الأزهر في ألف عام - ج ١

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي

الأزهر في ألف عام - ج ١

المؤلف:

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٦

كيف ينادي علينا هذا الشيخ الفقيه بالبيع ونحن ملوك الأرض ، والله لأضربنه بسيفي هذا «فما كان حكم الناس من شأن فقيه ، ولا كانت أقدار الناس على ما يفتى به ، ثم ركب في جماعته ليثأر لنفسه ولجماعته بالسيف ، وليضع حدا لتطاوله عليهم وهم أمراء مصر وملوك الأرض!

ووقف نائب السلطنة على باب الشيخ ممتطيا صهوة جواده ، والسيف في يده قائم كأنه متأهب لميدان حرب ، وطرق الباب على الشيخ طرقات قوية عنيفة ، فخرج ولد الشيخ يستطلع الأمر ، فأذهله ما رأى من هيئة نائب السلطنة وجماعته وزاد من رعبه وفزعه أن سأله نائب السلطنة عن والده ليفتك به ، وليتركه بدادا بسيفه ، وأسرع ولد الشيخ الى داخل الدار فزعا جزعا ينبىء والده بالشر المتربص بالباب ويسأله أن يختفي ، فلا يظهر نفسه حتى يدبر للهرب أو يؤذن الله بالفرج.

وابتسم الشيخ لما سمع ، وهدّأ من روع ولده قائلا : لا عليك يا بني ، فأبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله ، ثم نهض إلى باب الدار ، شامخا كالطود ، جريئا كالأسد ثابتا يزيد من ثباته وهيبته إيمان قوي بالله يتضاءل كل ما في هذه الدنيا بجانبه ، ووقف الشيخ الأعزل إلا من قوة الحق وصدق الأيمان أمام نائب السلطنة وهو في سلاحه وعتاده وجنده ، وما زاد الشيخ على أن أرسلها نظرة حادة نافذة ، فإذا بنائب السلطنة يذعن أمام هيبة الشيخ ويتضاءل في سلاحه وجنده ، وإذا به يسرع فيغمد سيفه ، ويترجل من فوق جواده ، ويهوي على يد الشيخ يقبلها ، وأطرافه يمسحها ، ويسأله أن يغفر له ما فرط منه ، وأن يتجاوز عما ارتكب في حقه ، ويطلب منه الدعاء والرضاء «قائلا : ايش يا سيدي تريد أن تعمل».

قال الشيخ : أريد أن أنادي عليكم وأبيعكم. قال : وماذا تصنع بثمننا؟ قال : أصرفه في مصالح المسلمين ، قال : ومن يقبض الثمن قال : أنا أقبضه وأتولى صرفه. قال : لك ما تشاء في أمرنا.

وأصبح الصباح في اليوم الثاني ، وعقد مجلس كبير من رجالات

١٠١

الدولة يحضره السلطان ، وحشد الأمراء الأتراك بكامل عدهم فما تأخر نفر منهم ، وأخذ قاضي القضاة الشيخ عز الدين بن عبد السلام ينادي عليهم بالبيع واحدا واحدا ، ويغالي في ثمنهم لأنهم أمراء .. ولأنهم ملوك الأرض .. وغالى أكثر ما غالى في ثمن نائب السلطنة ، ودفع السلطان إلى الشيخ كل ما اشترط من مال ، فوزعه على وجوه الخير ومصالح المسلمين ، ثم أعتق الأمراء الأرقاء ، ومنحهم حق الحرية في التصرف والبيع والشراء (١).

اعتنى الظاهر بيبرس (٢) ـ كما قدمنا ـ بأمر الأزهر فأعاد إليه خطبة الجمعة في الثامن عشر من ربيع الأول سنة ٦٦٥ ه‍ وشجع العلم فيه وحذا حذوه كثير من الأمراء فزاد الأمير بيبك الخازندار مقصورة كبيرة رتب فيها جماعة من الفقهاء لقراءة الفقه على مذهب الشافعي. ورتب فيها محدثا ، وسبعة لقراءة القرآن ، ووقف على ذلك الأوقاف الدارة. وفي سنة ٧٦١ ه‍ أحب الأمير الطواشي سعد الدين بشير الجامدار الناصري عندما سكن بجوار الأزهر أن يؤثر فيه أثرا صالحا فأنشأ فيه مما أسداه إليه درسا لفقه الحنفية يلقى في المحراب الكبير ، ووقف على هذا الدرس أوقافا كثيرة.

على هذا النحو سار الأزهر في عناية المماليك (٢) ، غير أنا نلاحظ أن الجامع الحاكمي أخذ ينافس الأزهر بعد أن أصلح من زلزال ٧٠٢ ه‍ ، فلقد جاء الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير فأنشأ بالجامع الحاكمي دروسا أربعة لأقراء الفقه على مذهب الأئمة الأربعة ، ودرسا لاقراء الحديث النبوي ، وجعل لكل درس مدرسا وعدة كثيرة من الطلبة ، فرتب في تدريس الشافعية قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة الشافعي ، وفي تدريس الحنفية قاضي القضاة شمس الدين أحمد السروجي الحنفي ،

__________________

(١) المصري ١٤ / ٩ / ١٩٥٤ م ـ الأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف

(٢) الأزهر ـ مجلة المقتطف ـ الشيخ منصور رجب.

١٠٢

وفي تدريس المالكية قاضي القضاة زين الدين علي بن مخلوف المالكي ، وفي تدريس الحنابلة قاضي القضاة شرف الدين الجواني ، وفي درس الحديث الشيخ سعد الدين مسعود الحارثي ، وفي درس النحو الشيخ أثير الدين أبا حيان ، وفي درس القراءات السبع الشيخ نور الدين الشطنوفي ، وفي التصدير لافادة العلوم علاء الدين علي بن إسماعيل القونوي ، وفي مشيخة الميعاد والمسجد عيسى بن الخشاب ، وأنشئت به مكتبة جليلة وجعل فيه عدة متصدرين لتلقين القرآن الكريم ، وعدة قراء يتناولون قراءته ، ومعلما يقرىء أيتام المسلمين كتاب الله عز وجل. وأوقفت على ذلك الأوقاف الدارة بناحية الجيزة ، والصعيد ، والإسكندرية (١).

