الأزهر في ألف عام - ج ١

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي

الأزهر في ألف عام - ج ١

المؤلف:

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٦

وقد أتم تحصيله في سنة ١٣٢٤ ه‍ (١٩٠٦) وتقدم لامتحان شهادة العالمية وكان صغير السن بين أقرانه في ذلك الحين. وكان امتحان العالمية في أصول الفقه يكون في مسألة من مسائل مقدمة جمع الجوامع ، ورأى شيخ الأزهر الشيخ عبد الرحمن الشربيني تجاوز المقدمة والامتحان في مسألة أخرى حتى لا يقصر الطلبة جهودهم على المقدمة ، فعيّن مسألة للامتحان في القياس فتخلف عن الامتحان كثير ممن جاء موعد امتحانهم ، فأبيح التقدم لم بعدهم وتقدم الشيخ ففاز في امتحان دقيق كان شيوخنا يحدثوننا عن عسره وكان الطالب يقضي في الامتحان سحابة نهاره ، ولكن الشيخ لم يتجاوز ثلاث ساعات ، وكان الامتحان في أربعة عشر علما.

وعقب تخرجه نظم في سلك مدرسي الأزهر في ٢١ من نوفمبر سنة ١٩٠٦. وكان رحمه الله أحيانا يتحدث بما أفاء الله عليه من النعمة ، وما كان عليه الأزهر فيقول : كان مرتب المدرس في الأزهر خمسة وسبعين قرشا في الشهر ، ولقد كان أول ما تسلمته بعضا من هذا القدر إذ كان دخولي في التدريس في أعقاب الشهر ، ولقد كان فرحي بهذا المال الذي هو أول مال اكتسبته من الأزهر عظيما : إذ كان فيه وصلى لحبلي بحبال علماء الأزهر. وقد اختير لتدريس الرياضة بعد ، وكان يتقاضى على ذلك خمسين ومائة قرش في الشهر ، وهو مع ذلك يدرس العلوم الدينية واللغوية. ويذكر بعض من تلقى العلم عنه في هذه المدة فيقول : كان الشيخ جميل البزة مونقها غير متزمت في هديه ، يلقى الدرس في ترتيب عجيب وسياق لطيف يأخذ بألباب السامعين ، يبعد عن الحشو والتطويل واللغو من القول ، ولا يطيل في المباحث اللفظية ، له نغمة حلوة في الإلقاء تجذب الطلاب.

وفتحت مدرسة القضاء الشرعي في ذلك العهد ، وكان على أمرها عاطف بركات رحمه الله ، وكان يختار لها من الأزهر المبرزين الفوقة ، فذكر له الشيخ فاختاره ، وكان ذلك في سبتمبر سنة ١٩٠٨ فبقي فيها إلى ١٢ يونية سنة ١٩١٦ م. وقام فيها بتدريس الفقه وأصول الفقه ، فتخرج

٣٢١

عليه الثقات الكفاة الذين تقلدوا مناصب القضاء ، والإفتاء ، أذكر منهم الشيخ فرج السنهوري ، والشيخ حسنين مخلوف ، والشيخ حسن مأمون. والشيخ علام نصار ، وغيرهم كثير.

وولى بعد المدرسة منصب القضاء الشرعي ، فكان القاضي الفاضل الذكي البصير بالأحكام ومكايد الخصوم ، الصادع بالحق ، الناطق بالفضل ، وكان أخوه الشيخ أحمد حمروش قاضيا ، وكذلك كان عمه الشيخ عبد الحميد حمروش قاضيا ، فهو من أسرة تأثل فيها هذا المنصب الرفيع. ولقد عرفه في ساحة القضاء الشيخ المراغي رحمه الله ، فلما ولي مشيخة الأزهر نقله إلى الأزهر يستعين به في أمره ، فكان له في الأزهر اليد الطولى في شؤونه وتقلب في مناصبه حتى صار شيخا لكلية اللغة العربية في ١٣ يونية سنة ١٩٣١.

وتتوج حياته العلمية في الأزهر بدخوله في جماعة كبار العلماء في ٢٨ من صفر سنة ١٣٥٣ ه‍ (١٠ من يونية سنة ١٩٣٤ م). وقد قدم لنيل هذه الدرجة رسالة جليلة في «عوامل نمو اللغة» تدل على تحقيق ودقة نظر فيما تناول من المسائل ، يقول في مقدمتها :

«وبعد : فإن اللغة العربية بفضل عواملها المتعددة رحب صدرها ، واتسع نطاقها ، وكثرت مادتها ، وتنوعت أبنيتها ، وصار لها جمال المنطق وجلال الدلالة وحسن الديباجة ولطف العبارة ، وقد وسعت بتلك العوامل علوم اليونان والفرس وغيرهما ؛ وصارت لغة العلم والدين».

«وقد كتبت كلمة في التوليد بالزيادة والإبدال والقلب والاشتقاق والترادف والاشتراك والمجاز والنحت والارتجال والتعريب».

وأذكر هنا مبحث للتعريب في ختام الرسالة ليكون نموذجا لمباحثها. وعنوان البحث : «أثر التعريب» : «في التعريب زيادة مادة اللغة بالألفاظ الدخيلة فيها ، وقد أجرت العرب على بعضها أحكام الألفاظ العربية من القلب والاشتقاق وغيرهما ، وقد جرى العلماء على تسمية ما أدخله العرب

٣٢٢

بالمعرب ، إلى أن اختلطت العرب بغيرها وفسدت اللغة وما أدخله غير العرب بعد فساد اللغة والاختلاط بالأعاجم سموه مولدا ، وهناك قسم آخر يسمى بالعامي ، وهو ما أخذ من غير مادة عربية ، أو من مادة عربية ولكن بتحريف وتبديل لا تجيزه قواعد اللغة».

