الأزهر في ألف عام - ج ١

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي

الأزهر في ألف عام - ج ١

المؤلف:

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٦

عليه قبة معقودة وتركيبة من رخام بديعة الصنعة منقوش عليها اسماء العشرة المبشرين بالجنة وكتابات أخرى .. وقد توفي الامير عبد الرحمن كتخدا (١) عام ١١٩٠ ه‍ (٢) :.

وبنى أمام المدفن المذكور رواقا مخصوصا بمجاوري الصعايدة المنقطعين لطلب العلم الشريف بالأزهر ، وبه مرافق ومنافع ومطبخ ومخادع وخزائن كتب وبني بجانب ذلك الباب منارة ، وأنشأ بابا آخر جهة مطبخ الجامع وهو المشهور بباب الشوربة ، وجعل أيضا على يمينه منارة ، وجعل فوقه مكتبا وبداخله على يمين الداخل ميضأة ، وأنشأ لها ساقية ، وصار الان محل الميضة حجرة مكتبة إدارة الأزهر ، وقد جاء هذا الباب الكبير وما بداخله من الطيبرسية والاقبغاوية من أحسن المباني في العظم والوجاهة والفخامة وأرخ بعضهم ذلك بهذه الأبيات :

تبارك الله باب الأزهر انفتحا

وعاد أحسن مما كان وانصلحا

تقر عينا إذا شاهدت بهجته

بإخلاص بأن له للعلم والصلحا

وادخل على أدب تلق الهداة به

قد قرروا حكما يزدانها رجحا

بالباب قد بدأ الأكوان أرخه

بعبد رحمن باب الأزهر انفتحا

وجدد رواقا للمكاويين والتكروريين وزاد في مرتبات الجامع ، ورتب لمطبخه في خصوص أيام رمضان في كل يوم خمسة أرادب أرزا أبيض وقنطارا من السمن ولحوما وغير ذلك من المرتبات والزيت والوقود للطبخ ، وزاد في طعام المجاورين.

ولما مات هذا الأمير عام ١١٩٠ ه‍ صلى عليه في الأزهر ، ودفن في مدفنه الذي أعده لنفسه فيه.

__________________

(١) ٥ ـ ٨ ج ٢ الجبرتي.

(٢) وتوفي الأمير حسن بك رضوان عام ١١٩٢ وكان شاعر مجيدا (٣٨ ـ ٥٠ ج ٢ الجبرتي) وكان الشيخ محمد الهلباوي الشهير بالدمنهوري شاعر الأمير علي بك وكاتبه وتوفي عام ١١٩٣ ه‍ (٥٤ ـ ٥٦ ج ٢ المرجع).

١٢١

وقد حدثت في الأزهر في هذا العهد عدة حوادث مختلفة .. فلما توفي ثاني شيخ للأزهر وهو الشيخ النشرتي وقعت فتنة بالأزهر عام ١١٢٠ ه‍ بسبب المشيخة والتدريس بالاقبغاوية وافترق المجاورون فرقتين فرقة تريد الشيخ أحمد النفراوي والأخرى تريد الشيخ عبد الباقي القليني ولم يكن حاضرا بمصر ، فتعصب له جماعة النشرتي ، وارسلوا يستعجلونه للحضور فقبل حضوره تصدر الشيخ النفراوي وحضر للتدريس بالاقبغاوية فمنعه القاطنون بها وحضر القليني فانضم اليه جماعة النشرتي وتعصبوا له فحضر جماعة النفراوي الى الجامع ليلا ومعهم بنادق وأسلحة وضربوا بالبنادق في الجامع وأخرجوا جماعة القليني وكسروا باب الاقبغاوية وأجلسوا النفراوي مكان النشرتي ، فاجتمعت جماعة القليني في يومها بعد العصر وكبسوا الجامع واقفلوا ابوابه وتضاربوا مع جماعة النفراوي فقتلوا منهم نحو العشرة وجرح بينهم جرحى كثيرون وانتهبت الخزائن وكسرت القناديل وحضر الوالى فأخرج القتلى وتفرق المجاورون ولم يبق بالجامع أحد ولم يصل فيه ذلك اليوم وأمر النفراوي بلزوم بيته واستقر القليني مكانه.

ولما قربت وفاة شيخ الاسلام الشيخ الدمنهوري الشيخ التاسع للأزهر رغب الشيخ العريشي الحنفي في المشيخة اذ هي اعظم مناصب العلماء فحضر الى الجامع مع ابراهيم بك وجمع الفقهاء والمشايخ وعرفهم أن الشيخ الدمنهوري أقامه وكيلا وبعد أيام توفي الشيخ الدمنهوري فتعين هو للمشيخة بتلك الطريقة وساعده الأمراء وكبراء الأشياخ وأبو الأنور السادات وكاد أمره يتم ، ومنع من ذلك اجتماع بعض الشافعية وذهابهم إلى الشيخ أحمد الجوهري حيث ساروا إلى بيت البكري وجمعوا عليهم جملة من أكابر الشافعية مثل الشيخ احمد العروسي والشيخ أحمد السمنودي والشيخ حسن الكفراوي ، وكتبوا طلبا للأمراء مضمونه أن مشيخة الأزهر من مناصب الشافعية وليس للحنفية فيها قديم عهد وخصوصا إذا كان آفاقيا كالشيخ عبد الرحمن العريشي وفي العلماء الشافعية من هو أهل لذلك