وأصدر برقوق قرارا «بأن من مات من مجاوري الأزهر من غير وارث شرعي وترك موجودا فإنه يأخذه المجاورون بالجامع».

وكان هذا لتقوية الأزهر بعد أن طغت عليه المدارس والجامع الحاكمي. ولم يكتف الظاهر برقوق بإصدار المرسوم بل أمر بنقشه على حجر عند الباب الكبير البحري ليكون بمثابة إعلان دائم.

نعرف شيئا عن نظام الأزهر والعلوم التي كانت تدرس فيه وبخاصة أيام المماليك الذين أنقذوه من اضطهاد الأيوبيين السنيين؟ بما ذكره المقريزي. فلقد رسم صورة لا بأس بها نرى فيها شيئا عن علومه ونظامه وعدد طلبته وما كان يجري فيه قال :

في سنة ٨١٨ ه‍ ولي نظر هذا الجامع مع الأمير سودوب القاضي حاجب الحجاب فجرت في أيام نظره عدة حوادث لم يتفق مثلها وذلك أنه لم يزل في هذا الجامع منذ بني عدة من الفقراء يلازمون الإقامة فيه وبلغت عدتهم في هذه الأيام ٧٥٠ رجلا ما بين عجم وزيالعة ومغاربة ومن أهل ريف مصر ولكل طائفة رواق يعرف بهم فلا يزال الجامع عامرا بتلاوة القرآن ودراسته وتلقيه والاشتعال بأنواع العلوم من الفقه والتفسير والحديث

__________________

(١) خطط المقريزي ج ٤ ص ٥٧

١٠٣

والنحو ومجالس الوعظ وحلق الذكر ، وصار أرباب الأموال يقصدون هذا الجامع بأنواع البر من الذهب والفضة إعانة للمجاورين فيه على عبادة الله تعالى وكل قليل تحمل إليهم أنواع الأطعمة والخبز والحلويات لا سيما في المواسم. فأمر هذا الناظر في جمادى الأولى من هذه السنة بإخراج المجاورين من الجامع ومنعهم من الإقامة فيه وإخراج ما كان لهم فيه من صناديق وخزائن.

ومن هذا نرى ان الأزهر كان في ذلك الوقت فوق كونه مدرسة لطلب العلم تدرس فيها العلوم المختلفة ومسجدا للعبادة ومكانا للوعظ ، كان بجوار ذلك دارا للتصوف ، وتروي دائرة المعارف الإسلامية عن ابن إياس ان ابن الفارض الصوفي كان مقيما بالأزهر. ويروي رشيد بن غالب صاحب شرح ديوان ابن الفارض ان والد عمر بن الفارض حين امتنع أن يقبل وظيفة قاضي القضاة ونزل عن حكم القاهرة ومصر بالنيابة عن الخليفة اعتزل الناس وانقطع إلى الله تعالى بقاعة الخطابة بالجامع الأزهر ولعل ابنه كان يقيم معه بعد أن كان يعود من سياحته في جبل المقطم. وعلى كل فقد كانت المساجد والمدارس في ذلك الوقت مفتوحة للرياضة الروحية بجوار درس العلم ، وكانت المدارس والمساجد تقبل طلاب التصوف كما كانت تقبل طلاب العلم ، وتفتح صدرها لهؤلاء كما تفتح صدرها لأولئك. فمثلا البدر العيني صاحب عمدة القارىء شرح صحيح البخاري حينما حضر إلى القاهرة مع شيخه العلامة السيرامي سنة ٧٨٨ ه‍ جعله الظاهر برقوق في عداد صوفية البرقوقية.

ونرى الأمير الكبير سيف الدين شيخو الناصري لما أنشأ مسجده جعل فيه عشرين صوفيا ، وأقام الشيخ أكمل الدين محمد بن محمود الرومي الحنفي شيخا لهم ... ثم لما عمر الخانقاه تجاه الجامع نقل الأكمل والصوفية إليها وزاد عدتهم.

ويذكر صاحب خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر : ان الشيخ أحمد بن عيسى بن غلاب ، المنعوت بشهاب الدين الكلبي المالكي ، شيخ المحيا النبوي بالأزهر ، أخذ التصوف عن الشيخ الشعراني

١٠٤

وجلس بالمحيا الشريف بعد والده ، ووالده جلس بعد الشيخ البلقيني وهو جلس بعد الشيخ صالح ، وهو جلس بعد الشيخ نور الدين الشوقي المدفون بزاوية الشيخ عبد الوهاب الشعراني.

٢ ـ وقد أسهم الأزهر بنشاط كبير في هذا العصر ، في شتى نواحي الحياة والعلم والثقافة.

وكان ابن الدماميني (٧٦٣ ـ ٨٢٧ ه‍) ـ الذي ولد بالإسكندرية ، وفاق في النحو والنظم والنثر ، وشارك في الفقه وغيره من العلوم ، ومهر واشتهر ذكره ـ يتصدر بالجامع الأزهر لإقراء النحو (١).

