الأزهر في ألف عام - ج ١

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي

الأزهر في ألف عام - ج ١

المؤلف:

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٦

وهذا يغنينا عن كل كلام في بيان منزلة الشهاب الخفاجي في عصره وبعد عصره.

ثقافة الشهاب :

اما ثقافة الخفاجي الأدبية فواسعة جدا تنبئنا عنها الريحانة وطراز المجالس أحد مؤلفاته ويدلنا عليها أيضا شعره ومقامته ؛ ولقد كان الخفاجي متضلعا في علوم اللغة والأدب والبلاغة الى حد بعيد.

وأما ثقافته الدينية فقد أهلته لتولي عدة مناصب قضائية عظيمة منها منصب قاضي القضاة المصري.

وأما ثقافته العامة الأخرى فواسعة جدا كما تنبئنا عنها آثار الخفاجي وكما ذكر في ترجمته لنفسه وكانت له مكتبة مشهورة ، وذكر بعضهم أنه وجد في مخلفاته عشرة آلاف مجلد.

نثره :

عاش الخفاجي في آخر عصر المماليك حيث الملكات الأدبية في اضمحلال وفناء والإنتاج الأدبي في الشعر والنثر سقيم مرذول ؛ ولكن الخفاجي مع هذا كله سليم العبارة قوي الملكة حسن الأسلوب بليغ الأداء يسير كلامه مع الطبع والذوق ولا تنبو عنه الإسماع ولا الأذواق فهو في نثره :

رسائله ومقاماته وكتبه الأدبية التي ألفها ـ زعيم عصره في هذا المذهب الأدبي المطبوع المقبول البعيد عن أثر الصنعة والتكلف أو الحوشية والإغراب أو السوقية والابتذال.

شعره :

للخفاجي ديوان شعر مفقود ذكره في الريحانة وقد عثرنا بعد ذلك على نسخة خطية منه بمكتبة الأزهر (بنمرة ٥٠٥ خصوصية أدب) وله عدا ذلك شعر كثير جدا ذكره في كتابه الريحانة وفي كتابه طراز المجالس.

وله مقصورة في مدح النبي صلوات الله عليه عارض بها مقصورة

١٤١

ابن دريد وقصائد أخرى في هذا المعنى ضمن مجموعة مخطوطة بدار الكتب (٧٦ مجاميع (١)) ومقصورته في مدح النبي عارض بها مقصورة زهير ابن أبي سلمى ضمن ترجمة له وعدة أشياء أخرى من آثاره ألحقت بكتاب خبايا الزوايا المخطوط (٢) وروى المحبى في خلاصة الأثر بعض شعره ، قال : (٣) ومن أجود شعره قصيدة دالية مشهورة :

قدحت رعود البرق زندا

أضرمن أشجانا ووجدا

في فحمة الظلماء إذ

مدت على الخضراء بردا

حتى تثاءب نوره

وتمطت الأغصان قدا

وعلى الغدير مفاضة

سردت له النسمات سردا

وحبابه من فوقه

قد بات يلعب فيه نردا

فسقى معاهد بالحمى

قد أنبتت حبا وودا

تذر الليالي في ثرى

من عنبر للمسك أهدى

عجبا لدر ناصع

أودعن في مسك مندى

في ظل عيش ناعم

بنسيم اسحار تردى

والدهر عبد طائع

أهدى لنا شرفا وسعدا

ما زال أصدق ناصح

كم قال ل هزلا وجدا

سلم امرؤ عن طوره

في كل حال ما تعدى

فالخطب بحر زاخر

فاصبر له جزرا ومدا

في ذمة الأيام للأح

رار دين قد يؤدى

إن ماطلت فلربما

أنجزن بعد المطل وعدا

فإذا رمى طأطىء له

رأسا تراه عنك عدى

__________________

(١) راجع الجزء الثلث من فهرس دار الكتب حيث قال : «قصائد الخفاجي ١٠٦٩٢ «وذكر فيها ميميته التى عارض بها معلقة زهير ، ومقصورته التي عارض بها ابن دريد ، وخمس قصائد أخرى في مدح الرسول.

(٢) بالدار [٨٤ و١٣١٢ و٤٦٩٧] أدب.

(٣) ٣٣٦ وما بعدها ج ١ خلاصة الأثر

١٤٢

أفبعد إخواني الألى

درجوا أخاف اليوم نقدا

عيني إذا استسقت بهم

تسقى بدمع العين خدا

لو كانت القطرات تجمد

نظمت في الجيد عقدا

قوم لهم يدعو الثنا

من شاسع الأقطار وفدا

كم في عكاظ نديهم

جلبوا لهم شكرا وحمدا

لا يشترون بذخرهم

إلا جميل الذكر نقدا

أبقى لهم حسن الحديث

برغم أنف الدهر خلدا

ورثوا المكارم كابرا

عن كابر فرضا وردا

من كل طود شامخ

متسربل برداه مجدا

أمست عيونا كلها

ترنو إلى الأعداء حقدا

تلقى الورى بنديهم

نكس العيون إذا تبدّى

لبس الجلال على الجمال

فصد عنه الطرف صدا

فهمو بسلطان التقى اتخذوا

قلوب الناس جندا

أمسوا بغمد ضريحهم

وبقيت مثل السيف فردا

ما لي أقيم ببلدة

فيها بناء الدين هدا

ونها الشهاب إذا سما

يخشى من السلطان طردا

وستأتي نماذج صغيرة من شعره.

