الأزهر في ألف عام - ج ١

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي

الأزهر في ألف عام - ج ١

المؤلف:

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٦

الفصل الخامس

الأزهر في عهد الدولة الأيوبيّة

التاريخ السياسي للدولة :

قامت الدولة الأيوبية في مصر من عام ٥٦٧ ه‍ على يدي مؤسسها : السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ، وقد دعم كيان دولته ، ومحا من مصر المذهب الفاطمي ، وأحل محله المذهب السني ، وعني بنشر العلم وتشجيع العلماء ، ووقف في وجه الصليبيين وقفات خالدات في تاريخ الشرق الاسلامي .. وكان عادلا محببا من قلوب الناس ، وكانت مملكته من المغرب إلى تخوم العراق ومعها اليمن والحجاز (١) ، ونشر العدل في الرعية وحكم بالقسط بين البرية وبنى المدارس والخوانق وأجرى الأرزاق على العلماء والصلحاء ، مع الدين والورع والزهد والعلم ، وهو الذي ابتنى قلعة القاهرة على جبل المقطم (٢) وأصبحت عاصمة البلاد في عهده ، ويذكر السيوطي أنه رحل بولديه الأفضل والعزيز لسماع الحديث من السلفى (٣). وتوفي عام ٨٥٩ ه‍ عن سبعة وخمسين عاما.

مات السلطان فخلفه على عرش مصر ابنه عماد الدين عثمان فسار

__________________

(١) ٢٦ ج ٢ حسن المحاضرة ط ١٣٢٧ ه‍.

(٢) ٢٦ ج ٢ حسن المحاضرة ط ١٣٢٧ ه‍.

(٣) ٢٦ ج ٢ حسن المحاضرة

٨١

سيرة حسنة ومات سنة ٥٩٥ ه‍ ودفن في قبة الامام الشافعي ، فأقيم ولده المنصور مكانه ، ولكن عم أبيه الملك العادل نزعه عام ٩٩٦ ه‍ وتولى مكانه.

والملك العادل أبو بكر بن أيوب هو أخو السلطان صلاح الدين ، وكان شديد الحب للعلماء ، وأبلى بلاء حسنا في مقاومة الغزو الصليبي للبلاد ومات عام ٦١٦ ه‍.

وخلفه ابنه الملك الكامل محمد ، (٦١٦ ه‍ ـ ٦٣٥ ه‍) وقد حكم مصر حوالي أربعين عاما ، كان في العشرين عاما الأولى نائبا عن أبيه ، وكان في العشرين عاما الأخيرة يحكم بنفسه بعد موت أبيه ، وكان الكامل معظما للسنة النبوية وأهلها راغبا في نشرها والتمسك بها ، مؤثرا الاجتماع مع العلماء ، والكلام معهم حضرا وسفرا (١) ، وقد أنشأ دار الحديث بالقاهرة ، وعمر القبة على ضريح الشافعي وكان معظما للسنة وأهلها (٢) ، وتوفي يوم الأربعاء حادي عشر من رجب عام ٦٣٥ ه‍ ، وأقيم بعده ابنه الملك العادل أبو بكر ، ولكن الملك الصالح أيوب نزع الملك منه وتولى حكم مصر عام ٦٣٧ ه‍.

كان الملك الصالح مهيبا جدا ، دبر المملكة على أحسن وجه ، وبنى المدارس الأربعة بين القصرين ، وعمر قلعة بالروضة ، وهو الذي أكثر من شراء الترك وعتقهم وتأميرهم ، ولم يكن ذلك قبله فقام الشيخ عر الدين بن عبد السلام القومة الكبرى في بيع أولئك الأمراء وصرف ثمنهم في مصالح المسلمين (٣) ، ومات في ليلة النصف من شعبان عام ٦٤٧ ه‍ ، وهو مستعد لقتال الصليبيين في المنصورة ، فأخفت زوجته

__________________

(١) ٢٣٠ ج ٦ النجوم الزاهرة.

(٢) ٣٣ ج ٢ حسن المحاضرة.

(٣) ٣٤ ج ٢ حسن المحاضرة.

٨٢

شجرة الدر موته ، حتى حضر ابنه الملك المعظم توران شاه فتولى الملك في ذي القعدة عام ٦٤٧ ه‍ ، وقاتل الإفرنج وكسرهم ، وكان في عسكر المسلمين الشيخ عز الدين بن عبد السلام ، وأسر الملك لويس السادس ملك فرنسا ، وحبس في دار ابن لقمان بالمنصورة ثم نفرت قلوب الجيش من توارن شاه فقتلوه في ١٧ محرم عام ٦٤٨ ه‍ ، وولوا شجرة الدر مكانه وكان يخطب لها على المنابر بعد الدعاء للخليفة العباسي ، ولم يل مصر امرأة في الإسلام قبلها ، ولما وليت تكلم الشيخ عز الدين بن عبد السلام في بعض تصانيفه على ما إذا ابتلي المسلمون بولاية امرأة ، وأرسل الخليفة العباسي المستعصم يعاتب أهل مصر في ذلك ، وأقامت شجرة الدر في المملكة ثلاثة أشهر ثم عزلت نفسها ، واتفق القواد على أن يملكوا الملك الأشرف موسى بن صلاح الدين يوسف بن المسعود بن الملك الكامل فملكوه في جمادى الأولى عام ٦٤٨ ه‍ ، وجعلوا عز الدين أيبك التركماني مملوك الملك الصالح قيما عليه ، وعظم شأن المماليك الأتراك من يومئذ ، وفي عام ٦٥٢ ه‍ خلع عز الدين الملك الأشرف واستقل بالملك ، وهو أول من ملك مصر من المماليك الأتراك ، وتزوج شجرة الدر ، ثم خطب عليها ابنة صاحب الموصل ، فقتلته شجرة الدر عام ٦٥٥ ، وخلفه ابنه المنصور ، حتى قضى على ملك الدولة الأيوبية الأمير يوسف الدين قطز ، الذي لقب نفسه بالملك المظفر ، وذلك عام ٦٥٧ ه‍.

