الأزهر في ألف عام - ج ١

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي

الأزهر في ألف عام - ج ١

المؤلف:

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٦

كان من تلاميذ الأستاذ الإمام محمد عبده : فهو يذكره في الكتاب صراحة ، وهو ينهج في التعليم نهجه ، ويدعو الأزهريين إلى ترسم خطاه ، وثانيهما أن هذا الشاب كان فيلسوفا ناشئا ، وأن لم يكن يعلم ذلك عن نفسه ، فإنه حين تكلم في كتابه عن الكمال الروحي وعن الصوفية عالج هذه الأمور بروح فلسفية ، ولعل الفلسفة أخذت سبيلها إلى نفسه ، دون وعي ظاهر منه عن طريق أستاذه محمد عبده.

ويرجع توثق الصلة بين الأستاذ والتلميذ إلى سنة ١٩٠٢ حين تقدم الظواهري لنيل شهادة العالمية إلى لجنة الامتحان المنعقدة برياسة محمد عبده ، فأجاد في الإجابة أعجب بها الأستاذ الإمام ، فأثنى عليه على مسمع من الحاضرين ، ويقال إنه طلب له شيئا من شراب الخروب وقال له «لقد فتح الله عليك يا أحمدي ، وو الله إنك أعلم من أبيك ، ولو كان عندي أرقى من الدرجة الأولى لأعطيتك إياها». ولهذه الحادثة نفسها دلالتان : الأولى انها تشير إلى ذكاء الاحمدي الظواهري وسعة علمه اللذين اشتهر بهما منذ نشأته ، والثانية انها تشير إلى ما اتصف به الاستاذ الإمام من الإنصاف وقوة الأخلاق : فقد كان بينه وبين الشيخ ابراهيم الظواهري ـ والد الشيخ الأحمدي ـ خلاف في الرأي والمنازعات ، لأن إبراهيم الظواهري كان من الشيوخ المحافظين الميالين إلى تصديق الكرامات والاعتقاد بقصص المجاذيب والأولياء ، وكان الشيخ محمد عبده يستنكر ذلك ، لكنه لم يتأثر في حكمه على الابن بما كان بينه وبين أبيه.

وفي مكتبته ذخيرة من العلم المخطوط بيده ، هي مجموعة من مؤلفات كتبها في شبابه منها «خواص المعقولات في أصول المنطق وسائر العقليات» و «التفاضل بالفضيلة» و «الوصايا والآداب» و «صفوة الأساليب» و «حكم الحكماء» و «براءة الإسلام من أوهام العوام» و «مقادير الأخلاق» ولكن مخطوطا منها استوقفني لطرافته ، وعنوانه «الكلمة الأولى في آداب الفهم». وقد أراد به أن يكون بمثابة ضابط عقلي أو قانون كلي ، لرفع الخلاف القائم في كيفية فهم المتأخرين لأقوال المتقدمين من المؤلفين في

٢٦١

العلوم الدينية. وقد جاء في مقدمة المخطوط : «لقد دعاني داعي الاستكمال والتمسك بأذيال الامتثال إلى مطالعة أسرار الدين للوصول إلى عين البقين ، والنهوض من مراقد الوهم وظلمات الجهالة إلى مراقي الفهم ونور الحق المبين» ... «بيد أنه قد تباينت الطرق ، وتنازعت الفرق ، واختلفت أهواء الخلف في كيفية الوصول الى مرامي أنظار الأول ، وإصابة الغرض المقصود من عباراتهم ، وتفرقوا شيعا في تقرير المسائل ، فكانت همة قوم فيما يرجع إلى المعاني الأصلية ، ومال قوم إلى الخطابة والجدل ، وآخرون إلى التخريج على المعنى البعيد أو التنبيه على احتمال جديد ، وتنافس البعض في الاستشكال والتغليط ، حتى إنه ليخيل الى الناظر في طرائقهم أن الحقيقة صعبة المنال ، وأن اليقين مطلب محال .. فدفعني ذلك إلى أن اضع علما شاملا وقانونا جامعا به تستفاد حقائق المعاني من أصداف الكلام ، ويجمع الناظرين على أقوم طريق به يمكن الوصول الى تمام المعنى بحيث يوقف القارىء البصير في وقت قصير على كل ما في الحواشي والتقارير. ويرفع الخلاف القائم في كيفية الفهم ، ويزيل التشويش والإبهام ، ويمكن أهل العلم من الانتصار على جيوش الأوهام».

وقلما تحمس الظواهري في شبابه لإعلاء شأن الأزهر وإصلاح المسلمين ، كما يتضح من كتاب «العلم والعلماء» ، فأصابه من جراء ذلك ما أصاب غيره من المصلحين ، كما يتضح ذلك من مذكراته التي نشرها ابنه بعنوان «السياسة والأزهر». وتبين من الرسالة التي نشرتها مشيخة الأزهر هذا العام لمناسبة المعرض المصري الأخير أن أكثر ما استحدث من منشآت وما تم من إصلاحات في الأزهر الحديث كان للظواهري فيه أثر بارز .. وبمقتضى القانون رقم ٤٩ لسنة ١٩٣٠ الذي صدر في عهد مشيخته أنشئت الكليات الأزهرية الثلاث ، وبمقتضى القانون رقم ٣٧ لسنة ١٩٣٢ الذي صدر في عهده أيضا نظم التخصص ، وغيرت مناهج التعليم في الجامعة الأزهرية لكي تتمشى مع التقدم العلمي الحديث. وبذلك دخلت الأزهر على يد الظواهري دراسات لم يكن للأزهريين عهد بها من

٢٦٢

قبل ، كاللغات الأجنبية ، من شرقية وغربية والاقتصاد السياسي والقانون الدولي الخاص ، وأصول القوانين ووسائل الدعوة الى سبيل الله ، والخطابة والالقاء والمناظرة ، وعلم النفس والتربية البدنية وغيرها ، ويتبين من رسالة مشيخة الأزهر أيضا أن الظواهري قد سبق إلى التفكير في إيفاد بعوث من الأزهر للدعوة للاسلام في الخارج ، فأوفد بعثتين للصين والحبشة وأنشأ مجلة «نور الإسلام» ووضع مشروع الأبنية الفخمة للجامعة الأزهرية الحديثة ، وقد تمت في عهده ثلاث من عمائرها الكبرى.