«بقي الكلام الآن في أمر هو محل نزاع الباحثين وموضع اهتمامهم ، وهو أن المعاني الجديدة ، والمستحدثات العصرية كثرت وتعددت بعد أن وقف التعريب ، وأصبحت اللغة العربية لا تنهض بالدلالة على تلك المعاني ولا تقوم بحاجة التعبير عنها ، فهل للموجودين أن يعربوا ألفاظ المعاني والمستحدثات تمشيا مع الحاجة ، ودفعا للضرورة ورفعا لعيب نقص اللغة العربية عن الاضطلاع بحاجة أبنائها»؟.

«ذهب فريق إلى التعريب ، وقال : إن اللغة كائن حي كسائر الموجودات وكل موجود حي يتدرج في الرقي ، وكما تدرج أهل اللغة يجب أن تتدرج اللغة ، وإن التعريب يؤدي إلى اتحاد لغة العلم ، ويحفظ للمخترع اسمه ، ويبقى له ذكره».

وذهب فريق إلى أنه لا حاجة إلى التعريب وأن اللغة العربية يمكن أن تنهض بالدلالة على المعاني الجديدة باتخاذ الوسائل المؤدية إلى ذلك ، فعندنا مهجور في اللغة لا يستعمل الآن ، وبنقله إلى المعاني الجديدة يقوم بالدلالة على بعضها ويتداول بين الناس فتحيا به اللغة العربية. وعندنا المجاز ، وهو يدل على غير الموضوع له بواسطة العلاقة والقرينة وعلاقاته كثيرة متعددة ، وعندنا المشتق ، ومنه قسم مطرد».

«وبهذه الوسائل يمكن اللغة العربية النهوض بالدلالة على المعاني الجديدة».

«على أن في التعريب فشو الكلمات الدخيلة في اللغة ، وهو يودي باللغة الفصيحة ، ويذهب بجمالها ورونقها. وفي ضياع اللغة الفصيحة

٣٢٣

تعطيل الأداة الصالحة لفهم القرآن والحديث ، وهما عماد الدين وإليهما يرجع المسلمون».

«وفي جواز التعريب ضياع أخص مميزات الجنس العربي ؛ لأن الجامعة الجنسية لا تكون بغير اللسان العام الذي يتفاهم به الجميع على السواء. فلو تساهل كل شعب في استعمال ألفاظ أعجمية لضاعت روابط الجنسية ، وأصبح لكل شعب لسان خاص».

وأما أن التعريب يوحد لغة العلم ويحفظ للمخترع اسمه فكلام لا يلتفت إليه ؛ فإن اتحاد لغة العلم إنما يكون إذا اتحدت أبجديات الأمم وهي مختلفة جدا. وحفظ اسم المخترع لا نبالي به إذا كان في عدم الالتفات إليه صيانة اللغة العربية».

«هذا حاصل كلام الفريقين باختصار. وأرى أنه إذا أمكن باتخاذ الوسائل المتقدمة أو باتخاذ وسائل أخرى غيرها أن تنهض اللغة العربية للدلالة على جميع المعاني والمستحدثات العصرية فلا نقدم على التعريب حفظا للغتنا العربية التي هي أداة فهم القرآن والحديث اللذين هما أساس الدين وعماده. وإن لم يمكن أن تقوم اللغة بعد اتخاذ الوسائل بالدلالة على جميع المعاني أقدمنا على التعريب بقدر الحاجة فقط ، مع المحافظة على اللغة الفصحى ، بأن نذكر اللفظ ونذكر بجانبه معناه ، وأنه مما عرب للدلالة عليه ، ونبين تاريخ التعريب ، فيكون ما وضعه المتقدمون معروفا ، وما ألحق باللغة معروفا ، فتتحقق المحافظة على الموروث عن السلف».

وأراني قد ألممت ببعض حياته في الأزهر ، وسألم ببعض حياته في المجمع.

دخل الشيخ ـ رحمه الله ـ المجمع لأول نشأته في سنة ١٩٣٤ م فاختير في معظم لجانه ، وشارك في بحوثه ، وكان من الرعيل الأول الذين أرسوا قواعد المجمع وأقاموا عمده. وكان له فيما يعرض في اللجان

٣٢٤

ومجلس المجمع ومؤتمره الرأي السديد والبصر النافذ واللحظ الناقد والبحوث المستفيضة في الشؤون العلمية.

ومن آرائه أن اللفظ المولد إذا اشتهر يستعمل في غير اللغة والأدب.

وعرض المجمع في بعض جلساته لرسم المصحف وطلب إلى الشيخ أن يكتب رأيه ، فكان رأيه الوقوف عند الرسم المعهود له ، ولا ينبغي كتابته بالرسم العادي : لأنه عرضة للتغيير والتبديل في كل عصر ، فلو أبيح هذا لتعدد رسم المصحف ، وكان مظنة لأن يعزى إليه الاختلاف فحفظ القرآن وصونه يقضي بإبقاء رسمه على الكتبة الأولى.

وقدم أحد الأعضاء المراسلين بحثا في كلمة «الضرر» رأى قصره على الزمانة وفقد البصر وأنه مصدر لفعل لازم على زنة فرح ، وإن لم يجيء هذا الفعل في المعاجم ، وأنه لا يقال : أصاب فلانا الضرر في ماله أو في حميمه مما ليس بداء لازم وخطأ الجوهري في جعله الضرر اسما بمعنى الضر ، وارتاب في الحديث : لا ضرر ولا ضرار ، وأثار مسألة الاحتجاج بالحديث في اللغة فقدم الشيخ بحثا رد به حجج هذا الباحث وأورد من الشواهد ما لا يقبل الجدل ؛ كقول جرير :

فإن تدعهم فمن يرجون بعدكم

أو تنج منها فقد أنجيت من ضرر

وقول أبي تمام :

لو كان في البين إذ بانوا لهم دعة

لكان فقدهم من أعظم الضرر

وله بحث قيم في التضمين ونيابة بعض الحروف عن بعض ، وبحث في الاشتقاق الكبير.