مؤلفات الخفاجي :

١ ـ الريحانة واسمها «ريحانة الالبا وزهرة الحياة الدنيا» ويقول فيها الشهاب ذخائر من «خبايا الزوايا فيما في الرجال من البقايا» (١) وقد سار عليها هذا الإسم أيضا (٢).

وهي تراجم أدبية واسعة لشعراء القرن الحادي عشر وأدبائه وعلمائه في مصر والشام واليمن والحجاز والمغرب ، قسمها عدة أقسام :

__________________

(١) ص ٦ من الريحانة

(٢) ولكن للشهاب كتاب آخر بهذا الاسم سنذكره عما قليل.

١٤٣

فالقسم الأول في تراجم اهل الشام ونواحيها.

والقسم الثاني في تراجم العصريين من أهل المغرب وما والاها.

والقسم الثالث في تراجم مكة ومن بحماها ذكر فيه الدولة الحسينية ومن بها من بقية العلماء والشعراء والأعيان.

والقسم الرابع في ترجمة أهل اليمن ممن بلغه خبره في هذا الزمان ممن بقي بها من الفضلاء والشعراء وكان قريب العهد.

والقسم الخامس في الترجمة لأدباء وعلماء مصر.

والقسم السادس في الترجمة لنفسه

وقد اثنى عليها كل العلماء ورجال الأدب ويقول فيها ابن معصوم :

«أهدى إلى من مكة المشرفة كتاب ريحانة الألبا تأليف العلامة النحرير. شهاب الدين الخفاجي وهو الشهاب الذي أضاء نور فضله في هذا الزمن الداجي ، فرأيته قد أجاد فيما ألف وتكفل بالمقصود وما تكلف فلله كتابه من ريحانة تنفست في ليلها البارد وعطرت معاطس الإسماع بطيب نشرها الوارد حتى خاطبها كل كلف بالأدب راح لعرفها منتشقا الخ» (١).

«وقد بنى الخفاجي الريحانة على التراجم ولكنه توسع في تراجم الشعراء فشرح أقوالهم ونقد ما يستحق النقد منها وهو كتاب أدب وتاريخ جليل الفائدة (٢).

وقد ذيلها المحبى صاحب خلاصة الأثر م ١١١١ ه‍ بكتاب سماه «نفحة الريحانة» وقد طبعت الريحانة في مصر سنة ١٢٩٤ ه‍ في ٣٢٨ صفحة وهذه الطبعة المذكورة هي التي نقلنا منها ما ذكرناه عن الشهاب ثم طبعت مرة أخرى سنة ١٣٠٦ ه‍ في ٤٣٢ صفحة.

__________________

(١) ص ٨ من السلافة.

(٢) ٢١٠ ج ٢ الأدب العربي لمحمود مصطفى

١٤٤

٢ ـ حديقة السحر أشار إليه الشهاب في الريحانة (١).

٣ ـ الفصول القصار وأشار إليه الشهاب في الريحانة (٢).

٤ ـ الشهب السيارة (٣).

٥ ـ طراز المجالس كتاب أدب ولغة بناه على خمسين مجلسا (أي درسا) بحث فيها كثيرا من موضوعات البلاغة والنقد والأدب واللغة والتفسير والحديث والتاريخ وسواها وقد طبع في القاهرة سنة ١٢٨٤ وطبع بطنطا طبعة أخرى وقد أشار إليه الخفاجي في الريحانة (٤).

٦ ـ خبايا الزوايا فيما في الرجال من البقايا ، وهو من كتب الأدب ولكنه متضمن تراجم من أهل عصره فيهم شيوخه وشيوخ ابنه وعددهم يزيد على سبعين ومنه عدة نسخ خطية بدار الكتب (٥) ؛ وهو خمسة أقسام وخاتمة : الأول في رجال الشام والثاني في رجال الحجاز والثالث في رجال مصر والرابع في رجال المغرب والخامس في رجال الروم (٦).

٧ ـ شفاء الغليل بما في كلام العرب من الدخيل ، صدره بمقدمة في التعريب وشروطه ثم أورد الكلمات المعربة مرتبة على حروف المعجم وبين أصلها في لغاتها الأولى وكان يأتي بين هذه الألفاظ بكثير من المحرف والمولد مع الإشارة الى أصلهما والكتاب نافع عظيم الفائدة في بابه (٧) وقد طبع الشفاء في مصر سنة ١٢٨٣ في ٢٤٥ صفحة ثم طبعته دار الكتب أخيرا في مجلد كبير الحجم.

__________________

(١) راجع ص ٢٠ و٣٨ و٣٧٦

(٢) راجع ٢٧٦ و٢٨١

(٣) راجع ١١٩ الريحانة

(٤) راجع ص ٢٧٦

(٥) ٣١٠ / ٣ الأدب العربي لمحمود مصطفى ، ٩٢ / ٣ فهرس الدار (وهي بنمرة [٨٤ و١٣١٢ ، ٤٦٩٧ أدب بدار الكتب)

(٦) والخاتمة في نظم المؤلف وشعره ، وقد فرغ من تأليفه في ٢٥ ربيع الثاني سنة ١٠٤٢ ويليها ترجمة للمؤلف وقصيدة نوبية عارض بها معلقة زهير

(٧) راجع ٣٠٨ / ٣ ، الأدب العربي لمحمود مصطفى

١٤٥

٨ ـ شرح درة الغواص في أوهام الخواص وهو نقد شديد للحريري تعقبه فيه في كل ما أورده في «درة الغواص» ورد عليه بحجج وشواهد قوية. وقد طبع هذا الكتاب في مطبعة الجواكب بالقسطنطينية من مدة كبيرة (١).