وقد نبغ في هذا العهد من العلماء : الدماميني ، وابن عقيل المتوفي عام ٧٦٩ ه‍ (٢) ، وابن هشام المتوفى عام ٧٤٩ ه‍ (٢) ، وابن إياس المؤرخ المتوفي عام ٩٣٠ ه‍ ، وأبو حيان (٦٥٤ ـ ٧٤٥ ه‍) (٣) ، وابن مكرم صاحب لسان العرب (٦٣٢ ـ ٧٦١ ه‍) (٣) ، والرضى النحوي المشهور المتوفى عام ٦٨٤ ه‍ (٣) ، وابن دقيق العيد (٦٢٥ ـ ٧٠٢ ه‍) (٤) وتقي الدين السبكي (٦٨٣ ـ ٧٥٦ ه‍) (٥) ، وشيخ الإسلام البلقيني ٧٢٤ ـ ٨٠٥ ه‍ (٦) والعيني (٧) ٧٦٢ ـ ٨٥٥ ه‍ ، والشمنى (٨) ٨٠١ ـ ٨٧٢ ه‍ ، وابن الهمام المتوفى عام ٨٦١ ه‍ (٩) ، والسيوطى (٨٤٩ ـ ٩١١ ه‍) (١٠) ..

__________________

(١) ٢٣١ ج ١ حسن المحاضرة

(٢) ٢٣٠ ج ١ حسن المحاضرة .. ويذكر باحث ان ميلاده عام ٧٠٧ ووفاته كانت عام ٧٦١ ه‍ (٢٢٨ الحركة الفكرية في مصر لعبد اللطيف حمزة).

(٣) ٢٢٩ ج ١ حسن المحاضرة

(٤) ١٢٨ ج ١ حسن المحاضرة

(٥) ١٣٠ ج ١ حسن المحاضرة

(٦) ١٣٥ ج ١ حسن المحاضرة

(٧) ٢٠١ ج ١ حسن المحاضرة

(٨) ٢٠٢ ج ١ حسن المحاضرة

(٩) ٢٠١ ج ١ حسن المحاضرة

(١٠) ١٤٠ ج ١ حسن المحاضرة

١٠٥

وكان من الصالحين عبد العال خليفة أحمد البدوي المتوفى ٧٣٢ ه‍ (١).

ولا شك أن كثيرا من هؤلاء وسواهم قد اتصلوا بالأزهر اتصالا علميا ، فجلسوا في حلقاته متعلمين ، وتصدروها معلمين.

وكان بجوار الأزهر كذلك مدارس مشهورة منها المدرسة الظاهرية القديمة التي بناها بيبرس عام ٦٦١ ه‍ ، ورتب بها لتدريس الشافعية تقي الدين بن رزين ، ولتدريس الحنفية محيي الدين بن عبد الرحمن بن الكحال بن العديم ، ولتدريس الحديث الحافظ شرف الدين الدمياطي ، ولتدريس القراءات كمال الدين القرشي.

ومنها المدرسة المنصورية التي بناها الملك المنصور قلاوون عام ٦٧٩ ه‍ ورتب فيها دروسا للفقه على المذاهب الأربعة والحديث والتفسير ودورسا كذلك للطب.

ومنها المدرسة الناصرية التي بناها الناصر محمد بن قلاوون عام ٧٠٣ وعين بها المدرسين للمذاهب الأربعة.

ومدرسة السلطان حسن التي بناها السلطان حسن بن الناصر محمد ابن قلاوون عام ٧٥٨ ه‍.

والمدرسة الظاهرية الجديدة التي فرغ من بنائها عام ٧٨٨ ه‍ وعين السلطان فيها مدرسين للفقه على المذاهب الأربعة وللحديث والقراءات ، وكان الشيخ سراج الدين البلقيني مدرسا فيها للتفسير.

ولكن هذه المدارس كلها كانت عالة على الأزهر ، تأخذ منه ، وتستمد علماءها من خريجيه وأساتذته ، ويوجهها الأزهر توجيها علميا.

ومن أشهر من نبغوا في هذا العهد من العلماء والأدباء والشعراء : الفيروزبادي صاحب القاموس المحيط المتوفى عام ٨١٧ ه‍ ، والقلقشندي

__________________

(١) ٢٢٥ ج ١ حسن المحاضرة.

١٠٦

صاحب صبح الأعشي المتوفى عام ٨٢١ ه‍ ، والنويري صاحب نهاية الأرب المتوفى عام ٧٣٢ ه‍ ، وابن فضل الله العمري المتوفي عام ٧٤٨ ه‍ صاحب ممالك الأبصار ، وتقي الدين ابن حجة الحموي (٧٦٧ ـ ٨٣٧ ه‍) صاحب خزانة الأدب ، وصلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي (٦٩٦ ـ ٨٢٤) ، وصفي الدين الحلى عبد العزيز بن علي (٦٧٧ ـ ٧٥٠ ه‍) ، والشاب الظريف (٦٢١ ـ ٦٨٨ ه‍) وجمال الدين محمد بن نباتة المصري (٦٨٦ ـ ٧٦٨ ه‍) ، وابن الوردي (٦٨٩ ـ ٧٤٩ ه‍) ، والبوصيري (٦٠٨ ـ ٦٩٥ ه‍) ، وابن دقماق المتوفى عام ٨٠٩ ه‍ مؤرخ الديار المصرية ، والمقريزي (٧٦٦ ـ ٨٤٥ ه‍) ومحمد جمال الدين الوطواط المتوفى عام ٧١٨ ه‍ والدميري صاحب حياة الحيوان المتوفى عام ٨٠٨ ه‍ ، وهم كلهم إوجلهم أثر من آثار الأزهر العلمية.

وقد حضر ابن خلدون إلى مصر واشترك في الحياة العلمية فيها ، وزار حلقات الأزهر العلمية ، وتصدر للتدريس فيه.

كما هاجر إلى مصر في هذا العهد كثير من العلماء الذين جددوا شباب النهضة العلمية في العالم الإسلامي.