وكان الشيخ ـ رحمه الله ـ عجيب الاستحضار لما يقرأ ويسمع ، كثير المحفوظ من الشعر ، حسن الاستشهاد به في المقامات المناسبة ، جرى مرة في لجنة الأصول الحديث في التضمين ، وأنكر بعض الحاضرين أن يضمن فعل متعدّ معنى فعل آخر متعد ، فقال الشيخ : أذكر قول الشاعر :

٣٢٥

علفتها تبنا وماء باردا.

وقد قال اللغويون : إن علف هنا مضمّن معنى أطعم ، وكلاهما متعد.

وكان بيته محجة أولى العلم ينهلون من مورده العذب ، ويجدون ما طاب من حديث في دقائق العلم ممزوجا بفكاهة حلوة وطيب سمر ، وكان الشيخ طيب النفس بعيدا عن التزمت مؤنسا للجليس لا يمل مجلسه. وفي يوم الجمعة الذي توفي بعده اجتمع الشيوخ عنده عقب الصلاة فجرى البحث في تفسير قوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). وأفاض الشيخ في الحديث فيها ، وكان الشيخ يفسح الكلام لمن يتكلم ويعقب برأيه السديد.

ولقد طويت صفحات خالدة من تاريخ الأزهر الحديث بوفاة الأستاذ الأكبر الشيخ إبراهيم حمروش شيخ الأزهر الأسبق ، فقد عاصر رحمه الله مدرسة محمد عبده في الإصلاح الديني ، واشترك في نشاطها ، وكان أحد أقطابها ، وكان الإمامان المراغى وحمروش يمثلان عنصر الشباب في هذه المدرسة التي تتجه بكل كفاحها إلى خلق بيئة دراسية مستقرة في الأزهر ، وتكوين أجيال من الشباب المثقفين ثقافة واسعة تحيط بشتى علوم الشريعة والعربية ، وتتمثل فيهم رسالة رجل الدين الروحية والعلمية .. وكان حمروش يمثل الجانب العلمي لهذه المدرسة خير تمثيل ، في دروسه وهو شاب مكافح ، وفي توجيهه للتعليم في الأزهر وهو فيه مفتش فشيخ معهد فعميد لكلية اللغة وعضو في جماعة كبار العلماء فرئيس للجنة الفتوى ، وفي ندواته الليلية الدائمة في منزله في القلعة وقد كان كعبة العلماء والمفكرين ، حيث كانت تعرض أمامه مشكلات الدين والثقافة فيفتي فيها برأي سديد ، وحكمة نافذة ، تعد خير توجيه لرواد مجلسه ، ولم تحل مهامه الإدارية حين تولى مشيخة الأزهر الشريف في أكتوبر عام ١٩٥١ حتى نوفمبر عام ١٩٥٢ وبين عقد هذه الندوة كما كانت من قبل.

٣٢٦

وكان منزل حمروش مفتوحا دائما للناس ولمختلف طبقات الشعب يستفتونه في مشكلاتهم الروحية ، ويطلبون معاونته في مصالحهم الشخصية وهو يبتسم دائما لا تعرف «لا» طريقا إلى لسانه.

وقد اختير حمروش عضوا في المجمع اللغوي منذ ان نشأ واشترك في نشاطه اللغوي الكبير ، وأسس كثيرا من لجانه ، ووجه أعمال المجمع وجهة تفيد العرب وتراثهم ولغتهم والثقافة العربية العامة.

لم يترك حمروش كتبا مطبوعة وإن كانت له كتب مخطوطة لم تطبع بعد ، إنما ترك أفكارا قيمة في نفوس تلاميذه ومريديه ، وجميع علماء الأزهر اليوم وشيوخه من تلاميذه ومريديه ، وترك منهجا علميا يستضاء به دائما في إصلاح الأزهر ، وترك ذوقا علميا يستفاد منه فائدة جلى وترك مع ذلك كله قدوة طيبة تعد خير نبراس يرشد إلى الحق والخير والعزة والغيرة على الدين وعلى الوطن وعلى المبادىء المثلى التي دعا إليها الإسلام وكتابه الحكيم.

وقد كان حمروش رحمه الله مثالا للوطنية النزيهة لم يحن رأسه للطغاة ، ولم يتملق احدا في حياته كائنا من كان ، وسار في الصفوف الأولى مع الشعب في المظاهرة الوطنية الكبرى في نوفمبر ١٩٥١ احتجاجا على جيش الاحتلال وأعماله في منطقة القتال .. حقا لقد كان مثالا عظيما ، وعنوانا كريما لرجل الدين المعاصر وصفحة خالدة من تاريخ الأزهر الحديث.

٣٢٧

الأستاذ الأكبر الشيخ محمّد الخضر حسين

عين الشيخ الخضر حسين شيخا للأزهر في يوم الأربعاء ٢٧ من ذي الحجة ١٢٧١ ه‍ ـ ١٧ سبتمبر ١٩٥٢.