وللشيخ الأحمدي أثر ظاهر في ميدان آخر نحب أن لا يفوتنا التنويه به هنا. ويتجلى ذلك في الأثر في تقرير محفوظ بوزارة الخارجية المصرية عن المؤتمر الإسلامي الذي دعا إليه الملك ابن سعود ، وعقد في مكة سنة ١٩٢٦ ، ويتبين منه أن الشيخ الظواهري استطاع وهو رئيس وفد مصر في ذلك المؤتمر أن يكون واسطة العقد بين المؤتمرين ، وأن يكون رسول سلام وتوفيق بين المتنازعين في موضوع الحرية المذهبية في أرض الحجاز ، كما استطاع بقوة حجته وإقناعه أن يستصدر من المؤتمرين قرارا يصرح على رؤوس الإشهاد بوحدة مصر والسودان. ومما يجدر ذكره في هذا المقام أن عبد الخالق ثروت وزير الخارجية المصرية وقتئذ قال حين علم بنجاح الشيخ الظواهري في ذلك المؤتمر : «لم أكن أعلم أن الأزهر يخرج سفراء في السياسة».

٢٦٣

الشيخ محمّد مصطفى المراغي

علم من أعلام الفكر الإسلامي المعاصر ، وشخصية نادرة من أشهر الشخصيات الإسلامية في القرن العشرين. ورجل غريب بين زملائه وأقرانه في العصر الذي عاش فيه ، وزعيم روحي ألقيت إليه مقاليد الأزهر فترة طويلة.

ذلكم هو الشيخ محمد مصطفى المراغى ، تلميذ محمد عبده ، والعالم الأزهري الواسع الأفق ، العميق الثقافة ، وقاضي القضاة المصري في السودان ، ورئيس المحكمة العليا الشرعية ، وشيخ الأزهر من عام ١٩٢٨ إلى عام ١٩٢٩ م ثم من عام ١٩٣٥ حتى عام ١٩٤٥ م (١٣٦٤ ه‍) حيث وافاه أجله المحتوم.

كان المراغى مثالا نادرا في الاعتزاز بالنفس ، والشعور بالكرامة ، والإيمان بالإصلاح ، وفي عهد توليه مشيخة الأزهر وضع أساسا قويا لصرح الأزهر العلمي برعايته لأقسام الدراسات العليا فيه ، وتشجيعه لطلابها وخريجيها ، وإشرافه على مواسمها العلمية ، ومناقشته لرسائلها. وكان الشيخ المراغى ذا قوة فكرية قوية عن الثقافة الحديثة ، ورغبة حافزة في صبغ الأزهر بصبغتها. وقد عمل على إخراج جيل جديد من العلماء المثقفين بشتى الثقافات ، ونجح في ذلك إلى حد بعيد ، وكانت صلات المراغى بأقطاب المجتمع والسياسة والفكر والأدب في عهده عونا له على بلوغ آماله في إصلاح الأزهر ، وقد جاهد جهادا حثيثا للنهوض بهذه الجامعة

٢٦٤

الإسلامية الكبرى ، ولبث روح الحياة والإصلاح فيها. وكانت مكانته في نفوس الجماهير من العلماء والطلاب تساعده على الإصلاح. وكان أكثر الأزهريين تقديرا للكفايات من العلماء والطلاب وتشجيعا لها ، كانوا يأخذون عليه تدخله في السياسة ، وقيام إدارته في الأزهر على العصبية ، ولكن ذلك شيء تافه لا يقاس بجانب ما أحدثه في الأزهر من ثورة وحياة وتجديد.

لقد انتهت بعد المراغى الاجتماعات في المناسبات الدينية التي كانت تضم الألوف من القادة والعلماء والطلاب والجماهير. وحوربت وعطلت أقسام الدراسات العليا في الأزهر. وساءت أمور الأزهر ، وضعف نشاطه العلمي.

استقال رحمه الله من مشيخته الأولى في آخر سبتمبر سنة ١٩٢٩ على أثر تأخر صدور المرسوم الملكي بقانون الأزهر الجديد ، وقد حاول رئيس الوزراء آنئذ وهو المرحوم محمد محمود باشا إقناعه بالعدول عنها ، ولكنه لم يقبل ، وصدر المرسوم الملكي بتعيين الشيخ الظواهري شيخا للأزهر في أوائل أكتوبر سنة ١٩٢٩.

وأذكر أنه لما تولى المراغى مشيخة الأزهر للمرة الثانية ، استقبله الأزهر استقبالا كريما ، وأقام له حفلة تكريم في يوليو عام ١٩٣٥ بسراي معرض الجيزة بالقاهرة حضرها حشد كبير من الشخصيات الكبيرة ورجال الدين ، ودعى ممثلو طلبة المعاهد الدينية لإلقاء كلمات في هذه الحفلة ، وكنت ممثلا لطلاب معهد الزقازيق الديني ، وكان ممثل الأساتذة الأستاذ الكبير الشيخ محمود النواوي وكنت قد أعددت حينئذ كلمة لألقائها في الحفلة ، ولكن عدل عن إلقاء ممثلي المعاهد لكلماتهم ، لضيق الوقت وكثرة الخطباء ، وكان من هذه الكلمة التي أعددتها حينئذ ، وأنا طالب في السنة الرابعة الثانوية بمعهد الزقازيق الديني :

في هذا اليوم الخالد والحفل الحاشد تتحدث الأجيال عن الأزهر

٢٦٥

الشامخ وشيخه الجديد حديثا ملؤه الإعجاب والإجلال ، لأنه حديث الأرواح ونجوى القلوب. أما الأزهر فهو الأزهر كما يعرفه الخاصة والعامة وكما يعرفه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها وكما تعرفه الأجيال الغابرة والأجيال الحاضرة .. هو محط الرحال ، وكعبة الآمال ، ومجمع الدين والعلم والأدب ومفخرة مصر والشرق والعرب ، هو قلب الإسلام الخافق ولسانه الناطق ، وعلمه المرفوع ، هو تلك الجامعة العظيمة التي أضفى عليها الزمان ثياب الجلال وأسبل عليها الخلود ستور الجمال ، فحفظت للإسلام مكانته ورفعت للدين رايته ومدت على العربية ظلها الممدود ، وحملت لواءها المعقود ، وخرجت أئمة الهدى ومصابيح الحكمة وشعت منها أشعة النور في كل بقعة ومكان ـ فالأزهر هو دعامة الأخلاق وحصن الفضيلة ومفخرة القاهرة وصرح مصر الخالدة ، بل هو معجزة الدهور وآية القرون .. وما دام للأزهر وجود فله رسالة في الحياة تضارع في جلالها رسالة الأنبياء ووحي المرسلين ، وإن استمدت آيتها من آيتهم ، وهديها من هديهم.

