا ولا ذاك ، ولا يبالي الشيخ لغوهما إذا كان فيه حجة «اللغويين» ... وقد ينطقها أحيانا بفتح اللام من «اللغو» لا من «اللغة» تفكها منه على حسب المقام.

وكثرا ما كان يعزز حجة «النحوى» بحجة الفقيه «المنطيق».

وكثيرا ما كان يسأل عن مقابل الكلمة باللغات الأجنبية ليضعها في موضعها من المعنى والتركيب ، ولا نذكر أنه حصر رأيه قط في أفق ضيق

٣١٥

من التقليد أو التقييد ، ولكنه كان مثلا للعالم السلفي الذي يرعى حق القديم ولا ينسى في غيرته عليه حق الجديد.

وكتب الشيخ محمد علي النجار عنه (١) يقول (٢) :

تعلقت بأسبابه (٢) ، ووصلت حبلي بحبله في سنة ١٩٣٧ حين عملت في التدريس في كلية اللغة العربية وكان عميدها ، فأولاني من عطفه ، وأخذ بضبعي ، وكان لي منه الخير الكثير.

صحبته إذن ، وقد استوى على صهوة المجد والشرف الباذخ. فهو من رجالات الأزهر وأولى الأمر فيه ، وهو عضو في مجمع اللغة العربية ، وهو حجة في علوم الدين واللغة.

كان جامعا بين الحزم في سياسة الكلية وتدبير الأمور في الأزهر ، والاضطلاع بالمطالب العلمية التي يتطلبها المجمع والأزهر.

كان ساهرا على رعاية الكلية ، خبيرا بما فيها ، لا يشذ عنه شيء من أحوالها. حريصا على أن تتبوأ المركز اللائق بها ، فكان يختار لها المدرسين الكفاة من الأزهر وغيره ، وكان ينظم امتحان مسابقة لدخول الطلاب فيها ، ولم يكن ذلك مسنونا في قانون الأزهر ، ولكنه الحرص على أن يكوّن طبقة ممتازة من الطلاب.

ولقد كان يطوف بحجر الدراسة في اليوم غير مرة ، ويسأل الطلبة في دروسهم ، ويقف على درجة تقدمهم وتخلفهم ، ويطب لكل مقام بما يقتضيه.

ولقد مرت فتن سياسية وأعاصير هوج كان الطلبة يسلكون فيها في بعض الحين مسلك الشطط والنزق ، فكان يعالج الأمر بالحزم والكياسة ،

__________________

(١) ولد الشيخ ابراهيم حمروش : في ربيع الأول ١٢٩٧ ه‍ أول مارس ١٨٨٠ م ـ وتوفي في ٢٦ جمادي الاولى ١٣٨٠ ه‍ ـ ١٥ نوفمبر ١٩٦٠ م.

(٢) عن مجلة الأزهر عدد رمضان ١٣٨٠ ه‍ ـ للاستاذ محمد علي النجار ـ عضو مجمع اللغة العربية والاستاذ بالأزهر الشريف.

(٢) عن مجلة الأزهر عدد رمضان ١٣٨٠ ه‍ ـ للاستاذ محمد علي النجار ـ عضو مجمع اللغة العربية والاستاذ بالأزهر الشريف.

٣١٦

يخلط الشدة باللين ، والمخاشنة بالمحاسنة ، فيعود الطلبة طوع يديه ، يأتمرون بأمره ويقفون حيث أحب

ولقد بلغت كلية اللغة العربية أوج مجدها ، وكانت غرس يديه.

وترك كلية اللغة إلى كلية الشريعة في ٢٤ من أكتوبر سنة ١٩٤٤ م فأصلح من شأنها ، وقوم من أودها ، وثقف من قناتها ، وكان له فيها أثر محمود حتى استقال من رياستها في ٢٣ من ديسمبر سنة ١٩٤٥ م على أثر أمور في الأزهر لم ترضه. ولكنه بقي عضوا في جماعة كبار العلماء.

وأسند إليه منصب مشيخة الأزهر في ٣٠ من ذي القعدة سنة ١٣٧٠ ه‍ (٢ من سبتمبر سنة ١٩٥١ م) وبقي متقلدا هذا المنصب الجليل حتى يوم ٩ من فبراير سنة ١٩٥٢ م.