٩ ـ حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي سماها : «عناية القاضي وكفاية الراضي على تفسير البيضاوي» طبعت في ثمانية أجزاء ببولاق سنة ١٢٨٣ ه‍ ، فالجزء الأول والثاني في تفسير البقرة ، والثالث والرابع إلى آخر التوبة.

والخامس والسادس إلى آخر الفرقان.

والسابع إلى آخر الزخرف

والثامن هو نهاية هذا الكتاب.

وقد طبع بتصحيح الشيخ محمد الصباغ في عهد الخديوي إسماعيل عام ١٢٨٣ ه‍ وفي آخر الجزء الثامن قصيدة للسيد عبد الهادي نجا تقريظا للكتاب.

وفي مقدمة الجزء الأول منه تقريظ للشيخ محمد الدمنهوري.

١٠ ـ وللخفاجي شرح للشفاء سماه «نسيم الرياض في شرح شفاء القاضي عياض» وقد طبع في أربعة أجزاء في القسطنطينية سنة ١٢٦٧ ه‍.

١١ ـ ومن مؤلفاته : كتاب الرحلة ، وكتاب السوانح (٢) وكتاب حديقة السحر ، وكتاب الرسائل الأربعون ، وكتاب حاشية شرح الفرائض ، وكتاب

__________________

(١) وللألوسي م ١٢٧٠ ه‍ مفتي بغداد كتاب على الدرة سماه كشف الطرة عن الغرة أخذ فيه كثيرا عن شرح الخفاجي ووافقه في كثير من نقده للحريري.

(٢) ومنه نسخة خطية بمكتبة الأزهر [نمرة ٦٥٣ خصوصية أدب] ، وفي المكتبة أيضا نسخة خطية من ديوانه [بنمرة ٥٠٥ خصوصية أدب] وسنتولى نشرهما بمشيئة الله ونشر كتابه «خبايا الزوايا» وذلك إذا وفق الله وأراد.

١٤٦

حواشي الرضى والجامي ؛ مما ذكرناه سابقا.

١٢ ـ وللخفاجي ديوان شعر ، وله عدة مقامات ورسائل أوردها في الريحانة وقد ذكر جورجي زيدان أن في الخزانة التيمورية نسخة من ديوان الشهاب في نحو ٣٠٠ صفحة بخط المؤلف على الأرجح.

وله قصائد مختلفة في برلين والمكتبة الخديوية.

وله كتاب ريحانة النار أو ذوات الأمثال يتضمن كل بيت مثلا وهو في باريس.

وقد ذكرنا أن له ابنا ترجم الشهاب لشيوخه في كتابه خبايا الزوايا ، وليس لدي الآن شيء عن تاريخ ابنه وقد بقيت ذرية الشهاب في شنوان حتى العصر الحديث ، فقد جاء في الخطط التوفيقية في الكلام عن (١) شنوان ما يأتي :

ومن ذرية الشيخ شهاب الدين المتقدم ذكره عبد الفتاح افندي صبري (الخفاجي) تربى بالمهند سخانة الخديوية ثم نقل من هذه المدرسة في أواخر سنة ١٢٦٩ إلى آلاى المهندسين للحصول على التعليمات والفنون الحربية ثم ترقى إلى ملازم ثاني بآلالاى المذكور ثم نقل إلى هندسة الاستحكامات بقلعة القناطر وبلغ فيها رتبة اليوزباشي والآن ـ أي سنة ١٢٩٢ ه‍ هو رئيس هندسة القناطر الخيرية برتبة صافول أغاشي.

ووالده أصله من سرياقوس وكل ما أستنتجه من هذا أن أم الشهاب كانت من شنوان (٢) وهي إحدى قرى المنوفية وأقام بأرض له بجوار

__________________

(١) ١٣٨ ـ ١٤٣ ج ٢ الخطط

(٢) لشنوان حديث في المجد والتاريخ طويل وقد ذكر الجبرتي عنها في حوادث سنة ١٢٢٣ ه‍ أن منها الفقيه العلامة محمد الشنواني الشافعي الأزهري شيخ الإسلام بعد موت الشيخ الشرقاوي وقد تولى المشيخة عام ١٢٢٧ ه‍ وتوفي في ٢٤ من المحرم سنة ١٢٣٣ ه‍ [١٣٥ ـ ١٣٧ كنز الجوهر في تاريخ الأزهر] وقد يكون هذا الإمام العالم العظيم من أحفاد الشهاب ومن شنوان خرج أيضا كثير من العلماء والأدباء والشعراء.

١٤٧

سرياقوس ، وإن الشهاب كان له ذرية كبيرة بقيت إلى العصر الحديث.

وأخيرا فإن التراث العلمي والأدبي للشهاب الخفاجي كبير ضخم وعظيم خالد وهو في حاجة إلى البحث عنه والعناية به.

رحم الله الخفاجي وطيب ذكراه وأكرم مثواه فلقد خدم الدين والعلم والأدب أجل الخدمات.