وقد كان من العلماء من يعرف كثيرا من العلوم العقلية والطبية وغيرها زيادة على العلوم الدينية والعربية ، وهؤلاء لا يحصون ، نذكر منهم على سبيل المثال : الشيخ أحمد عبد المنعم الدمنهوري المتوفى سنة ١١٩٢ هجرية ، فقد جاء في سند إجازته ما ملخصه : أنه تلقى في الأزهر العلوم الآتية ، وله تآليف في كثير منها ، وهي : الحساب والميقات ، والجبر والمقابلة ، والمنحرفات وأسباب الأمراض وعلاماتها ، وعلم الأسطرلاب ، والزيج والهندسة ، والهيئة ، وعلم الأرتماطيقي ، وعلم المزاول ، وعلم الأعمال الرصيدية ، وعلم المواليد الثلاثة وهى الحيوان والنبات والمعادن ، وعلم استنباط المياه ، وعلاج البواسير ، وعلم التشريح ، وعلاج لسع العقرب ، وتاريخ العرب والعجم.

١٠٧

وممن تولى التدريس فيه الفخر البلبيسي الضرير أستاذ القراءات وإمام الأزهر ، وتولى ابن حجر خطابة الأزهر حينا آخر.

على أنه يوجد مع ذلك في أنباء العصر ما يدل على أن الأزهر كان خلال هذه الحقبة يحتفظ بمكانته الخاصة ؛ يعاونه في ذلك اتساع حلقاته وأروقته ، وتنوع دراساته ، وهيبته القديمة ، وما يلاقيه الطلاب فيه من أسباب التيسير في الدراسة وأحيانا في الإقامة. وقد غدا الأزهر منذ أواخر القرن السابع أي مذ عفت معاهد بغداد وقرطبة ، كعبة الأساتذة والطلاب من سائر انحاء العالم الاسلامي ، وغدا أعظم مركز للدراسات الإسلامية العامة. ومنذ القرن الثامن الهجري أخذ يتبوأ الأزهر في مصر وفي العالم الإسلامي نوعا من الزعامة الفكرية والثقافية. وفي أنباء هذا القرن ما يدل على أن الأزهر كان يتمتع في ظل دولة السلاطين برعاية خاصة ، وكان الأكابر من علمائه يتمتعون بالجاه والنفوذ ، ويشغلون وظائف القضاء العليا ، ويستأثرون بمراكز التوجيه والإرشاد. وكان هذا النفوذ يصل أحيانا إلى التأثير في سياسة الدولة العليا ، وأحيانا في مصاير العرش والسلطان.

وربما كانت هذه الفترة في الواقع هي عصر الأزهر الذهبي من حيث الإنتاج العلمي الممتاز ، ومن حيث تبوؤه لمركز الزعامة والنفوذ.

وفي أواخر القرن التاسع أخذت الحركة الأدبية في مصر الإسلامية في الاضمحلال وذلك تبعا لاضمحلال الدولة المصرية والمجتمع المصري. وكانت دولة السلاطين قد شاخت وأخذت تسير نحو الانهيار بخطى سريعة ، وتصدع بناء المجتمع المصري وأخذ في الانحلال والتفكك ؛ واضطربت أحوال المعاهد والمدارس المصرية وتضاءلت مواردها ، وفقدت كثيرا مما كانت تتمتع به من رعاية السلاطين والأمراء ؛ وأصاب الأزهر ما أصاب المعاهد الأخرى من الذبول والركود. ولم يمض قليل على ذلك حتى وقعت المأساة المروعة فانهارت الدولة المصرية ، وفقدت مصر استقلالها التالد وسقطت صريعة الغزو العثماني سنة ٩٢٢ ه‍ (١٥١٧ م).

١٠٨

جلال الدين السيوطي

ترجم الشيخ لنفسه ترجمة وجيزة في كتابه (حسن المحاضرة)

قال عن والده : هو الشيخ كمال الدين أبو المناقب السيوطي ، الذي توفي وسن ولده جلال الدين ستة أعوام. وقد تأثر الولد بسيرة أبيه ميتا أكثر ممما كان يتأثر بها حيا.

اشتغل ببلده أسيوط وتولى القضاء قبل قدومه إلى القاهرة ، وهذا يدلنا على أن مدرسة العلم في هذه الحقبة لم تكن قاصرة على الأزهر وإنما كانت في كثير من عواصم البلاد. كما هو الحال الآن ، ثم ذكر لنا كيف كانت أحوال أبيه بعد قدومه إلى القاهرة. حيث درس على كبار الشيوخ علوم الفقه والأصول والكلام والنحو والإعراب والمعاني والمنطق والحديث ، ثم يقول (وأتقن علوما جمة) ، وبرع في كل فنونه. وأقر له كل من رآه في صناعة الإنشاء وأذعن له فيه أهل عصره كافة. بل كان شيخنا قاضي القضاة شرف الدين المناوى في أوقات الحوادث يسأله في إنشاء خطبة تليق بذلك ليخطب بها في القلعة .. ثم يقول عن والده من الناحية الخلقية :

وكان على جانب عظيم من الدين والتحري في الأحكام وعزة النفس والصيانة ، يغلب عليه حب الانفراد وعدم الاجتماع بالناس.

ثم عدد تآليفه فقال :

١٠٩

«وله من التصانيف حاشية على شرح الألفية لابن المصنف. وحاشية على شرح العضد كتب منها يسيرا ، ورسالة في الإعراب وأجوبة على اعتراضات ابن المقري علي الحاوي وله كتاب في التصريف ، وآخر في التوقيع».

هذه خلاصة وافية لما كتبه الشيخ جلال في ترجمة والده ، وقد أسلفت أنه تركه بالموت وهو في سن السادسة. فكيف ـ وهذه هي الحال ـ كتب ترجمة أبيه المتوفى ، وكيف تأثر بحياته؟

إنه لم يشاهد من حالات والده إلا حالة واحدة ساعده على مشاهدتها أنه كان يقوم بها في منزله ، أما غيرها فلم يشاهده فيها. هذه الحالة هي التي حدثنا عنها بقوله :

«... مواظبا على قراءة القراآن ، يختم كل جمعة ختمة ، ولم أعرف من أحواله شيئا بالمشاهدة إلا هذا».

