الأزهر في ألف عام - ج ١

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي

الأزهر في ألف عام - ج ١

المؤلف:

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٦

وتقدم شعب مصر ليعينهم ، فمكروا به ، وسخروا منه ، إلى أن حدث ما لم يكن لهم في حسبان

الأزهر يسير في حياته العلمية :

وقد سار الأزهر في حياته العلمية يائسا من الحكام والولاة ، واهتم علماؤه بإصلاحه وصدر أول قانون لذلك في سنة ١٢٨٨ ه‍ (١٨٧٢ م) وقد نظم هذا القانون طريقة نيل الشهادة العالمية وبين مواد امتحانها وقسم الناجحين فيها إلى ثلاث درجات : (أولى ، ثانية ، ثالثة) على أن تصدر بذاك براءة ملكية بتوقيع ولي الأمر : وعنى الغيورون بالأزهر ، وحرصوا على أن ينهض. وقد كان لهذا التنظيم الذي بدىء في عهد إسماعيل أثره في حفز الهمم على الإصلاح ، فتوالت القوانين المنظمة للأزهر ، وكان أهمها القانون رقم ١٠ لسنة ١٩١١ ، إذ قسم الدراسة بالأزهر إلى مراحل ، وجعل لكل مرحلة نظاما وموادا للدراسة ، وحدد اختصاص شيخ الجامع الأزهر ، وأنشأ هيئة تشرف على الأزهر تسمى المجلس الأعلى للأزهر ، وأوجد هيئة كبار العلماء وجعل لها نظاما خاصا ، وجعل لكل مذهب من المذاهب الأربعة التي تدرس في الأزهر شيخا ، ونظم مجالس إدارات المعاهد ، ووضع نظاما للمدرسين والموظفين في التعيين والترقية ، ووضع للطلاب شروطا للقبول ، ونظم الامتحانات والشهادات.

وحدث في هذا العهد عدة أحداث : منها أن بعض الشوام والصعايدة تزاحموا في الجلوس في الدرس وتضاربوا فجاء جملة من الشوام بالعصى وساقوا الصعايدة سوقا عنيفا إلى رواق الصعايدة ، فحضرت طائفة من الصعايدة بعصيهم ووقعوا بالشوام ضربا وهموا وراءهم بقوة شديدة حتى ادخلوهم رواق الشوام وحاصروهم به ، ولم يسع الشوام إلا قفل باب الرواق ، بل تسور لهم بعض الصعايدة من فوق السطح ، واستمروا كذلك ، حتى ذهب الشيخ محمد الرافعي إلى بعض الأعيان من تجار الشوام وأخبرهم ، وذهبوا جميعا إلى خير الدين باشا ضابط مصر ، فأرسل جملة

١٨١

من عساكر الأرنؤود وخلافهم فدخلوا الأزهر بصورة شنيعة وتطاولوا على كل صعيدي بلا تحقيق فأخذ الصعايدة في الذب عن أنفسهم حتى أخرجوا العساكر من الأزهر ولم يلبثوا أن جاءت عساكر جهادية وأتراك بكثرة من طرف الضابط لما بلغه من التهويل فدخلوا الأزهر بأسلحتهم ونفيرهم وطبلهم لابسين أحذيتهم فقبضوا من الصعايدة على نحو ثلاثين وسجنوهم بالمحافظة ، ثم أخذوا ثلاثة من مشايخهم وعوقوهم هناك قليلا وبعد مدة أطلقوهم ، وبقى المجاورون في السجن وكان إذ ذاك سعيد باشا في الأرض الحجازية فسعى بعض المشايخ عند وكلائه في الإفراج عنهم فأفرج عنهم بعد نحو عشرين يوما وحصل الكلام في طريقة يسير عليها الأزهر حيث أن شيخه أقعده الكبر ، واجتمع الرأي على توكيل أربعة من العلماء ، وصدر الأمر بذلك ، وكان في مشيخته الشيخ الباجوري

حادثة الشوام :

وقد حدثت هذه الحادثة المفجعة في ١٩ من ذي الحجة سنة ١٣١٣ بالأزهر الشريف في مشيخة شيخ الأزهر حسونة النواوي بسبب وباء ذلك العام وتفصيلها أنه مرض برواق الشوام مجاور بالطاعون ، وحضرت الحكومة لنقله بالعربة السوداء للمستشفى وكان من أخذ بها لا يرجى له أن يشم هواء الدنيا ، فأبت رفقته من طلبة الأزهر تسليمه حيث كان قد أخذ آخر ولم يوقف له على أثر ، فاشتد الجدال بين الفريقين وأبلغ الأطباء الحكومة أنهم أهينوا ، فحضر إلى الجامع الأزهر المحافظ ومعه وكيل الحكمدارية وشرذمة من العساكر فخيل للمجاورين الشوام أنهم مأخوذون لا محالة ، فتطاولوا على المحافظ ورجموه ومن معه ببعض الحجارة ، فأصاب وكيل الحكمدارية رمية فجرح وكانت الشوام أغلقت باب الشوام ، فطلب قوة عسكرية أخرى فحضرت وعملوا حصارا على الجامع الأزهر وامر الحكمدار العساكر بكسر الباب وإطلاق الرصاص على الطلبة داخل الجامع فانقضوا عليه حتى خلعوا عقب إحدى أبوابه ، ثم بدأ الحكمدار يطلق بندقيته واتبعته العساكر بإطلاق الرصاص ، فتفرق الطلبة في جميع

١٨٢

نواحي الجامع ثم دخل الضباط والعساكر واشتغلوا بضبط من بالأزهر مع الإهانة من غير تمييز بين طالب وعالم ، فقبضوا على ٨٢ من الشوام و٢٣ من المصريين وفيهم بعض المدرسين وأصيب بالرصاص خمسة مات بعضهم في الحال وبعضهم بعد ذلك ثم أفرج عن المقبوضين وانحصرت التهمة في ١٤ تقريبا من الشوام ونفى البعض وسجن البعض ، وأقفل رواق الشوام سنة كاملة ، واستاء لذلك الخديوي وشيخ الأزهر وانصدعت لذلك قلوب الشعوب الإسلامية.