ومن الجدير بالذكر أن ملوك الدولة الأيوبية كانوا يتلقون مراسيم ولايتهم من خلفاء بغداد العباسيين ، مع استقلالهم السياسي والإداري على خلافة بغداد.

الأزهر في عهد الدولة الأيوبية :

بزوال الدولة الفاطمية من مصر وقيام الدولة الأيوبية مقامها ، انمحت معالم الفقه الإسماعيلي الشيعي ، فقد غالى الأيوبيون في القضاء على كل

٨٣

أثر للشيعة ، وأفتوا بإبطال إقامة الجمعة في الأزهر (١) ولبثت إقامة الجمعة معطلة. فيه نحو مائة عام ، وذلك من عام ٥٦٧ ـ ٦٦٥ ه‍.

وفي عهد الدولة الأيوبية أنشئت عدة مدارس تنافس الأزهر في رسالته العلمية ، فبنى صلاح الدين مدرسة للشافعية بجوار مسجد عمرو ، ومدرسة أخرى للمالكية وعرفت باسم «دار الغزل» ثم عرفت بالمدرسة القمحية ، ثم بنى مدرسة ثالثة للفقهاء الحنفية أطلق عليها اسم «المدرسة السيوفية» ، كما بنى مدرستين أخريين لفقهاء المذهب الشافعي خاصة ، وهو المذهب الذي كان عليه أكثر أفراد البيت الأيوبي نفسه ، وكانت مدرسة منها بجوار الإمام الشافعي والأخرى بجوار المشهد الحسيني .. ويحصى المقريزي المدارس التي بنيت في القاهرة وحدها بثماني عشرة مدرسة (٢).

وقد بنيت في القاهرة والفسطاط معا نحو خمسة وعشرين مدرسة : منها المدرسة الكاملية وتسمى دار الحديث ، وقد أنشأها الملك الكامل عام ٦٢١ ه‍ وكملت عمارتها سنة ٦٢٢ ه‍ ، وتولى مشيختها أبو الخطاب عمر بن دحية ثم أخوه أبو عمرو عثمان بن دحية (٣) ، ومن مشايخها أيضا القسطلاني الشافعي وابن دقيق العيد.

ومن هذه المدارس المدرسة الصالحية وقد بناها الملك الصالح عام ٦٣٩ ه‍ وهي أربع مدارس للمذاهب الأربعة ، وكانت من أجل مدارس القاهرة (٤).

__________________

(١) أصدر قاضي القضاة الشافعي صدر الدين عبد الملك بن درباس فتوى بأنه لا يجوز إقامة الجمعة في بلد واحد في مكانين فأبطل إقامتها بالأزهر وأقرها بالجامع الحاكمي

(٢) ١٩٣ ـ ٢١٦ ج ٤ خطط المقريزي.

(٣) ١٤٢ ج ٢ حسن المحاضرة

(٤) ١٤٢ ج ٢ حسن المحاضرة

٨٤

ومنها المدرسة الفاضلية بناها القاضي الفاضل عام ٥٨٠ ه‍ وكان في مكتبتها مائة ألف كتاب مجلد (١).

وكانت كل مدرسة من هذه المدارس تتخصص في دراسة بعينها ، وكان الغرض من إنشاء هذه المدارس هو منافسة الأزهر وصرف الطلاب عنه ، وقد كان لقيام هذه المدارس وكثرتها خلال القرنين السابع والثامن ، أي حتى بعد عصر الأيوبيين أثر كبير في سير الدراسة في الأزهر ، إذ نافسته هذه المدارس منافسة شديدة وجذبت إليها أعلام الأساتذة ، وقضى الأزهر في هذه المدة عصرا من الركود الطويل.

وقد كان الأيوبيون من الغلاة في المذهب الشافعي ، وكانوا من أتباع الأشعري ، وكان الحنابلة بمفردهم يكونون معسكرا مستقلا يناهض معسكر الأشاعرة ، وكان من نتائج تصادم الأفكار بين أصحاب المذاهب المتعددة أن اشتدت روح التعصب والمغالاة ، فكان كل فريق يدفع صاحبه بما يملك من أسلحة الهجوم ، فكان أهل السنة يطعنون الشيعة بأنهم كفار زنادقة وفساق ملاحدة ، وقد أصدر بلاط بغداد في سنة ٤٠٢ ه‍ في عهد الخليفة القادر بالله فتوى رسمية موقعا عليها من كبار الفقهاء والقضاة بهذا المعنى ، طعنا في الفاطميين خلفاء مصر.

ومن ناحية أخرى لم يتوان الأشاعرة عن استعمال سلاح التكفير والتفسيق في شتى المناسبات ، حتى بلغ الأمر فصل الحنابلة كفرقة تلز في قرن مع النصارى واليهود والباطنية. ومن طريف ما يروى أن منشىء المدرسة الرواحية في دمشق نص في حجة وقفيته على هذه المدرسة نصا يمنع دخول اليهود والمسيحيين والحنابلة لهذه المدرسة.

