الأزهر في ألف عام - ج ١

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي

الأزهر في ألف عام - ج ١

المؤلف:

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٦

الفصل الرابع

الأزهر في ظلاك الفاطميين

تمهيد :

مما تقدم نعلم أن الأزهر بدىء في بنائه في ٢٤ جمادى الأولى عام ٣٥٩ ه‍ ـ إبريل ٩٧٠ م ، وافتتح للصلاة في يوم الجمعة ٧ رمضان ٣٦١ ه‍ : ٩٧٢ م ، وبدأ نظام الحلقات العلمية فيه من عام ٣٦٥ ه‍ : ٩٧٦ م ، وصار جامعة إسلامية كبيرة من عام ٣٧٨ ه‍ : ٩٨٨ م.

وإن الفضل في ذلك يرجع الى المعز وقائده جوهر ، ثم إلى أسرة القاضي النعمان الشيعي ، ثم إلى الوزير يعقوب بن كلس.

وكان المسجد منذ نشأته يسمى جامع القاهرة باسم العاصمة الجديدة ، وقد تكون تسميته بالجامع الأزهر قد تأخرت قليلا عن التسمية الأولى ، ويرجح عنان (١) أن اسم «الجامع الأزهر» أطلق عليه بعد إنشاء القصور الفاطمية في عصر العزيز بالله ، فقد كان يطلق عليها اسم القصور الزاهرة ، ومنها أطلق على جامع القاهرة وهو مسجد الدولة الرسمي اسم الجامع الأزهر ، واستمر مسجد القاهرة الجامع يعرف باسم جامع القاهرة (٢) أو الجامع الأزهر حتى عصر المقريزي في أوائل القرن التاسع ، ثم تقلص الاسم

__________________

(١) ٢٠ تاريخ الجامع الأزهر لعنان

(٢) ورد في اخبار العزيز بالله انه أقام طعاما في جامع القاهرة ـ وهو الأزهر الشريف ـ لمن يحضر في رجب وشعبان ورمضان.

٤١

القديم ـ جامع القاهرة ـ شيئا فشيئا وغلب عليه اسم الجامع الأزهر ، أو جامع الأزهر حتى عصرنا.

ولا بد أن يكون الأزهر قد أسهم في الحركة العقلية والعلمية في عصر المعز والعزيز بالله ، وأن يكون أعلام الدين واللغة والأدب قد اتخذوا منه حلقة علمية منظمة.

فلقد جاء قوم من علماء المغاربة في ركب المعز ، ومن أشهرهم النعمان بن محمد الذي تولى القضاء في مصر هو وأولاده وأسرته عهدا طويلا في ظلال الحكم الفاطمي ، وكانت هذه الأسرة تقوم بالقضاء وبالدعوة والتأليف في المذهب الشيعي ، وتتخذ من الأزهر مكانا مختارا لنشاطها العلمي ، وكذلك ابن كلس الذي أشرف على تنظيم الأزهر تنظيما جامعيا علميا عاليا.

ومن أشهر العلماء الذين شهدوا عصر المعز والعزيز : ابن زولاق المصري المؤرخ (١) (٣٠٦ ـ ٣٨٧ ه‍) ، وعبد الغنى المصري (٣٣٢ ـ ٤٠٩ ه‍) وكان حافظ مصر في عصره (٢) ، والحسن بن الهيثم المصري الفيلسوف (٣) واشتهر بعد عصر العزيز وتوفي عام ٤٣٠ ه‍ وابن يونس المصري المنجم المتوفى عام ٣٩٩ ه‍ (٤) والجوفى النحوى المتوفى عام ٤٣٠ ه‍ (٥) .. ولا شك أن هؤلاء العلماء وغيرهم قد كانت لهم حلقات في الأزهر.

ومن الأدباء والشعراء في هذا العهد أبو الرقعمق المتوفى عام

__________________

(١) ٢٣٨ ج ١ ابن خلكان ، ٢٢٥ ـ ٢٣٠ ج ٧ معجم الأدباء .. وله كتاب في سيرة المعز وآخر في سيرة العزيز.

(٢) ٥٤٧ ج ١ ابن خلكان

(٣) ١١٤ و١١٥ إخبار العلماء بأخبار الحكماء للقفطي.

(٤) ٨٥ و٨٦ ج ٢ ابن خلكان.

(٥) ٦ ج ٢ المرجع نفسه.

٤٢

٣٩٩ ه‍ الشاعر (١) وابن وكيع الشاعر المتوفى عام ٣٩٣ ه‍ (٢) ، والتهامي الشاعر المتوفى عام ٤١٦ ه‍ (٣) والمسبحي المصري الكاتب (٣٦٦ ـ ٤٢٠ ه‍) (٤) ، وأبو القاسم (٥) عبد الغفار شاعر دولة العزيز والحاكم وقتله الحاكم عام ٣٩٥ ه‍ .. ولا شك أن هؤلاء الأدباء والشعراء كانوا يحفلون بإلقاء ثمرات قرائحهم على تلاميذهم في حلقات الأزهر العلمية الحافلة (٦).

الأزهر في عصر الحاكم :

وفي عصر الحاكم (٧) استمر الأزهر يؤدي مهمته العلمية ، وإن كان الأزهر فوجىء بإقامة الخليفة جامعة جديدة سماها «دار الحكمة» أو دار العلم الشهيرة في سنة ٣٩٥ ه‍ ـ ١٠٠٥ م.

ولكن الأزهر كان يومئذ بفعل الظروف والتطورات التي أشرنا إليها قد بدأ حياته الجامعية ، ومع أن دار الحكمة لبثت مدى حين تنافس الأزهر وتستأثر دونه بالدراسة المتصلة المنظمة ، فإنها لم تلبث لصرامة نظمها وإغراق برامجها في الشؤون المذهبية ، أن اضطربت أحوالها وضعف نفوذها العلمي ، هذا بينما كان الأزهر يسير في سبيل حياته الجامعية الوليدة بخطى بطيئة ولكن محققة ، ويسير في نفس الوقت إلى التحرر من أغلال تلك الصبغة المذهبية العميقة التي كادت في البداية أن تقضي على صبغته الجامعية الصحيحة.