جهاد الأزهر في الثورة العرابية :

قام الأزهر بنصيب (١) كبير في إذكاء الحماسة ونشر التعليم وإعداد النفوس لتلبية نداء الحرية ، فقد قام رجاله وعلى رأسهم الشيخ عبد الله الشرقاوي منذ أوائل القرن التاسع عشر بإعلان حقوق الشعب وإلزام الوالي باحترام هذه الحقوق ، ثم ظهر بعد ذلك رجال أفذاذ سجلوا اللأزهر صفحات خالدة في تاريخنا مثل رفاعة رافع والسيد عبد الله النديم والشيخ محمد عبده.

فالأول كان زعيما لنهضة العلم والأدب في عصره ، ومن أهم أعماله تأسيس مدرسة الألسن التي خرجت نخبة من العلماء والأدباء والشعراء ، كما قام بترجمة الدستور الفرنسي ، وعلق على الترجمة تعليقات تدل على فهم صحيح لأحكامه ومبادئه ، وميل فطرى إلى (٢) النظم الحرة ، وترجم القانون المدني الفرنسي ونشر رحلته في فرنسا وسماها «تخليص الإبريز» ، ولم يقتصر نشاطه على التأليف والترجمة والتدريس ، بل خدم الأدب ، وله قصائد شعرية تدل على وطنية صادقة وتفان في محبة الوطن ، وبلغ من حماسته أنه عرب نشيد المارسلييز الفرنسي الذي يعتبر من أجمل الأناشيد الحماسية القومية ، حتى لا يحرم أبناء وطنه من تذوق هذا النشيد.

__________________

(١) مجلة الأزهر ١٣٧٢ ـ الأستاذ احمد عز الدين خلف الله.

(٢) تاريخ الحركة القومية الرافعي ج ٣ ص ٤٧٩

١٨٣

وأما السيد عبد الله النديم ، فقد حاول أن ينفث في الأمة الحماسة كي يستيقظ الشعب من غفوته ، ونادى بضرورة تعليم أبناء الوطن تعليما نافعا ، وفي سبيل تحقيق أغراضه أسس «الجمعية الخيرية الإسلامية» ونحانحوا جديدا لنشر أفكاره ، فألف مسرحيتين إحداهما (الوطن وطالع التوفيق) والأخرى (العرب) ، مثلهما هو وتلاميذه على مسرح زيزينيا بالإسكندرية. وقد بين في مسرحيته الأولى جميع الأمراض والعلل التي نهدد الأمة في وجودها.

وبينما كان صوت النديم يجلجل بالإصلاح ويمهد للثورة في نفوس المثقفين كان الشيخ محمد عبده يبث تعاليم السيد جمال الدين الأفغاني في دروسه ، ويعالج الشئون العامة للبلاد في صحيفتي الأهرام والوقائع الرسمية.

ورأس الثورة المفكر أحمد عرابي (باشا) تلقى علومه في الأزهر مدة أربع سنوات ، وكان لهذه المدة على ضآلتها أثر كبير في تكوين شخصية عرابي كزعيم ثوري ، إذ جعلت منه خطيبا مفوها يستولى على عقول سامعيه ويهز مشاعرهم ... ووسط هذا النضوج الذهني اندلع لهيب الثورة.

وفي ٢٥ مايو عام ١٨٨٢ قدمت كل من انجلترا وفرنسا مذكرة يطلبان فيها إبعاد عرابي (باشا) وإرسال كل من : على (باشا) فهمى وعبد العال (باشا) حلمى إلى أية جهة داخل القطر المصري ، واستقالة وزارة البارودي ، فرفض مجلس الوزراء مطالب الدولتين ، واجتمع أحمد عرابي ومحمود سامي البارودي وكبار الضباط في قشلاق عابدين واتفقوا فيما بينهم على ان يكونوا يدا واحدة في الدفاع عن البلاد ، وارسلوا إلى الشيخ محمد عبده ليضع لهم صيغة يمين الثورة فوضعها لهم ، وتلاها عليهم ، فرددوها في صوت واحد.

واستقالت وزارة البارودي يوم ٢٦ مايو عام ١٨٨٢ ، وأراد الخديوي

١٨٤

توفيق أن يبث التفرقة في صفوف الزعماء ، فعقد اجتماعا يوم ٢٧ مايو حضره من العلماء الشيخ محمد الإنبابي شيخ الجامع الأزهر والشيخ محمد عليش والشيخ حسن العدوي والشيخ أبو العلا الخلفاوي وحضره شريف باشا وكبار النواب والضباط وعرض الخديو على المجتمعين تشكيل وزارة برياسته ، وقبول المذكرة الإنجليزية الفرنسية. فأجاب طلبة باشا عصمت على كلام الخديو قائلا «إننا مطيعون لجناب السلطان الشاهاني وللجناب الخديوي. ولكن هذه اللائحة يستحيل علينا تنفيذها ، ولا حق للدولتين في طلب تنفيذها ، فهي تتعلق بمسائل من اختصاص الباب العالي أن ينظر فيها ويستحيل علينا قبول أحد رئيسا للجهادية خلاف رئيسنا أحمد عرابي» ، ووافق على قوله الشيخ عليش والعلماء جميعا. ثم غادر طلبة باشا مجلس الخديو بدون استئذان وتبعه الضباط والعلماء.