١٢٢

علما وتنا وانهم اتفقوا على ان يكون المتعين لذلك الشيخ احمد العروسي ، وختموا جميعا على الطلب وأرسلوه إلى إبراهيم بك ومراد بك فتوقف الأمراء وشددوا في عدم النقض ورد الطلب للمشايخ فقاموا على ساق ، وشدد الشيخ الجوهري في ذلك وركبوا بأجمعهم إلى جامع الامام الشافعي وباتوا به ليلة الجمعة ، فهرعت الناس ينظرون فيما يؤول اليه هذا الأمر وكان للأمراء اعتقاد في الشيخ الجوهري ، فسعى أكثرهم في انفاذ غرضه وخافوا العطب أو ثوران فتنة وحضر مراد بك للزيارة ، فكلمه الشيخ الجوهري وقال له لا بد من فروة تلبسها للشيخ العروسي ويكون شيخا على الشافعية وذاك شيخ على الحنفية كما أن الشيخ الدرديري شيخ المالكية والبلد بلد الامام الشافعي وقد جئنا اليه وهو يأمرك بذلك فان خالفت يخشى عليك فاحضر فروة وألبسها للشيخ العروسي وذهب العروسي الى بيته وأخذ شأنه في الظهور واحتد العريشي لذلك وذهب إلى السادات والأمراء فألبسوه فروة وتفاقم الأمر وصاروا حزبين ، وتعصب للعريشي طائفة الشوام والمغاربة ومنعوا الطائفة الأخرى من دخول الجامع واستمر الامر نحو سبعة أشهر إلى وقوع حادثة بين الشوام والأتراك واحتد الامراء للجنسية واكدوا في طلب الفصل في الامر وتصدى العريشي للذب عن الشوام ، فانطلقت عليه الألسن وانحرف عليه الأمراء وطلبوه فاختفى فعزلوه عن الافتاء وحضر الأغا وصحبته العروسي للقبض على الشوام ففروا فاغلقوا رواقهم وسمروه أياما ، ثم اصطلحوا وثبتت مشيخة العروسي وامر العريشي بلزوم بيته فاختلى بنفسه للعبادة ومرض من الحزن وتوفي سنة ١١٩٣ ه‍ رحم الله الجميع ...

وفي غرة رمضان سنة ١١٩٩ ثار فقراء المجاورين والقاطنون بالأزهر وأقفلوا أبوابه ومنعوا منه الصلوات وكان ذلك يوم جمعة فلم يصل فيه ذلك اليوم وكذلك اغلقوا المسجد الحسيني وخرج العميان والمجاورون يسيرون في الأسواق ويخطفون ما يجدونه من الخبز وغيره ، وسبب ذلك قطع رواتبهم واخبازهم المعتادة ، واستمروا على ذلك حتى حضر سليم اغا بعد

١٢٣

العشاء في المدرسة الأشرفية وأرسل إلى مشايخ الأروقة وتكلم معهم والتزم لهم بإجراء رواتبهم ... وفي سنة ١٢٠٠ ه‍ قطعت أخبازهم ومرتباتهم وفعلوا مثل ذلك وحضر إليهم سليم أغا مثل الأول والتزم ولم يوف ، فضجت المجاورون فوق المنارات فحضر ونجز لهم بعض المرتبات مدة ، ثم انقطع ثم التزم وتكرر الغلق والفتح مرارا عديدة مع منع المرتبات وإجرائها.

وفي أول جمعة من جمادى الأولى سنة ١٢٠٠ ه‍ ثار جماعة من أهالي الحسينية بسبب ما حصل من حسين بك بشفت فإنه تسلط على هجم البيوت فركب بجنده إلى الحسينية وهجم على دار أحمد سالم الجزار المتولي رياسة دراويش الشيخ البيومي ونهبه حتى حلى النساء والفرش ، فحضر أهل الحسينية إلى الجامع الأزهر ومعهم طبول وانضم اليهم كثير من العامة وبأيديهم نبابيت ومساوق ، وذهبوا الى الشيخ الدردير فساعدهم بالكلام ، وقال لهم أنا معكم فخرجوا من نواحي الجامع وأقفلوا أبوابه وصعد منهم طائفة على المنارات يصيحون ويدقون بالطبول وانتشروا بالأسواق في حالة منكرة وأغلقوا الحوانيت ، وقال لهم الشيخ الدردير : في غدا نجمع أهالي الأطراف والحارات وبولاق ومصر القديمة ونركب معهم وننهب بيوتهم كما ينهبون بيوتنا ونموت شهداء أو ينصرنا الله عليهم ، فلما كان بعد المغرب حضر سليم أغا ومحمد كتخدا الجلفي كتخدا إبراهيم بك وجلسوا في الغورية ، ثم ذهبوا الى الشيخ الدردير وتكلموا معه وخافوا من تضاعف الحال وقالوا اكتبوا لنا قائمة بالمنهوبات ونأتي بها من محل ما تكون وقرءوا الفاتحة على ذلك وانصرفوا ، وركب الشيخ إلى إبراهيم بك وأرسل إلى حسين بك وأحضره وكلمه في ذلك فقال : كلنا نهابون أنت تنهب ومراد بك ينهب وأنا أنهب ثم انفض المجلس وهدأت القضية.

وبعد حادثة أهل الحسينية السابقة بأيام قليلة تعصب مجاورو الصعايدة في الأزهر وأبطلوا دروس المدرسين به بسبب نهب سليمان بك الأغا سفينة لهم فيها تمر وسمن مدعيا أن له مالا متأخرا عند أولاد وافي في الصعيد وأن ذلك

١٢٤

مالهم ، وليس كذلك بل هو مال مجاوري الصعايدة ، فركب الشيخ الدردير والشيخ العروسي والشيخ المصيلحي وآخرون إلى إبراهيم بك وتكلموا معه بحضوة سليمان بك كلاما كثيرا مفحما ، فرد سليمان بك بعض ما أخذه.

وقد حدثت حوادث أيام مشيخة الشيخ الشرقاوي ، منها أن طائفة المجاورين بالأزهر من الشرقاويين كانوا قاطنين بالطيبرسية وكانت لهم خزائن برواق معمر فوقع بينهم وبين أهل الطيبرسية مشاجرة وضربوا نقيب الرواق ومنعهم شيخ الطيبرسية منها وكان ذلك سببا لبناء رواق السراقوة.