وقد وجد عند والده كل آثاره العلمية والأدبية فحببه ذلك في الانقطاع لطلب العلم والأدب.

بيئة جلال الدين العلمية هي بيئة الأزهر الشريف بكل خصائصها الحقبة التي انتسب فيها جلال الدين إلى الأزهر هي منتصف القرن التاسع الهجري. وكان في الأزهر في ذلك الوقت قد قطع في بعثه الجديد أشواطا فإنه بعد أن عطله عن الحياة حسا ومعنى ـ السلطان صلاح الدين الأيوبي ، ليزيل بذلك كل أثر للفاطميين. واستبدل به مدارس تدرس فيها المذاهب الأربعة ـ بعد هذا جاء عهد السلطان الظاهر بيبرس من ملوك الجراكسة ، فقد ولي هذا السلطان ملك مصر عام ٦٥٨ هجرية وكان ـ أول ما عني به من الشؤون ـ بعث الأزهر بعثا جديدا بترميمه بعد التهدمة ، وبإعداده ليكون معهدا علميا تدرس فيه العلوم الدينية ، كما تدرس فيه العلوم العقلية مثل (المنطق ـ آداب البحث والمناظرة) أما علوم التاريخ والجبر والمقابلة والإنشاء والأدب ، فلم يكن لها نظام معين تدرس

١١٠

به ، فقد تدرس وقد لا تدرس ، وإذا رغبها طالب لم يرغب فيها طلبة.

لم يكن هناك مناهج ولا أوقات تضبط الدروس وتحدد أوقاتها. كما أن الطلبة كانوا أحرارا في كل شيء : في العلم الذي يختارونه. وفي الشيخ الذي يحضرون عليه ، هذه الحرية في التحصيل هي التي مكنت الرعيل الذي كان فيه السيوطي من الإجادة والإتقان والتبحر في مختلف أنواع العلوم والفنون فكانوا أعلاما نابهين. أمثال السيوطي ، والعز بن عبد السلام ، والقرافي ، وابن هشام والسبكي وأبناؤه ، وزكريا الأنصاري وغيرهم :

كما كان الزهد في المال ، طابعا للطلبة يقول العلامة ابن دقيق العيد :

لعمري لقد قاسيت بالفقر شدة

وقعت بها في حيرة وشتات

فإن بحت بالشكوى هتكت مروءتي

وإن لم أبح بالصبر خفت مماتي

وأعظم به من نازل بملمة

يزيل حيائي أو يزيل حياتي

وتحدث السيوطي عن قوة حافظته فقال :

«فحفظت القرآن ولى دون ثمان سنين. ثم حفظت العمدة ومنهاج الفقه والأصول وألفية ابن مالك» حفظ كل هذه المحفوظات قبل أن ينقطع إلى طلب العلم بالأزهر كما حدثنا.

وتحدث عن تبحره في العلوم وتعمقه في فهمها.

«ورزقت التبحر في سبعة علوم : التفسير ، والحديث ، والفقه ، والنحو ، والمعاني ، والبيان ، والبديع ... والذي اعتقده أن الذي وصلت إليه من هذه العلوم السبعة ـ سوى الفقه ـ والنقول التي اطلعت عليها فيها

١١١

لم يصل إليه ، ولا وقف عليه أحد من أشياخي ، فضلا عمن هو دونهم ... ولو شئت أن أكتب في كل مسألة مصنفا بأقوالها وأدلتها العقلية والقياسية ، ومداركها ونقوضها وأجوبتها ، والموازنة بين اختلاف المذاهب فيها لقدرت على ذلك من فضل الله ...».

ويقول أيضا : «وقد كملت عندي آلات الاجتهاد بحمد الله تعالى».

ثم يقول في مقدمة كتابه (المزهر في علوم اللغة).

«هذا علم شريف ابتكرت ترتيبه ، واخترعت تنويعه وتبويبه. وذلك في علوم اللغة وشروط أدائها وسماعها ، حاكيت به علوم الأحاديث في التقاسيم والأنواع ، وأثبت فيه بعجائب وغرائب حسنة الإبداع ، وقد كان كثير ممن تقدم يلم بأشياء من ذلك ، ويعتني في تمهيدها ببيان المسالك ، غير أن المجموع لم يسبقني إليه سابق ، ولا طرق سبيله قبلي طارق».

هذا ما كتبه الشيخ متفرقا في ترجمته لنفسه ، وفي مقدمات بعض كتبه.

* * *

ويقول السيوطي ـ «وقد بلغت مؤلفاتي للآن ثلثمائة كتاب سوى ما غسلته ورجعت عنه».

ومن هذا العدد الكبير نعرف أنه كان سريع الكتابة إلى حد كبير ، وهو في ذلك يشبه إمامنا الجاحظ في السرعة لا في إشراق الأسلوب ، ولا في متانة التعبير ، ولا في إجادة الإنشاء.

إن الثلثمائة كتاب التي ألفها السيوطي تدور في مدار العلوم الآتية كما ذكرها هو بتعبيراته :

١ ـ فن التفسير وتعلقاته والقراءات.

٢ ـ فن الحديث وتعلقاته.

٣ ـ فن الفقه وتعلقاته.

١١٢

٤ ـ الأجزاء المفردة (وهي المؤلفات التي يتناول كل منها مسألة واحدة).

٥ ـ فن العربية وتعلقاته.

٦ ـ فن الأصول والبيان والتصوف.

٧ ـ فن التاريخ والأدب.