وكان أحمد تيمور في مقدمة الذين قدروا فضيلة الأستاذ الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر السابق حين قدم مصر من أكثر من ربع قرن ـ وقد عثر السيد خليل ثابت رئيس لجنة نشر المؤلفات التيمورية بين آثار العلامة أحمد تيمور على ترجمة لحياة الشيخ محمد الخضر حسين ـ هذا نصها :

ولد بمدينة نفطة بالقطر التونسي في ٢٧ رجب سنة ١٢٩٣ واشتغل بالعلم وحفظ القرآن الكريم وقرأ بعض الكتب الابتدائية في بلده ، وفي آخر سنة ١٣٠٦ رحل مع أبيه وأسرته إلى القاعدة التونسية فاشتغل بالطب ثم دخل الكلية الزيتونية سنة ١٣٠٧ فقرأ على أشهر أساتذتها وتخرج عليهم في العلوم الدينية واللغوية ونبغ فيها وفي غيرها ، فطلب لتولي بعض الخطط العلمية قبل إتمام دراسته فأبى وواظب على حضور حلقات الأكابر مثل الشيخ عمر ابن الشيخ والشيخ محمد النجار وكانا يدرسان التفسير والشيخ سالم بو حاجب وكان يدرس صحيح البخاري.

ثم رحل إلى الشرق في سنة ١٣١٧ ولكنه لم يبلغ طرابلس حتى اضطر إلى الرجوع بعد أن أقام بها أياما فلازم جامع الزيتونة يفيد ويستفيد ، إلى سنة ١٣٢١ ه‍ ، فأنشأ فيها مجلة ـ السعادة العظمى ـ ولاقى في

٣٢٨

سبيل بث رأيه الإسلامي ما يلاقيه كل من سلك هذا السبيل. وفي سنة ١٣٢٣ ولي القضاء في مدينة بنزرت والتدريس والخطابة بجامعها الكبير ، ثم استقال ورجع إلى القاعدة التونسية ، وتطوع للتدريس في جامع الزيتونة ، ثم أحيل إليه تنظيم خزائن الكتب بالجامع المذكور ـ وفي سنة ١٣٢٥ اشترك في تأسيس جمعية زيتونية ، وفي هذه المدة جعل من المدرسين المعينين بالجامع المذكور. وفي سنة ١٣٢٦ جعل مدرسا بالصادقية وكلف بالخطابة في مواضيع إنشائية بالخلدونية ، ولما قامت الحرب الطرابلسية بين الطليان والعثمانيين كان من أعظم الدعاة لإعانة الدولة ونشر بجريدة الزاهرة قصيدته الشهيرة لتي مطلعها :

ردوا على مجدنا الذكر الذي ذهبا

يكفي مضاجعنا نوم دها حقبا

ثم رحل إلى الجزائر فزار أمهات مدنها ، وألقى بها الدروس المفيدة ، ثم عاد إلى تونس وعاود دروسه في جامع الزيتونة ونشر المقالات العلمية والأدبية في الصحف.

وفي سنة ١٢٣٠ سافر إلى دمشق مارا بمصر ثم سافر إلى القسطنطينية فدخل يوم إعلان حرب البلقان فاختلط بأهلها وزار مكاتبها ، ثم عاد الى تونس في ذي الحجة من هذه السنة ونشر رحلته المفيدة عنها وعن الحالة الاجتماعية بها ببعض الصحف ، ثم جعل عضوا في اللجنة التي ألفتها حكومة تونس للبحث عن حقائق في تاريخ تونس ثم ترك ذلك لما عزم على المهاجرة إلى الشرق فرحل إليه ، ونزل مصر وعرف بعض فضائلها ثم سافر إلى الشام ثم للمدينة المنورة ثم إلى القسطنطينية ثم عاد إلى دمشق معينا مدرسا للغة العربية والفلسفة بالمدرسة السلطانية بدمشق ، وبقي كذلك إلى أن اتهمه مدة الحرب العظمى جمال باشا حاكم سوريا بكتم حال المتآمرين على الدولة واعتقله ستة أشهر وأربعة عشر يوما ثم حوكم فبرىء من التهمة فأطلق سبيله في شهر ربيع الثاني سنة ١٣٣٥ ومن شعره في حبسه وكانوا حالوا بينه وبين أدوات الكتابة :

٣٢٩

غل ذا الحبس يدي عن القلم

كان لا يصحو عن الطرس فناما

هل يذوذ الغمض عن مقلته

أو يلاقي بعده الموت الزؤاما

أنا لو لا همة تحدو إلى

خدمة الاسلام آثرت الحماما

ثم استمر على التدريس بالمدرسة بدمشق إلى أن دعي إلى القسطنطينية سنة ١٣٣٦. ثم هاجر الى استنبول بعد عام وعمل محررا بالقلم العربي بوزارة الحربية ، ثم أرسلته الحكومة إلى المانيا للقيام بعمل سياسي وهو تذكير الأسرى هناك بظلم فرنسا ثم رجع إلى الشام فدرس الفقه بالمدرسة السلطانية العربية .. وبعد أن احتلت فرنسا الشام بعشرة أيام هاجر إلى مصر في عام ١٣٢٩ ه‍. ثم نال الشهادة العالمية بالأزهر وتولى التدريس بكلية أصول الدين والتخصص اثنتي عشرة سنة.

وتولى رياسة تحرير مجلة الأزهر ولواء الإسلام ورياسة جمعية الهداية الإسلامية واختير عضوا بهيئة كبار العلماء ١٩٥١ ، وهو إلى ذلك عضوا بمجمع اللغة العربية منذ أنشىء. وقد استقال فضيلته من المشيخة في ٢ جمادى الألى ١٣٧٣ ه‍ ـ ٨ يناير ١٩٥٤ وتوفي رحمه الله في ١٤ من رجب عام ١٣٧٧ ه‍.