نماذج من شعره :

١ ـ أرح طرف عين جفاها الهجوع

فإن عناء الجفون الدموع

حسيت كؤوس الهوى سحرة

وساقي المنى لمرادي مطيع

إلى حين غابت نجوم الهدى

فكان لها في عذارى طلوع

تقنعت بالوصل من طيفه

وكل محب لعمري قنوع

ولي عنده حاجة للهوى

وليس لها غير ذلي شفيع

رهنت فؤادي على حبه

فما باله لفؤادي يضيع

تقيل المحاسن في ظله

وماء الحمال عليه يشيع

٢ ـ قلت للندمان لما

مزقوا برد الدياجي

قتلتنا الراح صرفا

فاقتلوها بالمزاج

٣ ـ ومن شعره :

لا وغصن راق للطرف ورق

وعليه حلل الظرف ورق

وشموس لم تغب عن ناظري

والشعور الليل والخد الشفق

وعيون حرمت نومي وما

حللت لي غير دمعي والأرق

وله أيضا :

ما احمرار الراح الا خجل

من رضاب سكرت منه الحدق

فجعلت أيام الوصال قصيرة

ولبست ليلا للهموم طويلا

١٤٨

٥ ـ وله (١) :

سلا بانة الوادي لدى المنزل الرحب

متى فقدت غر المناقب من صحبي

فهل لي في حماها نفحة عنبرية

فقد استودعتها الريح من نفس الركب

وهل بين أطلال الرسوم ونؤيها

حمائم بان في الربى طيرت لبي

وهل من عهود قد تقضت بقية

يوفي بها حقي ويقضي بها نحبي

سقى الله عهدا للأحبة صيبا

من الطرف تغنيه عن الوابل السكب

وهيف غصون جادها هاطل الغنى

فتنبت أوراقا من الشجر القضب

وكل خليل رقرق الود صافيا

فكل ملام في محبته يصبي

أصدق فيه الظن من ضنتي به

على كل شيء قد عرفت سوى قلبي

وما ذاك من سوء الفعال جبلة

فكم جاء سوء الظن من شدة الحب

وبعد فشعر الخفاجي كثير وقوي الأسلوب واضح المعنى كثير ألوان الخيال ينم عن ثقافة صاحبه وعقليته وشخصيته ؛ والخفاجي ولا شك بين شعراء القرن الحادي عشر الهجري زعيم الشعر والشعراء.

__________________

(١) ١٢٤ الريحانة

١٤٩
١٥٠

الفصل الثامن

الأزهر بعد الحكم العثماني

الأزهر والغزو الفرنسي لمصر :

بعد دخول نابليون بونابرت القاهرة جمع العلماء وطلب اليهم اختيار عشرة مشايخ لتأليف ديوان منهم ، فوقع اختيارهم على هؤلاء المشايخ العشرة : عبد الله الشرقاوي ، خليل البكري ، مصطفى الصاوي ، سليمان الفيومي ، محمد المهدي الكبير ، موسى السرسي ، مصطفى الدمنهوري ، أحمد العريشي ، يوسف الشبراخيتي ، محمد الدواخلي ، ثم اختار هؤلاء رئيسا لهم الشيخ الشرقاوي ، واحتفل بونابرت بافتتاح الديوان وأكرم أعضاءه ، وأمر المصورين بأخذ صورة كل منهم على حدة. وهذه الصور ما تزال محفوظة في معرض فرساي ، وهو أول ديوان وطني ، ويعتبر فاتحة السلطة النيابية الانتخابية.

وفي ثورة القاهرة على الفرنسيين ضرب الأزهر بالمدافع ، وتتابع الرمي من القلعة وتلال البرقية حتى تزعزعت الأركان وهدمت حيطان الدور ، فركب المشايخ إلى كبير الفرنسيين ليرفع عنهم هذا النازل ويكف عسكره عن الرمي ، فعاتبهم في التقصير فاعتذروا إليه ، فقبل عذرهم ورفع عنهم الرمي وقاموا من عنده ينادون بالأمان في المسالك والطرقات.

وبعد الحادثة السابقة ثارت فتنة بين أهل الحسينية والعطوف وبين الإفرنج وتراموا ، ولم يزل الرمي بين الطائفتين حتى فرغ من الطائفة الأولى

١٥١

البارود ، فأثخنهم الفرنج بالرمي المتتابع ، وبعد هجعة من الليل دخل الفرنج المدينة ومروا في الأزقة والشوارع وهدموا ما وجدوا من المتاريس وانتشروا في الطرقات وتراسلوا رجالا وركبانا. ثم دخلوا الجامع الأزهر راكبين على خيولهم وتفرقوا بصحنه ومقصورته وربطوا خيولهم بقبلته وعاثوا بالأروقة وكسروا القناديل والسهارات وهشموا خزائن الطلبة ونهبوا أمتعتهم ودشتوا الكتب والمصاحف وطرحوها على الأرض وداسوها بأرجلهم ونعالهم ، وبالوا عليها وتغوطوا فيه ، وجردوا كل من وجدوه به وأخرجوهم وأصبحوا مصطفين بباب الجامع ، وكل من حضر للصلاة يراهم فيكر راجعا ، ونهبوا بعض الدور التي بالقرب من الجامع ، وخرج سكان تلك الجهة يهرعون للنجاة بأنفسهم ، وانتهكت حرمة تلك البقعة بعد أن كانت أشرف البقاع ، وبقي الأمر كذلك يومين قتل فيهما خلائق لا تحصى ، ونهبت أموال لا تستقصى ، فركب المشايخ بإجمعهم وذهبوا الى بيت سر عسكر الفرنساوية وطلبوا منه الأمان ، فوعدهم مع التسويف ، وطلب منهم بيانا بمن تسبب في إثارة الفتنة من المعممين فغالطوه ، فقال لهم على لسان الترجمان نحن نعرفهم بالواحد ، فرجوه في إخراج العسكر من الجامع الأزهر ، فأجابهم لذلك وأمر بخروجهم وأسكن منهم نحو السبعين في الخطة ، ثم فحصوا عن المتهمين ، فطلبوا الشيخ سليمان الجوسقي شيخ طائفة العميان ، والشيخ أحمد الشرقاوي ، والشيخ عبد الوهاب الشبرواي ، والشيخ يوسف المصيلحي ، والشيخ إسماعيل البراوي ، وحبسوهم ببيت البكري ، ثم ركب الشيخ السادات والمشايخ إلى بيت سر عسكر وتشفعوا في المسجونين ، فقيل لهم : لا تستعجلوا ، وبعد أيام حضر جماعة من عسكر الفرنسيين إلى بيت البكري نصف الليل وطلبوا المشايخ المحبوسين عند سر عسكر ليتحدث معهم ، فذهبوا بهم إلى بيت قائمقام بدرب الجماميز وهناك جردوهم من ثيابهم وطلعوا بهم إلى القلعة فسجنوهم إلى الصباح ، ثم أخرجوهم وقتلوهم بالبنادق وألقوهم خلف القلعة.