وبعد ضرب الإسكندرية في ١١ يولية عام ١٨٨٢ هب عرابي باشا للدفاع عن البلاد ، فأصدر الخديو أمر بعزله في ١٠ يولية ، وبناء علي ذلك اجتمع المؤتمر الوطني للمرة الثانية في ٢٢ يولية سنة ١٨٨٢ ليقرر موقف الأمة من الخديو الذي أعلن بتصرفاته انضمامه إلى الإنجليز. وتلا الشيخ محمد عبده على أعضاء المؤتمر أوامر الخديو التي تثبت إدانته ومنشورات عرابي باشا التي تدعو إلى الدفاع عن الوطن. ثم ألقى علي باشا الروبي خطبة ندد فيها بموقف الخديو المزرى إزاء قضية البلاد ، ثم تليت فتوى شرعية أصدرها العلماء بمروق الخديو عن الدين لانحيازه إلى الجيش المحارب لبلاده ، فأصدر المؤتمر الوطني قراره التاريخي بعزل الخديو ووقف أوامره وتكليف عرابي بالدفاع عن البلاد ، وتكليف المجلس العرفي بتبليغ هذه القرارات للسلطان ، ووقع الحاضرون على ما قرره المؤتمر الوطني وكان من بين العلماء الموقعين على ذلك : الشيخ محمد الإنبابي شيخ الجامع الأزهر ، الشيخ حسن العدوي ، الشيخ عبد الله الدرسناوي مفتي الحنفية ، الشيخ محمد عليش مفتي المالكية ، الشيخ يوسف الحنبلي مفتي الحنابلة ، مفتي الأوقاف ؛ الشيخ عبد الهادي الإبياري ، الشيخ محمد

١٨٥

الأشموني الشيخ خليل العزازي ، الشيخ مسعود النابلسي ، الشيخ محمد القلماوي ، الشيخ زين المرصفي ، الشيخ حسين المرصفي ، الشيخ سليم عمر القلعاوي ، الشيخ عثمان مدوخ ، الشيخ عبد الرحمن السويسي ، ومن رجال القضاء الشرعي : الشيخ أبو العلا الخلفاوي الشيخ عبد القادر الرافعي ، الشيخ عبد القادر الدليشاني ، الشيخ أحمد الخشاب.

الأزهر يغذى ثورة عرابي :

ولقد كان البارودي ومحمد عبده وسعد زغلول ومحمد نديم قادة التفكير والقلم في هذه الثورة ، واستأنفت الحركة الفكرية سيرها الذي قطعته الحوادث ، وبدت طلائع نهضة جديدة في الآداب العربية ، وظهر في الإنتاج الأدبي يومئذ عنصر قوي من الأدب المبتكر ، وأخذت في نفس الوقت عناصر الثقافة الجديدة تحدث أثرها في إنتاج الجيل الجديد. ويعود الفضل في ذلك كله إلى الأزهر ، وظهرت طائفة من المؤلفات والكتابات القومية التي تحررت من اغلال القديم سواء في اللفظ أو المعنى ، وحملت هذه الروح الجديدة في طريقها كل شيء ، وغدت أقوى دعامة في صرح النهضة.

قويت الحاجة الى الصحافة وظهر عبد الله نديم بحريدته «التنكيت والتبكيت» ، إلا ان النديم ابدل الاسم في آخر لحظة باسم الطائف تيمنا باسم مدينة الطائف في الحجاز ، وبالنسبة إلى انها تطوف بأرجاء الدنيا ، كما كانت «الجواكب» التي يصدرها أحمد فارس الشدياق باستامبول تجوب أرجاء العالم. واتخذ رجال الثورة «الطائف» لسان حالهم ، فكانت تذيع المنشورات والأوامر وتحض على الجهاد ، وكانت تطبع من داخل معسكر كفر الدوار.

والى جانب الطائف صدرت عدة صحف للثورة منها : المفيد للسيد أمين الشمسي والزمان ، والاعتدال وغيرها

وقام الشعراء في القاهرة وفي الإسكندرية يلقون الأشعار الحماسية

١٨٦

والقصائد الوطنية ، فمن ذلك ما نظمه أحد علماء الأزهر من قصيدة مطولة له يقول فيها :

لعمرك ليس ذا وقت التصابي

ولا وقت السماع على الشراب

ولا وقت الجلوس على القهاوي

ولا وقت التغافل والتغابي

ولا وقت التشبب في سليمى

ولا وقت التشاغل بالرباب

ولكن ذا زمان الجد وافي

وذا وقت الفتوة والشباب

ووقت فيه الاستعداد فرض

إقامة بالقلاع وبالطوابي

ووقت فيه الاستعداد فرض

لتنفيذ الأوامر من عرابي

وقولوا يا عرابي دم رئيسا

لحزب النصر محفوظ الجناب

ومن قصيدة أخرى لشاعر آخر جاء فيها :