ومن هنا ورث الأزهر التعصب المذهبي الشديد إلى حد الإفتاء بالكفر وعدم صحة الاقتداء بالمخالف في المذهب ، فقد أفتى ابن حجر الهيثمي بأن ابن تيمية العالم الفقيه كافر لا تصح الصلاة وراءه ، وأمر

__________________

(١) ٢٥٥ ج ٢ الخطط للمقريزي

٨٥

القاضي عياض بإحراق كتب الغزالي لما يوجد بها من أشياء لا يرتضيها أهل السنة. ونقل الكمال بن الهمام عن أحد علماء الحنفية أنه لا تجوز المناكحة بين أهل السنة والاعتزال.

وظل هذا التعصب يشتد ويشغل أمره العلماء ، فاتهم كل مجتهد يخرج على التقاليد العلمية في عصره بالزندقة والضلال. والضلال يومذاك كانت كلمة ترادف التفكير الحر الذي لا يرضى بالتقليد ، ولا يرضى أن يكون في آرائه من العبيد. وكان الضلال عنوان نضوج العقل ، أو كما يقول الغزالي : وأستحقر من لا يحسد ولا يقذف ، وأستصغر من بالكفر أو الضلال لا يعرف.

ولما كثرت المدارس في عهد الأيوبيين وأرادوا جذب أساتذة الأزهر إليها ، أغدقوا لهم في العطاء ، وأجزلوا في المرتبات ، وبعد أن كان العلماء يعتمدون في العصور الأولى على أنفسهم في سد حاجات عيشهم عن طريق السعي وراء الرزق أو استجلاب الربح من صنعة أو حرفة ، فكان منهم في العصر الأول البزاز والزجاج والصائغ والصباغ والفراء ، إلى ما لهم من شهرة في العلم ، أصبحوا في هذا العهد وما تلاه من عهود المماليك يعتمدون على الدولة وما تعطيهم من إعانات ، وما تدره عليهم من غلات أوقاف ، أو نظارات في حياتهم ، مما مكن للدولة من ضمان بقائهم في صفها ، ولم يدع للعلماء حرية كاملة في إبداء ما يرون من آراء على الوجه الذي يرضي الله والضمير والحق والعدل. بل كثيرا ما كان هذا النوع سببا في تحاسد العلماء وسعى بعضهم ببعض عند الأمراء ، لتوجبه وظيفة أو إعطاء وقف.

٨٦

أشهر العلماء في عصر الدولة الأيوبيّة

هل للأزهر وأثر الأزهر فيهم؟

نبغ في العصر الأيوبي كثير من العلماء والأدباء والشعراء ، منهم : الحسن الفارسي الفقيه الحنفي العالم باللغة والأدب والطب والهيئة المتوفى عام ٥٩٨ ه‍ (١). ومنهم : ابن الحاجب النحوي (٥٦٦ ـ ٦٤٦ ه‍) المشهور (٢) ، والشاطبي (٥٣٨ ـ ٥٩٠ ه‍) (٣) ، وابن الفارض (٥٧٦ ـ ٦٣٢ ه‍) الصوفي الزاهد الشاعر المعروف (٤) ، وعز الدين بن عبد السلام شيخ الاسلام (٥٧٧ ـ ٦٦٠ ه‍) (٥) واشتهر فيه من الصوفية سيدى أحمد البدوي (٥٩٦ ـ ٦٧٥ ه‍) (٦) ، وعبد الرحيم القنائي المتوفي عام ٥٩٢ ه‍ (٧) ، وسواهم.

ومن العلماء أيضا الحافظ المنذري شيخ الإسلام (٥٨١ ـ ٦٦٠ ه‍) ، والسخاوي المصري (٥٥٨ ـ ٦٤٣ ه‍) صاحب التفسير المشهور وشرح الشاطبية ، وابن سرايا (٥٧٠ ـ ٦٥١ ه‍) المفسر العالم

__________________

(١) ١٢٦ ج ١ حسن المحاضرة

(٢) ١٩٤ ج ١ حسن المحاضرة

(٣) ٢١٢ ج ١ حسن المحاضرة

(٤) ٢٢١ ج ١ حسن المحاضرة

(٥) ١٢٧ ج ١ حسن المحاضرة

(٦) ٢٢٣ ج ١ حسن المحاضرة

(٧) ٢٢٠ ج ١ حسن المحاضرة

٨٧

بالقراءات ، وابن المنير (٦٢٠ ـ ٦٨٣ ه‍) وكان إماما في النحو والأدب والأصول والتفسير ..

ومنهم ابن بري المتوفى عام ٥٨٢ ه‍ ، وابن معطى المتوفى عام ٦٢٨ ه‍ ، وكانا إمامين في العربية ، وابن مالك الأندلسي المتوفي عام ٦٧٢ ه‍ وقد أقام بمصر حينا كما أقام بدمشق وحلب ، وكذلك ابن الصلاح وتوفي عام ٦٤٣ ه‍.

ومن الأدباء ابن شيث من أدباء القرن السادس ، وابن أبي الأصبع المتوفي عام ٦٥٤ ه‍ ، وابن الساعاتي المتوفى عام ٦٠٤ ه‍ ، وأبو الحسين الجزار الشاعر ، وأبو شامة المتوفي عام ٦٩٥ ه‍ ، والتلعفري (٥٩٣ ـ ٦٧٥ ه‍) ، وابن واصل المتوفى عام ٦٩٧ ه‍ ، والقاضي الفاضل المتوفى عام ٥٩٦ ه‍ ، والعماد الأصبهاني المتوفى عام ٥٩٧ ه‍.