وقد وقف الحاكم وقفية على الأزهر ودار الحكمة وغيرها من

__________________

(١) ٧٠ و٧١ ج ١ المرجع نفسه ، ٣١٠ ـ ٣٣٤ ج ١ اليتيمة

(٢) ٢٤٣ ، ٢٤٤ ، ج ١ المرجع نفسه ٣٥٦ ـ ٣٨٤ ج ١ اليتمية.

(٣) ٥٣ ـ ٥٥ ج ٢ المرجع نفسه

(٤) ٣٤٢ ـ ٣٤٣ ج ٢ المرجع نفسه.

(٥) ٣٩٦ ج ٣ المرجع نفسه.

(٦) ويروى أن النساء كن يحضرن في الجامع الأزهر (٢٢٦ ج ٢ الخطط للمقريزي).

(٧) ولد بالقاهرة عام ٣٧٥ ه‍ وتولى الخلافة عام ٣٨٦ ه‍ وقتل عام ٤١١ ه‍.

٤٣

المساجد ، وجامع الحاكم ، وجامع المقس ، وجامع راشدة ، لإقامة الشعائر الدينية فيها ، وصيانة مبانيها وهذا هو نص الاشهاد الشرعي على هذه الوقفية :

«هذا كتاب أشهد قاضي القضاة مالك بن سعيد بن مالك الفارقي على جميع ما نسب اليه مما ذكر ، ووصف فيه ، من حضر من الشهود في مجلس حكمه وقضائه بفسطاط مصر في شهر رمضان سنة اربعمائة ، أشهدهم وهو يومئذ قاضي عبد الله ووليه المنصور أبي علي الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين ابن الامام العزيز بالله صلوات الله عليهما ، على القاهرة المعزية ومصر والاسكندرية والحرمين حرسهما الله ، وأجناد الشام والرقة والرحبة ونواحي المغرب وسائر أعمالهن ، وما فتحه الله ويفتحه لأمير المؤمنين من بلاد الشرق والغرب ، بمحضر رجل متكلم ـ أنه صحت عنده معرفة المواضع الكاملة والحصص الشائعة التي يذكر جميع ذلك ويحدد هذا الكتاب ، وأنها كانت من أملاك الحاكم إلى أن حبسها على الجامع الأزهر بالقاهرة المحروسة ، والجامع براشدة والجامع بالمقس ، اللذين أمر بإنشائهما وتأسيس بنائهما ، وعلى دار الحكمة بالقاهرة المحروسة التي وقفها ، والكتب التي فيها قبل تاريخ هذا الكتاب ، منها ما يخص الجامع الأزهر والجامع براشدة ودار الحكمة بالقاهرة المحروسة مشاعا جميع ذلك غير مقسوم : ومنها ما يخص الجامع بالمقس على شرائط يجري ذكرها. فمن ذلك ما تصدق به على الجامع الأزهر بالقاهرة المحروسة ، والجامع براشدة ودار الحكمة بالقاهرة المحروسة ، جميع الدار المعروفة بدار الضرب وجميع القيسارية المعروفة بقيسارية الصوف وجميع الدار المعروفة بدار الخرق الجديدة الذي كله بفسطاط مصر. ومن ذلك ما تصدق به على جامع المقس جميع أربعة الحوانيت والمنازل التي علوها والمخزنين الذي ذلك كله بفسطاط مصر بالراية ، في جانب العرب من الدار المعروفة كانت بدار الخرق ، وهاتان الداران المعروفتان بدار الخرق في الموضع المعروف بحمام الفار. ومن ذلك جميع الحصص

٤٤

الشائعة من أربعة الحوانيت المتلاصقة التي بفسطاط مصر بالراية أيضا بالموضع المعروف بحمام الفار ، وتعرف هذه الحوانيت بحصص القيسي بحدود ذلك كله وأرضه ، وبنائه وسفله وعلوه وغرفه ومرتفقاته وحوانيته وساحاته وطرقه وممراته ، ومجاري مياهه ، وكل حق هو له داخل فيه وخارج عنه ، وجعل ذلك كله صدقة موقوفة محرمة محبسة بتة ، لا يجوز بيعها ولا هبتها ولا تمليكها ، باقية على شروطها ، جارية على سبلها المعروفة في هذا الكتاب ، لا يوهنها تقادم السنين ولا تغير بحدوث حدث ، ولا يستثنى فيها ولا يتأول ، ولا يستفتى بتجدد تحبيسها مدى الأوقات ، وتستمر شروطها على اختلاف الحالات حتى يرث الله الأرض والسماوات ، على أن يؤجر ذلك في كل عصر من ينتهي اليه ولايتها ويرجع إليه أمرها بعد مراقبة الله واجتلاب ما يوفر منفعتها من إشهارها عند ذوي الرغبة في إجارة أمثالها ؛ فيبتدأ من ذلك بعمارة ذلك على حسب المصلحة وبقاء العين ومرمته ، من غير إجحاف بما حبس ذلك عليه ، وما فضل كان مقسوما على ستين سهما.