وكان الوطن في أيام توليه مشيخة الأزهر في محنة مع الإنكليز في قناة السويس وفي حاجة إلى جمع الصفوف وتوحيد الكلمة ، فكان للشيخ السهم الموفور في هذه الدعوة الشريفة.

فنراه ينشر على الناس في يوم ١٥ / ١ / ١٩٥٢ كتابا يقول فيه :

«أيها المصريون ، أتوجه إليكم في هذه الظروف التي غشيتكم فتنتها ، وحزبتكم شدتها ، أن تكونوا إخوانا في الوطن متآخين متحابين ، رائدكم الإخلاص لبلادكم وأنفسكم «ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم».

«وإن شر ما تبتلى به الأمم في محنتها أن تتفرق كلمتها ، وأن تنحل وحدتها ، وتنقطع أواصر المودة بين جماعاتها ، فيشق العدو الطريق إليها ، وينفذ بسهامه إلى صدور أبنائها».

«وهذه مصر ، بلادكم العزيزة ووطنكم المحبوب تناديكم جميعا ، شيبا وشبانا ، رجالا ونساء ، أقباطا ومسلمين ، أن تكونوا سهاما مسددة نحو عدوها ، وأن تلقوا الغاصب صفا واحدا كأنكم بنيان مرصوص ، بقلوب لا تعرف إلا الوطن والدفاع عن حوزته».

٣١٧

«وأذكركم ـ حتى لا يغيب عن أذهانكم ـ تاريخ هذا الغاصب الرابض في دياركم ، وما اعتاده من سياسة التفريق طلبا للسيادة ورغبة في السلطان وبسطا للنفوذ ، لمصلحته هو لا لمصلحة أحد سواه. وأذكركم جميعا مسلمين وأقباطا بماضيكم المجيد. فقد قمتم كتلة واحدة تطالبون باستقلال البلاد واستكمال حريتها ، وتبوئها مكانة سامية بين الأمم. وأشهدتم العالم كله على وحدتكم وائتلافكم».

«وإني أعيذكم بالله من التفرق واختلاف الكلمة ، فتضيع جهودكم الكبيرة التي بذلتموها في سبيل عزتكم وعزة بلادكم».

«واعلموا أن النصر المؤزر لقضيتنا رهن باتحاد صفوفنا واجتماع كلمتنا ، ووقوفنا جميعا في وجه عدونا ، حتى تظفر بلادنا بما تصبو إليه من السيادة والحرية والاستقلال ، ويتمتع أهلها جميعا بالأخوة الصادقة والاطمئنان على أموالهم وأنفسهم».

وحين اشتد حنق الإنكليز في القناة والإسماعيلية فأنزلوا عذابهم على القرى الآمنة أصدر الشيخ منشورا جاء فيه :

«إن شعب وادي النيل الباسل في كفاحة السلمى لإخراج المغتصبين المحتلين من بلاده لم يجاوز حقه الشرعي في الدفاع عن عقيدته والمطالبة بحريته ، ولكن هذا الدفاع لم يرق في أعين المحتلين من الإنجليز ، فعملوا بكل الوسائل العدوانية على توهين وحدته ، واندسوا في صفوفه ، يشيعون الأراجيف لتفريق كلمته. فلما واجههم الشعب وحدة متراصة ، وقام في وجههم على قلب رجل واحد يطالب بحقه في الحياة الحرة طاشت أحلامهم ولجئوا إلى القوة الغاشمة يسلطونها على الآمنين في ديارهم ، وعلى النساء في خدورها ، وعلى الأطفال في مهادها».

«وكلما زاد الشعب تمسكا بحقه وصبرا على هذا العنت زاد عسفهم ، وتعددت مظالمهم ، حتى خرجوا على كل شرعة ، وبزوا كل ما عرف من أعمال التنكيل التي اشتهرت بها محاكم التفتيش ، وما قام به النازيون من

٣١٨

أعمال وحشية ، فأزالوا القرى الآمنة من الوجود بدباباتهم ، وهدموا البيوت بمدافعهم الثقيلة ، وشردوا النساء والأطفال الأبرياء ، وانتهكوا كل الحرمات ، واعتدوا على المساجد والكنائس ، ولم يبق جرم إلا ارتكبوه ، ولا شناعة إلا فعلوها. ولم تقف شناعتهم عند حد ، فراحوا يطلقون النار على حفظة الأمن ورجال الشرطة ، ويقتلونهم تقتيلا في رائعة النهار ، ويأسرون من نجا منهم ...».