ولما توجه بونابرت إلى الشام بعد استيلائه على مصر ؛ استولى على

١٥٢

مدينة العريش وغزة وخان يونس وورد الخبر الى مصر ، فعمل الفرنساويون حصارا وضربوا عدة مدافع من القلعة والأزبكية وحضر عدة منهم راكبين الخيول وبعضهم مشاة وعلى بعضهم عمائم بيض ومعهم نفير ينفخون فيه ، وبيدهم بيارق كانت عند المسلمين بقلعة العريش إلى أن وصلوا إلى الجامع الأزهر واصطفوا ببابه رجالا وركبانا وطلبوا الشيخ الشرقاوي شيخ الجامع الأزهر ، وأمروه برفع تلك البيارق على منارات الجامع الأزهر ، فنصبوا بيرقين ملونين على المنارة الكبير ذات الهلالين وعلى منارة أخرى بيرقا وضربوا عدة مدافع بهجة وسرورا ، وكان ذلك ليلة عيد الفطر وعند الغروب ضربوا مدافع إعلاما بالعيد.

وفي افتتاح محرم سنة ١٢١٥ ه‍ وقعت حادثة عجيبة وهي أن سر عسكر الفرنساوية كليبير كان واقفا في بستان داره بالأزبكية وفي صحبته أحد خواصه فدخل شخص يوهم أن له حاجة وضربه بخنجر فشق بطنه وفر هاربا ، ففتشوا عليه حتى أخرجوه من بئر فوجدوه شاميا ، فسألوه فخلط في كلامه فعاقبوه وحرقوا يديه بالنار فقال لهم لا تظلموا أهل مصر فأنا من جملة جماعة بعنا أنفسنا للموت واتفقنا على قتل رؤسائكم فقيل له أين كنت تأوي فقال عند فلان وفلان برواق الشوام بالأزهر ولا يدرون حالي فأحضروا الشيخ الشرقاوي والعريشي وألزموهما بإحضار الذين كان يأوي اليهم وهم أربعة ثم ركبوا إلى الأزهر وصحبتهم أغوات الانكشارية وقبضوا على ثلاثة ولم يجدوا الرابع ثم أخذوا المقتول وألبسوه برنيطة ، ووضعوا معه الخنجر الذي قتل به وحملوه على عربة إلى تل العقارب حيث القلعة التي بنوها هناك وضربوا له المدافع واحضروا القاتل وضربوا رقاب الشوام الثلاثة المظلومين وحرقوا جثثهم ورفعوا رؤوسهم على خوازيق ثم وضعوا قتيلهم في تخشيبة وضعوا عندها عسكرا يتناوبون ليلا ونهارا وخلفه منو واظهر أنه أسلم وتسمى بعبد الله ، وحضر قائمقام والأغا الى الازهر وشقوا فيه وفي أروقته وأرادوا نبش اماكن للتفتيش على السلاح واخذ المجاورون في نقل أمتعتهم وإخلاء الأروقة ونقلوا كتب الوقف ، ثم أنهم كتبوا أسماء

١٥٣

المجاورين في قائمة وأمروهم أن لا يأووا آفاقيا مطلقا وأخرجوا منه الأتراك بالكلية ، وفي اليوم نفسه توجه الشيخ الشرقاوي والمهدي والصاوي إلى عسكر منو ، واستأذنوه في قفل الجامع وتسميره فتكلم بعض القبط وقال هذا لا يصح فحنق عليه الشيخ الشرقاوي وقال اتركونا يا قبط واكفونا شر دسائسكم وقصد الشيخ منع الريبة فإنه ربما دسوا من يبيت به واحتجوا بذلك على إنجاز أغراضهم ولا يمكن الاحتراس من ذلك لكثرة أبواب الجامع واتساع زواياه ، فأذنوا لهم بذلك وسمروا أبوابه وكذا سمروا مدرسة محمد بك المقابلة له وأخرجوا منها الاتراك واستمرت الشدة والازعاج إلى أن أخذ الفرنساويون في الجلاء من الديار المصرية .. وفي غاية محرم سنة ١٢١٦ ه‍ فتح الجامع الأزهر وكذلك المدرسة وفرح الناس فرحا شديدا وهنأ بعضهم بعضا.