نوال المعالي طعان الكتائب

ونيل الأماني من ثمار المتاعب

وظهر الأعادي بالتدبر أولا

وبعد بإشهار السيوف القواضب

ومن كعرابي في البرايا وحزبه

أولى العزم أصحاب القنا والقواضب

وقام الخطباء يحضون الشعب على مقاومة أعداء الدستور ، والأخذ بناصر زعماء الثورة ، وكان عبد الله نديم خطيب الثورة لا يفتأ يخطب في كل ناد ومجتمع ومسجد ، فمن ذلك خطبته التي خاطب بها جنود الجيش :

حماة البلاد وفرسانها. من قرأ التاريخ ، وعلم ما توالى على مصر من الحوادث والنوازل ، عرف مقدار ما وصلتم إليه من الشرف ، وما كتب لكم في صفحات التاريخ من الحسنات ، فقد ارتقيتم ذروة ما سبقكم اليها سابق ، ولا يلحقكم في إدراكها لا حق ألا وهي حماية البلاد وحفظ العباد وكف يد الاستبداد عنهما ، فلكم الذكر الجميل والمجد المخلد يباهى بكم الحاضر من أهلنا ، ويفاخر بأثركم الآتي من أبنائنا فقد حبا الله الوطن بحياة طيبة بعد أن بلغت الروح التراقي ، فإن الأمة جسد والجند روح ، ولا حياة للجسم بلا روح ، وهذا وطنكم العزيز أصبح يناديكم ويناجيكم.

وكانت خطبة الجمعة في المساجد تحض على الجهاد ، فمن ذلك

١٨٧

خطبة الشيخ على المليجي في مسجد أسيوط حيث كان يحض المصلين على الغزو والجهاد والتطوع في سبيل نصرة الجيش ، إذ قال :

إن الانجليز قد طاشت عقولهم ، وعميت بصائرهم ، فلم يحسنوا الضروريات ، فساموا بسوق أموالنا وديارنا نفيسها ، وساقوا إلينا من زيف المعارضات خسيسها. وقابلوا عيشنا بخداع ، وفتشوا أكتافنا لغدر أضمروه ليوم النزاع ، ونحن لما جبلنا عليه من محاسن الإيمان. وفينا لهم بعقد الذمة والأمان. فعاملناهم بالحسنى ، وجبرنا ما كان منهم ضعفا ووهنا ، فلما صحت أبدانهم ، وعمرت أوطانهم ، لم يقنعوا ، فعاد عليهم سوء الحال بالانقلاب ، فخربوا بيوتهم بأيديهم من غير زعزعة منا ولا اضطراب.

وهكذا خاتمة أهل السوء والفحشاء.

وقد بذل العلماء جهودا كبيرة ، في سبيل الدفاع القومي ، فدعوا إلى التطوع في صفوف الجيش المصري وإمداده بالمؤن والتبرعات. وكان من أبرزهم الشيخ محمد عبده ، والشيخ حسن العدوي ، والسيد عبد الله النديم الذي كان لسان الثورة الناطق والذي كان يستدعى للخطابة بالبرق ، حتى لقب بخطيب الثورة ، بل (خطيب الشرق).

وبعد انتهاء الثورة العرابية قبض على زعمائها وعلى المشتركين فيها وقدموا للمحاكمة وهذا بيان بالعلماء الذين قبض عليهم والأحكام التي صدرت ضدهم ، وأمام كل منهم اسم البلد التي اختارها لمنفاه (١) :

الشيخ عبد الرحمن عليش ، وقد نفى خمس سنوات خارج القطر المصري بالآستانة.

الشيخ عبد القادر قاضي مديرية القليوبية ، وقد نفى أربع سنوات خارج القطر المصري ببيروت.

__________________

(١) الثورة العرابية الرافعي صفحة (٩٤٠) وما بعدها

١٨٨

الشيخ محمد الهجرسي ، وقد نفى أربع سنوات خارج القطر المصري بمكة المكرمة.

الشيخ أحمد عبد الجواد القاياتي ، وقد نفى أربع سنوات خارج القطر المصري ببيروت.

الشيخ محمد عبد الجواد القاياتي ، وقد نفى أربع سنوات خارج القطر المصري ببيروت.

الشيخ يوسف شرابة ، وقد نفى أربع سنوات خارج القطر المصري بغزة.

الشيخ محمد عبده ، وقد نفى أربع سنوات خارج القطر المصري ببيروت.

هذا مع تجريدهم من الرتب والاميتازات والمناصب وعلامات الشرف.

وحكم على العلماء الآتية أسماؤهم بتجريدهم من جميع رتبهم وعلامات شرفهم وامتيازاتهم :

الشيخ حسن العدوي وابنه الشيخ أحمد العدوي ـ الشيخ أحمد المنصوري ـ الشيخ محمد السملوطي ـ الشيخ أحمد البصري ـ الشيخ محمد أبو العلا الخلفاوي العضو الأول بالمحكمة الشرعية ـ الشيخ عبد الوهاب عبد المنعم قاضي إسنا سابقا ـ الشيخ محمد أبو عائشة قاضي بور سعيد سابقا ـ الشيخ علي الجمال نقيب الأشراف بدمياط ـ الشيخ أحمد عبد الغني ـ الشيخ محمد عسكر ـ الشيخ أحمد مروان ـ الشيخ محمد جبر قاضي المنصورة سابقا ـ الشيخ عبد البر الرملي قاضي العريش سابقا ـ الشيخ أحمد صلى نائب محكمة المنصورة سابقا ـ الشيخ محمد غزالي قاضي مركز البحيرة.