رسالة الأزهر هي العناية بنشر الدين ، والسهر على مصالح المسلمين ، وإحياء الأخلاق الفاضلة ، وإقامة المبادىء العادلة التي جاء بها القرآن الكريم ، وإيقاظ الشرق الراقد من غفلته ، ليكون مهبط الوحي ومبعث النور ومصدر الهداية ورسول الحضارة ، وقائد العالم كما كان الأزهر في أيامه الماضية.

وإذا كان للأزهر مكانة وجلالة ومهمة ورسالة ، فله رئاسة جليلة نصبها الإسلام عنه وكيلا وأقامها الأزهر له كفيلا ، فالتفت حولها القلوب ، وشايعتها الأرواح وآوى اليها الخائف والمظلوم والمكروب.

ولقد أدت مشيخة الأزهر للشرق والإسلام خدمات جليلة ، فحفظت تراث السالفين وسهرت على تهذيب الناشئين ، وأطفأت نار الشك ببرد اليقين.

ولما طفر التعليم المدني في مصر أقبل عليه الناس وجحدوا

٢٦٦

ما للأزهر من فضل وجميل ، وطفقوا ينعون عليه جهوده ، ويعيبون عليه جموده ، حتى هزمتهم صيحة الإصلاح من رجل الإصلاح الأول حكيم الإسلام وفقيد الشرق المغفور له الإمام محمد عبده ، فعارضها المعارضون وسخر منها الجامدون ، ولم يقدرها إلا أفراد قلائل كان من بينهم شاب ذكي وفتى نابه اقتفى أثر أستاذه الحكيم ، هو الشيخ المراغى.

وجاء من خطبة فضيلة الأستاذ الشيخ علي سرور الزنكلوني في حفلة تكريم الأستاذ المراغى عام ١٣٥٤ ـ ٣ يوليو ١٩٣٥ ما يلي : «الأزهر كما تحدث عنه التاريخ وكما تصورناه نحن حين رحلنا اليه في نعومة الأظفار ، وكما يعرفه المصريون وغير المصريين حين يخطر ببالهم ، ويحجون إليه لطلب العلم ، هو هذه الشخصية الكبرى البارزة في العالم ، والتي ينعكس منها على طلابه ورواده نور العلم وجلال الدين والتي عاشت ألف سنة إلا قليلا ، وهي تصارع الأحداث والأحداث تصارعها بما لم يقو على احتماله أضخم بناء في التاريخ ، ولو لا سر الله الخفي لتلاشى ، فهو الذي حفظه ولا يزال يحفظه ويجدد مجده إلى اليوم .. إن الأزهر كما تواضع عليه الناس هو الذي تحيا عليه علوم الإسلام والقرآن ، وهي أسمى ما تستكمل به النفس الإنسانية قواها. والأزهر بمقتضى وضعه وطبيعته يجب أن يكون خالصا لله وحده ، فإذا ألمت به الأحداث وسلطت عليه تيارات الأهواء الملتوية فلله فيه نصيب كبير : دينه ، وعلومه .. وهذا الشباب الغض من الطلاب الذين يبعثون إليه بنية صادقة ليتفقهوا في دين الله ولينذروا قومهم إذا رجهوا إليهم لعلهم يحذرون ، لله فيهم النصيب الأوفر ، والله غيور على دينه ، وعلى وحيه. وعلى هذا الشباب الغض الذي يحب الخير ولا يريد إلا الخير .. ومن هنا تدركون سر بقاء الأزهر وثباته على كثرة ما نزل به من أحداث .. ما هي مشيخة الأزهر؟ لا أريد ان أتعرض إلى مشيخة الأزهر بالنظر إلى ما ورثته عن العواصم الإسلامية من خلافة العلم والدين ، ولا إلى ما قامت به من جلائل الأعمال في عصور مصر المختلفة ومواقفها المشرفة في وجوه الظالمين ، فذلك للتاريخ وحده ، ولكني أتحدث عنها