ومنها في سنة ١٢٠٩ ه‍ حضر أهل قرية بشرقية بلبيس ، وذكروا أن أتباع محمد بك الألفي ظلموهم وطلبوا منهم مالا لا قدرة لهم عليه ، فاغتاظ الشيخ الشرقاوي من ذلك وحضر إلى الأزهر وجمع المشايخ وقفلوا ابواب الجامع وذلك بعد أن خاطب مراد بك وإبراهيم بك ولم يبديا شيئا ، وأمر الشيخ الناس بغلق الأسواق والحوانيت ثم ركبوا ثاني يوم إلى بيت السادات وتبعهم كثير من العامة وازدحموا أمام الباب والبركة ، بحيث يراهم إبراهيم بك ، فأرسل لهم أيوب بيك الدفتردار فوقف بين أيديهم وسألهم عن مرادهم فقالوا نريد العدل وإبطال الحوادث والمكوسات التي ابتدعتموها ، فقال لا تمكن الإجابة إلى هذا كله فإنا إن فعلنا ذلك لضاقت علينا المعايش ، فقالوا ليس هذا بعذر عند الله وما الباعث على الإكثار من النفقات والمماليك والأمير يكون أميرا بالإعطاء لا بالأخذ ، فقال حتى أبلغ وانصرف وانفض المجلس وركب المشايخ إلى الجامع الأزهر ، واجتمع أهل الأطراف وباتوا به ، فبعث مراد بك يقول أجيبكم إلى جميع ما ذكرتموه إلا شيئين : ديوان بولاق وطلبكم المتأخر من الجامكية ، ثم طلب أربعة من المشايخ عينهم بأسمائهم فذهبوا إليه بالجيزة فلاطفهم والتمس منهم السعي في الصلح ، وفي اليوم الثلث اجتمع الأمراء والمشايخ في بيت إبراهيم بك وفيهم الشيخ الشرقاوي وانعقد الصلح على رفع المظالم ما عدا ديوان بولاق وأن يكفوا أتابعهم عن مد أيديهم إلى أموال الناس ويسيروا في الناس سيرة حسنة ، وكتب القاضي حجة بذلك

١٢٥

ووقع عليها الباشا والأمراء وانجلت الفتنة ، وفرح الناس نحو شهر ، ثم عاد الحال إلى أصله.

ويذكر ابن إياس أن السلطان سليم شاه العثماني دخل الجامع الأزهر يوم الجمعة سنة ٩٢٣ ه‍ فصلى به الجمعة وتصدق هناك بمبلغ كبير ..

وزار الأزهر الشريف السلطان الأعظم عبد العزيز خان ، وقد حظي بكثير من خيرات ملوك آل عثمان.

الأزهر والحركة العلمية في هذا العهد :

نبغ من هذا العصر عدد كبير من العلماء والأدباء والشعراء ، منهم : الشهاب الخفاجي المتوفى ١٠٦٩ ه‍ ، والبديعي المتوفى عام ١٠٧٣ ه‍ ، وعبد القادر البغدادي المتوفى عام ١٠٩٣ ه‍ صاحب خزانة الأدب ، والسيد مرتضى الزبيدي (١١٤٥ ـ ١٢٠٥ ه‍) مؤلف تاج العروس ، والصبان المتوفى عام ١٢٠٦ ه‍.

ومنهم المحبي (١٠٦١ ـ ١١١١ ه‍) مؤلف خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر ، والشعراني المتصوف المتوفى عام ٩٧٣ ه‍ ، وعبد الله الشبراوي المتوفى عام ١١٧٢ ه‍ ، وسواهم.

وهؤلاء كانوا من غير شك ممن أفادوا من الأزهر ، وتأثروا به.

وفي هذا العهد استمر الأزهر مدى القرون الثلاثة التي حكم العثمانيون فيها مصر ، يجاهد لحفظ البقية الباقية من اللغة العربية والعلوم القرآنية التي أصبحت في حال ذبول أو شبه جفاف ، وكان له الفضل على كل حال في الإبقاء على حشاشة هذا التراث الإسلامي ، لقد صار الأزهر أشهر الجوامع في التدريس على الإطلاق. وقصده طلاب العلم من كل ناحية حتى تركستان والهند وزيلع وسنار. ولكل طائفة منهم رواق باسمهم كرواق الشوام أو المغاربة أو العجم ، أو الزيالعة ، أو اليمنية أو الهندية ، فضلا عن أروقة الصعيد.

١٢٦

وبلغ عدد تلاميذ الأزهر في أوائل القرن التاسع للهجرة ـ أي نحو عام ٨١٨ ه‍ ـ ٧٥٠ طالبا من طوائف مختلفة ، وكانوا مقيمين في الجامع ومعهم صناديقهم وخزائنهم يتعلمون فيه في الفقه والحديث والنحو والمنطق ، وزادوا في عصر العثمانيين على ذلك زيادة كبيرة.

وفي كتاب التعليم العام في مصر ما يفيد أن العلوم التي كانت تدرس غالبا بالأزهر حتى منتصف القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي) هي الآداب والفقه التوحيد.

وكانت تدرس أحيانا بصفة استثنائية علوم الفلك ، والعلوم الرياضية ، والعلوم الطبيعية ، والتجريبية ، إجمالا.

واشتدت المنافسة الفكرية التي كانت بين المذاهب في الأزهر ، والتي أدت إلى ظهور المذهب الشافعي على سائر المذاهب ، حيث نرى منذ هذا الوقت المذاهب كلها تدرس سويا بالأزهر ، إلا أن المشيخة كانت في الغالب للشافعيين. والمنافسة كما يدلنا التاريخ كانت شديدة على هذا المنصب ، وكانت في أكثر الأوقات تدور بين المذهبين الشافعي والحنفي ، والمذهب الحنفي كان غالبا مذهب الأمراء والولاة من الأكراد والمماليك والأتراك. ولا زلنا للآن نجد المذهب الحنفي في صف السلطة القضائية في هيئة الحكم ، فعليه تسير المحاكم الشرعية في قضائها. ويرى الأستاذ «فولر» أن وجود جدث الامام الشافعي الطاهر في مسجده المنيف ، وكذلك سلطانه الروحي في نفوس الأهالي ، مما ساعدا على كثرة أتباعه. وقد يكون هذا صحيحا ، والواقع أن مرجع هذه المنافسة يعود إلى خلاف في طبيعة المذهبين.

ومهما يكن من أمر فالأزهر في كل عصوره حتى حكم محمد علي كان مركز التعليم الذي تدور حوله الحركة العلمية في البلاد ، ولهذا المركز الممتاز أدت هذه الجامعة خدمتين من أجل الخدمات التي لها أثرها الواضح في حياة مصر الاجتماعية والسياسية عامة : الأولى عمله على نشر

١٢٧

اللغة العربية وتوطيدها بالبلاد المصرية ، وشد أزرها ضد اللغة القومية التي غزاها الإسلام بلغته العربية العريقة. والثانية دعم أسس الديانة الإسلامية ووقوفها تسند الإسلام بكل ما انبعث فيها من المجهودات العقلية والروحية.