وقد نعى الأزهر في يوم الاثنين ١٤ رجب سنة ١٣٧٧ عالما إسلاميا جليلا ومجاهدا من الرعيل الأول ممن أبلوا البلاء الحسن في كفاح الاستعمار : الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الأزهر السابق ورئيس جمعية الهداية الإسلامية ، عن نيف وثمانين عاما قضى معظمها في التدريس وفي الكتابة والتأليف وفي جهاد مرير في شبابه دفاعا عن حقوق عرب شمال افريقيا وغيرهم من أقطار العروبة.

ولد الفقيد الجليل في وطنه الأول في بلدة «قفصة» من مقاطعة الجريد بتونس ونشأ في بيت علم ينتمي أصله إلى الجزائر ، وشرع في طلب العلم في بلدته ثم أتم تعليمه في جامعة الزيتونة ، وتخرج منها ومارس بعد تخرجه التدريس ثم القضاء ، كما قام بإنشاء أول مجلة علمية

٣٣٠

أدبية بالمغرب ، ثم رحل إلى تركيا ، وأقام بها وقتا قصيرا ثم حضر إلى دمشق حيث عين مدرسا بمدرستها الثانوية الوحيدة يومذاك ، ـ وكانت تعرف بمدرسة عنبر ـ وظل في دمشق إلى أوائل الحرب العالمية ، ثم رجع إلى استانبول فانتدبته الدولة العثمانية إلى برلين مع بعثة مؤلفة من كبار علماء شمال افريقيا للاتصال بأبناء شمال افريقيا ممن وقعوا في أسر الألمان أثناء الحرب وبانتهاء الحرب عاد إلى دمشق مدرسا في نفس المدرسة وكان العهد عهد الحكومة الفيصلية الوطنية ..

وكانت الحكومة الفرنسية قد حكمت عليه بالإعدام ، لانضمامه إلى الدولة العثمانية ولذهابه إلى ألمانيا ـ كما مر ذكره ـ فما أن دخلت فرنسا سوريا حتى غادرها جميع الأحرار من المجاهدين العرب وكان منهم الفقيد الشيخ الخضر فجاء إلى مصر حوالي عام ١٩٢٠ م وظل فيها بعض الوقت مغمورا ثم عرف فضله ومكانته فعين أولا مصححا بدار الكتب المصرية.

وفي هذه الأثناء صدر في مصر كتابان شهيران أحدثا دويا في ذلك الوقت في الأوساط الفكرية وهما كتاب «الإسلام وأصول الحكم» للعالم الأزهري الشيخ علي عبد الرازق وكتاب «في الشعر الجاهلي» للدكتور طه حسين ، ونظرا لما اشتمل عليه هذان الكتابان من آراء مضللة تصدى بعض كبار الباحثين للرد على كل منهما ، وكان للمرحوم الشيخ محمد الخضر حسين فضل الرد على كلا الكتابين حينئذ حيث أفرد لكل منهما كتابا مستقلا كانا من خير ما كتبه الكاتبون في هذا المجال.

وظل الفقيد يعمل مصححا بدار الكتب بضع سنوات إلى أن منح شهادة العالمية الأزهرية ثم تعين مدرسا بالأزهر وكان ذلك في عهد الشيخ المراغى .. وأخيرا تعين عضوا في هيئة كبار العلماء وهو المنصب الذي أهله فيما بعد لأن يصبح شيخا للأزهر ..

وعقب تعيينه مدرسا بالأزهر أنشأ جمعية الهداية الإسلامية بمصر وظل يرأسها ويرأس مجلتها إلى عهد قريب ، كما كان أول رئيس تحرير

٣٣١

لمجلة نور الإسلام وهي المجلة التي أصدرتها مشيخة الأزهر سنة ١٣٤٩ ه‍.

وللشيخ محمد الخضر حسين يرجع الفضل في تكوين جمعية تعاون جاليات افريقيا الشمالية في مصر قبل حوالي عام ١٩٢٤ م ، وكان يرأس هذه الجمعية بنفسه ، وهدفها رفع مستوى تلك الجاليات من الناحيتين الثقافية والاجتماعية.

غير أن هذه الجمعية لم تعش طويلا ، لأن استعمارا ثلاثيا : إيطاليا وفرنسيا وإسبانيا كان لها بالمرصاد فقضى عليها في سنواتها الأولى ..

وللفقيد الكبير عدا كتابيه السالفي الذكر ، محاضرات ورسائل عديدة مطبوعة ومتداولة ، وهو كاتب بليغ وله ديوان شعر مطبوع ، وقد اشتهر بمقالاته وبحوثه في كبرى المجلات الإسلامية.

وعندما صدرت مجلة لواء الإسلام لصاحبها الوزير السابق الأستاذ أحمد حمزة كان الشيخ الخضر يرأس تحريرها وظل بها إلى أن عين شيخا للأزهر ، ثم استأنف نشر مقالاته فيها بعد تنحيه من المشيخة ، وآخر مقالاته فيها في جزء رجب الأخير.

كما كان عضوا في مجمع اللغة العربية بمصر منذ إنشائه قبيل الحرب العالمية الثانية.

وكتب الأستاذ أنور الجندي عن محمد الخضر حسين يقول :

«كان نظام التعليم في المعهد الزيتوني من أسباب تنافس أصحاب المذهبين : المالكي والحنفي في ميدان العلم ، وقد أخرج جامع الزيتونة فقهاء يعتزون بعلمهم ويزهدون في المناصب ، أدركت من هؤلاء فقهاء وأساتذة بلغوا الغاية في سعة العلم وتحقيق البحث ، مثل عمر بن الشيخ ، وأحمد بن الخوجة ومحمد النجار ، ومن نظر في فتاوى هؤلاء الأساتذة أو رسائلهم التي حرروا بها بعض المسائل العويصة رآهم كيف يرجعون إلى

٣٣٢

الأصول والقواعد ومراعاة المصالح ، ولا يقنعون بنقل الأقوال دون أن يتناولوها بالنقد والمناقشة.