«وإني باسم الأزهر علمائه وطلابه لأعلن استنكاري لهذا الإجرام الفظيع الذي انتهكت فيه الأعراض ، واستبيحت الأموال واعتدى على حرية الإنسان وحقه المشروع في أن يطالب بحريته واستقلاله ، واحتج بشدة على هذه الأعمال العدوانية التي تنافى جميع الشرائع والأديان. وأهيب بالضمير العالمي أن يثور على هذا الوضع المهين لكرامة الإنسان ، وأن يهب لوقف هؤلاء المستبدين عند حدهم ، ليعلموا أن في العالم ضمائر تتحرك لنصرة الحق ، ونفوسا تثور للأخذ بيد العزل المكافحين لنيل حرياتهم ..».

«وليعلم الإنجليز أن هذه الفظائع التي يصبونها على رؤوس أبنائنا لن تلين للشعب قناة ، ولن ترده عن المطالبة بجلائهم الناجز عن وطننا العزيز ، وأن وادي النيل كله لن يسكت بعد اليوم على ضيم يراد به ، ولن يفرط في حق من حقوقه ، مهما ابتلى بالشدائد ومهما ضحى من أرواح غالية ...».

«وإني إذ أستمطر رحمة الله ورضوانه على شهدائنا الأبرار أتوجه إلى أبناء الوطن جميعا مناشدا إياهم أن يشدوا من عزائمهم ، وألا يجعلوا لهذه الأحداث أثرا في نفوسهم ، فلا يهنوا ولا يحزنوا ولا يضعفوا ، وهم الأعلون إن شاء الله. فلا بد للجهاد من تضحية وللحرية من ثمن يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ».

وإن النيل من الإنجليز وجبههم بالغليظ من القول في ذلك العهد لم يكن بالسهل الهين ، ولا يقاس به عهدنا الحاضر الذي نعمنا فيه بجلائهم وذهاب سلطانهم عنا. فقد كان الانكليز لا يزال لهم من السلطان على

٣١٩

صاحب القصر ورجاله الشيء الكثير ، وكان القدح فيهم لا يطور به من ذوي المناصب إلا من لا يتمسك بمنصبه ، ويؤثر الحق على زينة السلطان وجلاله الكاذب ، وأكبر الظن أن إقالته من المشيخة ترجع إلى هذا المنزع السياسي الذي ضاق به الإنكليز.

وإني أقص هنا سيرة الشيخ ونشأته حتى استوى سيدا جليلا.

ولد الشيخ في قرية الخوالد التابعة لمركز إيتاي البارود من أعمال مديرية البحيرة في العشرين من شهر ربيع الأول ١٢٩٧ ه‍ (أول مارس ١٨٨٠ م) ونشأ فيها فحفظ القرآن الكريم حين بلغ الثانية عشرة من عمره ، وأرسله والده إلى الأزهر ، وكان يحكى أن والده إذ ودعه حين ذاك أوصاه أن يحافظ على الصلاة لأول وقتها ، وحافظ الشيخ على هذه الوصاة طوال حياته ، فإذا دخل الوقت كان أكبر همه أن يؤدي الصلاة ، وفي يوم وفاته قدر له أن صلى العصر ، ولم يلبث أن وافاه الحمام.

وجاور الشيخ في الأزهر فأخذ عن الشيوخ المنتفعين الذين كان الأزهر ملآن بهم. وكان الشيخ ذكيا ثقفا لقفا عرف بالذكاء والزكانة طول دهره ، فحصل تحصيلا عجبا ، وفطن لدقائق العلوم ، واستحكمت عنده الملكة الأزهرية.

وقد تلقى الفقه الحنفي عن الشيخ أحمد أبي خطوة واختص به ، وكان يثني عليه كثيرا ، وأخذ عن الشيخ محمد بخيت وأخذ النحو على الشيخ على الصالحي المالكي. ولزم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في دروسه فأخذ عنه أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز والبصائر النصيرية في المنطق. وقد يرجع إلى تلمذته للشيخ محمد عبده الفضل في تحرر فكره واتساع أفقه وحسن التصرف فيما يعلم.

وكان إلى جانب اشتغاله بعلوم الدين واللغة يشتغل بالعلوم الرياضية ، وكان رياض باشا رحمه الله قد أعد مكافآت مالية لمن يفوز في امتحانات الرياضة ففاز الشيخ في هذه الامتحانات غير مرة.

٣٢٠