٢٦٧

الآن بالنظر إلى طبيعتها وإلى ما يفهمه الناس فيها قبل أن يحتكم الهوى وينتشر الفساد. إن مشيخة الأزهر الكبرى هي التي تقوم بمعونة الأساتذة والطلاب على حراسة الدين وأحياء تعاليمه ، فإذا فكر العقل تفكيرا مستقيما ولم يلتفت إلى زخارف الحياة الكاذبة ، فلا يستطيع أن يدرك الجلال الحق إلا في كنف هذه الرعاية السامية ، لأن شرف الاشياء بشرف غاياتها ، ومشيخة الأزهر تقوم على حراسة ما به تؤدى وظيفة الرسل عليهم الصلاة والسلام ووظيفة الرسل إذا أديت على غير وجهها فكلها خير وكلها سعادة ، فإذا تنكب الأزهر الطريق يوما ، فليس ذلك من طبيعة الدين الذي يقوم على حفظه ، ولا من طبيعة علومه التي هي نور العقل وقوة للإنسان ، وإنما منشأ هذا التنكب هو القوي التي تتسلط عليه وتوجهه إلى طريقها ، وإذن لا تلوموا الأزهر ما دام غير قائم على قدميه بنفسه ، وإنما اللوم على من يمتلكون أمره ويوجهونه حيث تأبى طبيعته أن تتوجه ... إن أعدل ميزان تعرفون به الفرق في كل عصر بين رجل الأزهر القائم على حراسة دين الله وبين عبد الشهوات الجامحة وأن تربع بين الأزهريين ونال أكبر مناصبهم أن ترى عزة النفس وخشية الله ماثلتين في رجل الأزهر خصوصا إذا عظمت المحنة واشتد البلاء ، أما عبد الشهوات فتراه دائما مغمورا بخشية الناس والطمع فيما بأيديهم. وقلب المؤمن الصادق في إيمانه لا يتسع لخشيتين ، فأظهر مظاهر الإيمان العميق خشية الله وحده إذا اشتد الخطب ، وأظهر مظاهر الإيمان الرقيق الذي لا يزن مثقال ذرة أن يخشى صاحبه الناس أشد من خشية الله ، وإن كثرت وتفرعت صور عبادته لأنها في ميزان الدين والعلم ليست أكثر من صور كاذبة تولدها العادة أو الرياء .. إن الحقائق لا يغيرها ولا ينقص من جلالها الذاتي ما قد يطرأ عليها من أمراض وعلل تدفعها يد الشهوة على غفلة من أهلها ، ولهذا يعاقب الله حراس الحقائق أولا فأولا ، بمقدار غفلتهم وإهمالهم ، ثم يكتب النصر لهم في النهاية إذا ما انتبهوا .. أما المبطلون المفتونون باستشراء الضعف ليتمتعوا بباطلهم فلا يعاقبهم الله أولا فأولا ، وإنما يمهلهم لتتجلى حكمة الله في قوله : «سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ* وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ». إن من

٢٦٨

الغرور وعدم الإنصاف أن يقال : ما فائدة الأزهر وأين جلال مشيخته؟ وأقوى رد على هذه الغفلة وهذا الغرور أن نقول لأصحابهما : إذن ما فائدة علوم الحياة كلها؟ وهي اليوم تولد الجشع في قلوب الأمم وتقلبها سباعا كاسرة وحيوانات مفترسة .. فالدين خير كله والعلم خير كله بمقتضى طبيعتهما فعليهما أن يتنبها إلى من يعمل على تغيير وضعهما ، فاذا حرص الأشرار على أداء وظيفتهم بمقتضى طبعهم ، فحرص الأخيار يجب أن يكون أشد وألزم .. هذا هو الأزهر على ما يجب أن يكون وهذه هي مشيخته كما نفهم عظمتها وجلالها. فإذا ظهر يوما ما في غير مكانهما فالمصريون شركاء في المسؤولية أمام الله وأمام التاريخ. لأن العلماء غير معصومين. والأمم الحية هي التي تقوم على حراسة قواها الطبيعية والمعنوية ، ولا ترتفع المسؤولية عن الأمم إلا إذا كانت في طفولتها أو في شيخوختها ، وقد أدت الأمة المصرية والحمد لله واجبها نحو مشيخة الأزهر».

وقد ألقى في حفلة التكريم الشيخ عبد الجواد رمضان الاستاذ بالأزهر قصيدة جاء فيها :

دعوا باسمك الآمال فهي بواسم

وبلّوا به الأرواح وهي حوائم

دجاليلهم حتى إذا لحت أصبحوا

وأنف الدياجي والحوادث راغم

هو الدين ، فادعم عرشه بعزيمة

فقد وهنت أركانه والدعائم

وما الأزهر المعمور إلا مناره

ولا أهله الأدنون إلا العمائم

مطالع يمن للزمان وأهله

بها تسعد الدينا وتدنو العظائم

* * *

فيا رجل الإسلام أدرك رجاله

فقد أنكرتهم في الحياة المكارم

وفيهم ، بحمد الله ، غر أزاهر

وفيهم بحار في العلوم خضارم

إذا عالجوا كانوا الشفاء وإن دعوا

إلى رد باغ فالذرا والمقادم

وكم لهمو ـ في الله ـ غرّ مواقف

تنشّق ريّاها القرى والعواصم

* * *

٢٦٩

أولئك أجناد إذا جدّ جدّهم

سمت بهمو للفرقدين العزائم

إذا ما المراغى قام تحت لوائهم

فقد زأرت في الغاب تلك الضياغم

فتى فتية الشرق الأولى تنجلي بهم

غياهبه ، والشرق بالخطب غائم

وصارم هذا الدين دين محمد

وقد أسلمته في الجلاد الصوارم

فمن مبلغ أفناء يثرب أننا

سلمنا ، على أن ليس في الناس سالم

وأنّ الذي شاد النبيّ محمد

على حفظه شيخ المراغة قائم

تبوّأ عرش الدين فاهتزّ ركنه

وطاولت الجوزاء منه القوائم

وأمست شعوب الشرق نشوى قريرة

تساهم في تكريمه وتزاحم

قصاراه أن يدعو بها عمريّة

ترد وجوه الشرك وهي سواهم

إذا ائتلقت في مصر أضواء شمسها

سعت في هداها للكمال العوالم

* * *

وقد ألقى المراغى كلمة في حفلة تكريمه جاء فيها :

أحمد الله جل شأنه على ما أولانيه من الكرامة بهذه المنزلة في نفوسكم ، وأشكر لحضرات الداعين المحتفلين برهم وكرمهم وعاطفة الحب الفياض البادية في قولهم وفعلم في شعرهم ونثرهم ولحضرات المدعوين تشريفهم واحتمالهم مشقة الحضور الذي أعربوا به عن جميل عطفهم وحبهم.

ويسهل على قبول هذه المنن كلها واحتمالها إذا أذنتم لي في صرف هذه الحفاوة البالغة عن شخصي الضعيف واعتبارها كلها موجهة إلى الأزهر الشريف الذي تجلونه جميعا ، وتعتبرونه بحق شيخ المعاهد الإسلامية في مصر وغيرها من البلاد.

ولئن دل هذا الاجتماع بالقصد الأول على غرض التكريم فقد دل بالإشارة على ما هو أسمى من غرض التكريم.