ويدلنا التاريخ القريب على أن بعض رجال الدولة التونسية عندما اتجهوا الى إصلاح الحالة السياسية أو العلمية أو الاجتماعية ، وجدوا فقهاء يدركون مقتضيات العصر ، ويعرفون كيف تسعها أصول الشريعة بحق ، فكانوا يعقدون منهم بعض لجانهم ، ويستنيرون بآرائهم مثل أساتذتنا : عمر ابن الشيخ ، وسالم أبو حاجب ، ومصطفى رضوان ، وما زال الرسوخ في الفقه ، وربط الأحكام بأصولها ، من مواضع عناية الأساتذة في جامعة الزيتونة لهذا العهد ، يشهد بهذا ما نقرؤه في محاضراتهم ومقالاتهم التي تنشر في الصحف التونسية والمصرية.

كانوا يدرسون الفقه بأنظار مستقلة ، وآراء تستضيء بالأدلة ويتفاضلون فيها على قدر تفاضلهم في العبقرية وسمو الهمة ..».

لا شك كان محمد الخضر حسين علما من أعلام الفكر المغربي الإسلامي ، مكافحا وطنيا ، ومغتربا في سبيل الحفاظ على حرية الكلمة ، وأقام كابن خلدون بقية عمره في مصر ، ورقي فيها إلى أعلى المناصب ، وعمل في ميداني الإصلاح الإسلامي والقياسي اللغوي ، وعمل في التدريس والصحافة والكفاح الوطني ، ولقد أتيح له أن يقاوم حركات التغريب بدعوته إلى إنشاء جمعية الشبان المسلمين ، وكانت مجلته وقلمه من ألسنة الدفاع عن المغرب وقضاياه ، ومعلما قويا يستصرخ المشارقة حين يكشف لهم عن مؤامرات الاستعمار ويدعوهم إلى مقاومة التغريب والتجنيس والفرنسة ، فهو منذ أقام في مصر بعد الحرب العالمية الأولى يحمل هذه الرسالة ، ويعمل في كل هذه الميادين : الإسلام واللغة والكفاح السياسي.

وكان محمد الخضر حسين مستنيرا متفتح الذهن يدعو إلى الإصلاح على أساس قاعدة علمية واضحة ، فهو يعتمد الرأي حيث يثبته الدليل ،

٣٣٣

ويتقبل الحكم متى لاحت بجانبه حكمة ، ويثق بالرواية ، بعد أن يسلمها النقد إلى صدق الغاية ...

ومن رأيه أن على العلماء قول كلمة الحق لأهل الحل والعقد دائما ، وعدم التوقف عنها.

«لا ينبغي لأهل العلم أن يغفلوا عن سير أرباب المناصب والولايات ، فمن واجبهم أن يكونوا على بينة من أمرهم ، حتى إذا أبصروا عوجا نصحوا لهم بأن يستقيموا ، أو رأوا حقا مهما لفتوا إليه أنظارهم ، وأعانوا على إقامته.

ومن أدب العلماء أن ينصحوا للأمة فيما يقولون أو يفعلون ، ويحتملوا ما ينالهم في سبيل النصيحة من مكروه ، وكم من عالم قام في وجه الباطل فأوذي فتجلد للأذى».

وقد كانت حياة الخضر حسين رمزا على هذا المعنى ، معنى طلب الحرية والهجرة من بيئة الظلم ، فقد فر من تونس ومن الشام ومن تركيا ، وكان فراره ليحتفظ لنفسه بحقه في الكلمة ، يقول : «نشأت في بلدة من بلاد الجريد بالقطر التونسي يقال لها «نقطة» وكان للأدب المنظوم والمنثور في هذه البلدة نفحات تهب من مجالس علمائها ، كان حولي من أقاربي وغيرهم من يقول الشعر ، فتذوقت الأدب من أولى نشأتي. وحاولت وأنا في سن الثانية عشرة نظم الشعر. وفي هذا العهد انتقلت أسرتي إلى مدينة تونس ، والتحقت بطلاب العلم بجامع الزيتونة «وكان ذلك عام ١٨٩٩ ، أحب أستاذه الشيخ سالم أبو حاجب الذي كان يحثه على البحث» ، ويلاقي السؤال المهم بابتهاج ، ويدعو للطالب بالتفتح يقول : «كان يقول الشعر مع كونه يغوص على المسائل العلمية بفكر ثاقب» وكان الشيخ أبو سالم قد رفض وسام السلطان ووسام الباى ، فأحب منه الشيخ الخضر هذا الاعتداد بالنفس ، «بعد أن نلت درجة العالمية أنشأت مجلة علمية أدبية ، وهي أول مجلة أنشئت بالمغرب ، فأنكر على ، بعض الشيوخ ، وظن أنها تفتح باب

٣٣٤

الاجتهاد ، وشجعني على إنشائها شيخنا أبو حاجب ، كما شجعني عليها الوزير محمد أبو عنور.

كانت خطته الإصلاح الاجتماعي والديني ، والعمل لإعادة مجد الإسلام ، ولكنه لم يلبث أن اختلف مع السلطات بشأن العمل في القضاء ، بعد أن وليه في بنزرت ١٩٠٥ ، إذ فضل العودة إلى التدريس في الزيتونة ، فلما خاطبته المحكمة الفرنسية ١٣٢٥ ه‍ بالعمل في المحكمة عضوا ليحضر حكمها بين الوطني والفرنسي ، امتنع ولم يقبل أن يصدر الحكم الجائر.