وفي صفر سنة ١٢١٩ ه‍ فرض على أرباب الحرف والصنائع خمسمائة كيس فضجوا مع ما هم فيه من وقف الحال وأصبحوا لم يفتحوا الدكاكين وحضر منهم طائفة إلى الجامع الازهر ومر الأغا والوالي ينادون بالأمان وفتح الدكاكين ، وفي ثاني يوم تجمع الكثير من غوغاء العامة والأطفال ومعهم طبول وصعدوا إلى منارات الجامع الأزهر يصرخون ويطبلون وتحلقوا بمقصورة الجامع يدعون ويتضرعون ووصل الخبر إلى الباشا فأرسل إلى السيد عمر مكرم النقيب يقول إنا رفعنا عن الفقراء فقال السيد عمر إن هؤلاء الناس وأرباب الحرف كلهم فقراء وكفاهم ما هم فيه من القحط ووقف الحال فكيف تطلب منهم مغارم الجوامك ، فرجع الرسول بذلك ثم عاد بفرمان يتضمن رفع الغرامة عن المذكورين ونادى المنادي بذلك فاطمأن الناس وتفرقوا إلى بيوتهم وخرج الأطفال يفرحون.

وفي صفر سنة ١٢٢٠ ه‍ أكلت العسكر الدلانية الزرع وخطفوا ما صادفهم من الفلاحين والمارين وأخذوا النساء والأولاد بلا فساد فحضر سكان مصر القديمة نساء ورجالا إلى الجامع الأزهر يستغيثون ويخبرون أن الدلاتية أخرجوهم من ديارهم وأخذوا أمتعتهم ونساءهم ، فخاطب المشايخ

١٥٤

الباشا في أمرهم فكتب للدلاتية بترك الدور لأهلها فلم يمتثلوا فاجتمع المشايخ بالأزهر وتركوا قراءة الدروس وخرجت الأولاد الصغار يصرخون في الأسواق فأرسل الباشا كتخداه إلى الازهر فلم يجد به أحدا وكان المشايخ انتقلوا إلى بيوتهم ، فذهب إلى بيت الشرقاوي وحضر هناك السيد عمر مكرم وخلافه فكلموه وأوهموه ، ثم قام وانصرف فرجمه الأولاد بالحجارة وبقي الأمر على السكون أياما.

لقد قاد الأزهر الحركة الوطنية ضد الفرنسيين والطغاة ، وكانت له زعامة الشعب ، وقيادة الحركة العقلية والعلمية في البلاد.

جهاد الأزهر الوطني في الحملة الفرنسية وما بعدها :

مرت مصر (١) خلال هذه الفترة بأحداث مثيرة استدعت بذل ضروب عالية من التضحية ، وقد خاض الأزهر غمار هذه الحوادث ، واستجاب زعماؤه لداعي الوطن ، باذلين ما في وسعهم من تضحيات في سبيله.

فلم تكد تستقر الحملة الفرنسية في القطر المصري في صفر ١٢١٣ ه‍ (يوليه ١٧٩٨) حتى نفر الشعب وزعماؤه دفاعا عن كرامة الوطن وحريته ، فقامت الثورات في جميع أنحاء القطر ، لطرد المستعمرين من البلاد. وكانت القاهرة مركزا لثورتين مهمتين : الأولى في جمادي الأولى ١٢١٣ ه‍ (أكتوبر ١٧٩٨) وعلى رأسها الشيخ السادات ، وكان رئيسا لمجلس الثورة. والثانية في ٢٣ شوال ١٢١٤ ه‍ (٢٠ مارس ١٨٠٠) وعلى رأسها زعيم العلماء في ذلك الوقت السيد عمر مكرم نقيب الأشراف. وقد استعمل الفرنسيون جميع أنواع القسوة لكبت الشعور القومي والقضاء على المقاومة الأهلية ، ولكنهم لم ينجحوا في خطتهم ، وانتهى الأمر بفوز المقاومة الأهلية ، وجلاء الغاصبين عن ارض الوطن.

فبعد ثورة القاهرة الأولى في ٩ جمادي الأولى ١٢١٣ (٢٠ أكتوبر ١٧٩٨)

__________________

(١) راجع الأزهر عدد ربيع الأول ١٣٧٣ ـ الأستاذ احمد عز الدين خلف الله.

١٥٥

وجه نابليون نظره إلى الأزهر ، إذ كان يعلم أنه المعسكر العام للثورة ، فقبض على زعماء الحركة ، وأصدر أمره إلى الجنرال بون قومندان القاهرة بأن يأخذهم ليلا إلى شاطىء النيل ـ ما بين مصر القديمة وبولاق ـ حيث يعدمهم ، ثم يلقى بجثثهم في النهر. وبهذه الطريقة خفى علينا تاريخ كثير من المجاهدين الذين استشهدوا في هذه الثورة.

اما الذين حوكموا رسميا من العلماء باعتبارهم من زعماه الثورة فهم :

الشيخ إسماعيل البراوي والشيخ أحمد الشرقاوي وكانا يقومان بالتدريس في الأزهر ، والشيخ عبد الوهاب الشبراوي وكان يقوم بقراءة كتب الحديث كالبخاري ومسلم في المشهد الحسيني ، والشيخ يوسف المصيلحي وكان يقوم بالتدريس في جامع الكردي ، والشيخ سليمان الجوسقي وكان من العلماء المشهورين بشدة السطو والبأس ، وكانت محاكمتهم سرية وقد حكم عليهم بالإعدام في يوم ٢٧ جمادي الأولى ١٢١٣ (٣ نوفمر ١٧٩٨).

وفي الساعة الثامنة من صباح يوم ٢٨ جمادي الأولى (٤ نوفمبر) أخرجوا من سجنهم إلى القلعة حيث تلى عليهم الحكم ، ثم أعدموا رميا بالرصاص ، ولم يعلم لهم قبر بعد مقتلهم ، ويروي الجبرتي أن الفرنسيين ألقوهم من السور خلف القلعة بعد تنفيذ الحكم.