دل على أن الأزهر خرج عن حالته التي طال أمدها ونهض يشارك الأمة في الحياة العامة وملابساتها وعزم على الاتصال بها ليفيد ويستفيد ، وهذه ظاهرة من ظواهر تغير الاتجاه الفكري الذي نشأ عن تغير طرائق

٢٧٠

التعليم فيه وعن شعوره يجب أن تحتذي ويهتدي بها. ومنذ أربعين سنة اشتد الجدل حول جواز تعليم الحساب والهندسة والتاريخ في الأزهر وحول فائدة تعليمها لعلماء الدين ومنذ أربعين سنة قرأ لنا أحد شيوخنا كتاب الهداية في الفلسفة في داره على شرط أن نكتم الأمر لئلا يتهمه الناس ويتهمونا بالزيغ والزندقة .. والآن تدرس في كلية أصول الدين الفلسفة القديمة والحديثة ، وتدرس الملل والنحل ، وتقارن الديانات ، وتعلم لغات أجنبية شرقية وغربية. ومن الحق علينا ألا ننسى في هذه المناسبة والحديث حديث الأزهر والأزهريين ذلك الكوكب الذي انبثق منه النور الذي نهتدي به في حياة الأزهر العامة ، ويهتدى به علماء الأقطار الاسلامية في فهم روح الإسلام وتعاليمه ، ذلك الرجل الذي نشر الحياة العلمية والنشاط الفكري ووضع المنهج الواضح لتفسير القرآن الكريم وعبد الطريق لتذوق سر العربية وجمالها وصاح بالناس يذكرهم بأن العظمة والمجد لا يبنيان إلا على العلم والتقوى ومكارم الأخلاق ، ذلك الرجل الذي لم تعرفه مصر إلا بعد أن فقدته ولم تقدره قدره الا بعد أن أمعن في التاريخ ، ذلك هو الأستاذ الإمام محمد عبده قدس الله روحه وطيب ثراه ، وقد مر على وفاته ثلاثون حولا كاملة ، ومن الوفاء بعد مضي هذه السنين ونحن نتحدث عن الأزهر أن نجعل لذكراه المكان الأول في هذا الحفل ، فهو مشرق النور وباعث الحياة ، وعين الماء الصافية التي نلجأ إليها إذا اشتد الظمأ ، والدوحة المباركة التي نأوي إلى ظلها إذا قوى لفح الهجير.

والأزهر كما تعلمون هو البيئة التي يدرس فيها الدين الإسلامي الذي أوجد أمما من العدم ، وخلق تحت لوائه مدنية فاضلة ، وكان له هذا الأثر الضخم في الأرض فهو يوحي بطبعه إلى شيوخه وأبنائه واجبات إنسانية ، ويشعرهم بفروض صورية ومعنوية ، يعدون مقصرين آثمين أمام الله وأمام الناس إذا هم تهاونوا في أدائها وأنهم لا يستطيعون أداء الوجب لربهم ودينهم ولمعهدهم وأنفسهم إلا إذا فهموا هذا الدين حق فهمه ، وأجادوا معرفة لغته ، وفهموا روح الاجتماع ، واستعانوا بمعارف القدامى ومعارف

٢٧١

المحدثين فيما تمس الحاجة إليه مما هو متصل بالدين ، أصوله وفروعه ، وعرفوا بعض اللغات التي تمكنهم من الاتصال بآراء العلماء والاستزادة من العلم وتمكنهم من نشر الثقافة الإسلامية في البلاد التي لا تعرف اللغة العربية ، هذا كله يحتاج إلى جهود تتوافر عليه وإلى التساند التام بين العلماء والطلبة والقوامين على التعليم ، ويحتاج إلى العزم والتصميم على طي مراحل السير في هدوء ونظام وحب وصدق نية وكمال توجه إلى الله وحب للعلم لا يزيد عليه إلا حب الله وحب رسوله.

وللمسلمين في الأزهر آمال ، ومن الحق أن يتنبه أهله لها وهي :

أولا ـ تعليم الأمم الإسلامية المتأخرة في المعارف وهدايتها إلى أصول الدين وإلى فهم الكتاب والسنة ومعرفة الفقه الإسلامي وتاريخ الإسلام ورجاله ، وقد كثر تطلع هذه الأمم إلى الأزهر في هذه الأيام وزاد قاصدوه منها أفرادا وجماعات ، واشتد طلبها لعلماء الأزهر يرحلون إليها لأداء أمانة الدين وهي بيانه ونشره.

ثانيا ـ إثارة كنوز العلم التي خلفها علماء الإسلام في العلوم الدينية والعربية والعقلية وهي مجموعة مرتبط بعضها ببعض ، وتاريخها متصل الحلقات ، وقد حاول العلماء كشفها فنقبوا عنها وبذلوا جهودا مضنية وعرضوا نتائج بعضها صحيح وكثير منها غير صادق ، وعذرهم أنهم لم يدرسوا هذه المجموعة دراسة واحدة على أن بعضها متصل بالآخر ، كما هو الحال في دراسة الأزهر .. فإذا وفق الله أهل الأزهر إلى التعمق في دراسة هذه المجموعة قديمة حديثة ودراسة المعارف المرتبطة بها وأتقنوا طرق العرض الحديثة أمكنهم أن يعرضوا هذه الآثار عرضا صحيحا صادقا بلغة يفهمها أهل العصر الحديث وإذ ذاك يكونون أداة اتصال جيدة بين الحاضر والماضي ويطلعون العالم على ما يبهر الأنظار من آثار الأقدمين ، وأعتقد أن التعليم الأزهري على النحو الذي أشرت إليه هو الذي يرجى لتحقيق الأمل ، وأنه مدخر لأبنائه إن شاء الله.

٢٧٢

ثالثا ـ عرض الإسلام على الأمم غير المسلمة عرضا صحيحا في ثوب نقي خال من الغواشي المشوهة لجماله ، وخال مما أدخل عليه وزيد فيه من الفروض المتكلفة التي يأباها الذوق ويمجها طبع اللغة العربية.