والخطة التي انتهجها الأزهر تتلخص في أنه بعد زوال الدولة الفاطمية وعمل صلاح الدين على إبادة آثارها ، أدخلت المذاهب الأربعة في الأزهر وصارت سواسية في التدريس فيه ، وكان لكل مذهب شيخ ، وله مطلق السلطة على الأساتذة والطلاب الدين ينضمون تحت لواء مذهبه.

وكان من آثار الأزهر فوق هذا أن جعل لمصر مكانة ممتازة وسلطانا أدبيا على شعوب الشرق ، وأصبحت البلاد الشرقية تنظر إلى مصر نظرة الحائر إلى الهادي المرشد. وتعترف لها بالفضل والعلم.

وكان التعليم فيه على ثلاث مراحل : المرحلة الأولى يبدأ التلميذ فيها بتعلم الهجاء والقراءة والكتابة ويحفظ ما تيسر من القرآن عن ظهر قلب ليكون هذا الجزء المادة التي يستطيع أن يطبق التلميذ فيها عمليا ما أخذ من المعلومات النظرية في تعلمه قواعد الهجاء والكتابة ، فيطالب التلميذ بكتابة هذا الجزء وقراءته ، ثم ينتقل من هذا الجزء إلى غيره كتابة وقراءة وحفظا حتى يتم القرآن وهذه أول مراحل التعليم ، ويكون التلميذ فيها قد تعلم القراءة والكتابة وتستغرق هذه المرحلة من سنتين إلى ثلاث.

ثم ينتقل إلى المرحلة الثانية ويظل تحت إشراف أستاذه ، يعطيه دروسا في القراءة والكتابة ، وموضوعات إنشائية سهلة تتدرج فيها من السهولة إلى الصعوبة ، متمشيا في ذلك مع النمو العقلي للتلميذ ، ويكون التلميذ في هذه السن على أبواب دور المراهقة وكل ما استفاده من هذه البرامج تحصيله للقرآن الشريف ، فالتلميذ يستطيع أن يستغل ما حفظه منه في تعمير حياته الروحية ، وتلاوته تكون سلواه وأنيسه ، ويتخير من الآيات ما يتفق ونفسه فيستعملها في دعائه وعبادته وصلاته كل يوم ، وتكون قواه

١٢٨

العقلية بهذا التمرين قد نشطت بوجه ما ، ويكون لسانه قد تقوم واكتسب اللهجة العربية الفصحى .. وأظهر ما يبدو في هذا الأسلوب التعليمي أنه لا يبدأ بتعليم القواعد والتعاريف والكليات في اللغة إلا بعد أن يكون التلميذ قد تذوق هذه اللغة بنفسه ، وتكونت في عقله ملكة وذوق.

وأغلب المتعلمين كانوا يقفون عند هذا الحد ، ويتخرجون في سن الثانية عشرة ، وبعضهم كان يخطو إلى المرحلة الثالثة ، يدرسون فيها علوم الدين من فقه وحديث وتوحيد الخ ، وفي الأحوال الاستثنائية كان بعض الأفراد يدرسون العلوم الطبيعية والرياضية.

والمتخرج ما كان يحصل على شهادة يعترف بها رسميا ، وإنما كان يعتمد على مجهوده الشخصي وشهرته وكفاءته في إلزام الناس بالاعتراف بوجوده ومنزلته ، وكان لا يتصدر للتدريس إلا من مارس الفنون المتداولة بالأزهر ، وتلقاها من أفواه المشايخ ، وصار متأهلا للتصدر ، حلّالا للمشكلات ومعضلات المسائل ، فلا يحتاج لاستئذان إلا على جهة الأدب والبركة ، وإنما يعلم بعض المشايخ والطلبة فيحضرون درسه ، ويتراكمون عليه ، وهو يتأنق في الابتداء ويتهالك في طريق الإغراب والتوغل وقد يتعصب عليه بعض الحاضرين ويتعنت ، والبعض الآخر ينتصر له ، وإذا تلعثم في إجابته لسائل ربما أقاموه ومنعوه من التصدر ، وإذا عاند ربما ضربوه.

ولم يكن للأزهر شيخ منذ أن أنشىء إلى القرن العاشر ، وإنما كان يتولاه الملوك والأمراء الذين كانوا يهتمون بشأنه ويكرمون أهله ، حتى إذا كان القرن الحادي عشر الهجري جعل للأزهر شيخ ، ومما يجمل ذكره أن شيخ الأزهر كان بمثابة شيخ الإسلام في دار الخلافة ، فكان يقوم بشؤون الأزهر ويرعى أمور أهله ويفصل في قضاياهم ويضبط مرتباتهم ، ويمثلهم لدى الحكومة ، ومنوط به إقامة شعائر الدين في أنحاء القطر قاطبة.

وأول من تولى المشيخة ـ كما قاله الجبرتي ـ هو الإمام محمد بن

١٢٩

عبد الله الخرشي المالكي ، وقد توفي سنة ١١٠١ ه‍ ، وتولى بعده الشيخ محمد النشرتي وتوفي سنة ١١٢٠ ه‍ ، وجاء بعده الشيخ عبد الباقي المالكي القليني ، فلما مات تقلد بعده الشيخ محمد شنن المالكي المتوفى سنة ١١٣٣ ه‍ ؛ ثم تولى بعده الشيخ إبراهيم ابن موسى الفيومي المالكي المتوفى سنة ١١٣٧ ه‍ ، ثم تولى بعده الشيخ إبراهيم الشبراوي الشافعي وتوفي سنة ١١٧١ ه‍ ، فتولى المشيخة بعده الشيخ الحفني المتوفى سنة ١١٨١ ه‍ ، ثم تولى المشيخة بعده الشيخ عبد الرؤوف السجيني وتوفي سنة ١١٨٢ ه‍ ، ثم تولى بعده الشيخ أحمد الدمنهوري المذاهبي وتوفي بمنزله ببولاق سنة ١١٩٢ ه‍ ، وبعد وفاته حصل نزاع في تولي المشيخة بين الشيخين عبد الرحمن بن عمر العريشي الحنفي وأحمد العروسي الشافعي مدة سبعة أشهر ، ثم آلت إلى الثاني وتوفي سنة ١٢٠٨ ه‍ ، فانتقلت المشيخة إلى الشيخ عبد الله الشهير بالشرقاوي وهو الذي أنشأ رواق الشراقوة ، وقد دخل الفرنسيون مصر في أيامه وانتخبوه عضوا في الديوانين : العمومي والخصوصي.