وقد نشرت صحيفة (كورييه دليجبت) بالعدد الصادر في ١٠ نوفمبر سنة ١٧٩٨ م (غرة جمادي الآخرة ١٢١٣ ه‍) نبأ إعدامهم وأضافت إلى الأسماء التي ذكرها الجبرتي اسم (السيد عبد الكريم) الذي لم يوقف له على ذكر.

وكان الشهداء من العلماء خلال هذه الثورة أكثر من هذا العدد ، إذ قرر الشيخ عبد الله الشرقاوي في تاريخه «تحفة الناظرين» أن الفرنسيين قتلوا ثلاثة عشر عالما ويؤيد ذلك ما رواه المعلم نقولا الترك في كتابه «ذكر

١٥٦

تملك الفرنساوية للديار المصرية» إذ قرر أن نابليون أمر بإعدام اثنين من العلماء كانا من أعضاء المجلس العالي.

وعلى الرغم من أن نابليون كان يعلم تمام العلم أن الشيخ السادات كان رئيسا لمجلس الثورة إلا أنه لم يمسسه بسوء نظرا لمكانته في نفوس المصريين المستمدة من نسبه الشريف ، وقد طلب الجنرال كليبر من نابليون أن يقبض عليه فأجابه بأن إعدام مثل هذا الشيخ الجليل لا يفيد الفرنسيين بل يؤدي إلى عواقب وخيمة.

أما ثورة القاهرة الثانية التي حدثت في ٢٣ شوال سنة ١٢١٤ ه‍ إلى ٢٥ ذي القعدة سنة ١٢١٤ ه‍ (٢٠ مارس ـ ٢١ أبريل سنة ١٨٠٠ م) ، فتتلخص أحداثها في أن نابليون غادر القطر المصري تاركا قيادة الحملة الفرنسية للجنرال كليبر الذي لم يلبث أن واجه أعنف ثورة قامت بها القاهرة ، ويرجع عنف هذه الثورة إلى أن رأسها المفكر كان زعيم علماء ذلك الوقت السيد عمر مكرم نقيب الأشراف ، ولو لا خيانة المماليك لكان لهذه الثورة الوطنية الجارفة شأن آخر. أما العلماء الذين تعرضوا لانتقام الفرنسيين بعد إخمادها فهم :

الشيخ مصطفى الصاوي وقد فرضت عليه غرامة ٢٦٠ الف فرنك الشيخ محمد الجوهري وأخوه فتوح وقد فرضت عليهما غرامة قدرها ٢٦٠ الف فرنك.

وكان الشيخ السادات معروفا لدي الجنرال كليبر بوطنيته منذ تزعم الثورة الأولى ، ولكنه لم يتمكن من النيل لمعارضة نابليون ، فانتهز فرصة اشتراكه في هذه الثورة لينكل به تنكيلا ، إذ فرض عليه غرامة قدرها ثمانمائة ألف فرنك ، وسجن في غرفة قذرة بالقلعة حيث كان ينام على التراب ويتوسد بحجر ، مع ضربه ضربا مبرحا. ثم سمح له بالنزول مخفورا إلى داره لبسعى في سداد الغرامة المفروضة عليه ، فجمع ما في منزله من المال ، وقوم الفرنسيون ما وجدوه من مصاغ وملابس ومتاع فبلغت

١٥٧

قيمة ذلك كله ١١٢ ألف فرنك ، ولم يكتف الفرنسيون بذلك بل جاسوا خلال الدار وحفروا الارض بحثا عن الخبايا ، حتى أعياهم البحث ولم يجدوا شيئا ، ثم نقلوه إلى السجن وصاروا يضربونه خمس عشرة عصا في الصباح ومثلها في الليل ، وجدوا في البحث وراء زوجته وابنه حتى قبضوا أخيرا على تابعة محمد السندوبي الذي عذبوه حتى أقر على مكانهما ، فقبضوا عليهما ، وسجنوا زوجته معه ، وصاروا يضربونه أمامها زيادة في التعذيب ، فشفع فيها كبار العلماء لنقلها من السجن ، فأصدر الجنرال كليبر أمرا بتاريخ ٢٢ مايو بنقلها إلى منزل الشيخ سليمان الفيومي. وصودرت املاك الشيخ السادات ومرتباته وأوقاف أسلافه ، وبقي معتقلا حتى أفرج عنه في عهد قيادة الجنرال مينو في ٢٥ صفر سنة ١٢١٥ (١٩ يولية سنة ١٨٠٠) وشرطوا عليه ألا يجتمع بالناس ، وألا يركب دون إذن من القيادة الفرنسية. وقد بقي رهن المراقبة في داره حتى اعتقل للمرة الرابعة في أواسط شوال ١٢١٥ (أوائل مارس سنة ١٨٠١) بعد وصول الحملة الإنجليزية العثمانية إلى مصر ، وقد اتخذ الفرنسيون هذا الإجراء خوفا من ان يثير عليهم الشيخ السادات الأهالي ، وقد توفي ابنه أثناء اعتقاله فأذن له بتشييعه مخفورا ، ولما انتهى ذلك أعيد إلى سجنه بالقلعة.

ويقول نابليون في مذكراته تعليقا على اضطهاد الشيخ السادات : أن تعذيبه كان من أهم الأسباب التي أدت إلى مصرع الجنرال كليبر في ٢ صفر ١٢١٦ (١٤ ـ يونيه سنة ١٨٠٠).

وكان السيد عمر مكرم الرأس المفكر لثورة القاهرة الثانية ، واليه يرجع الفضل في تعبئة القوات الوطنية تعبئة قلما تتوفر في ثورة من الثورات ، ولم يستطع الفرنسيون القبض عليه عقب إخماد الثورة ، إذ تمكن من الفرار من القاهرة تاركا أملاكه عرضة للنهب والمصادرة ، ولم يدخل القاهرة بعد ذلك حتى جلاء الفرنسيين عن عاصمة البلاد في ربيع الأول سنة ١٢١٦ (يولية ١٨٠١).