رابعا ـ العمل على إزالة الفروق المذهبية أو تضييق شقة الخلاف بينها ، فإن الأمة في محنة من هذا التفرق ومن العصبية لهذه الفرقة ، ومعروف لدى العلماء أن الرجوع إلى أسباب الخلاف ودراستها دراسة بعيدة عن التعصب المذهبي يهدي إلى الحق في أكثر الأوقات ، وإن بعض هذه المذاهب والآراء قد أحدثتها السياسة في القرون الماضية لمناصرتها ونشطت أهلها وخلفت فيهم تعصبا يساير التعصب السياسي ، ثم انقرضت تلك المذاهب السياسية وبقيت الآراء الدينية لا ترتكز إلا على ما يصوغه الخيال وما افتراه أهلها ، وهذه المذاهب فرقت الأمة التي وحدها القرآن وجعلتها شيعا في الأصول والفروع ونتج عن ذلك التفرق حقد وبغضاء بين من يلبسون ثوب الدين ، ونتج عنه سخف ما يقال في فروع الفقه الصحيح أن ولد الشافعي كفء لبنت الحنفي ؛ ومثل ما يرى في المساجد من تعدد صلاة الجماعة وما يسمع اليوم من الخلاف العنيف في التوسل والوسيلة وعذبات العمائم وطول اللحى حتى إن بعض الطوائف لا تستحي اليوم من ترك مساجد جمهرة المسلمين.

إن من الخير والحق أن نتدارك هذا ، وأن يعني العلماء بدراسة القرآن الكريم والسنة المطهرة دراسة عبرة وتقدير ، لما فيها من هداية ودعوة إلى الوحدة ، دراسة من شأنها أن تقوي الرابطة بين العبد وربه ، وتجعل المؤمن رحب الصدر هاشا باشا للحق مستعدا لقبوله عاطفا على إخوانه في الإنسانية كارها للبغضاء والشحناء بين المسلمين .. قد أتهم بأني تخيلت فخلت ، ولا أبالي بهذه التهمة في سبيل رسم الحدود ، ولفت النظر إليها وفضل الله واسع وقدرته شاملة ، وما ذلك على الله بعزيز.

والآن وقد أوضحت بالتقريب آمال المسلمين في الأزهر ، ترون أن

٢٧٣

العبء الملقى على عاتق الأزهر ليس هين الحمل ، فإنه في حاجة إلى العون الصادق من كل من يقدر على العون : إما بالمال أو العقل ، أو بالمعارف والتجارب ، وكل شيء يبذل في طريق تحقيق هذه الآمال هين ، إذا أتت الجهود بهذه الثمرات الطيبة المباركة ..

ولقد ولد الشيخ مصطفى المراغى في اليوم التاسع من شهر مارس سنة ١٨٨١ في المراغة من أعمال مديرية جرجا بمصر العليا وحفظ القرآن الكريم بمكتب القرية وتلقى على أبيه بعض العلوم ثم التحق بالأزهر ، واتصل بالأستاذ الإمام محمد عبده فثقف نفسه عليه في دروس التفسير التي كان يلقيها بالرواق العباسي.

ونال شهادة العالمية عام ١٩٠٤ ، وكانت سنة إذ ذاك أربعا وعشرين سنة ، وكان بذلك من أصغر الحاصلين على هذه الشهادة يومذاك.

وكان تاريخ دخوله امتحان الشهادة العالمية هو ١٢ ربيع الثاني ١٣٢٢ ه‍ ، وقد أعجب به الإمام محمد عبده إعجابا شديدا.

ولم يكن رحمه الله ، من العاكفين على تناول علوم الأزهر وحدها وإنما كان يضيف إليها ما يشعر به هو نحو العلم من احتياجات ، شأن الشبان الفائقين ، فلقد أخذ دراساته الشخصية ، من بطون الكتب ، ومن منابعها الأصلية في المخطوطات والهوامش والمتون .. كما كان عاكفا على دراسة الأدب ، ودراسة الفلسفة وعلم الكلام ، وما ذلك إلا استجابة منه للوقوف على روح الثقافة ، ولذلك فقد نشأ صاحب عقلية مرنة مبسوطة ، تمضي إلى الدقائق وما يخفي أمره على الكثيرين.

ولا جرم بعد ذلك أن يشيع اسمه بين الطلبة الذين أقبلوا حول حلقته بالجامع الأزهر ، وهو يلقي عليهم الدروس بعد تخرجه ، بطريقة جديدة ، كان هدفها البحث عن الحقيقة ، ووسيلتها التعريج بعقلية السامع إلى فنون الأدب وأشتات الفلسفة وأمشاج الكلام.

ورشح بعد لمنصب كبير ، هو منصب القضاء لمديرية دنقلة في

٢٧٤

السودان ، ذلك المنصب الذي ساعده على تسلق الحواجز السياسية ، وإعلاء شأن كلمة الدين والحق بين الشمال والجنوب ، فتتلمذ عليه الكثيرون من أبناء الجنوب ، بعد أن استساغوا لذة الوطنية الإسلامية من شروح الشيخ الجليل لقضايا الوطن بين خلصائه وصفوة تلاميذه في السودان ، وكان يعني بذلك المسلك أن رجل الدين إنما هو من رجال السياسة يدلي بدلوه فيها دون انغماس ، حتى يكون القائد إلى تحقيق الوطنية الإسلامية ، وفقا لتعاليم الدين ، لا انحيازا إلى المعتقدات السياسية.

لقد كان الشيخ المراغى ـ رحمه الله ـ يعرف رسالة رجل الدين تماما ، وهي رسالة العالم الذي يعمل للحياة كلها ، وللوطن الإسلامي كله ، فلا يصدر رأيا إلا إذا كان الرأي لبنة في بناء هذا الوطن الكبير .. ومن ذلك ، أن سلاطين باشا يوم أن عرض عليه قبول منصب قاضي قضاة السودان ـ قبل أن يتولى منصب رئيس المحكمة الشرعية العليا ـ اشترط لقبول المنصب أن يكون تعيينه فيه بأمر يصدره خديو مصر ، لا رجال السلطة الإنجليزية في السودان.

وفي عام ١٩٢٣ عين رئيسا للمحكمة العليا الشرعية ، فواجه بمنصبه ذلك تلك الحوائل التي تمنى أن يقضي عليها بالمحاكم.

وكانت المحاكم الشرعية في ذلك الوقت تحكم في قضايا الزواج والطلاق وسائر الأحوال الشخصية ، وفق القول الراجح من مذهب أبي حنيفة.