ومن الحكماء الوزير القفطي (٥٦٨ ـ ٦٤٦ ه‍).

ومن المؤرخين ابن شداد (٥٣٩ ـ ٦١٥ ه‍) ، وابن عبد الظاهر (٦٢٠ ـ ٦٩٢ ه‍).

ولا شك أنه كان لكثير من هؤلاء العلماء تلمذة على أساتذة الأزهر وحلقاته العلمية في العصر الفاطمي ، فإذا كان الأزهر قد أوقف نشاطه العلمي في هذا العصر فأثره الروحي كان باقيا مستمرا.

وقد اشتهر في هذا العصر الكثير من الشعراء ، منهم : البهاء زهير (٥٨١ ـ ٦٥٦ ه‍) ، وابن مطروح (٥٩٢ ـ ٦٤٩ ه‍) ، وابن النبيه المتوفى عام ٦١٩ ه‍ ، وابن الساعاتي المتوفى عام ٦٠٤ ه‍ ، وابن سناء الملك المتوفى عام ٦٠٨ ه‍. وابن التعاويذي (٥١٩ ـ ٥٨٤ ه‍) ، وسراج الدين الوارق المتوفى عام ٦٥٥ ه‍. ولا شك أن نشأتهم الأدبية كانت أثرا لثقافة الأزهر اللغوية والأدبية التي ظلت متوارثة في عهد الأيوبيين.

على أن قطع صلاة الجمعة من الجامع الأزهر في تلك الحقبة لم

٨٨

يبطل صفته الجامعية ، فقد لبت محتفظا بصفته كمعهد للدرس والقراءة. ومع أنه لم يكن يحظى في ذلك العصر بكثير من الرعاية الرسمية ، فإنه لبث مع ذلك محتفظا بكثير من هيبته العلمية القديمة ، فنراه مقصد علماء بارزين مثل عبد اللطيف البغدادي الذي وفد على مصر في سنة ٥٨٩ ه‍ أيام الملك العزيز ولد السلطان صلاح الدين ، وتولى التدريس بالأزهر بضعة أعوام حتى وفاة الملك العزيز في سنة ٥٩٥ ه‍ (١).

__________________

(١) كتاب الافادة والاعتبار لعبد اللطيف (مصر) في المقدمة.

٨٩
٩٠

الفصل السادس

الأزهر في ظلاك دولتي المماليك ٦٥٧ ـ ٩٢٣ ه

التاريخ السياسي لهذا العصر :

ينقسم هذا العصر إلى عهدين :

١ ـ عهد دولة المماليك البحرية وينتهي عام ٧٨٤ ه‍ ـ ١٣٨٢ م.

٢ ـ وعهد دولة المماليك الشراكسة ـ أو المماليك البرجية (٧٨٤ ـ ٩٢٣ ه‍ : ١٣٨٢ ـ ١٥١٧ م).

أما دولة المماليك البحرية فتبدأ شكلا من عام ٦٥٧ ه‍ وإن كان بدؤها الحقيقي هو عام ٦٤٨ ه‍ : ١٢٥٠ م ، حينما قتل توران شاه ودخلت مصر بعدها في نفوذ مماليك هذه الدولة ، الذي كان الصالح أيوب يكثر من شرائهم وينزلهم في قلعة الروضة التي شيدها بجزيرة الروضة ، حتى سموا لذلك بالمماليك البحرية ، وقد بقي الملك في أيديهم إلى عام ٧٨٤ ه‍ ، وكان عدد ملوكهم أربعة وعشرين سلطانا.

أولهم السلطان : عز الدين أيبك التركماني الذي ولي الحكم عام ٦٤٨ ه‍ ، وتزوج شجرة الدر ، وقتل عام ٦٥٥ ه‍ ، فخلفه ابنه المنصور ، الذي تولى الوصاية عليه «سيف الدين قطز» ، ثم أعلن قطز توليه الملك وخلع المنصور عام ٦٥٧ ه‍ ـ ١٢٥٩ م وبذلك تبدأ دولة المماليك البحرية في تاريخ مصر.

كان «قطز» هو المؤسس الحقيقي لهذه الدولة ، تولى الملك عام ٦٥٧ ه‍ ،

٩١

ولما سقطت بغداد عام ٦٥٦ ه‍ ـ ١٢٥٨ م في أيدي التتار ، وزحفوا نحو مصر ، التقى بهم «قطز» في «عين جالوت» بفلسطين ثم في «بيسان» وهزمهم هزيمة ساحقة ، وكان الفضل في ذلك لقائده «الأمير ركن الدين بيبرس» ، وفي عودتهم إلى مصر قتل «بيبرس» السلطان «قطز» (١) وتولى مكانه حكم البلاد.