الأزهر وتاريخنا القومي :

قاد الأزهر ثورتين هامتين تعتبران من أسبق الثورات الدستورية العالمية ، إحداهما كانت بقيادة أكبر علماء ذلك العصر وهو الإمام أحمد الدردير ، والأخرى بقيادة شيخ الأزهر في ذلك الوقت الشيخ عبد الله الشرقاوي رحمهما الله تعالى.

فالثورة الاولى سبقت إشارة لها وخلاصتها أنه في يوم من أيام ربيع الأول عام ١٢٠٠ ه‍ (يناير عام ١٧٨٦ م) نهب حسين بك شفت وجنوده دارا لشخص يدعى أحمد سالم الجزار بالحسينية جهارا نهارا ظلما وعدوانا. فثارت ثائرة الأهالي ، وتشاوروا فيما يجب عليهم أن يفعلوه واتفقوا أخيرا على الالتجاء إلى أقوى العلماء شخصية وأوسعهم نفوذا ، وهو الإمام الدردير ، فاجتمع الأهالي في اليوم التالي للحادث ويمموا شطر

١٣٠

الجامع الأزهر وقصدوا الشيخ وأخبروه بالواقعة ، فغضب الشيخ لاستهتار الأمراء وتعسفهم ونادي في الجماهير غير هياب ولا وجل : أنا معكم ، وغدا نجمع أهالي الأطراف والحارات وبولاق ومصر القديمة وأركب معكم وننهب بيوتهم كما نهبوا بيوتنا ونموت شهداء أو ينصرنا الله عليهم وأمر الشيخ بدق الطبول على المنارات إيذانا بالاستعداد للقتال ، وترامت الأخبار بين الأهالي ، فأسرعوا نحو الأزهر للاشتراك في المعركة ، وكانت أخبار الجماهير الهائجة قد وصلت إلى إبراهيم بك ، وبلغه تصميم الإمام الدردير على قيادة الشعب ضد الأمراء ، وكان يعلم مقدار ما للشيخ من نفوذ ومكانة على الأهالي ، فخشى أن يستفحل الأمر ويؤدي إلى ضياع سلطته في مصر ، فأرسل نائبه ومعه أحد الأمراء إلى الإمام الدردير واعتذر له عما حدث ، ووعد بأن يكف أيدي الأمراء عن الناس. كما قرر توبيخ حسن بك شفت على صنيعه وطلب قائمة بجميع ما نهبه ليأمره برد ذلك إلى صاحبه ، وهكذا وضع الامام قاعدة دستورية هامة وهي احترام الحكم لارادة المحكومين (١).

والثورة الثانية (٢) تتلخص كما تقدم في أنه في شهر ذي الحجة عام (١٢٠٩ ه‍ ـ ١٧٩٥ م) اشتكى فلاحو قرية من قرى بلبيس إلى الشيخ عبد الله الشرقاوي من ظلم محمد بك الألفي ورجاله ، فبلغ الشيخ الشرقاوي الشكوى إلى كل من مراد وإبراهيم بك ، وخاطبهما في كف أذى محمد بك الألفي عن الفلاحين فلم يفعلا شيئا ، فما كان من الشيخ الشرقاوي رحمه الله تعالى إلا أن عقد اجتماعا في الأزهر حضره العلماء وتشاوروا في الأمر فاستقر رأيهم على مقاومة الامراء بالقوة حتى يجيبوا مطالبهم ، وقرروا إغلاق أبواب الجامع الأزهر ، وأمروا الناس بغلق الأسواق والحوانيت استعدادا للقتال.

__________________

(١) مجلة الأزهر عدد شوال ١٣٧٢ الأستاذ أحمد عز الدين خلف الله ـ والجبرتي طبعة بولاق ج ٢ ص ١٠٣ ـ ١٠٤.

(٢) الجيرتي ج ٢ ص ٢٥٨ ، والأستاذ خلف الله في مجلة الأزهر.

١٣١

وفي اليوم التالي : ركب الشيخ الشرقاوي ومعه العلماء وتبعهم الجماهير وسار الجميع الى منزل الشيخ السادات يستشيرونه في بدء المعركة ، وكان قصر ابراهيم بك قريبا من قصر الشيخ السادات ، فراعه احتشاد الجماهير هناك ، وعلم باجتماع العلماء عند الشيخ السادات ، فبادر بارسال أيوب بك الدفتردار ليسأل عن مرادهم.

فقالوا له : نريد العدل ورفع الظلم والجور وإقامة الشرع وإبطال الحوادث والمكوسات التي ابتدعتموها وأحدثتموها.

فأجابهم قائلا : لا يمكن الإجابة إلى هذا كله فإننا إن فعلنا ذلك ضاقت علينا المعايش والنفقات. فقالوا له : هذا ليس بعذر عند الله ولا عند الناس ، وما الباعث على الاكثار من النفقات وشراء المماليك ، والأمير يكون اميرا بالاعطاء لا بالأخذ!.

فقال لهم : حتى أبلغ وانصرف ولم يعد لهم بجواب.

صمم العلماء في هذا المجلس على أن يخوضوا المعركة مع الأمراء ، فإما ان يستشهدوا أو ينالوا حقوق الشعب كاملة. وأعلنوا أهالي القاهرة بعزمهم. فتقاطرت الجماهير صوب الأزهر وباتوا هم والعلماء داخل المسجد وحوله.

هال إبراهيم بك ما بلغه من احتشاد الشعب ومرابطته مع العلماء استعدادا للقتال. فأرسل الى العلماء يعتذر إليهم ويبرىء نفسه ملقيا التبعة على شريكه في الحكم مراد بك ، بل ذهب الى أبعد من هذا إذ يقول «أنا معكم وهذه الأمور على غير خاطري ومرادي» ، وأرسل مراد بك يستحثه لعمل شيء ويخيفه عاقبة الثورة التي توشك ان تنفجر.