ولما كانت هناك أحكام أخرى تحقق التيسير على المتقاضين ، فقد رأى أن يؤخذ بهذه الأحكام ، وأن يعدل قانون المحاكم الشرعية.

وكان من رأيه الأخذ برأي ابن تيمية ومحمد بن قيم الجوزية في جعل الطلاق الثلاث في لفظ كلمة واحدة طلقة واحدة ، وما كاد يجهر بهذ

٢٧٥

الرأي في مشروع أعده ، حتى استهدف لحملة عنيفة من بعض العلماء ورجال القضاء الشرعي.

ولكن تاريخه في العلم ، والدراسة ، وتشربه من روح الإمام الأكبر الشيخ محمد عبده مكنته من الثبات للمعركة ، والعمل على تيسير القضاء وتم له ما أراد.

ولعل ما كتبه في الرد على العلماء الذين تناقشوا معه في تيسير تعاليم الإسلام في المحاكم الشرعية مما يشرح عقلية الرجل المبسوطة في ثقافة الإسلام الممدودة في بطون أسفار العلوم الإسلامية ، قال رحمه الله :

أثار مشروع قانون الزواج والطلاق حركة فكرية اجتماعية دينية ، فنشط العلماء للبحث والاستنباط والرجوع إلى كتب الشريعة المطهرة ، وتطبيقها على القانون ، ونشط غيرهم إلى بحثه من الوجهة الاجتماعية ، وما لنا لا نغتبط بهذا ، وقد تستمر هذه الحركة ، ويتجدد نشاط الفقه الإسلامي بعد ركوده في المتون والشروح ، وتتجه إليه الأنظار وتتولد فكرة تهذيبية باختيار ما صح دليله وما قام البرهان على أن فيه مصلحة الناس من أقوال أئمة الهدى وفقهاء الإسلام.

وقد يقضي على تلك الفكرة الخاطئة فكرة وجوب تقليد الأئمة الأربعة دون سواهم سواء أوافقت مذاهبهم أم خالفتها مصلحة المجتمع.

أما جهوده في إصلاح الأزهر والعناية بإعادة سالف مجده إليه كأقدم جامعة في التاريخ ، والجامعة الكبرى التي قامت على حفظ التراث الإسلامي ولغة القرآن فحديث معاد .. ويقول فيه الأستاذ الأكبر الشيخ عبد المجيد سليم :

لقد كان المراغى ذا فطرة سليمة صافية ، يمدها ذكاء شديد ، واستعداد طيب ، وكان مما أفاده وخرجه تخريجا قويا تلمذته على الرجلين العظيمين المغفور لهما الشيخ أحمد أبي خطوة والشيخ محمد عبده ، فعنهما اكتسب الاستقلال في التفكير والميل إلى الحرية ، والقصد في

٢٧٦

الاعتقاد بما يراه أهل التقليد ، وكان له مع هذا كله قدرة عظيمة على التعبير عن أفكاره ، في لفظ رائق وأسلوب قوي وبيان فصيح ، وهذا هو السر في أنه ظهر بين شيوخ الأزهر مبرزا قويا ، مجلجلا مدويا ، وإن لم يكن أكثر علما من الشيخ أبي الفضل ولا من الشيخ الشربيني.

إن العلم كسائر ما وهبه الله للناس ، منه مبارك فيه ، يجل به النفع ، ويسري من صاحبه إلى غيره سهلا مفيدا ، ومنه ما ليس كذلك ، وليست العبرة على كل حال بالقلة أو الكثرة ، وقد كان المغفور له الشيخ المراغى كالمغفور له الأستاذ الإمام الشيخ عبده من أصحاب العلم النافع المبارك فيه .. ثم قال.

لقد كنت أنا والشيخ المراغى صديقين حميمين ، كلانا يحب صاحبه ، ويقدر فيه مواهبه ، ولم تكن هذه الصداقة عارضة بل كانت أصيلة ، مرت بها عهود ، وأعمال مختلفة اشتركنا فيها ولكننا مع ذلك اختلفنا بعد لأي من مشيخته الثانية للأزهر ، وكان خلافنا معروفا للخاصة والعامة من الأزهريين وغيرهم ، وسببه الجوهري ميله رحمه الله إلى ناحية السياسة الحزبية وشدة نفوري من ذلك ، فإني أرى أن الخير كل الخير في أن يتجنب العلماء السياسة الحزبية ، وينأوا عن مكايد الحزبية ومتاعبها التي تقضي إلى ما لا يحمد من العواقب ، ولكن هذا الخلاف لم يخرج بي ولا به عن الجادة ، وما ينبغي أن يكون عليه أهل العلم من المودة والنصيحة ، فكنت أبدي له ودي ونصحي ، وأنقد مع ذلك بعض تصرفاته التي أرى أن مبعثها غالبا هو ذاك ، وكان يتقبل ودي ، ويبادلني إياه ، ويعتذر عن عدم مشاطرتي الرأي فيما أنقده فيه ، أو يبدي من المبررات ما يراه لفعله. وعلى كل حال لم يكن هذا الخلاف بالذي يقطع ما بيننا من محبة وتعاون ، بل كان خلاف الشرفاء والحمد لله.

لقد كان رحمه الله في عهد مشيخته الأولى مؤيدا تمام التأييد ، وكنت معجبا بآرائه وأفكاره الإصلاحية وطريقته في الإدارة ، وتركيز قواه وما آتاه الله من مواهب في الأزهر وإصلاح شأنه ، ولقد كنت أعاونه معاونة

٢٧٧

قوية ، وقد ظللت أقوم على رياسة قسم التخصص وأنا في منصب الإفتاء مدة طويلة ، أشرفت فيها على تخريج مئات العلماء الأقوياء الذين يحملون الآن على عواتقهم أهم أعباء الأزهر ، وكنت أشترك معه في كثير من اللجان العلمية : كلجنة الأحوال الشخصية ولجنة مناقشة الرسائل العلمية التي كان يتقدم بها طلاب شهادة العالمية من درجة أستاذ ، وقد كانت هذه اللجنة تعقد أحيانا في الرواق العباسي ، ويشهدها ـ والمناقشات العلمية على أتم ما تكون قوة ودقة ـ علماء الأزهر وطلابه والراغبون في العلم والبحث من غير الأزهريين .. وكما كان يتجلى في هذه المناقشات الحرة ذكاء الشيخ المراغى وعلمه وقوة تفكيره وإخلاصه للفكرة العلمية وحرصه على تبين الحق ، وضرب المثل لأبناء الأزهر في تقبله والنزول على حكمه.