تقلد السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري حكم مصر (٦٥٨ ـ ٦٧٦ ه‍ : ١٢٦٠ ـ ١٢٧٧ م) وكان أشهر سلاطين المماليك البحرية ، وقد نظم أمور الدولة والجيش ، وأنشأ الأساطيل ، وعني بتحصين الشام .. ولكي يعزز زعامته للإسلام دعا إلى مصر أحد أولاد الخلفاء العباسيين الذين فروا من وجه التتار من بغداد ، وبايعه بالخلافة ولقبه بالمستنصر ، واستمد سلطة الملك منه نائبا عنه عام ٦٥٩ ه‍ ـ ١٢٦١ م (٢) ، وكان أول من بايع الخليفة العباسي شيخ الإسلام عز الدين ابن عبد السلام (٣) ، وقد ذهب الخليفة لمحاربة التتار على رأس جيش مصري فقتل قرب دمشق عام ٦٦٠ ه‍ فتولى بعده لقب الخلافة العباسية في مصر الخليفة العباسي أبو العباس أحمد ولقب الحاكم بأمر الله (٤).

وكان للسلطان «الظاهر بيبرس» أعمال حربية ، وإصلاحات داخلية ، محمودة وفي أيامه طيف بالمحمل وبكسوة الكعبة المشرفة بالقاهرة عام ٦٧٥ ه‍ ، وهو أول من فعل ذلك بالديار المصرية.

__________________

(١) كان قطز في أول ولايته قد عزم على فرض ضرائب جديدة على المصريين لينفقها على الجيش الذي سيوجهه إلى حرب التتار ، فجمع العلماء لذلك ، فحضر الشيخ عز الدين بن عبد السلام وصاح : لا يجوز أن يؤخذ شيء من الرعية حتى لا يبقى في بيت المال شيء وتبيعون مالكم من الحوائص في الآلات ويقتصر كل منكم على فرسه وسلاحه ويتساووا في ذلك هم والعامة ، وأما أموال العامة مع بقاء ما في أيدي الجندي من الأموال والآلات الفاخرة فلا (٣٦ ج ٢ حسن المحاضرة)

(٢) راجع صفحة ٤٠ وما بعدها ج ٢ من كتاب «حسن المحاضرة» للسيوطي

(٣) ٤٤ ج ٢ حسن المحاضرة.

(٤) ٤٧ ج ٢ حسن المحاضرة

٩٢

وبعد وفاة بيبرس خلفه ولدان له أحدهما بعد الآخر ولم تطل مدتهما ، وانتهى الأمر بتولي السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي (٦٧٨ ـ ٦٨٩ ه‍ : ١٢٧٩ ـ ١٢٩٠ م) ، فبقي الملك في بيته أكثر من مائة سنة ، وساد في عهده العدل والسكينة.

وخلفه ابنه الأشرف خليل وكان شجاعا مقداما مظفرا عادلا ، فقتل بعد ثلاث سنوات ، ومما يذكر أنه هو الذي قضى على إمارات الصليبيين بالشام.

وخلفه أخوه الملك الناصر محمد بن قلاوون (٦٩٣ ـ ٧٤١ ه‍ : ١٢٩٣ ـ ١٣٤١ م) ، وقد هزم التتار قرب دمشق عام ٧٠٢ ه‍ ـ ١٣٠٣ ه‍ هزيمة ساحقة اثناء محاولتهم التقدم لفتح مصر ، وعني الناصر بشؤون بلاده الداخلية ونشر العلوم والمعارف ، وشيد المباني الفخمة ، وتوفي الخليفة العباسي الحاكم بأمر الله في عهده عام ٧٠١ ه‍ ، ودفن بجوار السيدة نفيسة في قبة بنيت له ، وهو أول خليفة مات بمصر من بني العباس ، وولي الخلافة بعده ابنه أبو الربيع سليمان ولقب المستكفي بالله وخطب له على المنابر في مصر والشام (١) ، ولم يكن السلطان قد أمضى عهد والده له بالخلافة حتى سأل الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد قاضي القضاة بمصر يومئذ : هل يصلح للخلافة أو لا؟ فقال الشيخ : نعم يصلح ، فلما أشار الشيخ باستخلافه أمضى عهد والده له (١) ومات ، في شعبان سنة ٧٤٠ ه‍ في قوص ودفن بها ، وتولى بعده الخلافة الواثق بالله رغم معارضة قاضي القضاة عز الدين بن جماعة ، ومات الناصر عام ٧٤١ ه‍ (١٣٤١ م) ، ولم يترك خلفا يقدر على القيام بعبء الملك بعده ، ومن أبنائه السلطان حسن الذي بنى المدرسة العظيمة التي لم يخلف السلطان أعظم منها بناء ولا أتقن صناعة ، وهي المشهورة الآن بجامع السلطان حسن بجوار قلعة القاهرة ، وانتهى الامر بانقراض هذه الدولة

__________________

(١) ٤٩ ج ٢ حسن المحاضرة

٩٣

واستيلاء المماليك الشراكسة على الملك.

وقد عزل الخليفة الواثق وبويع لأحمد بن المستكفي ولقب المستنصر ثم لقب بعد ذلك الحاكم بأمر الله ـ لقب جده ـ وذلك بحضور ابن جماعة وكتب له ابن فضل الله صورة المبايعة وذلك عام ٧٤٢ ه‍ ومات الخليفة عام ٧٥٣ ه‍ ، وبويع بعده لأخيه المعتضد بالله وظل خليفة حتى مات عام ٧٦٣ ه‍ ، وظل بنو العباس في مصر يتوارثون الخلافة إلى أمد بعيد.