وقد اختارت الزعامة الشعبية ممثلة في السيد عمر مكرم والشيخ

١٥٨

عبد الله الشرقاوي محمد علي واليا على مصر بشرط أن يحكم بمشورة وكلاء الشعب. ولكن محمد علي كان يميل إلى الحكم المطلق ، وسرعان ما ضاق ذرعا برقابة وكلاء الشعب خصوصا السيد عمر مكرم زعيم العلماء ، الذي أخذ يحاسب محمد علي باشا على جمع الضرائب التي فرضها ، وبلغ من حماسته في الدفاع عن حقوق الشعب أن عقد مجلسا عاما من العلماء في (أواسط جمادي الأول سنة ١٢٢٤ ـ أول يولية سنة ١٨٠٩) ، وقد أقسم المجتمعون على ألا يلينوا حتى يجيب الوالي مطالبهم التي تتخلص في عدم فرض ضرائب جديدة وإلغاء الضرائب المستحدثة ، وقد ازدادت العلاقات توترا حينما رفض السيد عمر مكرم أن يوقع الميزانية السنوية. كما يريدها محمد علي ، وأن من المعتاد أن يوقع على الميزانية وجوه المصريين قبل إرسالها إلى السلطان العثماني.

تنكر محمد علي للسيد عمر مكرم ، وأخذ يسعى في التخلص منه ، حتى سمحت له الفرصة في رجب ١٢٢٤ (اغسطس ١٨٠٩) ، فقرر خلعه من نقابة الأشراف ونفيه إلى دمياط ، وقد تلقى السيد عمر مكرم هذا النبأ بقوله : «أما منصب النقابة فإني راغب عنه وزاهد فيه وليس فيه إلا التعب ، وأما النفي فهو غاية مطلوبى لأرتاح من هذه الورطة ، ولكني أريد أن أكون في بلدة لا تدين لحكم محمد علي».

مكث السيد عمر مكرم أربع سنوات في دمياط نقل بعدها إلى طنطا التي استمر بها حتى عام ١٢٣٣ (١٨١٨) ، ثم أذن له بالعودة إلى القاهرة ، ولكن استقبال الشعب الرائع لزعيمه أثار شكوك محمد علي مرة اخرى ، فأمر بنفيه الى طنطا عام ١٣٣٧ (١٨٢٢) حيث توفي في نفس العام.

وقام الأزهر بتأييد القوات الوطنية في جهادها ضد الإنجليز عام ١٨٠٧ ه‍ ، وأفتى زعماؤه في المؤتمر الوطني المنعقد في الأزهر بوجوب الجهاد الوطني ، وقام العلماء ببذل مجهود كبير في سبيل الدفاع عن الوطن سواء بالتطوع أو إمداد الجيش بالمؤن والذخائر أو الدعوة إلى الجهاد.

١٥٩

عمر مكرم الأزهري الزعيم المصري الخالد :

وكان عمر مكرم من أرفع أسماء المصريين ذكرا في القرن الثامن عشر ، قضى حياته في خدمة الشعب وتحقيق أمانيه ورفع الحيف عنه والسعى إلى تحريره وإعلاء كرامته ، وقد حفزته عاطفته الوطنية المشبوبة الى منأهضة الفرنسيين توطئة لإخراجهم من مصر.

كانت بيوت البكري والسادات ومكرم هي البيوتات المعروفة في غضون القرنين السابع عشر والثامن عشر ، فإذا ألم ظلم بأفراد الشعب من الحكام العثمانيين أو المماليك أو رجال الحملة الفرنسية لجأوا إلى هذه البيوت يستظلون بحماها ، ويستعدون أربابها ويطلبون المشورة ودفع الحيف عنهم.

وكان أول ظهور عمر مكرم في ميدان السياسة في عام ١٧٩٥ حين اضطربت الأمور في القاهرة وفزع الناس من طغيان إبراهيم ومراد من أمراء المماليك ، فقد أبى الشعب وعلى رأسه العلماء ونقيب الأشراف أن يترك الطاغية يحكم على هواه ، وألزموه بشروط يعدها المؤرخون وثيقة حقوق الإنسان الأولى التي سبقت في تاريخها إعلان حقوق الانسان في فرنسا في اعقاب ثورة سنة ١٧٩٨ ، وفي هذه الوثيقة الاجتماعية الكبرى أعلن الأمراء المماليك أنهم يتعهدون بالعدل ، ويتوبون عن المظالم ، ويعدون بالقيام بالواجبات التي يفرضها عليهم القانون والعرف : من صرف الأموال على مستحقيها ، ورفع الضرائب الإضافية ، ويتكفلون بكف أتباعهم عن امتداد أيديهم بالأذى ، وبأن يسيروا في الحكم سيرة حسنة.

ومضت عدة أعوام حتى إذا كان يوم ٣ يوليه عام ١٧٩٨ هبطت قوات الحملة الفرنسية مدينة الإسكندرية تغزو البلاد ، وكان شعب القاهرة في حالة فزع واضطراب ، فهل في وسع المماليك أن يدافعوا ويكافحوا ويردوا الغزاة الفاتحين؟ وتمثلت هذه المحنة في خاطر عمر مكرم بأنها امتداد للحروب الصليبية ، ولذلك أذاع نداء على الشعب يحثه على الجهاد

١٦٠