واستقر رأيه إثر ذلك على الهجرة إلى الشرق ، فاستوطن دمشق عام ١٩١٢ ، وكانت تحت سلطات العثمانيين ، فنصب للتدريس في المدرسة السلطانية في كرسي الشيخ محمد عبده.

ثم اعتقله جمال باشا حاكم الشام ، ورحل إلى الآستانة فأسند إليه التحرير بالقسم العربي بوزارة الحربية ، وحين احتل الحلفاء الآستانة رحل مع زعماء الحركة الإسلامية عبد العزيز شاويش وعبد الحميد سعيد والدكتور أحمد فؤاد.

وعاد إلى دمشق ١٩١٨ في عهد الحكومة العربية لفيصل ، وعهد اليه بالتدريس في المدرسة السلطانية ، ولكن فرنسا لم تلبث أن بسطت سلطانها على سوريا فترك دمشق إلى القاهرة ١٩١٩ ، وفي مصر عرف الشيخ أحمد تيمور باشا الذي كان خير رفقائه ، وكان له فضل واضح في إنشاء جمعية الشبان المسلمين مع السيد محب الدين الخطيب صاحب الفتح. كما أنشأ من بعد جمعية الهداية الإسلامية ومجلة الهداية الإسلامية ، وتولى ثمة مجلة لواء الإسلام و (مجلة الأزهر) ، واتصل بالأزهر ونال إجازته ، وعمل في كلياته ، واختير عضوا في جماعة كبار العلماء ، فشيخا للأزهر عام ١٩٥٢ ، وعضوا في مجمع اللغة العربية.

وتطلع إلى مجد المغرب وحريته.

٣٣٥

وقد كانت مجلة الهداية : مجلة مغربية واضحة الدلالة ، في كتابتها وأبحاثها ، ودفاعها عن مختلف المواقف الوطنية والإسلامية والعربية ، ورأس جبهة شمال افريقيا ، التي ضمت الرجال الذين سعوا نحو مصر من أجزاء المغرب العربي.

وكان الشيخ الخضر كاتبا وشاعرا له شعر كثير جيد ، وقد وصفه الفاضل ابن عاشور (١) فقال : كان كاتبا بليغا ذا طبع خاص وأسلوب قوي الروح الأدبية ، فصيح العبارة بليغ التركيب ، ينزع إلى طرائق كتاب الترسل الأولين ، رحل عام ١٩١٢ إلى مصر وسورية وتركية ، فكتب رحلة بديعة نشرت في مجلة الزهرة ، طافحة بانتقاداته وأفكاره.

وأشار إلى مجلة السعادة العظمى (التي أصدرها في تونس ١٩٠٤) فقال : انها كانت مركزا للحركة الفكرية وقوة توجيهية متصلة بجميع أهل الثقافة العربية يجتمع تحتها شقان متباعدان ... ولم تدم إلا عاما ناقصا.

وللخضر حسين : مؤلفات متعددة أهمها :

محمد رسول الله ، رسائل الإصلاح ، آداب الحرب في الإسلام ، القياس في اللغة العربية ، هذا بالإضافة إلى عشرات الفصول والمقالات في صحف مصر والمغرب والشام ...

__________________

(١) الحركة الفكرية والأدبية في تونس.

٣٣٦

الأستاذ الأكبر الشيخ عبد الرحمن تاج

قرر مجلس الوزراء في جلسته المنعقدة يوم الخميس ٢ جمادي الأولى سنة ١٣٧٣ (٧ يناير سنة ١٩٥٤) الموافقة على قبول الاستقالة المقدمة من حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر السيد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر ، واختار لهذا المنصب حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ عبد الرحمن تاج عضو جماعة كبار العلماء وأستاذ الشريعة الإسلامية في كلية الحقوق بجامعة إبراهيم وعضو لجنة وضع مشروع الدستور.

وفي يوم السبت ٤ جمادي الأولى (٩ يناير) صدر قرار مجلس الوزراء الخاص بتعيين فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ عبد الرحمن تاج شيخا للأزهر ، وقد أبلغته السكرتيرية العامة لمجلس الوزراء إلى فضيلته.

وفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ عبد الرحمن تاج مولود بمدينة أسيوط سنة ١٣١٤ (١٨٩٦) ونال شهادة العالمية بالمرتبة الأولى سنة ١٣٤١ (١٩٢٣) وشهادة التخصص بالمرتبة الأولى أيضا سنة ١٣٤٥ (١٩٢٦) وعين بعد تخرجه مدرسا بمعهد أسيوط الديني ثم نقل إلى المعهد الأزهري سنة ١٩٣١ ثم اختير أستاذا بكلية الشريعة سنة ١٣٥٢ (١٩٣٣). وفي سنة ١٣٥٥ (١٩٣٦) اختير عضوا في أول بعثة للأزهر إلى أوربا ومكث في فرنسا سبع سنوات وثلاثة أشهر. ونال الدكتوراه من جامعة السوربون ، وعاد من فرنسا سنة ١٣٦٢ (١٩٤٣) فاختير للتدريس في قسم تخصص القضاء

٣٣٧

الشرعي ، ثم عين مفتشا للعلوم الدينية والعربية بالمعاهد الأزهرية ، وعين شيخا لمعهد الزقازيق الديني ، ثم شيخا للقسم العام والبعوث الإسلامية بالأزهر ، وعضوا دائما وسكرتيرا فنيا للجنة الفتوى بالأزهر وقد كان في عضوية هذه اللجنة منذ إنشائها في سنة ١٩٣٥ ، واختير أستاذا للشريعة الإسلامية بكلية الحقوق في جامعة إبراهيم ، وحصل على عضوية جماعة كبار العلماء سنة ١٣٧٠ (١٩٥١) وكان موضوع رسالته «السياسة الشرعية والفقه الإسلامي». واختير عضوا في لجنة وضع مشروع الدستور الجديد عند تكوينها في العام الماضي.