من ذلك الجامع الأزهر بالقاهرة المحروسة المذكور في هذا الاشهاد الخمس والثمن ونصف السدس ونصف التسع ، يصرف ذلك فيما فيه عمارته ومصلحته ، وهو من العين المعزى الوازن ألف دينار واحدة وسبعة وستون دينارا ونصف دينار وثمن دينار ، ومن ذلك للخطيب بهذا الجامع أربعة وثمانون دينارا ، ومن ذلك لثمن ألف ذراع حصر عبدانية تكون عدة له بحيث لا ينقطع من حصره عند الحاجة إلى ذلك ، ومن ذلك لثمن ثلاثة عشر ألف ذراع حصر مظفورة لكسوة هذا الجامع في كل سنة عند الحاجة إليها مائة دينار واحدة وثمانية دنانير ، ومن ذلك لثمن ثلاثة قناطير زجاج وفراخها اثنا عشر دينارا ونصف وربع دينار ، ومن ذلك لثمن عود هندي للبخور في شهر رمضان وأيام الجمع مع ثمن الكافور والمسك وأجرة الصانع خمسة عشر دينارا ، ومن ذلك لنصف قنطار شمع بالفلفلي سبعة دنانير ، ومن ذلك لكنس هذا الجامع ونقل التراب وخياطة الحصر وثمن الخيط وأجرة

٤٥

الخياطة خمسة دنانير ومن ذلك لثمن مشاقة لسرج القناديل عن خمسة وعشرين رطلا بالرطل الفلفلي دينار واحد ، ومن ذلك لثمن فحم للبخور عن قنطار واحد بالفلفلي نصف دينار ، ومن ذلك لثمن إردبين ملحا للقناديل ربع دينار ومن ذلك ما قدر لمؤنة الناس والسلاسل والتنانير والقباب التي فوق سطح الجامع أربعة وعشرون دينارا ، ومن ذلك لثمن سلب ليف وأربعة أحبل وست دلاء أدم نصف دينار ، ومن ذلك لثمن قنطارين خرقا لمسح القناديل نصف دينار ، ومن ذلك لثمن عشر قفاف للخدمة وعشرة أرطال قنب لتعليق القناديل ، ولثمن مائتي مكنسة لكنس هذا الجامع دينار واحد وربع دينار ، ومن ذلك لثمن أزيار فخار تنصب على المصنع ويصب فيها الماء مع أجرة حملها ثلاثة دنانير ، ومن ذلك لثمن زيت وقود هذا الجامع راتب السنة ألف رطل ومائتا رطل مع أجرة الحمل سبعة وثلاثون دينارا ونصف ، ومن ذلك لأرزاق المصلين يعنى الأئمة وهم ثلاثة وأربعة قومة ، وخمسة عشر مؤذنا خمسمائة دينار وستة وخمسون دينارا ونصف ، منها للمصلين ، ولكل رجل منهم ديناران وثلثا دينار في كل شهر من شهور السنة ، والمؤذنون والقومة ولكل رجل منهم ديناران في كل شهر ، ومن ذلك للمشرف على هذا الجامع في كل سنة أربعة وعشرون دينارا. ومن ذلك لكنس المصنع بهذا الجامع ونقل ما يخرج منه من الطين والوسخ دينار واحد ، ومن ذلك لمرمة ما يحتاج إليه في هذا الجامع في سطحه وأترابه وحياطته وغير ذلك مما قدر لكل سنة ستون دينارا ، ومن ذلك لثمن مائة وثمانين حمل تبن ونصف حمل جارية لعلف رأسي بقر للمصنع الذي لهذا الجامع ثمانية دانانير ونصف وثلث دينار ، ومن ذلك للتبن لمخزن يوضع فيه بالقاهرة أربعة دنانير ، ومن ذلك لثمن فدانين قرط لتربيع رأسي البقر المذكورين في السنة سبعة دنانير ، ومن ذلك لأجرة متولي العلف وأجرة السقا والحبال والقواديس وما يجري مجرى ذلك خمسة عشر دينارا ونصف ، ومن ذلك لأجرة قيم الميضأة إن عملت بهذا الجامع اثنا عشر دينارا».

٤٦

وإلى هنا انقضى حديث الجامع الأزهر ، وأخذ في ذكر الجامع براشدة ، ودار العلم ، وجامع المقس ، ثم ذكر أن تنانير الفضة ثلاثة تنانير وتسعة وثلاثون قنديلا من الفضة ، فللجامع الأزهر تنوران وسبعة وعشرون قنديلا ، ومنها لجامع راشدة تنور واثنا عشر قنديلا ، وشرط أن تعلق في شهر رمضان ، وتعاد إلى مكان جرت العادة أن تحفظ فيه .. وشرط بعد ذلك في الوقف شروطا كثيرة ليس هنا مقام ذكرها وقد أسس الحاكم جامعه المشهور عام ٣٩٣ ه‍ ، وخطب فيه وصلى فيه بالناس الجمعة وكانت دار الحكمة التي أنشأها يدرس فيها علوم القرآن واللغة والفلك والطب والرياضة والتنجيم وغيرها. واجتذبت الجامعة الجديدة إليها كثيرا من أعلام المشرق كالرحالة الفارسي ناصرى خسرو ، ولبثت دار الحكمة تنافس الأزهر مدى قرن من الزمان ، حتى أغلقت.

٤٧

مشاركة الأزهر في الحياة العقليّة

في عصر الفاطميين

كان للأزهر نشاط ضخم في الحياة العقلية والعلمية في العصر الفاطمي كله حتى نهايته عام ٥٦٧ ه‍.

ولقد جاءت الدولة الفاطمية الى مصر مع نفوذها السياسي بحركة علمية قوية فقدمت حركة العلم والأدب والفن في مصر والشام خطوات ، حتى لا يعد شيئا بجانبها ما كان في العهد الطولوني والأخشيدي ، ويصح أن توازن بما كان في العراق ولا سيما العلوم العقلية والفلسفية ، فقد ازدهرت في مصر وسارت شوطا بعيدا .. نعم نشطت الحركة العقلية في مصر والشام في هذا العصر نشاطا كبيرا ، وذلك بفضل الأزهر ودار العلم وحلقاتهما العلمية ؛ وعنيت الدولة بدور الكتب ونشر العلم ، وتشجيع العلماء ، فظهر الكثير من المؤرخين والفلاسفة والعلماء والرياضيين واللغويين والنحويين والأدباء ، ومنهم الأدفوي تلميذ أبي جعفر النحاس (١) المصري ؛ الذي توفي عام ٣٨٨ ه‍ ، وابن بابشاذ (٢) ، وابن القطاع النحوي م ٥١٥ ه‍ (٢) المتوفي عام ٤٦٩ ه‍ وسواهم.