وفي اليوم الثالث للثورة توجه والي مصر إلى منزل إبراهيم بك واجتمع مع أمراء المماليك وقرروا إيجاد حل سريع حاسم قبل ان يفلت الزمام فتشتعل الثورة ، وأرسلوا إلى العلماء ليحضروا الاجتماع ، فحضر الشيخ السادات والسيد عمر مكرم والشيخ الشرقاوي والشيخ البكري

١٣٢

والشيخ الأمير وطال الحديث بينهم ، وكان مداره حول حقوق الشعب ، ولم يستطع ابراهيم بك ولا مراد بك ولا الأمراء المكابرة في هذه المرة ، فقد كانت القاهرة تغلي كالمرجل وكانت أشبه ببركان يوشك أن يثور ، وكان الشعب المتكتل في الخارج يلوح مهددا متوعدا ، وانتهى هذا المجلس التاريخي بموافقة الأمراء والوالي على القرارات الآتية :

أولا : لا تفرض ضريبة الا إذا أقرها مندوبو الشعب.

ثانيا : أن ينزل الحكام على مقتضى أحكام المحاكم.

ثالثا : ألا تمتد يد ذي سلطان إلى فرد من أفراد الأمة إلا بالحق والشرع.

وكان القاضي الشرعي حاضر فحرر (حجة) تضمنت هذه القرارات وقع عليها الوالي ، وختم عليها إبراهيم بك وأرسلها إلى مراد بك فختم عليها أيضا وانحلت الأزمة. ورجع العلماء يحيط بكل منهم موكب من الأهالي وهم ينادون : حسب مارسمه سادتنا العلماء بأن جميع المظالم والحوادث والمكوس بطالة من مملكة الديار المصرية.

ولو تأملنا في هذا النص الذي ساقه مؤرخ مصر الجبرتي ودققنا النظر في قوله «حسب ما رسمه سادتنا العلماء» لوجدنا أن هذه العبارة الظاهرة تحمل مبدأ دستوريا هائلا : وهو أن الأمة مصدر السلطات.

وقد توافق رأي أكثر المؤرخين الفرنجة على ان هذه الحجة بمثابة وثيقة إعلان حقوق الانسان ، سبقت بها مصر غيرها.

وقد طبق وكلاء الشعب ويمثلهم العلماء والأعيان هذا المبدأ ـ مبدأ الأمة مصدر السلطات ـ على والي مصر خورشيد باشا ، حين عجز عن ضبط الأمن في البلاد ، إذ عقدوا مؤتمرا وطنيا يوم ١٣ صفر عام ١٢٢٠ ه‍ ، وقرروا عزل الوالي. ولما رفض الاذعان لهذا القرار قام العلماء والأعيان والشعب بتنفيذ قرار الأمة بالقوة ودارت رحا الحرب بينهم

١٣٣

وبين الوالي ، وكانت الأوامر خلال المعركة تصدر باسم السيد عمر مكرم والعلماء بصفتهم وكلاء الأمة ، وأجبروه أخيرا على الاذعان لقرار الأمة في ٢٩ جمادي الأولى عام ١٢٢٠ ه‍.

هذا وقد سجل التاريخ للعلماء السابقين مواقف مجيدة في الدفاع عن حقوق الشعب نذكر منهم الإمام شمس الدين محمد الحنفي المتوفى ي عام ٨٤٧ ه‍ ، والشيخ شمس الدين الديروطي الواعظ بالأزهر الشريف والمتوفى عام ٩٢١ ه‍ ، وشيخ الاسلام الامام محمد بن سالم الحنفي المتوفى عام ١١٨١ ه‍.

١٣٤

الشهاب الخفاجي المصري

٩٧٥ ـ ١٠٦٩ ه

والده هو محمد بن عمر الخفاجي المصري الشافعي احد علماء عصره ، وأعلام دهره.

وكان من الفضلاء والأدباء البارعين ، المتعمقين المحققين المتقنين ، وأخذ عن كبار الشيوخ ، وتصدر للإفادة ، فانتفع به جماعة من كبار العلماء ، من جملتهم ابنه الشاعر العلامة الشهاب الخفاجي صاحب طراز المجالس وسواه من المؤلفات القيمة.

وتوفي الخفاجي عام ١٠١٩ ه‍ بعد حياة حافلة ، وخدمات جليلة أسداها للعلم والدين والأدب واللغة (١).

أما الشهاب الخفاجي (٢) :

__________________

(١) ٤١١ ج ٧ دائرة المعارف للبستاني ، وورد في هذا المرجع أن وفاته عام ١٠١١ ه‍ وهو غير صحيح إذ قد ذكر الشهاب في الريحانة في ترجمته لخاله أبي بكر الشنواني أنه توفي هو ووالده في وقت واحد [١١٦ الريحانة] ؛ وقد توفي خاله سنة ١٠١٩ ه‍.

(٢) ترجم لنفسه في الريحانة [٢٧٢ ـ ٣٠٩]. وترجم له المحبي في الجزء الأول من تاريخ خلاصة الأثر [٣٣١ ـ ٣٤٣]. كما ترجم له ابن معصوم في سلافة العصر [٤٢٠ ـ ٤٢٧] ، وأشار إلى كتابه الريحانة في ص ٨ وأثنى عليه. وله ترجمة في مصباح العصر في تواريخ شعراء مصر طبع بيروت ١٢٨٨. وترجم له جورجي زيدان في كتابه تاريخ آداب اللغة العربية ص ٢٨٧ ج ٣.

وترحم له الأستاذ محمود مصطفى في الجزء الثالث من تاريخ الأدب العربي. وفي الجزء الثاني من المفصل ترجمة له [٣٠٨ ـ ٣١١). وترجم له فنديك في اكتفاء الفنوع بما هو مطبوع ص

١٣٥

فمجال الحديث عنه واسع ، والمراجع التاريخية والأدبية عنه وعن حياته وشعره كثيرة

وسأتناول جوانب هذه الشخصية الكبيرة في إيجاز :

يقول ابن معصوم في «السلافة» عنه :

أحد الشهب السيارة ، والمقتحم من بحر الفضل لجه وتياره ، فرع تهدل من خفاجة (١) وفرد سلك سبيل البيان ومهد فجاجه (٢) ، إلى آخر ما يقول :

ويقول فنديك في كتابه «اكتفاء المطبوع» :

والخفاجي يرجع نسبه إلى قبيلة «خفاجة» ، وسكن أبوه في قطعة أرض بقرب سرياقوس شمالي القاهرة (٣) وهي قبيلة عربية كبيرة كان لها دولة في العراق ومنها أمراء كثيرون.