وقد استدعى الشيخ حسن العدوى من السجن لمحاكمته يوم الثلاثاء (١٤ محرم سنة ١٣٠٠ ـ ٥ ديسمبر سنة ١٨٨٢) ، فنطق بالحق غير هياب

١٨٩

ولا وجل ، ولا مكترث بالحكم الذي سيصدر عليه ، ونقتبس هنا طرفا من محاكمته : سئل رحمه الله تعالى : هل ختم على عزل الخديوي وإسناد أمر الدفاع عن البلاد إلى عرابي باشا برغبته ورضاه ، أم لسبب آخر؟. فأجاب «ختمت تابعا للعلماء الذين ختموا قبلى مثل شيخ الإسلام ومفتي الجامع الأزهر وشيخ الجامع وغيرهم ، وكان ختمي برغبتي ورضائي للمدافعة الواجبة شرعا وسياسة ، وما كان ينبغي لأحد أن يمتنع عن الختم. ولما سئل : هل علم المجلس أنك أفتيت بعزل الجناب الخديو فهل هذا حقيقة أم لا؟ أجاب : بأنه : لم تصدر مني فتوى في ذلك ، ولم أسأل في هذه المادة. ومع ذلك فإن جئتموني الآن بمنشور فيه هذه الفتوى فإني أوقعه ، وما في وسعكم وأنتم مسلمون أن تنكروا أن الخديو توفيق مستحق للعزل لأنه خرج عن الدين والوطن.

وقد وقفنا على قصيدة لحضرة الفاضل الشيخ محمد النجار جمعت ما جمعت من وصف الحال في الثورة العرابية ، والدعاء لاستنهاض الهمم واستثارة الحمية ، وجاء فيها :