ويقول المقريزي : «ان أول ما درس بالأزهر الفقه الفاطمي على مذهب الشيعة» ولقد كان ممن القى محاضراته في الأزهر المؤيد

__________________

(١) توفي ابو جعفر النحاس عام ٣٣٨ ه‍ (٢٢٨ ج ١ حسن المحاضرة).

(٢) ٢٢٨ ج ١ حسن المحاضرة.

٤٨

الشيرازي داعي الدعاة الذي ناظر فيها المعري في عهد المستنصر الخليفة الفاطمي ، وكان الشيرازي شاعرا كتب إلى المستنصر لما حسده الحساد باحتجاب الخليفة عنه بعد قدوم الشيرازي إلى مصر : كتب المؤيد الشيرازي :

أقسم لو أنك توجتني

بتاج كسرى ملك المشرق

وأنلتني كل أمور الورى

من قد مضى منهم ومن قد بقي

وقلت ان لا نلتقي ساعة

أجبت يا مولاي أن نلتقي

لأن إبعادك لي ساعة

شيب فودىّ مع المفرق

فأجاب المستنصر بالله بخطه :

يا حجة مشهورة في الورى

وطود علم أعجز المرتقى

ما غلفت دونك أبوابنا

إلا لأمر مؤلم مقلق

ولا حجبناك ملالا فثق

بودنا وارجع الى الأليق

خفنا على قلبك من سمعه

فصدنا صد أب مشفق

شيعتنا قد عدموا رشدهم

في الغرب يا صاح وفي المشرق

فانشر لهم ما شئت من علمنا

وكن لهم كالوالد المشفق

إن كنت في دعوتنا آخرا

فقد تجاوزت مدى السبق

مثلك لا يوجد فيمن مضى

من سائر الناس ولا من بقى

وللشيرازي محاضراته التي ألقاها في الأزهر مناظرا أبا العلاء المعري.

وله مؤلفات أخرى عدا سيرته وديوانه ومحاضراته ، منها : كتاب الابتداء والانتهاء ، وكتاب المسألة والجواب ، وكتاب نهج العبادة ، وشرح المعاد ، والمسائل السبعون ، ونهج الهداية للمهتدين ، وأساس التأويل بالفارسية ، والسبح السبع ، والإيضاح والتبصير في فضل يوم القدير ، وتأويل الأرواح ، والمجالس المستنصرية. وقد لاحظنا أن هذه المحاضرات القصيرة ، إنما كانت ملخصا لدروس طويلة فيما يظهر فلعله

٤٩

كان يكتبها بعد إلقاء الدرس وتفهيمه على سبيل التسجيل والحفظ ، لنكت هامة لينتفع القارىء ، كما استفاد السامع.

وهذه هي المحاضرة الأولى من محاضراته :

الحمد لله الذي نظم بين الانسان والبهائم أن خلقهم من طين ، ثم جعل نسلهما من ماء مهين ، ثم اقتضت العناية الإلهية أن رمى في أخلاط الصورة الإنسانية من إكسير العقل بلغة أهل صنعة الكيمياء ، ما عرج به أعلا المعارج من الفضل والعلياء ، فصار ممن قال الله سبحانه فيه ـ ومن أصدق منه قيلا ـ (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ* وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) ، فاستنزل بتدبيره الطير من الهواء واستخلص الحدث من لج الماء ، واستعبد أجناس الحيوان طيرا وبهائم وسباعا ، فمنها ما انتفع بلحومها ، ومنها ما استمتع بجلودها وأصوافها وأوبارها استمتاعا ، وجعل الفلك المحيط على عظم فضائه محصورا في سرادق فكره ، بدل كون جسمه بالكون والفساد محصورا في سرادق ملكته وأسره ، فهذا منفوعه الذي نفعه الله به في الدار الأولى ، ثم جعله سلما يرتقي به إلى دائم البقاء في الدار الأخرى. فلولا نور استبصاره بالعقل ، لما كانت رسالة عن مرسل تقبل ، ولا أمر عن مرسل يؤخذ ويتحمل ، ولا نفس بمعرفة توحيد الله سبحانه ترتسم وتنير ، ولا لسان بمعارف الآخرة بين اللهوات يدور. وصلى الله على محمد خير رسول ، استنار بنور سراجه ، وسار على واضح منهاجه ، وعلى وصيه الذي عرج به من أفق المجد إلى أعلا معراجه ، وعلى آله الداعين إلى عذب المشرب وفراته ، الناهين عن ملحه وأجاجه.

معشر المؤمنين : جعلكم الله ممن استنارت بنور العقل قلوبهم ، وتجافت عن مضاجع الجهل جنوبهم ، إن قوما من الآخذين الدين بالعادات ، والجارين فيه على آثار الوالدين والوالدات ، زعموا أن شرائع الأنبياء عليهم السلام التي هي أسباب النجاة ، والطريق إلى دائم الحياة على غير العقل موضوعها. وفي سوى موقعه وقوعها فلو أنهم أنعموا

٥٠

النظر ، وجردوا من شوب العصبية والهوى الفكر ، لعلموا أن أحدهم لو قيل له في شيء من خاصة أعماله ، وما يصدر عنه من أقواله وأفعاله ، إن فعلك هذا على غير أساس العقل موضوعه ، ولا من مطالعه طلوعه ، لاستشاط من ذلك غضبا ، ولقام له مكذبا ، وفي مثل هذه المواجهة مستذنبا ، فكيف يرضون للأنبياء الذين هم سادات دينهم ، والوسائط بينهم وبين ربهم ما لو قابلهم بمثله مقابل لكرهوه ، أم كيف لا يعتبرون أن الخطاب في كتاب الله كله مع أولي الألباب بقوله الله تعالى : «فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) ، وما يجري مجراه مما كثر وتكرر ، وليس يخلو من كون هذه الأوضاع الشرعية ليس لها برهان من العقل عند الرسول عليه السلام ، الآتي بها نفسه أو كون البرهان عنده فلم يشعر به ، فإن كان لا برهان لها عنده فهو فحش ، فلو أن سائلا سأله عن العلة التي اقتضت أن يجعل الصلاة خمسا ، ولا يجعلها ستا ، فكان يقول لا أدري ، لكفاه طعنا أن يأتي بشيء لا يدري العلة فيه إذا سئل عنها ، وإن كان لها برهان عند نفسه عقلى ـ والبرهان مما يجمل الأقوال والأفعال ـ ثم لم يظهره فلم يقم إذن بحق البلاغ ، وهذا منتف عن الرسول عليه السلام ، لأنه بلغ وقال في النادي : «اللهم اشهد أني بلغت» وسوى هذا فمعلوم أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكلف تكليف الشريعة إلا ذا عقل ، فكيف يكلف ذا عقل ما كان موضوعه على غير عقل ، لأن ما كان موضوعه على غير عقل ، فهو بغير ذي عقل أولى منه بذي عقل ، وما السبب في تولية العقل أولا وعزله آخرا؟ ولما لا تكون التولية آخرا ككونها أولا ، أو العزل أولا ككونه آخرا؟ وهذا مما لا خفاء به على منصف.