وأما دولة المماليك الشراكسة فقد حكمت مصر من عام ٧٨٤ ـ ٩٢٣ ه‍ ، ومعظمهم من الشراكسة ، بعكس المماليك البحريين فكانوا من الترك .. ولم يكن الملك في دولة المماليك الشراكسة وراثيا كما كان في بيت قلاوون ، وعدد ملوك هذه الدولة ثلاثة وعشرون ، حكم تسعة منهم مدة ١٢٥ سنة ، وحكم في التسع السنوات الأخرى أربعة عشر ، وقد كان لملوك هذه الدولة ولع بالعلوم والآداب والفنون ، وان كانوا لم يحرصوا على العدل في حكمهم.

وأشهر ملوكهم وأولهم : «الملك الظاهر سيف الدين برقوق» وقد مات عام ٨٠١ ه‍ ـ ١٣٩٩ م ، وخلف مدرسته العظيمة بين القصرين بالنحاسين الشهيرة بجامع برقوق.

وخلفه ابنه فرج الذي حارب تيمورلنك ، وعقد معه صلحا.

ومن ملوك هذه الدولة «المؤيد شيخ» باني الجامع المعروف بجامع المؤيد بجوار «باب زويلة».

ومنهم : الأشرف برسباي ٨٢٥ ـ ٨٤١ ه‍ : ١٤٢٢ ـ ١٤٣٨ م ، وقايتباي ٨٧٣ ـ ٩٠٢ ه‍ : ١٤٦٨ ـ ١٤٩٦ م ، والغوري ٩٠٦ ـ ٩٢٢ ه‍ : ١٥٠١ ـ ١٥١٦ م ، وقد انتهى أمره بأن قتله السلطان سليم العثماني فاتح مصر عام ٩٢٣ ه‍ ، وضم مصر إلى الدولة العثمانية.

٩٤

الأزهر في هذا العصر

١ ـ في عهد السلطان بيبرس والسلاطين بعده :

في سنة ٦٦٥ جدده الأمير عز الدين ايدمر الحلي بسبب أنه كان مجاورا له بالسكنى ، وكانت داره مكان الأقبغاوية المجعولة مكتبة الأزهر الآن ، فراعى حرمة الجوار وانتزع له أشياء كانت مغصوبة وأحاط أموره حتى جمع له شيئا صالحا مع ما تبرع به له من المال الجزيل ، وأطلق له من السلطان جملة من المال وشرع في عمارته ، فعمر الواهي من أركانه وجدرانه وأصلح سقوفه وبلطه وفرشه وكساه ، حتى عاد حرما بعد أن كان باليا ، واستجد به مقصورة حسنة وترك آثارا صالحة .. وكذا عمل فيه الأمير بيلبك الخازندار مقصورة كبيرة رتب فيها جماعة من الفقهاء لقراءة الفقه على مذهب الشافعي ومحدثا يسمع الحديث النبوي ، ووقف على ذلك الأوقاف الدرارة ورتب به سبعة لقراءة القرآن ومدرسا ، وأقيمت فيه الجمعة يومئذ ، وحضر فيه الأمراء والكبراء والعلماء ، وكان يوما مشهودا ، وبعد الفراغ من الجمعة قام الأمير عز الدين إلى داره ومعه الأمراء فقدم لهم موائد الطعام ، وكان قد أخذ فتاوى من العلماء بجواز الجمعة فيه.

وهذا أول افتتاح الأزهر لصلاة الجمعة بعد انقطاعه منه في عصر الدولة الأيوبية.

وفي شهر الحجة سنة ٧٠٢ ه‍ حدثت زلزلة شديدة بديار مصر فسقط الجامع الأزهر والجامع الحاكمي وجامع عمرو ، وغيرها ، فتقاسم أمراء

٩٥

الدولة عمارة الجوامع ، فتولى الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير عمارة الجامع الحاكمي ، وتولى الأمير سيف الدين بكشمر الجوكندار عمارة جامع الصالح ، وتولى الأمير سلار عمارة الجامع الأزهر ، فجددوا مبانيها وأعادوا ما تهدم منها .. وفي ٧٠٩ بنيت فيه مدرسة الطيبرسية.

والأمير سلار كان من من مماليك الصالح علاء الدين بن المنصور قلاوون ، واتصل بخدمة الأشرف وتوفي عام ٧١٠ ه‍.

وفي سنة ٧٢٥ ه‍ جددت عمارة الجامع الأزهر على يد القاضي نجم الدين محمد بن حسين بن علي الاسعردي محتسب القاهرة ... ثم في سنة ٧٤٠ أنشئت الأقبغاوية التي هي محل المكتبة الأزهرية الآن ، وفي سنة ٧٤٤ تممت الجوهرية.

وفي سنة ٧٦١ جددت عمارة الأزهر عندما سكن الأمير الطواشي سعد الدين بشير الجمدار الناصري في دار الأمير فخر الدين ابان الزاهري الصالحي النجمي بخط الأبارين بجوار الجامع الأزهر بعدما هدمها و

عمر داره التي تعرف في ذاك الوقت بدار بشير الجمدار ، وأحب لقربه من الجامع الأزهر أن يؤثر فيه أثرا صالحا ، فاستأذن السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون في عمارته وكان خصيصا به ، فأذن له في ذلك وكان قد استجد بالجامع عدة مقاصير ووضعت فيه صناديق وخزائن حتى ضيقته ، فأخرج الخزائن والصناديق ونزع تلك المقاصير وتتبع جدرانه وسقوفه بالإصلاح ، حتى عادت كأنها جديدة ، وبيض الجامع كله وبلطه ، ومنع الناس من المرور فيه ورتب فيه مصحفا وجعل له قارئا ، وأنشأ على باب الجامع القبلي حانوتا لسبيل الماء العذب في كل يوم وعمل فوقه مدرسة لإقراء أيتام المسلمين كتاب الله العزيز ورتب للفقراء المجاورين طعاما يطبخ كل يوم. وأنزل إليه قدورا من نحاس جعلها فيه ورتب فيه دروسا للفقهاء من الحنفية يجلس مدرسهم لإلقاء الفقه في المحراب ووقف على ذلك أوقافا جليلة.