وكتب الأستاذ محمد فريد وجدي بمناسبة وفاته يقول : رزئت أسرة العلم في العالم الإسلامي كله بوفاة عميدها ، غير مدافع ، الشيخ مصطفى المراغى شيخ الجامع الأزهر ، فلا نقول : كان لها أثر بالغ في النفوس ، ولكننا نقول : إنها كانت كارثة على الجهود النبيلة التي يبذلها العارفون بأمور الأزهر ، ويعملون على إحلاله المكانة التي تناسب عظمة الاسلام ، وتمثله على حقيقته في نظر العالم. نعم إن البذر الذي وضعه رحمه الله ، لينتج هذا الأثر الفخم ، بطيء النمو ، ولكنه هو الدواء الوحيد لداء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. لسنا نعني بإصلاح الأزهر ترتيب الدروس في أوقاتها ، وتوزيع مقررات الدراسات عليها ، وتعيين المدرسين الأكفاء لتدريسها ، ومراعاة كفايتهم في تحديد مرتباتهم ، كل هذه الشؤون أعراض لا تمت إلى اللباب في شيء ، وإنما إصلاحه الصحيح ينحصر في أن يصبح جهة دينية يسندها العلم وتؤيدها الفلسفة ، بحيث يتفق ذلك وحقيقة الإسلام ومعناه ، ولا يدع في صدر مستشكل اعتراضا بأن الأزهر يمثل عهدا لا يمت إليه اليوم أحد بسبب. هذا الاصلاح ، إن لم يصل إليه الأزهر في يوم من الأيام ، في غير تطرف ولا تعسف ، تلمس المسلمون

٢٧٨

ما يمثل مطالب روحهم في مكان آخر ، أو ـ وهو الأرجح ـ اندفعوا في تيار الفلسفة المادية لا يلوون على شيء ، على مثال غيرهم من الأمم الأخرى. إن الشيخ المراغى كان يجيد فهم هذه الناحية من نفسية المعاصرين ، وكان يعمل في سبيل الوصول إلى ما أشرنا إليه في تؤدة ورفق ، صابرا على ما يحتوش هذه التؤدة ، مما يخيل أنها الوقوف بل القهقري بل الانحلال الذريع ، والحقيقة كانت غير ذلك لمن يتأملها تحت ضوء النظر البعيد ، والتفكير العميق في مستقبل العقيدة الإسلامية.

كان المراغى يعلم أن العالم المتمدن اليوم انتهى إلى حد من عقائده ، أملته عليه فلسفة بوخنر وهايكل ومولخوت الخ ، وان العالم الإسلامي يترسم خطواته شبرا بشبر ، مدفوعا بطبيعة الدراسات العلمية التي لا بد له منها ، وكان يعلم أن الأزهر في حالته التي هو عليها لا يصلح أن يقف حائلا دون هذا التطور ، وإنه لا بد له من انقلاب ذريع يطرأ عليه ليصبح جديرا بالمهمة التي أرادها مؤسسوه منه في كل عهد فماذا يفعل؟ وليس بين يديه ممن يحسون بهذا الخطر سوى عدد نزر ، لا يكفون لإحداث انتقال خطير ، يتأدى به إلى غرضه بالسرعة المرجوة؟

اضطر لأن يسير وئيدا ، والسير الوئيد في مثل هذا العهد جريمة. فماذا يفعل والأحوال حوله تجري في تيار معاكس؟ وكثيرا ما رأى أن الأولى به التخلي عن وظيفته ، لو لا أن الشعب كان يرى أن ليس لهذه المهمة العالمية غيره فيتمسك به.

٢٧٩

الشيخ مصطفى عبد الرازق

ولد رحمه الله عام ١٨٨٥ بأبي جرج من أعمال مديرية المنيا ، وهو الابن الثاني من أولاد المرحوم حسن عبد الرازق باشا ، وبعد أن أتم تعليمه الأولى حفظ القرآن الكريم وجوده ، ثم التحق لطلب العلم بالأزهر الشريف وتخرج في سنة ١٩٠٦ وحصل على شهادة العالمية من الدرجة الأولى بين زملائه الشافعية. وعين للتدريس في مدرسة القضاء الشرعي ، وفي سنة ١٩٠٩ سافر إلى فرنسا والتحق بجامعة السربون ليضم إلى ثقافة الشرق ثقافة الغرب وندبه مسيولابيير لتدريس بعض المباحث الإسلامية بجامعة ليون ، ثم عاد من فرنسا في أوائل الحرب الكبرى وعين سكرتيرا لمجلس الأزهر وكان ذلك في سنة ١٩١٦ وفي سنة ١٩٢١ عين مفتشا في المحاكم الشرعية ، ثم عين سنة ١٩٢٧ أستاذا للفلسفة بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول وظل في كرسي الأستاذية حتى اختير في سنة ١٩٣٨ وزيرا للاوقاف في وزارة المغفور له محمد محمود باشا الثانية واختير عدة مرات في وزارات مختلفة لتولي هذا المنصب حتى انتقل المغفور له الشيخ المراغي شيخ الأزهر إلى جوار ربه ، فاختير لهذا المنصب وهو وزير الأوقاف وصدر الأمر الملكي بتعيينه شيخا للأزهر في ٢٧ ديسمبر سنة ١٩٤٥ ، وظل في هذا المنصب حتى لقي الرفيق الأعلى وقد اختير أميرا للحج في العام الذي توفي فيه ، فكان خير مبعوث لمصر بين أبناء البلاد الإسلامية عند البيت الحرام. ويقول عند الأستاذ محمد فريد وجدي حين وفاته : انتقل إلى عالم الأرواح الخالدة الأستاذ الأكبر الشيخ مصطفى عبد الرازق ، شيخ الجامع

٢٨٠