والمعلوم أن الفلاسفة يدعون العلوم العقلية والأمور الحقيقية ، وأن المسلمين يكفرونهم مع ذلك ، لانقطاعهم عن سبب الرسالة ، وقولهم أنهم غنوا عن الأنبياء في معرفة معالم نجاتهم ، وأن الحاجة إليهم لسياسة أمور الدنيا فقط ، بتحصين الدماء والأموال ، ومنع القوي عن الضعيف.

٥١

واعتقاد المحققين أن العلوم كلها التي منها العقليات التي يدعونها في علوم الأنبياء اجتمعت ، ومنها تشعبت وتفرعت ، وتصديقهم قول الله سبحانه (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) وقوله جل جلاله (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) ، فلو أن أحد الفلاسفة قدم على الرسول عليه الصلاة والسلام ، يسأله عن الملائكة ، والعرش ، والكرسي ، والجنة ، والنار ، وأوضاع شريعته : من صلاتها ، وزكاتها ، وصومها ، وحجها ، وجهادها ، من حيث يدل عليه البرهان العقلي ، أكان يقول النبي صلى الله عليه وسلّم ، لا قبل لي ببرهان ذلك! حاشا لله .. و

قول آخر مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال «أول ما خلق الله تعالى العقل ، فقال له أقبل فأقبل ، ثم قال له أدبر فأدبر ، ثم قال : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أجل منك ، بك أثيب ، وبك أعاقب» .. فإن كانت الشرائع على غير العقل موضوعها ، فلا ثواب لها ولا عقاب على مقتضى الخبر ، «بك أثيب وبك أعاقب».

معشر المؤمنين : دعو أهل الفرقة والخلاف ، فإنهم أشياع غي بقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلّم : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) : وتمسكوا في دينكم بالأدلة ، واعرفوا المواقيت بالأهلة ، وأصلحوا أموالكم ، وطهروا سربالكم واحمدوا الله تعالى الذي فتح لكم إلى الحقائق أبصارا والناس عنها عمون ، وكشف لكم حجبا فأنتم في رياضها تتنعمون. واجروا في مضمار التائبين العابدين واستشعروا شعار الراكعين الساجدين. وكونوا دعاة إلى أئمتكم بحسن الأفعال صامتين وقوموا آناء الليل قانتين. جعلكم الله من الذين إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا ، وأوزعكم شكر عارفيه. إذ ألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا. والحمد لله القاهر سلطانه. الباهر برهانه. العظيم شانه. الواسع إحسانه. وصلى الله على محمد المنزل عليه فرقانه. المزلزل للشرك بنيانه. وعلى وصيه مستودع علمه وترجمانه علي بن أبي طالب بيده يد الحق. والناطق بلسانه لسانه. وعلى الأئمة من ذريته المحفوظة بهم حدود الدين وأركانه .. وسلم تسليما ، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

٥٢

ولقد أصيبت الحياة العقلية في مصر الإسلامية بكثير من الاضطراب والضعف في أواسط القرن الخامس الهجري كما يقول عنان ، أي منذ اضطربت شؤون الخلافة الفاطمية في عهد المستنصر بالله ، ونكبت مصر بالشدة العظمى ، وعانت عسف القحط والوباء أعواما طويلة (٤٤٦ ـ ٤٦٤ ه‍) ، وشغل المجتمع المصري حينا بما توالى عليه من الأرزاء والمحن ، وشغل الخلفاء ورجال الدولة بالتنازع على السلطان وتدبير الانقلابات السياسية العنيفة عن تعهد الحركة الفكرية ، وقترت الدولة على معاهد التعليم لنضوب مواردها ، وبددت خزائن الكتب أثناء الفتنة وكانت من أنفس وأعظم ما عرف العالم الإسلامي (١) .. وكان لهذا الاضطراب أثره في الأزهر ودار الحكمة فركدت حركة الدرس والتحصيل تبعا لركود الحياة العامة واضطراب الحياة الخاصة. وفي أواخر القرن الخامس في عصر أمير الجيوش بدر الجمالي المتغلب على الدولة (٤٦٥ ـ ٤٨٧ ه‍) وولده الأفضل شاهنشاه (٤٨٧ ـ ٥١٥ ه‍) عاد النظام والأمن والرخاء الى البلاد ، وانتظمت الحياة العامة ، واستعادت الحياة الفكرية نشاطها بما أسبغ عليها من الرعاية ، وما بذل للإنفاق على معاهد الدرس من الأموال والأرزاق.

ويقول عنان : كان نظام الحلقات العلمية وقت إنشاء الجامع الأزهر هو نظام الدراسة الممتازة في مصر الإسلامية وفي معظم الأقطار الإسلامية الأخرى ، وكان قوام الحياة الجامعية والفكرية في العالم الاسلامي .. وكان طبيعيا أن الأزهر حينما أتيح له أن يدخل هذا الميدان الدراسي ، أن تقوم الدراسة فيه وفقا لهذا النظام التقليدي المتوارث. ولم يك ثمة نظام آخر يمكن التفكير فيه في عصر لم تكن قد عرفت فيه المدارس بعد .. وهكذا بدأت الدراسة في الأزهر في حلقات علمية وأدبية ؛ واستمرت كذلك على مر العصور. وعقدت أول حلقة للدرس بالأزهر في صفر

__________________

(١) الخطط ج ٢ ص ٣٥٤.