وإذا فالشهاب يرجع في نسبته إلى بني خفاجة على وجه التحقيق كما رأينا في هذه المصادر وكما ورد في سوى هذه المصادر.

وإذا كان المحبى في خلاصة الأثر لم يحقق هذه النسبة واكتفى بقوله : خفاجة هي من بني عامر فلعل أصل والده منهم (٤) ، فذلك لأنه لم

__________________

٣٥١. وترجم له البستاني في دائرة المعارف ٥٨٧ و٥٨٨ ج ١٠ ـ كما ترجم له كثير من علماء الأدب في شتى المؤلفات وله ترجمة في عقد الجواهر والدرر في أخبار القرن الحادي عشر للشلي (ص ١٧٧ من التراجم الملتقطة منه الملحقة بآخر طبقات الشافعية للاسدي رقم ٢٤٠ تاريخ ـ تيمورية) وله ترجمة من كتابي بنو خناجة الجزء الثاني ص ٥٩ ـ ٧٣.

(١) هي قبيلته العربية التي ينتمي الشهاب إليها.

(٢) ٤٢٠ السلافة.

(٣) ٣٥١ اكتفاء القنوع

(٤) راجع خلاصة الأثر ٣٤٢ ج ١ ، ومقدمة الجزء الأول من حاشية الشهاب المسماة عناية القاضي وكفاية الراضي على تفسير البيضاوي ص ٧ حيث صدر بذكر ترجمة المحبي للشهاب في كتابه خلاصة الأثر.

١٣٦

يكن من علماء الأنساب وكانت حياته بعيدة عن الحجاز ونجد وصميم القبائل العربية ، ولم يكن من العرب الخلص ، وغير العرب الخلص لا يهتمون بالأنساب ومعرفتها اهتماما كبيرا.

والشهاب هو شهاب الدين محمود بن محمد بن عمر الخفاجي.

ترجم لنفسه في الريحانة فقال ما ننقله عنها في إيجاز «كنت بعد سن التمييز ، في مغرس طيب النبت عزيز ، في حجر والدي. ومقام والدي غني عن المدح ، فلما درجت من عشى قرأت على خالي سيبويه زمانه علوم العربية (١) ، ونافست إخواني في الجد والطلب ، ثم قرأت المعاني والمنطق وبقية علوم الأدب الاثني عشر ونظرت في كتب المذهبين : أبي حنيفة والشافعي. ومن أجل من أخذت عنهم : شيخ الإسلام ابن شيخ الإسلام الشمس الرملي وأجازني بجميع مؤلفاته ومروياته بروايته عن شيخ الإسلام زكريا الأنصاري [توفي ٩٢٦ ه‍] وعن والده ، ومنهم أحمد العلقمي (٢) أخذت عنه الأدب والشعر ، والعلامة الصالحي الشامي (٣) والشيخ داود البصير أخذت عنه الطب» (٤)

__________________

(١) خاله هذا هو أبو بكر إسماعيل بن شهاب الدين ، والده شهاب الدين الشنواني القطب الرباني ، وجده الأعلى ابن عم سيدى علي وفا الشريف الوفائي التونسي ، وكان أبو بكر علامة عصره في جميع الفنون وكان في عصره إمام النحاة. ولد بشنوان ، ودرس في القاهرة على ابن قاسم العبادي وعلي محمد الخفاجي والد الشهاب وأخذ عن كثير سواهما ، وتخرج عليه كثير من العلماء وانتهت اليه الرياسة العلمية ، ولازمه وتخرج عليه ابن أخته الشهاب الخفاجي وسواه من أكابر العلماء ، ثم ابتلى بالفالج فمكث فيه سنين لا يقوم من مجلسه إلا بمساعدة وله عدة مؤلفات ، وله شعر رواه الشهاب في الريحانة (١١٥ الريحانة) وتوفي سنة ١٠١٩ عقب طلوع الشمس من يوم الأحد ثالث ذي الحجة وبلغ من العمر نحو الستين ودفن بمقبرة المجاورين [راجع ترجمته في الريحانة (١١٤ ـ ١١٧) وفي الجزء الأول من خلاصة الأثر (٧٩ ـ ٨١) ، وفي الخطط التوفيقية لعلي مبارك باشا في الكلام على شنوان (١٣٨ ـ ١٤٣ / ١٢)]

(٢) ترجم له في الريحانة ص ١٩٥

(٣) هو محمد بن نجم الدين الصالحي الهلالي م ١٠١٢ ه‍ ١٦٠٣ م وله ديوان شعر اسمه «سجع الحمام في مدح خير الأنام طبع في القسطنطينية سنة ١٨٩٨ (٣٩٣ اكتفاء القنوع)

(٤) راجع ٢٧٢ الريحانة وترجم له في الريحانة ص ٢٠٥

١٣٧

ثم ارتحلت مع والدي للحرمين وقرأت هناك على ابن جاد الله وعلى حفيد العصام وغيره.

ثم ارتحلت الى القسطنطينية فتشرفت بمن فيها من الفضلاء والمصنفين واستفدت وتخرجت عليهم ، وممن أخذت عنه الرياضيات وقرأت عليه اقليدس وغيره أستاذي ابن حسن ، ثم انقرض هؤلاء العلماء في مدة يسيرة فلم يبق بها عين ولا أثر وآل الامر إلى اجتراء السلاطين والوزراء بقتل العلماء وإهانتهم. ولما عدت إليها ـ أي القسطنطينية ـ ثانيا بعدما وليت قضاء العساكر بمصر رأيت تفاقم الأمر وغلبة الجهل فذكرت ذلك للوزير فكان ذلك سبب عزلي وأمري بالخروج من تلك المدينة (١).