هل درس السيوطي كل هذه العلوم في الأزهر؟ اذا صح أنه درس التفسير والحديث والأصول واللغة العربية وبقية ما عرف من العلوم الأزهرية في وقته ، فهل درس أيضا التاريخ والأدب على الصورة التي رسمها لنا في تعداد الكتب التي ألفها ، أنه لم يترك طبقة من الطبقات إلا ألف فيها كتابا : (الصحابة ـ الحفاظ ـ النحاة كبرى ووسطى وصغرى ـ المفسرين ـ الأصوليين ـ الكتاب ـ الشعراء ـ الخلفاء).

كما أنه الف في التاريخ العام والخاص والرحلات كتبا كثيرة مثل (حسن المحاضرة ـ رفع الباس عن بني العباس ـ ياقوت الشماريخ في علم التاريخ ـ رفع شأن الحبشان ... الرحلة الدمياطية).

فهل درس الطبقات والتاريخ وكتب اللغة والأدب في الأزهر فأهلته المدارسة ليؤلف فيها بهذه الغزارة كما ألف في العلوم الأزهرية؟

ان السيوطي كانت له صوفية علمية تجعله يدرس التاريخ والسير والمغازي على نفسه ، ولم يكن في الأزهر حلقات لمثل هذه العلوم.

لقد شبهت جلال الدين السيوطي بالجاحظ في سرعة الأداء والكتابة ، ولكنني فرقت بينهما من حيث طلاوة الأسلوب ، وإشراق الديباجة. والآن أشبه مرة أخرى السيوطي بالجاحظ في كثرة الاطلاع ومتنوع الدراسات ، فلقد كان الجاحظ يستأجر دكاكين الوراقين ليطلع على ما فيها من كتب وربما كان يقضي فيها الليالي بأكملها لنهمه في القراءة والاطلاع. وكذلك الشيخ السيوطي فإنه لم يترك كتابا في زمانه إلا قرأه واستفاد به.

١١٣

وقد كانت له رحلات ، ولكنه لم يكشف لنا عن الدافع إليها ، فقد قال في ترجمته.

«وسافرت بحمد الله تعالى إلى بلاد الشام والحجاز واليمن والهند والمغرب والتكرور» وهي رحلات بعضها شاق طويل ، وأي رحلة أبعد من الهند؟ وأي متاعب أقسى في زمنه من الجمع بين الرحيل إلى الشام والحجاز واليمن والهند والغرب والتكرور؟ إنه طوف في ذلك بأكثر اجزاء نصف الكرة الشرقي.

وقد ولد السيوطي عام ٨٤٩ وانتقل الى رحمة الله عام ٩١١ هجرية.

١١٤

الفصل السابع

الأزهر في عهد الدولة العثمانيّة

٩٢٣ ـ ١٢٢٠ ه

تمهيد :

خضعت مصر للحكم العثماني خضوعا تاما منذ عام ٩٢٣ ، واستمرت ولاية عثمانية إلى أن وضع محمد علي يده عليها عام ١٢٢٠ ه‍ ، وكان يتولى الحكم فيها الوالي التركي ومساعدوه ، ويسنده الجيش والمماليك.

الحركة العلمية في الأزهر :

في أواخر القرن التاسع أخذت الحركة العلمية في مصر الإسلامية تضمحل ، وكانت دولة السلاطين هي الأخرى في طريقها إلى الإنهيار ، واضطربت أحوال المجتمع وتفككت عراه ، وأصاب المدارس الركود ، وأصاب الأزهر ما أصاب المعاهد الأخرى من الذبول ، وفقدت مصر استقلالها ، وسقطت في يد الأتراك العثمانيين سنة ٩٢٢ ه‍ (١٥١٧ م) وتقلص ظل الازدهار العلمي ، وانصرف كثير عن العلوم العقلية والفلسفة والرياضة والجغرافيا ، وأخذ القول بحرمتها يقوى شيئا فشيئا ، حتى تركت هذه العلوم من الأزهر ، وبقيت مهجورة ينظر إليها بعين السخط ، حتى صدرت أخيرا فتوى من شيخ الأزهر الشيخ الإنبابي والشيخ محمد محمد البنا المفتي بجواز تعلمها وعدم حرمة تدريسها.

وفي الحق أن الفتح العثماني قضى على مظاهر النشاط الفكري التي كانت مزدهرة في عهد السلاطين. فقد عني الغزاة الأتراك عقب الفتح

١١٥

مباشرة بتجريد مصر الإسلامية من ذخائرها النفيسة في الآثار والكتب ، وحمل كل ذلك الى القسطنطينية ، وقد قبض الغزاة على العلماء الأعلام والزعماء وقادة الفكر وبعثوا بهم جميعا إلى تركيا ، وهكذا انهار صرح الحركة الفكرية الإسلامية ، وتضاءل شأن العلوم والفنون ، وانحط معيار الثقافة ، بعد أن كانت مصر موثل الثقافة ومحط العلماء بعد سقوط بغداد على أيدي المغول ، وانقضاء البقية الباقية من سلطان المسلمين في الأندلس. بعد أن وجد العلماء من المماليك ما أملوا ، ووجد الإسلام فيهم حماة يقفون له كما وقف الأيوبيون من قبل ، وكان ردهم للمغول في موقعة عين جالوت على يد قطز حدثا تاريخيا حفظ الحضارة الإسلامية من معاول التتر ، ورفع شأن مصر ، وجعلها مهبط الثقافة الإسلامية ، والأمينة على تراث الإسلام منذ ذلك التاريخ حتى اليوم.

وقد كان الفضل في ذلك للأزهر. فقد اتسع صدره للواردين من العلماء والطلاب في كافة البلاد ، ومكن لهم من الدراسة الهادئة والبحث المنظم مما أفاد الحضارة الإنسانية بأجزل الفوائد ، بما أخرجوا من فرائد الكتب في الفقه والحديث والتفسير واللغة.