٥٣

سنة ٣٦٥ ه‍ كما تقدم ، وعقدها قاضي القضاة علي بن النعمان وقرأ فيها مختصر أبيه في فقه آل البيت وهو الكتاب المسمى «الاقتصار» في جمع حافل أثبتت فيه أسماء الحاضرين. وفي سنة ٣٧٨ ه‍ أذن العزيز بالله لوزيره ابن كلس أن يعين بالأزهر جماعة من الفقهاء للدرس والقراءة ، وكانوا يعقدون «حلقاتهم» الدراسية بالجامع يوم الجمعة من بعد الصلاة إلى العصر ، وهم أول أساتذة أجريت عليهم من الدولة رواتب خاصة حسبما قدمنا. وفي هذين النصين القديمين ما يوضح لنا نظم الدراسة الأساسية بالأزهر ، وهي نظم كان قوامها الحلقة الدراسية ، فيجلس الأستاذ ليقرأ درسه في حلقة من تلاميذه والمستمعين اليه ، وتنظم الحلقات في الزمان والمكان طبقا للمواد التي تدرس ، ويجلس أستاذ المادة من فقه أو حديث أو تفسير أو نحو أو بيان أو منطق أو غيرها في المكان المخصص لذلك من أروقة الجامع أو أبهائه ، وأمامه للطلبة والمستمعون يصغون إليه ويناقشونه.

وكان الأزهر مذ بدأت فيه الدراسة مفتوح الباب لكل مسلم يقصد إليه الطلاب من مشارق الأرض ومغاربها ، وكان يضم بين طلبته دائما إلى جانب الطلاب المصريين عددا كبيرا من أبناء الأمم الاسلامية يتلقون الدراسة ، وتجري عليهم الأرزاق ، وتقيم كل جماعة منهم في مكان خاص بها. وهذا هو نظام الأروقة الشهير الذي نعتقد أنه بدأ في عصر مبكر جدا (١) ، والذي استمر قائما حتى العصر الأخير ، وما زالت منه إلى اليوم بقية بالجامع الأزهر. ومعظم سكان الأروقة الباقية اليوم من الطلبة الغرباء. ويذكر المقريزي أن عدد الطلبة الغرباء الذين كانوا يلازمون الإقامة بالأزهر في الأروقة الخاصة بهم في عصره ـ أعني في أوائل القرن التاسع ـ بلغ سبعمائة وخمسين ، ما بين «عجم وزيالعة ومن أهل ريف

__________________

(١) يستفاد من أقوال المقريزي أن نظام الأروقة قد بدأ بالأزهر منذ بناء الجامع ذاته (الخطط ج ٤ ص ٥٤)

٥٤

مصر ومغاربة» ، وهو رقم كبير يدل على ضخامة العدد الذي كان يضمه الأزهر بصفة عامة من طلاب مصر وطلاب الأمم الإسلامية المختلفة في تلك العصور.

أما مواد الدراسة بالأزهر في هذا العصر فلا ريب ـ كما يقول عنان ـ أن علوم الدين واللغة كانت في المقدمة دائما ، وكان للعلوم الدينية بنوع خاص أوفر قسط ، فعلوم القرآن والحديث والكلام والأصول والفقه على مختلف المذاهب ، وكذلك علوم اللغة من النحو والصرف والبلاغة ثم الأدب والتاريخ ، هذه كلها كانت زاهرة بالأزهر خلال العصور الوسطى.

وقد كانت الصبغة المذهبية تغلب كما رأينا على الدراسة بالأزهر ولا سيما في بادية عهدها ، ولم يك ذلك غريبا في ظل دولة كالدولة الفاطمية نتشح بثوبها المذهبي العميق وكان من الطبيعي أيضا أن تحتل علوم الشيعة وفقه آل البيت من حلقاته الدينية المقام الأول ، بيد أنه يمكن أن يقال من جهة أخرى إن هذه الصيغة المذهبية لم تكن دائما مطلقة ، ولم تكن دائما لزاما على الطلاب. ونحن نعرف أن الخلافة الفاطمية على الرغم من استمساكها بصبغتها المذهبية العميقة لم تستطع أن تحشد سواد الشعب المصري إلى جانبها في هذا المضمار ، ولم تحاول دائما أن تجري على سياسة الإرغام في طبعه بطابعها ، وفي فرض لونها المذهبي على عقائده ، بل نراها في أحيان كثيرة تلجأ في ذلك إلى سياسة الرفق والتسامح. ولنا في ذلك دليل في المرسوم الديني الذي أصدره الحاكم بأمر الله ـ وهو من غلاة الفاطميين ـ في سنة ٣٩٨ ه‍ (١٠٠٨ م) وفيه يقرر بعض الأحكام ويفسرها على أثر ما وقع بين الشيعة وأهل السنة من خلاف في فهمها ، ويحاول أن يوفق في ذلك بين المذاهب المختلفة ، وقد جاء فيه بعد الديباجة :

«يصوم الصائمون على حسابهم ويفطرون ، ولا يعارض أهل الرؤية فيما هم عليه صائمون ومفطرون ، صلاة الخميس للذين بما جاءهم فيها

٥٥

يصلون ، وصلاة الضحى وصلاة التراويح لا مانع لهم منها ولا هم عنها يدفعون ، يخمس في التكبير على الجنائز المخمسون ، ولا يمنع من التكبير عليها المربعون ، يؤذن بحي على خير العمل المؤذنون ولا يؤذى من بها لا يؤذنون ، لا يسب أحد من السلف ولا يحتسب على الواصف فيهم بما يوصف والخالف فيهم بما خلف ، لكل مسلم مجتهد في دينه اجتهاده ، وإلى الله ربه ميعاده ، وعنده كتابه وعليه حسابه. ليكن عباد الله على مثل هذا عملكم منذ اليوم ، لا يستعلى مسلم على مسلم بما اعتقده ، ولا يعترض معترض على صاحبه فيما اعتمد ، من جميع ما نصه أمير المؤمنين في سجله هذا ، وبعده قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(١).