بالنصر قد جاء الكتاب مشيرا

وبه أتى هادى الأنام بشيرا

يا أحمد المرجو لمصر ومن غدا

فينا أمينا للجيوش أميرا

بشراك بالنصر المبين فثق به

وكفى بربك هاديا ونصيرا

فازحف بجيشك يا مظفر ضاربا

في الإنجليز وقاتلن سيمورا

واقطع بسيفك أمة قد أمروا

أنثى عليهم إذ عدمن ذكورا

قوم تربوا في الثلوج فطبعهم

يهوى البرود ولا يطيق حرورا

يا يوم قد خرجوا وجر وبورهم

رمما وجرحاهم تمج بحورا

رجعوا ويوم السبت مبغوض لهم

إذ لم يروا في يوم سبت نورا

قد أحرقوا قتلاهم من ظلمهم

حتى لقد ظلموا بذاك سعيرا

ضربوا مدافع حزنهم أسفا على

من مات منهم خاسئا وحسيرا

ندبوا رؤوسهم وقد هلكوا وما

بالبحر إلا من رأيت صغيرا

كتبوا لسيدة لهم أن جهزي

غنما لعيد المسلمين كثيرا

١٩٠

وتغيبوا عنا زمانا وانثنوا

مثل الفراش فدمروا تدميرا

يا إنجليز ومن ينادي ميتا

يخطى وكيف أخاطب المقبورا

بالثغر جئتم بغتة وضربتمو

من غير وعد أولا وأخيرا

واسكندرية قد ضربتم دورها

ما الحرب ضربكم البنا والدورا

ما عندنا إلا رجال ذكرهم

يسمو على مر الزمان دهورا

ما عندنا الا أسود عساكر

وقفت لتنحر بالسيوف نحورا

أنسيتمو أرضا حبتكم ثروة

وسكنتموها جنة وقصورا؟

ورأيتم فيها رجالا أمرهم

في حفظهم لكم غدا مشهورا

أنسيتم أرضا دخلتم روضها

وجنيتم ثمرا به وزهورا؟

ذوقوا رصاصا من بنادق هيئة

لكم لتشرح في الصدور صدورا

وخذوا مدافع بالقنابل أرسلت

لكم لتأخذ جسمكم وتطيرا

هذا جزاؤكم على كفرانكم

نعما ، ولا يرضى الإله كفورا

نحن الألى كنا نياما حيث لا

عدل وكان أميرنا مأمورا

نمنا كأهل الكهف دهرا ليتنا

قد كان حافظ أمرنا قطميرا

نحن الألى كنا ضعافا حيث لا

شرع وكان كتابنا مهجورا

حتى فقدنا قوة العرب الألى

فتحوا البلاد وأحسنوا التدبيرا

واليوم نبهنا الزمان وجاءنا

حامي حمى القطر السعيد مجيرا

يا طالما كذبت جرائدكم على

أولاد مصر واقترفتم زورا

وبعثتم أولادكم ونساءكم

وسقيتم أهل الفساد خمورا

كنا ضعافا حيث لا حرية

فينا ولم نعرف لذاك غيورا

واليوم قام لأحمد الجيش الذي

وافى وأصبح جيشه منصورا

وأتته من أهل البلاد إعانة

وعساكر ضربوا لذاك نفيرا

عرب التقى أهل التقى من خيلهم

سبقت لتنزل في العدو صقورا

وعساكر هجموا أسود في الوغي

ولدى اصطفاف الصف صاروا سورا

ورجال دين حيث قد خافوا على

ذرية من بعدهم تكفيرا

خافوا على أعراضهم من أمة

خانت وكم فضحت وفضت حورا

خافوا على أوطانهم وبلادهم

خافوا على جعل الغنى فقيرا

١٩١

خافوا على جعل المساجد مربطا

للخيل أو جعل الرجال حميرا

خافوا على الكتب التي قد دونت

ولكم حوت علما يزيدك نورا

خافوا على آل الرسول وبيته

والله فضلهم عليك كثيرا

خافوا على الدين القويم وأهله

من أشبهوا في الاهتداء بدورا

خافوا على مفتاح بيت الله

والبقع التي قد طهرت تطهيرا

خافوا على ترك الفروض وقطعنا

جهر الأذان وهجرنا التكبيرا

يا مسلمون استبشروا فعدوكم

ولي ، وأصبح جيشه مكسورا

ولسوف يغلو قدركم ومقامكم

يعلو وامركم يكون شهيرا

يا أيها الشجعان هذا وقتكم

فأروا العدا عزما لكم مشهورا

ان الحياة مع المذلة موتة

وبها نرى عذب المذاق مريرا

كونوا كما انتم عليه وجاهدوا

حق الجهاد وحاذروا التأخيرا

بيضتم صحف التواريخ التي

فاحت بذكركم الزكي عبيرا

لا كان أخذ الانكليز بلادنا

أبدا ولا قد كان ذا مقدورا

والله لو رحنا جميعا ما نرى

تسليمنا تلك البلاد يسيرا

أرض سقيناها دموع عيوننا

وبها جرى النيل السعيد غزيرا

أرض عليها استشهدت أجدادنا

فعلام لا يرث الصغير كبيرا؟

إن عاش منا واحد يا سعده

أو مات لاقى جنة وحريرا

وطن بأيدينا زرعنا أرضه

فغدا نضيرا ينبت الاكسيرا

يا آل مصر ألا فقووا عزمكم

واستغنموا بيد الجهاد أجورا

يا آل مصر ألا أعينوا جيشكم

إذ قام يحفظ بالدفاع ثغورا

إذ قام يحفظ أرضكم وبلادكم

ونساءكم وصغيركم وكبيرا

يا آل مصر ألا اتركوا من عضدوا

قوما لقد خانوا فكانوا بورا

هم خائنو الوطن الذي شبوا به

وفقيرهم منه لقى تنكيرا

هم خائنو الرتب التي قد نقصت

بهم فكانوا للعباد شرورا

آل النفاق علام تبغون العدا

ألكم بهم نسب غدا مستورا؟

أم أنهم لا كنتم أحبابكم

ولديهم صار اسمكم مسطورا

في بورسعيد وغيره قد خنتم

وفعلتم للانجليز أمورا

١٩٢

بور لكم ، وسعيد طالع وقتنا

ولكم بذا يوم يكون عسيرا

من لم يكن فيه لمسقط رأسه

خير رأى في غيره التحقيرا

سأرى بسعد الفال شعرى ناطقا

ولرب أشعار تكون ثبورا

عما قريب سوف يظفر جيشنا

ويجى عرابينا لنا مسرورا

ونرى الألى حملوا لواء النصر في

حفظ البلاد وأنجزوا المأمورا

ويسرنا تقبيل مسك وجوههم

فلقد بنوا لحمى الشريعة سورا

ونرى بهذا القطر أعظم زينة

فرحا بما قد ناله وسرورا

ونرى لمصر سعادة أبدية

ويكون من فيها بذاك فخورا

وتكون للسلطان أعظم قوة

ولها يكون معضدا وظهيرا

وهي صورة للشعر الوطني في الثورة القومية الوطنية التي قام بها عرابي وإخوانه.

١٩٣

قوانين الأزهر

ومنذ عام ١٨٧٢ م (١٢٨٨ ه‍) وضعت للأزهر عدة قوانين لتنظيمه وإصلاحه من أهمها.

١ ـ قانون بتنفيذ قانون التدريس ـ ٣ من فبراير ١٨٧٣.

٢ ـ قانون امتحان من يريد التدريس بالجامع الأزهر ـ ٢٤ من مارس ١٨٨٥.

٣ ـ قرار بضبط عدد أهل الجامع الأزهر ـ ١٥ اكتوبر ١٨٨٥

٤ ـ قانون بامتحان التدريس ـ ١٩ يناير ١٨٨٨.

٥ ـ قانون بتشكيل مجلس إدارة الأزهر ـ ٣ يناير ١٨٩٥.

٦ ـ قانون بامتحان من يريد التدريس في الأزهر ـ ١٧ يناير ١٨٩٥.

٧ ـ قانون صرف المرتبات بالأزهر ـ ٢٩ يونيو ١٨٩٥.

٨ ـ قانون كساوي التشريفة العلمية ـ أول فبراير ١٨٩٦.

٩ ـ قانون الجامع الأزهر ـ ٨ محرم ١٣١٤ ـ أول يوليو ١٨٩٦.

١٩٤

الفصل الثاني

بعد الثورة العرابيّة

واصل الأزهر سيره العلمي بعد الثورة ، وعنى الإمام محمد عبده والمصلحون من علماء الأزهر بالدعوة الى تجديد الدراسة في أروقة الأزهر ومعاهده.

وقد صدر عام ١٣٢٩ ه‍ ، ١٩١١ م قانون بإصلاح الأزهر الشريف ، كان له أثره الكبير في حياته العلمية ، وجاء في المادة الأولى منه أن الجامع الأزهر هو المعهد الديني العلمي الإسلامي الأكبر : والمعاهد الاخرى هي :

معهد مدينة الإسكندرية : معهد مدينة طنطا : معهد مدينة دسوق : معهد مدينة دمياط .. وكل معهد يؤسس في القطر المصري بإرادة سنية ، وكذا كل معهد أهلي يتقرر إلحاقه بالجامع الأزهر أو بأحد المعاهد الأخرى بالشروط والأوضاع التي تبين في لائحة يضعها المجلس الأعلى ويصدق عليها بإرادة سنية.