«فان أردت مالي من المآثر فمن تأليفي : الرسائل الأربعون ، وحاشية تفسير القاضي في مجلدات ، وحاشية شرح الفرائض ، وشرح الدرة ، وطراز المجالس ، وحديقة السحر ، وكتاب السوائح ، والرحلة (٢) ، وحواشي الرضى ، والجامي ، وشرح الشفاء وغير ذلك : ولي من النظم ما هو مسطور في ديواني ؛ ومن المنثور رسائل منها : الفصول القصار (٣) والمقامة الرومية (٤) التي ذكرت فيها أحوال الروم وعلمائها (٥)».

وللشهاب عدة مقامات نسج فيها على منوال مقامات الحريري منها : مقامة الغربة (٦) ، والمقامة الساسانية (٧) ، ومقامة عارض بها مقامة

__________________

(١) راجع ٢٧٣ الريحانة

(٢) قرأه عليه تلميذ للشهاب اسمه عبد القادر وأجازه الشهاب بماله من التآليف والآثار وما رواه من مشايخه الأخيار (راجع ٢٨٦ الريحانة) وعبد القادر هذا هو عبد القادر البغدادي نزيل القاهرة وتلميذ الشهاب وصاحب خزانة الأدب وتوفي سنة ١٠٩٣ (٣٠٦ فنديك).

(٣) نسج فيها على منوال ابن المعتز وذكر منها جزءا في الريحانة (٢٨١ ـ ٢٨٥)

(٤) راجعها في الريحانة ٢٧٦ ـ ٢٨١

(٥) ص ٢٧٦ الريحانة

(٦) راجعها في الريحانة (٢٨٦ ـ ٢٩٠) وذكر شرحا موجزا لبعض ما فيها من معان غريبة (راجع ٢٩٠ ـ ٢٩٢)

(٧) راجعها في الريحانة (٢٩٢ ـ ٢٩٥)

١٣٨

الوطواط (١) ، والمقامة المغربية (٢).

«وله كتاب شفاء الغليل فيما في كلام العرب من الدخيل ، وكتاب ديوان الأدب في ذكر شعراء العرب ذكر فيه مشاهير الشعراء من العرب العرباء والمولدين وله كتاب طراز (٣) المجالس وهو مجموع حسن الوضع جم الفائدة رتبه على خمسين مجلسا ذكر فيه مباحث لغوية ونحوية وأصولية وتفسيرية ، وله رسائل كثيرة ومكاتبات وافرة لم يجمعها ومقامات ذكر بعضها في ريحانته (٤)».

«وكان لما وصل إلى الروم في رحلته الأولى ولي القضاء ببلاد «الروم ايلي» حتى وصل إلى أعلى مناصبها في زمن السلطان مراد حتى اشتهر بالفضل الباهر فولاه السلطان قضاء سلانيك فاستفاد مالا كثيرا ثم اعطي بعدها قضاء مصر وبعد ما عزل عنها رجع الى الروم فمر على دمشق وأقام بها أياما ومدحه فضلاؤها بالقصائد واعتنى به أهلها وعلماؤها ، ودخل حلب إثر ذلك ثم رحل إلى الروم وكان إذ ذاك مفتيها يحيى بن زكريا فأعرض عنه فصنع مقامته التي ذكرها في الريحانة وتعرض فيها للمولى المذكور فكان ذلك سبب نفيه الى مصر وأعطي قضاء فيها فاستقر بمصر يؤلف ويصنف وأخذ عنه جماعة اشتهروا بالفصل الباهر ، منهم : عبد القادر والحموى وأخذ عنه والدي وكتب عنه أصل الريحانة الذي سماه «خبايا الزوايا فيما في الرجال من البقايا» (٥) ، «وأصل والده من سرياقوس قرية من قرى الخانقاه» (٦).

__________________

(١) راجعها في الريحانة (٢٩٥ ـ ٢٩٨)

(٢) راجعها في الريحانة (٢٩٨ ـ ٣٠٠) وشرحها في الريحانة (٣٠٠ ـ ٣٠٩)

(٣) طبع في القاهرة ١٢٨٤

(٤) ٣٣٣ ج ١ خلاصة الأثر

(٥) ٣٣٣ و٣٣٤ ج ١ خلاصة الأثر

(٦) ٣٤٣ ج ١ خلاصة الأثر

١٣٩

«ومنى الشهاب بعداوة بعض شعراء عصره (١)» «وتوفي سنة ١٠٦٩ ه‍ ـ ١٦٥٨ م» (٢) في رمضان وعمره فوق التسعين (٣)». وإذا يكون ميلاده حوالي سنة ٩٧٥ ه‍.

مكانته العلمية :

«الشهاب الخفاجي الحنفي قاضي القضاة المصري وصاحب التصانيف الكثيرة واحد الأفراد المجمع على إمامته وتفروقه وبراعته في عصره (٤)».

أجرى من ينبوع الفضل ما أخجل بمصر نيلها وبالشام سيحانه ، وأهدى لأرباب الأدب من رياض أدبه أطيب ريحانه (٥).

وكان أحد أفراد الدنيا المجمع على تفوقه وكان في عصره بدر سماء العلم ونير أفق النثر والنظم رأس المؤلفين ورئيس المصنفين ، سار ذكره مسير المثل ، وطلعت أخباره طلوع الشهب في الفلك ، وكل من رأيناه أو سمعنا به ممن أدرك وقته معترفون له بالتفرد في التقرير والتحرير وحسن الإنشاء وليس فيهم من يلحق شأوه ولا يدعي ذلك. وتآليفه كثيرة مقبولة وانتشرت في البلاد ورزق فيها سعادة عظيمة فإن الناس اشتغلوا بها ، وأشعاره ومنشآته مسلمة لا مجال للخدش فيها. والحاصل أنه فاق كل من تقدمه في كل فضيلة ، وأتعب من يجيء بعده مع ما خوله الله من السعة وكثرة الكتب ولطف الطبع والنكتة والنادرة (٦).

__________________

(١) ٤٢٧ السلافة لابن معصوم

(٢) ١١٥ فنديك

(٣) ٥٨٨ ج ١٠ البستاني

(٤) ٥٨٧ ، ١٠ البستاني

(٥) ٤٢٠ السلافة لابن معصوم

(٦) ٣٢١ و٣٣٢ ج ١ خلاصة الاثر للمحبي م ١١١١ ه‍ ، وص ٧ ج ١ من حاشية الشهاب علي البيغاوي.

١٤٠