وكانت الدراسة في دار الحكمة ذاتها وهي الجامعة الفاطمية المذهبية حرة تدرس فيها علوم السنة إلى جانب علوم الشيعة ، وقد تحررت كثيرا من صبغتها المذهبية حينما أعيدت بعد إغلاقها في عهد الخليفة الآمر بأحكام الله ، فمن الواضح إذا أن الدراسة بالأزهر كانت حتى في الوقت الذي يشتد فيه تيار الدعوة المذهبية تحظى دائما بقسط من الحرية يزيد أو ينقص وفقا للظروف والأحوال. وكانت دار الحكمة تستأثر بعد ذلك بتدريس العلوم الدينية. بيد أن هذه الصبغة المذهبية خفت وطأتها .. وأخذ الأزهر بنصيبه من العلوم بجانب الدين.

هذا وأما عن الكتب الدراسية التي كانت تدرس بالأزهر في العصر الفاطمي ، فليس لدينا أيضا سوى إشارات موجزة جدا وأول كتاب درس بالأزهر هو كتاب «الاقتصار» الذي وضعه أبو حنيفة النعمان بن محمد القيرواني قاضي المعز لدين الله في فقه آل البيت ، وكان يتولى قراءته وتدريسه بالأزهر ولده أبو الحسين علي بن النعمان كما قدمنا. واستمر في

__________________

(١) راجع نص هذا المرسوم بأكمله في ابن خلدون ج ٤ ص ٦٠

٥٦

قراءته مدى حين على يد بني النعمان الدين تعاقبوا في قضاء مصر حتى نهاية القرن الرابع. وكان للنعمان القيرواني كتب أخرى في فقه الإمامية (الشيعة) ذكر ابن زولاق مؤرخ المعز لدين الله أسماءها وهي كتاب «دعائم الإسلام» ، الذي عنى بتدريسه في الأزهر فيما بعد عناية خاصة ، وكتاب «اختلاف أصول المذاهب» وكتاب «الأخبار» وكتاب اختلاف الفقهاء» ومن المرجح أنها كانت تقرأ أو تدرس بالأزهر إلى جانب كتاب «الاقتصار» حتى أواخر القرن الرابع (١).

وقد انتهى إلينا بعض هذه المؤلفات الشيعية التي افتتحت بها الدعوة إلى دراسة فقه الإمامية بمصر. ويوجد بدار الكتب المصرية نسخة مصورة من المجلد الأول من كتاب «دعائم الإسلام» ، وعنوانه الكامل «دعائم الإسلام في الحلال والحرام والقضايا والأحكام ، من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله». ويقول النعمان القيرواني في ديباجته : «إنه لما اضطربت الأحكام واختلفت المذاهب وانقلبت أوضاعها ، رأى عملا بقول رسول الله : «إذا ظهرت البدع في أمتي فليظهر العالم علمه» أن يضع كتابا جامعا مختصرا بما جاء عن الأئمة من أهل بيت رسول الله ، من جملة ما اختلف فيه الرواة عنهم في دعائم الإسلام ، وذكر الحلال والحرام ، والقضايا والأحكام ، وهذه الدعائم حسبما ورد عن الإمام جعفر ابن محمد الصادق هي «الولاية والطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد» ، وهي الموضوعات التي يتناولها المجلد الأول من الكتاب.

وتوجد بدار الكتب نسخة مصورة قديمة من كتاب «الأخبار» أو «شرح الأخبار» ، وقد ذكر النعمان القيراني موضوعه وطريقة تأليفه في مقدمته فيما يأتي ، «آثرت منه الأخبار وجمعت منه الآثار في فضل الأئمة الأبرار حسبما وجدته ؛ وغاية ما أمكنني واستطعته ؛ فصححت ما بسطته في كتابي هذا وألفته ، بأن عرضته على ولي الأمر وصاحب الزمان

__________________

(١) ابن خلكان ج ٢ ص ٣١٩

٥٧

والعصر ، مولاي المعز لدين الله أمير المؤمنين عليه السلام وعلى سلفه وخلفه ، وأثبت منه ما أثبته وصح عنده وعرفه وأثره عن الأئمة الطاهرين وأجاز لي سماعه منه ، وبأن أرويه لمن يأخذه عني وعنه عليه السلام ، فبسطت في هذا الكتاب ما أثبته وأجازه وعرفه ، وأسقطت ما أنكره من ذلك ، وذلك مما نسبه إلى أهل الحق المبطلون وحرف من قولهم المحرفون».

ثم قرىء بالأزهر كتاب ألفه الوزير ابن كلس في الفقه الشيعي على مذهب الإسماعيلية مما سمعه في ذلك من المعز لدين الله والعزيز بالله ، وهو المعروف بالرسالة الوزيرية ؛ وكان يجلس لقراءته وتدريسه بنفسه حسبما قدمنا. وأفتى الناس بما فيه (١).

فالكتب الأولى التي قررت للتدريس بالأزهر هي كتب اشتقت من المصادر المذهبية الرسمية أعني من أولياء الخلافة الفاطمية ذاتها ، وكان لها صبغة رسمية واضحة. وكان التدريس بالأزهر يجري يومئذ على مذهب الشيعة بصفة رسمية. وشدد في ذلك بادىء ذي بدء حتى إنه في سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة في عهد العزيز بالله ، قبض على رجل وجد عنده كتاب «الموطأ» للإمام مالك. وجلد من أجل إحرازه (٢).