٩٦

وفي سنة ٧٨٤ ه‍ ولي الأمير بهادر المقدم على المماليك السلطانية نظر الجامع الأزهر ، ونجز مرسوم السلطان برقوق بأن من مات من مجاوري الجامع الأزهر من غير وارث شرعي وترك شيئا فإنه يأخذه المجاورون بالجامع ، ونقش بذلك على حجر عند الباب الكبير وهو غير موجود الآن.

وكان عدد طلبة الأزهر في أوائل القرن الثامن ٥٧٠ طالبا كما يقول المقريزي. وفي سنة ٨٠٠ هدمت منارة الأزهر وكانت قصيرة وعمرت بأطول منها وبلغت النفقة عليها من مال السلطان خمسة عشر ألف درهم ، وكملت في ربيع الآخر من السنة المذكورة فعلقت القناديل فيها ليلة الجمعة من هذا الشهر وأوقدت حتى اشتعل الضوء من أعلاها إلى أسفلها ، واجتمع القراء والوعاظ به وتلوا ختمة شريفة ودعوا للسلطان ، ولم تزل هذه المنارة إلى شوال سنة ٨١٨ فهدمت لميل ظهر فيها وعمل بدلها منارة من حجر على باب الجامع البحري بعدما هدم الباب وأعيد بناؤه بالحجر وركبت المنارة فوق عقده ، وأخذ الحجر لها من مدرسة الملك الأشرف خليل التي كانت تجاه قلعة الجبل ثم هدمها الملك الناصر فرج بن برقوق ، وقام بعمارة ذلك الأمير تاج الدين الشوبكي والى القاهرة ومحتسبها ، وتمت سنة ٨١٨ فلم تقم غير قليل ومالت حتى كادت تسقط ، فهدمت سنة ٨٢٧ ، وأعيدت وفي هذه السنة ابتدىء بعمل الصهريج الذي بوسط الجامع فوجد هناك آثار فسقية ماء ووجد أيضا جثث أموات. وتم بناؤه في ربيع الأول سنة ٧٢٧ ه‍ وعمل بأعلاه مكان مرتفع له قبة يسيل فيه الماء وغرس بصحن الجامع أربع شجرات ولم تفلح وماتت ، ولم يكن للجامع الأزهر ميضأة عندما بني ، ثم عملت ميضأته.

وفي سنة ٨١٨ ه‍ تولى نظارة الجامع الأزهر الأمير سودوب حاجب الحجاب ، فأهان طلبة الأزهر وأخرجهم منه وكان عددهم يومئذ ٧٥٠ طالبا من شتى البلاد الإسلامية وأنحاء مصر ، وكان الأزهر يومئذ عامرا بتلاوة

٩٧

القرآن ودراسته وأنواع العلوم والفقه والحديث والتفسير والنحو ومجالس الوعظ.

وكان الإنسان إذا دخله يجد من الانس بالله والارتياح ما لا يجده في غيره وصار يقصده أرباب الأموال للتبرك ويصلون أهله بأنواع الذهب والفضة إعانة للمجاورين فيه على عبادة الله تعالى ، فرأى سودوب المذكور ان يأمر بإخراجهم ومنعهم من المبيت به فأخرجهم وما كان لهم فيه من صناديق وخزائن وكراسي المصاحف ، وقد حل بفقراء المجاورين بلاء شديد بعدما هجم عليهم مرة بعد العشاء الأخيرة ، هو ومن كان معه من الغلمان والأعوان وغوغاء العامة ومن يريد النهب ، فضربهم ونهبت فرشهم وعمائمهم وسلبت نقودهم فتشتت شملهم وساروا في القرى وتبذلوا بعد الصيانة وفقد الجامع كثيرا مما كان فيه ، فعاجل الله الأمير سودوب بالانتقام وقبض عليه السلطان وسجنه.

وفي سنة ٩٠٠ أجرى مصطفى بن محمود بن رستم الرومي عمارة الجامع الأزهر وصرف عليه من ماله نحو خمسة عشر ألف دينار وجاء في غاية الحسن.

وأنشأ الملك الأشرف أبو النصر قايتباي ميضأة بالجامع الأزهر وفسقية معتبرة من داخلها ، وقد أبدلت بحنفيات سنة ١٣١٧ ، وأنشأ أيضا سبيلا ومكتبا على باب الجامع وقد أزيل المكتب أيضا ، وهو الذي أنشأ رواق الشوام ورواق المغاربة ، وأنشأ المنارة العظيمة على يمين الداخل فيه.

وقد رتب الملك قانصوه الأشرف خال الناصر الخزيرة بالجامع الأزهر في شهر رمضان ، والخزيرة عصيدة بلحم .. ثم لما جاء الملك قنصوه الغوري ضاعف ذلك في أيامه فرتب في شهر رمضان في مطبخ الجامع الأزهر كل سنة ستمائة وسبعين دينارا ومائة قنطار من العسل وخمسمائة أردب قمح ، وبنى المنارة العظيمة ذات الرأسين به سنة ٩٠٢ ه‍.