وجاء في المادة الثانية أن الغرض من الجامع الازهر والمعاهد الأخرى هو القيام على حفظ الشريعة الغراء وفهم علومها ونشرها على وجه يفيد الأمة وتخريج علماء يوكل إليهم أمر التعاليم الدينية ويلون الوظائف الشرعية في مصالح الأمة ويرشدونها إلى طرق السعادة.

وفي المادة الثالثة تكون مدرسة القضاء الشرعي قسما ملحقا بالجامع الازهر وتبقى حافظة لنظامها المقرر لها في قانون ٢٥ فبراير سنة ١٩٠٧ ، ويحل مجلس الأزهر الأعلى محل ناظر المعارف العمومية في جميع

١٩٥

الاختصاصات التي له الآن بمقتضى القانون المشار اليه وتفصل ميزانية المدرسة عن نظارة المعارف ويخصص لها باب مستقل في ميزانية الحكومة العمومية ، وتجرى عليها الأحكام المتعلقة بها ويبقى موظفو المدرسة من مستخدمي الحكومة.

وفي المادة الرابعة : أن شيخ الجامع الأزهر هو الإمام الأكبر لجميع رجال الدين والرئيس العام للتعليم فيه وفي المعاهد الأخرى والمشرف الأعلى على السيرة الشخصية الملائمة لشرف العلم والدين بالنسبة إلى من ينتمي لجميع المعاهد من أهل العلم وحملة القرآن الشريف وكذا من كان من أهل العلم وحملة القرآن الشريف من غير المصريين.

وفي المادة الخامسة : أن شيخ الجامع الازهر بصفته رئيس المجلس الأعلى هو المنفذ الفعلي العام لجميع القوانين واللوائح والقرارات المختصة بالجامع الأزهر والمعاهد الاخرى. وأرباب الوظائف في جميع المعاهد تابعون بهذه الصفة وخاضعون لأوامره ، طبقا لما هو مقرر في هذا القانون.

وفي المادة السادسة : يكون لكل مذهب من المذاهب الأربعة بالجامع الأزهر شيخ ، وكذا يكون لكل معهد من المعاهد الأخرى. ويجوز عند الاقتضاء تعيين وكلاء للجامع الازهر ولباقي المعاهد ، ويكون لهم جميع الاختصاصات التي للمشايخ في حال غيابهم الرسمي.

وفي المادة الثامنة والتاسعة : يكون بالجامع الأزهر مجلس يسمى مجلس الأزهر الأعلى. وتنشأ مجالس إدارة للأزهر ولمعهد الإسكندرية وطنطا. ويؤلف مجلس الأزهر الأعلى من شيخ الجامع الأزهر بصفة رئيس ومن ثمانية أعضاءهم : شيخ السادة الحنفية ، شيخ السادة المالكية ، شيخ السادة الشافعية ، شيخ السادة الحنابلة ـ مدير عموم الأوقاف المصرية ـ ثلاثة ممن يكون في وجودهم بالمجلس فائدة لترقية التعليم وحسن انتظام إدارته بشرط أن يكونوا من الحائزين للصفات الملائمة لحالة الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى ،

١٩٦

ويكون تعيينهم بإرادة سنية بناء على قرار من مجلس النظار وفي غياب شيخ الجامع الأزهر ينوب عنه في الرياسة شيخ السادة الحنفية.

وفي المادة العاشرة يختص مجلس الأزهر الأعلى بما يأتي :

أولا ـ وضع الميزانية العمومية للجامع الأزهر والمعاهد الأخرى.

ثانيا ـ النظر في إنشاء المعاهد الدينية العلمية الإسلامية وإلحاق بعض المعاهد الصغرى بالتي هي أكبر منها أو تغيير تبعيتها.

ثالثا ـ النظر في فصل المعاهد من تبعية غيرها وجعلها تابعة للجامع الأزهر مباشرة.

رابعا ـ النظر في إنشاء مجالس إدارة للمعاهد التي ليس لها مجلس إدارة.

خامسا ـ وضع النظم العامة للتدريس والامتحانات.

سادسا ـ التصديق على تقرير الكتب التي تدرس بالجامع الأزهر والمعاهد الأخرى.

سابعا ـ النظر في ترشيح مشايخ المعاهد الأخرى والوكلاء وترقيتهم ونقلهم وفصلهم.

ثامنا ـ النظر في ترشيح مجالس الإدارة.

تاسعا ـ التصديق على ما تقرره مجالس الإدارة من تعيين المدرسين والموظفين وترقيتهم ونقلهم وفصلهم.

عاشرا ـ النظر في منح كساوي التشريف العلمية لمستحقيها بناء على قرارات مجالس الإدارة.

وقد نصت مواد القانون على أن مجلس الأزهر ينعقد بالجامع الأزهر مرة في كل شهر على الأقل بدعوة من الرئيس ، ولشيخ الجامع عقده أكثر من ذلك إن دعا الحال.

١٩٧

وإن قرارات مجلس الأزهر الأعلى تكون بأغلبية الآراء ، وإن استوى الفريقان فالأرجحية للفريق الذي فيه الرئيس ، ولا تصح مداولته إلا إذا حضر الجلسة ستة من الأعضاء سوى الرئيس.