وإذا كان الأزهر قد انطوى على نفسه في العصر التركي وذوت آثاره العلمية ، فقد استطاع بما له من نفوذ في نفوس العامة والخاصة أن يحمل العناصر الاستعمارية على احترام مكانته وعلى اللجوء إليه في الملمات ، وكان يتوسط فيما ينشب بينهم وبين المصريين من خلاف ، واستطاع الأزهر في هذه الحقبة المظلمة من تاريخه أن يحفظ اللغة العربية ، وأن يقاوم لغة الفاتحين ، وأن يبقى بابه مفتوحا لطلاب العلوم الإسلامية واللغة العربية مدى ثلاثة قرون ، حتى انزاح عن صدره الكابوس التركي ، وبدأ النور يبزغ من جديد في أوائل القرن التاسع عشر يحمل في طياته الأمل .. وقد تميز العصر التركي في مصر بفتور الهمم عن التأليف والتدوين ، وانصراف المؤرخين عن تناول الشؤون العامة والأمور النافعة إلى ملق الحكام والأكابر ، وتدوين سيرهم الشخصية. وأما العلماء فقد استكانوا إلى الراحة

١١٦

وظنوا أنه لا مطمع لهم في الاجتهاد ، فأقفلوا أبوابه ورضوا بالتقليد وعكفوا على كتب لا يوجد فيها روح العلم ، وابتعدوا عن الناس ، فجهلوا الحياة وجهلهم الناس ، وجهلوا طرق التفكير الحديثة وطرق البحث الحديث ، وما جد في الحياة من علم ، وما جد فيها من مذاهب وآراء ، فأعرض الناس عنهم ، ونقموا هم على الناس ، فلم يؤدوا الواجب الديني الذي خصصوا أنفسهم له.

ولما فترت همة المتأخرين من العلماء عن التأليف. عمدوا الى مصنفات السلف الصالح رضوان الله عليهم وشرحوها ، ثم عمدوا إلى الشرح فشرحوها ، وسموا ذلك حاشية ، ثم عمدوا الى الحواشي فشرحوها وسموا ذلك تقريرا ، فتحصل عندهم متن هو أصل المصنف ، وشرح ، وشرح شرح ، وشرح شرح الشرح ، وكانت النتيجة أن تطرق الإبهام الى المعاني الأصلية ، واضطربت المباحث ، واختلت التراكيب ، وتعقدت العبارات ، واختفى مراد المصنف.

وورث الأزهر من هذا التعقيد العناية بالمناقشة اللفظية ، وتتبع كلمات المؤلفين في المصنفات والشروح والحواشي والتقارير ، وتغلبت هذه العناية اللفظية على الروح العلمية الموضوعية ، وصرفت الذهن عن الفكرة الأصلية الى ما يتصل بها من ألفاظ وعبارات.

واتجه العلماء إلى الاشتغال بالفروض والاحتمالات العقلية التي لا تقع وما يتصل بها من أحكام ، وعلى الأخص في العبادات والمعاملات ، وبدأوا يصنفون الرسائل في هذه الفروض والاحتمالات ؛ وبذلك انصرفوا عن تنمية الفقه العملي الذي يحتاج إليه الناس في معاملاتهم.

وانصرف الأزهر في هذه الحقبة المظلمة عن دراسة العلوم الرياضية والعقلية ، ووجد فيه من ينادي بتحريمها ؛ وهكذا بدت بوادر الانحلال في الأزهر ، وانقطعت صلته بماضيه الزاهر ، ووقفت حركة التفكير العلمي ،

١١٧

وكادت هذه المدرسة الاسلامية الكبرى أن تفقد مميزاتها ، من حرية الفكر والإنتاج الخصب ، لو لا أن قيض الله لها مصلحين أخذوا بيدها ، وجنبوها عواقب هذه الآفات والعلل حتى تجمعت فيها ، وأثرت في مجرى حياتها.

لقد نفى العثمانيون العلماء المصريين إلى القسطنطينية (١) ؛ وانتزعوا الكتب من المساجد والمدارس والمجموعات الخاصة ليودعوها مكتبات العاصمة التركية. وما زالت منها إلى اليوم بقية كبيرة في مكتبات استانبول ، ومنها مؤلفات خطية لكثير من أعلام القرن التاسع الهجري المصريين مثل المقريزي ، والسيوطي ، والسخاوي ، وابن إياس ، مما يندر وجوده بمصر صاحبة هذا التراث العلمي.

وهكذا انهار صرح الحركة الفكرية في مصر عقب الفتح التركي ، كما انهارت عناصر القوة والحياة في المجتمع المصري ، وتضاءل شأن العلوم والآداب ، وانحط معيار الثقافة ، واختفى جيل العلماء الأعلام الذين حفلت بهم العصور السالفة ، ولم يبق من الحركة الفكرية الزاهرة التي أظلتها دولة السلاطين المصرية سوى آثار دارسة ، يبدو شعاعها الضئيل من وقت إلى آخر.

وقد أصاب الأزهر ما أصاب الحركة الفكرية كلها من الانحلال والتدهور ، واختفى من حلقاته كثير من العلوم التي كانت زاهرة به من قبل ، حتى إن العلوم الرياضية. لم تكن تدرس به في أواخر القرن الثاني عشر ، وقد لاحظ ذلك الوزير أحمد باشا والي مصر سنة ١١٦١ ه‍ (١٧٤٨ م) ، في نقاشه للشيخ عبد الله الشبراوي شيخ الأزهر يومئذ وأنكره في حديث أورده الجبرتي (٢) ، مما يدل على ما آلت اليه أحوال الدراسة بالأزهر خلال العصر التركي من التأخر والركود.

__________________

(١) يعقد ابن إياس مؤرخ الفتح العثماني فصلا خاصا يذكر فيه أسماء مئات من الأكابر والعلماء المصريين الذين نفاهم السلطان سليم إلى القسطنطينية (بدائع الزهور ج ٣ ص ١١٩ وما بعدها).