وفي صباح يوم الاثنين ١١ يناير توجه فضيلة الأستاذ الأكبر إلى إدارة المعاهد الدينية حيث تسلم مهام منصبه الجديد ، وكانت في استقبال فضيلة جموع حاشدة من أساتذة الأزهر وطلابه ، وتعالت الهتافات بحياة فضيلته وحياة رجال الثورة الأحرار.

وقد أقبل أعضاء جماعة كبار العلماء وأساتذة الكليات والمعاهد الدينية والموظفون الإداريون على مكتب فضيلته مهنئين. وبعد أن استمع فضيلته لكلماتهم أطل على جموع الأزهريين المحتشدين أمام مبنى الإدارة وارتجل الكلمة الآتية :

«أشكر لكم هذه الحفاوة البالغة وهذا الاستقبال الرائع. وإني أرجو أن يوفقني الله لأن أتقدم بالأزهر إلى المكانة العالية التي كان يتبوؤها من قبل.

وإني أبشركم بأن بوادر هذا المستقبل الزاهر المرجو للأزهر قد لمستها في جلسات قصيرة خفيفة مع رجال هذا العهد. فقد لمست فيهم إيمانا خالصا وضراعة إلى الله تعالى أن يعينهم على ما فيه خير الأزهر.

والذي أرجوه أن ينصرف كل منا إلى واجبه وأن يحافظ على النظام.

٣٣٨

الأستاذ الأكبر الشيخ محمود شلتوت

كتب الأستاذ العقاد في مجلة الأزهر عن الشيخ شلتوت يقول بعنوان : «الإمام المصلح محمود شلتوت» :

في كتابات الإمام الفقيد ـ الشيخ محمود شلتوت ـ كلمات لها طابعها الذي تتميز به بين أمثالها من الكلمات في كتابات غيره ، ممن ينهضون بأمانة الدراسة الدينية.

ولعل أبرز هذه الكلمات في كتاباته ، وفي أحاديثه ، كلمة «الشخصية».

يلحقها بوصف العقيدة ، ووصف الفرائض المقدسة ، بل يجعل العقيدة ـ كما يجعل الفريضة ـ معلما من معالم شخصية الأمة ، وشخصية الإنسان في حياته الباطنة وحياته الظاهرة.

قال رحمه الله في مفتتح مقاله عن رسالة الأزهر إن : «للإنسان في هذه الحياة فردا كان أم جماعة شخصيتين ، حسية ومعنوية ، ولا يحظى بالوجود الكامل إلا إذا نال حظه من الشخصيتين. وشخصية الفرد الحسية يكونها اللون والطول والعرض ، وشخصيته المعنوية يكونها إيمانه ومبدؤه وهدفه في الحياة ، وما له من عقل وتدبير وثبات ومثابرة في سبيل مبدئه وهدفه».

ثم قال عن شخصية الأمة الحسية : «إنها ترجع إلى إقامتها في

٣٣٩

الإقليم الذي نشأت فيه ، وإلى الأمل الذي تنتسب إليه» ... «أما شخصيتها المعنوية فهي ترجع إلى روابطها القلبية والعقلية والشعورية ، وعلى قدر ما يكون لها من التأثر بتلك الروابط المتفاعلة والحرص عليها وعلى معارفها التي تكونها ، وعلى الإيمان بمصدر تلك المعارف ... يكون لها بين الأمم من آثار الوجود المعنوي».

وكتب عن الصلاة في فصل من فصول «الإسلام عقيدة وشريعة» ، فقال عنها : «إنها العنصر الثاني من عناصر الشخصية الإيمانية».

وعلى هذه الوتيرة كانت كلمة «الشخصية» تتردد في أحاديثه للدلالة على قوام كل «وجود» حتى يتميز به عقل الإنسان وضميره في حياته الروحية ، وهي لمحة من لمحات التعبير الباطني تدل على معناها وتدل مع هذا المعنى على مقدار شعوره بكرامة الشخصية واقترانها بحق الإنسان وواجبه وبالتبعة التي تناط بها الحقوق والواجبات ، وتقرر له موقفه من الشخصيات الإنسانية الأخرى في إبداء الرأي والاضطلاع بأعباء الدعوة والإقناع.

هذه واحدة من خصال العقل المجتهد ، بل هي أولى تلك الخصال في كل ترتيب لكفايات المجتهدين. من كان له رأي وعلم ولم يكن له نصيبه الأوفي من هذه الخصلة فلا سبيل له إلى الاجتهاد ، لأنه يلقى العائق الأول عن أداء وظيفة الاجتهاد من قبل نفسه ، ويحجم عن العمل في سبيله قبل أن يصده غيره عن تلك السبيل.

وتلك هي الخصلة التي توافرت للأئمة الأسبقين من أصحاب الرأي والقياس في الشريعة ، وبفضل الثقة التي كانت تملأ نفوسهم ، من هذه الخصلة كانوا يقولون لمن يستكثر عليهم التعقيب على أهل العلم من الصحابة والتابعين : إنهم رجال ونحن رجال.

وإذا اجتمع الاجتهاد في كلمات معدودات صح أن يقال إنه هو القدرة على الرجوع إلى روح القرآن الكريم ، أو أنه بعبارة أخرى تفسير

٣٤٠