وفي المادة الثانية بعد المائة وما بعدها : يكون بالجامع الأزهر ثلاثون عالما اختصاصيا ، لكل واحد منهم بالازهر كرسى خاص في المحل الذي يخصص للتدريس العام بمعرفة شيخ الجامع الأزهر ويجوز أن يوجد البعض منهم في المعاهد الأخرى بصفة شيخ المعهد أو وكيله.

ويطلق على العلماء الثلاثين المذكورين في المادة السابقة اسم هيئة كبار العلماء.

ويشترط فيمن ينتخب ضمن هيئة كبار العلماء :

أولا ـ أن لا يكون سنة أقل من خمس وأربعين سنة.

ثانيا ـ أن يكون قد مضى عليه وهو مدرس في الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى عشر سنين على الأقل منها أربع على الأقل في القسم العالي.

ثالثا ـ أن يكون قد ألف كتابا في أحد العلوم الإسلامية ، وأن يكون قد منح الجائزة العلمية المنصوص عليها في المادة الثانية والعشرين بعد المائة في هذا القانون

رابعا ـ أن يكون معروفا بالورع والتقوى وليس في ماضيه ما يشين سمعته.

١٩٨

الفصل الثالث

الأزهر والحركة الوطنية عام ١٩١٩

فجأة وعلى غير تدبير سابق نهضت مصر نهضتها الكبرى عام ١٩١٩. كما تضيء في الحفلة الرحبة الجوانب مئات الثريات الكهربائية بحركة لينة من أصبعك. ومرد هذه اليقظة الشاملة شعور مصر في كل حين أن حقها سليب وحريتها منتهبة ، واستقلالها مفقود ، وإنما تحتاج النهضات الأخر الى تدبير سابق يسلخ من العمر سنوات في غير النهوض للحرية والاستقلال. أما والمصريون أحياء يحسون ويشعرون ، والإنجليز أمامهم في مظهر السيادة والتملك ، فلم يحتج الأمر إلى تدبير مبيت في الخفاء ، إلا أن يهتف هاتف : أيها المصريون هذا يوم الخلاص ، ليدوى الصوت في أفق مصر ويستجيب له صائد الأسماك في بحيرة رشيد ، كما يستجيب له القابض على يد المحراث في وادي حلفا.

خرجت مصر كلها ... كلها حقا ، تطلب الحرية وتنشد الاستقلال ، وتدفقت قوة الشباب في جسوم الشيوخ ، وجرت البطولة في أبدان الشباب ، وتفتحت البطولة في روح الأطفال والغلمان ، واحتوت الشجاعة والحماسة قلوب السيدات قرويات وحضريات ، وأصبحت مصر أغرودة الجميع وحرية مصر لحنا يردده كل فم ، واستقلال مصر آية مقدسة يرتلها العابدون الخاشعون

ولقد تجلت كبرياء هذا العهد على الأزهر إذ كان مكانا صالحا للنهوض ، وحمل أبناؤه علم الجهاد الشريف الوادع.

١٩٩

تيقظ الأزهر دفعة واحدة وتحركت بواعث النخوة والوطنية فيه ، كما تحرك كل ما في مصر ، وانتظم الجيش المسلح بإيمانه ، المعتد بحقه ، ورفعت الراية ، وأصبح معهد الدين والعلم مستقر النهضة الكبرى ومستودع آياتها ، وعلى أبوابه سقط أول شهيد مصري وهو من أبناء الأزهر ، احتمل المدفع الرشاش بين يديه. وكان لا يدري ماذا يصنع به ، وبينا هو يهم أن يقصيه في مكان ما. إذا بثلاثين رصاصة تخترق جسمه فيخر صريعا!

ولست أستطيع أن أقول شيئا عن الاجتماعات التي عقدت في الأزهر ، فلم يكن منبره يخلو لحظة من خطيب. ولا عن أولئك الرجال الأبطال الذين كانوا يتوسدون أيديهم ، وينامون على أرض ذلك المسجد الفسيح .. ومن المجاهدين من علمائه الزنكلوني ، وعبد الباقي سرور ، والشيخ أبو العيون وسواهم ، ممن اشتدت الحركة الوطنية بفضل ما أفادوه في بعث روح الإقدام والجرأة في نفوس المصريين.

وكان الفقيد الكريم القاياتي يؤوب من المظاهرة في منتصف الليل ، فيطوي رداءه تحت رأسه على «حصيرة» في الأزهر وينام حتى الصباح ليخطب في المجتمعين.

أما المظاهرات فحدث عن إقدام الأزهريين ولا حرج ، فقد كانت طرقات مصر كلها تغص بهم ، وتمتلىء رحابها بإقدامهم ، وهم يتراكضون في أنفة وعزة وشموخ إلى غاية المجد ، إلى حيث الحرية والاستقلال.

كان كل شيء في هذه النهضة جميلا ساميا ، كأننا في جنة من جنان الخلد ، وكان الشعور السائد القوى ، شعورا سماويا ، حتى نسينا البغض والحقد والتمرد على الواجب ، وأصبح كل فرد يحتضن أخاه المصري كأنهما ولدا في منزل واحد ، ويناجيه كأنه وليه الحميم.

في هذا العهد الذي كان يتهم فيه الأزهر بالتعصب وصرامة الرأي ، كان هو الذي فتح أبوابه لأبناء الطائفة القبطية محتفلا مرحبا ، وكانت هذه الظاهرة العجيبة من أقوى أسباب التضامن الوثيق بين العنصرين.

٢٠٠