وفي سنة ست عشرة وأربعمائة ، أمر الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله ولد الحاكم بأمر الله بأن يدرس الدعاة للناس كتاب «دعائم الإسلام» وكتاب «مختصر الوزير» ورتب لمن يحفظهما مالا (٣) والدعاة هم أساتذة دار الحكمة وقد كانوا يجلسون للتدريس بالجامع الأزهر في أحيان كثيرة (٤) وقد عرفنا موضوع كتاب «دعائم الإسلام» وعرفنا مؤلفه. أما «مختصر

__________________

(١) راجع الاشارة الى من نال الوزارة لابن الصيرفي في ص ٢٣ ، وابن خلكان ج ٢ ص ٤٤١ ، والخطط ج ٤ ص ١٥٧

(٢) الخطط ج ٤ ١٥٧.

(٣) الخطط ج ٢ ص ١٦٩

(٤) الخطط ج ٣ ص ٢٢٦ ، تاريخ ابن ميسر ص ٦٤.

٥٨

الوزير» فيلوح لنا أنه هو مؤلف ابن كلس أعني «الرسالة الوزيرية».

والمرجح أن كثيرا من الكتب الفقهية التي كانت تدرس بدار الحكمة كانت تدرس أيضا بالأزهر كما يقول عنان ، وإن كنا لم نعثر على نصوص أو بيانات أخرى تلقي ضوءا على أنواع الكتب التي كانت تدرس بالأزهر في هذا العصر في العلوم الأخرى. وكانت تشمل مصنفات أعلام الأساتذة المعاصرين الذين انتهت إليهم الرياسة في بعض العلوم أو الذين تولوا التدريس بالأزهر يومئذ ، مثل العلامة أبي الحسن علي بن إبراهيم الحوفي إمام العربية والنحو وصاحب كتاب إعراب القرآن وابن بابشاذ النحوي صاحب كتاب «المقدمة» «وشرح الجمل» ، وابن القطاع اللغوي صاحب كتاب «الافعال» ، وأبي محمد عبد الله بن بري المصري إمام اللغة في عصره ، وأبي العباس أحمد بن هاشم المحدث والمقرىء ، وأبي القاسم الرعيني الشاطي إمام القراءات وصاحب القصيدة الشهيرة في علم القراءات «حرز الأماني ووجه التهاني» (١) ، وغيرهم ممن انتهت إليهم الرياسة في هذا العصر ، واعتبرت مصنفاتهم متونا ومراجع. بل لقد لبثت مصنفات بعض أولئك الأئمة تدرس بالأزهر حتى العصر الأخير مثل قصيدة الشاطبي في القراءات.

على أن كثيرا من الكتب التي ألفت ودرست في هذا العهد ، قد دثر بانتهاء الدولة الفاطمية وحرص الدولة الأيوبية التي خلفتها ، على محو رسومها وآثارها.

هذا وقد عنيت الدولة الفاطمية عناية خاصة باقتناء الكتب وإنشاء المكتبات العظيمة ، وكان بالقصر الفاطمي مكتبة جامعة يفيض المؤرخون كما يقول عنان في وصف عظمتها ونفاسة محتوياتها ، وكان بها ما يزيد على مائتي ألف مجلد في سائر العلوم والفنون ، في الفقه والحديث واللغة

__________________

(١) توفي الحوفي سنة ٤٣٠ ه‍ وابن بابشاذ سنة ٤٦٩ ه‍ وابن القطاع سنة ٥١٥ ه‍ وابن بري سنة ٤٩٩ ه‍ وابن هاشم سنة ٤٤٥ ه‍. والشاطبي سنة ٥٩٠ ه‍.

٥٩

والتاريخ والأدب والطب والكيمياء والفلك وغيرها. وقال ابن أبي طي بعد ما ذكر استيلاء صلاح الدين على القصر «ومن جملة ما باعوه خزانة الكتب ، وكانت من عجائب الدنيا ، ويقال إنه لم يكن في جميع بلاد الإسلام دار كتب أعظم من التي كانت بالقاهرة في القصر» (١). وكان بدار الحكمة مكتبة أخرى يرجع إليها الأساتذة والطلاب ، وبها عدد كبير من الكتب الفلسفية والرياضية والروحانية وغيرها مما يتصل بدروس الحكمة (٢).

وكانت في الواقع خلفا لمكتبة الاسكندرية الشهيرة. وكان للجامع الأزهر مكتبة خاصة به ، وكانت المساجد الجامعة تزود في هذه العصور بمجموعات من الكتب ولا سيما كتب الحديث والفقه. ولكن يوجد ثمة ما يدل على أن الأزهر كان له من خزائن الكتب نصيب حسن ، وكانت له مكتبة كبيرة ذات أهمية خاصة ، فإن ابن ميسر يقول في أخبار سنة ٥١٧ ه‍ إنه قد أسند إلى داعي الدعاة أبي الفخر صالح منصب الخطابة بالجامع الأزهر مع خزانة الكتب (٣) ؛ وإسناد الإشراف على خزانة الكتب إلى داعي الدعاة ، وهو أكبر رئيس ديني بعد قاضي القضاة ، دليل على قيمتها وأهميتها.

وكان في مقدمة الأساتذة المدرسين في الأزهر بنو النعمان قضاة مصر ، فكان القاضي أبو الحسن علي بن النعمان أول من درس بالأزهر ، وكان فوق تضلعه في فقه آل البيت أديبا شاعرا ، وتوفي سنة ٣٧٤ ه‍ ، ودرس بالأزهر أيضا أخوه القاضي محمد بن النعمان المتوفى سنة ٣٨٩ ه‍ ، ثم

__________________

(١) الخطط ج ٢ ص ٢٥٣ ـ ٢٥٥. ولعله لم يفق المكتبة الفاطمية في ضخامتها سوى مكتبة قرطبة الشهيرة التي بلغت ذروتها في عهد الحكم المستنصر بالله. وقدر ما بها يومئذ من الكتب بستمائة ألف مجلد.

(٢) الخطط ج ٢ ص ٢٥٤ ، و٣٣٤.

(٣) أخبار مصر لابن ميسر ص ٦٤

٦٠