(٢) عجائب الآثار ج ١ ص ١٩٣

١١٨

على أن الجامع الأزهر ـ كما يقول عنان ـ قام عندئذ بأعظم وأسمى مهمة أتيح له أن يقوم بها. فقد استطاع خلال المحنة الشاملة أن يستبقي شيئا من مكانته ، وأن يؤثر بماضيه التالد وهيبته القديمة في نفوس الغزاة انفسهم ، فنجد الفاتح التركي يتبرك بالصلاة فيه غير مرة (١) ، ونجد الغزاة يبتعدون عن كل مساس به ، ويحلونه مكانا خاصا ، ويحاولون استغلال نفوذ علمائه كلما حدث اضطراب أو ثورة داخلية. وفي خلال ذلك صار الأزهر ملاذا أخيرا لعلوم الدين واللغة ، وغدا بنوع خاص معقلا حصينا للغة العربية ، يحتفظ في أروقته بكثير من قوتها وحيويتها ، ويدرأ عنها عادية التدهور النهائي ، ويمكنها من مغالبة لغة الفاتحين ومقاومتها ، وردها عن التغلغل في المجتمع المصري (٢).

وهكذا استطاع الأزهر في تلك الأحقاب المظلمة أن يسدي إلى اللغة العربية أجل الخدمات. وإذا كانت مصر قد لبثت خلال العصر التركي ملاذا لطلاب العلوم الاسلامية واللغة العربية من سائر أنحاء العالم

__________________

(١) راجع ابن إياس في بدائع الزهور ج ٣ ص ١١٦ و١٣٢

(٢) كان بين الأساتذة الذين تولوا التدريس بالجامع الأزهر في أوائل العصر العثماني : نور الدين علي البحيري الشافعي المتوفي سنة ٩٤٤ ه‍ ، والعلامة شهاب الدين ابن عبد الحق السنباطي المتوفى سنة ٩٥٠ ه‍ ، وعبد الرحمن المناوي المتوفى سنة ٩٥٠ ه‍ ، وشمس الدين الشيشيني القاهري الشافعي ، والإمام شمس الدين أبو عبد الله العلقمي المتوفي سنة ٩٦٢ ه‍ ، والإمام شمس الدين الصفدي المقدسي الشافعي المتوفي في حدود التسعين وتسعمائة (راجع في تراجم هؤلاء العلماء ، الكواكب السائرة في أعيان المائة العاشرة ـ مخطوط بدار الكتب).

وكان منهم في أواسط العصر العثماني : عبد الباقي بن يوسف الزرقاني المالكي المتوفى سنة ١٠٩٩ ه‍ ، والعلامة شاهين بن منصور بن عامر الأرمناوي المتوفي سنة ١١٠١ ه‍ ، والعلامة شمس الدين محمد بن محمد الشهير بالشرنبابلي المتوفى سنة ١١٠٢ ه‍. والإمام العلامة إبراهيم بن محمد شهاب الدين البرماوي المتوفى سنة ١١٠٦ ه‍ والشيخ حسن بن علي بن محمد الجبرتي جد والد الجبرتي المؤرخ ، وقد توفي سنة ١١١٦ ، والعلامة عبد الحي بن عبد الحق الشرنبلالي المتوفى سنة ١١٧ ه‍ (راجع في تراجم هؤلاء العلماء عجائب الآثار للجبرتي ، الجزء الأول).

١١٩

العربي والعالم الإسلامي ، فأكبر الفضل في ذلك عائد إلى الأزهر. وقد استطاعت مصر لحسن الطالع بفضل أزهرها ان تحمي هذا التراث نحو ثلاثة قرون ، حتى انقضى العصر التركي بمحنه وظلماته ، وقيض لها أن تبدأ منذ اوائل القرن التاسع عشر حياة جديدة بمازجها النور والأمل

وربما كانت هذه المهمة السامية التي ألقى القدر زمامها الى الجامع الأزهر في تلك الأوقات العصيبة من حياة الأمة المصرية ، والعالم الإسلامي بأسره ، هي أعظم ما أدى الأزهر من رسالته ، وأعظم ما وفق لإسدائه لعلوم الدين واللغة خلال تاريخه الطويل الحافل.

نصيب الأزهر من التعمير في هذا العصر :

في عام ١٠٠٤ ه‍ أيام ولاية الشريف محمد باشا على عمر الأزهر ، وجدد ما خرب منه ، ورتب فيه غذاء للفقراء.

وفي عام ١٠١٤ عمر الوزير حسن والي مصر مقام السادة الحنفية أحسن عمارة وبلطة بالبلاط الجيد ، وقد تولى مصر من عام ١٠١٤ ـ ١٠١٦ ه‍.

وجدد اسماعيل بن إيواظ سقف الجامع الأزهر الذي كان آيلا للسقوط ، وقد مات اسماعيل عام ١١٣٦ ه‍ ومن آثاره إنشاء مسجد سيدي إبراهيم الدسوقي ومسجد سيدي علي المليجى.

وأنشأ الأمير عبد الرحمن كتخدا مقصورة في الأزهر مقدار النصف طولا وعرضا يشتمل على خمسين عمودا من الرخام تحمل مثلها من البوائك المقوصرة المرتفعة المتسعة من الحجر المنحوت وسقف أعلاها بالخشب النقي ، وبنى به محرابا جديدا ، وأنشأ به منبرا وأنشأ له بابا عظيما جهة حارة كتامة المعروف بالدوداري وهو المشهور اليوم بباب الصعايدة وبنى بأعلاه مكتبا بقناطر معقودة على أعمدة من الرخام لتعليم الأيتام من أطفال المسلمين القرآن الشريف وجعل بداخله رحبة متسعة وصهريجا عظيما وسقاية للشرب ، وعمل لنفسه مدفنا بتلك الرحبة وجعل

١٢٠