وللعلماء في سجل التاريخ الإسلامي ذكر ، وللشيخ عز الدين بن عبد السلام خاصة نصيب من هذا المجد التليد.

٩٨

قدم الشيخ عز الدين إلى مصر سنة ٦٣٩ ه‍ من دمشق ، فتلقاه صاحب مصر وسلطانها الصالح نجم الدين أيوب بالإكرام والإجلال ، وأحاطه علماؤها وفقهاؤها بالتقدير والاحترام ، حتى امتنع الشيخ زكي الدين المنذري عن الإفتاء تأدبا معه ، وقال : كنا نفتي قبل حضوره ، فمنصب الفتيا متعين فيه .. وبالغ السلطان نجم الدين في إكرام الشيخ فولاه قضاء مصر والوجه القبلي ، وقبل الشيخ المنصب على إن يؤدي فيه حق الله كما يجب ، وأن تكون كلمة الشرع هي الفاصلة بين الحاكمين والمحكومين ، فلا دالة لصاحب سلطان ، ولا تهاون مع ذي جاه ، ولكن الناس سواسية أمام الحق ، وفي شرط الإسلام ، وعلى هذا تقلد الشيخ المنصب وتحمل العمل فيه.

وكان أول موقف للشيخ تجاه أصحاب النفوذ والسلطان بين الناس ، وكان موقفا عجبا ، ذلك أن السلطان قد أكثر من شراء الترك وتأميرهم على البلاد ليكونوا أعوانه وعيونه ، وقد استشرى أمر هؤلاء الأتراك وصاروا أصحاب الجاه والنفوذ على الرعية لا يبالون في ذلك بطشا ولا ظلما يقع على الناس ، وما كان في الناس من يستطيع أن يتصدى لهم أو ينكر عليهم ، ونظر الشيخ ابن عبد السلام فرأى في ذلك فسادا لا يستقيم به حق الدين ولا واجب الحكم ، ولما بحث الشيخ الأمر في حقيقة هؤلاء الأمراء الأتراك رأى أنهم بحكم الشرع أرقاء لسادتهم من أبناء مصر ، وذلك لأن السلطان قد اشتراهم بمال الدولة وما زال حكم الرق مستصحبا عليهم ، وكان أن جلس الشيخ وكتب فتواه بأنه لم يثبت عنده أن هؤلاء الأمراء الأتراك أحرار وأن حكم الرق مستصحب عليهم لبيت مال المسلمين وأنه لا بد من بيعهم وصرف ثمنهم في وجوه الخير ومصالح الأمة. وكان من جملة هؤلاء الأمراء نائب السلطنة ، وكلهم أصحاب حكم وسلطان.

وبلغت الفتوى أولئك الأمراء ، فامتلأوا غضبا وغيظا ، وأدهشتهم تلك الجرأة من ذلك الشيخ الفقيه عليهم ، وأرسلوا إليه أن يكف عن هذا

٩٩

الذي لا يليق معهم. وهم أصحاب الحكم والسلطان ، ولكن الشيخ صمم على فتواه ، وزاد على ذلك فصار لا يصحح لهم بيعا ولا شراء ولا نكاحا ولا أي تصريف في أمور الناس وشؤون الحكم حتى تعطلت مصالحهم ، وتوقفت أعمالهم ، وهم في كل هذا يتعاظمون ويعجبون من جرأة ذلك الشيخ ، وما في مقدور أحد أن ينكر عليهم أي شيء.

ورفع الأمراء الأمر إلى السلطان ، وشكو إليه من هذه الجرأة التي هوت بمكانتهم بين الناس. وأرسل السلطان إلى الشيخ ابن عبد السلام يصرفه عن غايته ، وبين له ما في هذه الفتوى من الإضرار بأولئك الأمراء الذين لهم شأنهم في شؤون الحكم ، وكان ابن عبد السلام يقدر تماما أنه. وفد على مصر غريبا لا أهل له ، فقيرا لا مال عنده وليس له من قوام. الحياة إلا هذا المنصب الذي يجلس فيه ، وزمام المناصب كلها بيد السلطان ، ولكن حب الدنيا لم يكن أفسد نفوس رجال الدين في ذلك الزمن ، وما لرجل مثل ابن عبد السلام ترك وطنه راضيا ، واحتمل السجن وشظف العيش في سبيل الرأي والحق ، أن يثنيه عن الحق مطلب من مطلب العيش أو رغبة في منصب مهما يكن جاهه ، فأرسل الى السلطان بأنه لا بد منفذ لفتواه لانها كلمة الشرع وحق الإسلام ، وأنه سينادي على أولئك الأمراء بالبيع ويقبض ثمنهم ، وإلا فإنه سيعزل نفسه من منصب القضاء ويترك فتواه قائمة في أقطار الإسلام يعول عليها المسلمون في تصريف أمورهم.

وانكمش السلطان بجبروته أمام الشيخ في إبائه وجرأته ، وتلمس نائب السلطان بابا آخر لصرف الشيخ عن إصراره «فأرسل إليه بالملاطفة والملاينة والرجاء أن يراجع نفسه في تلك الفتوى الجريئة وأن يتصرف بما يتفق ومكانة الأمراء بين الناس ، ولكن الشيخ الذي كان لا يرهبه في الحق شدة ، كان من الأولى ألا تجدي معه في الحق ملاطفة أو ملاينة.

وعظم الخطب على نائب السلطنة ، وثار به الغضب ثورته ، وقال :

١٠٠