الأزهر في ألف عام - ج ١

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي

الأزهر في ألف عام - ج ١

المؤلف:

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٦

١

٢

٣
٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

آراء المفكرين في الأزهر

كتب عباس محمود العقاد عن الأزهر :

«يكفي تاريخ كل فترة من حياة هذا المعهد الخالد للتعريف بوظيفته التي استقر عليها ، وبيان مكانته التي تبوأها من الأمة في أيام خضوعها لسلطان الدخلاء الواغلين عليها ، فقد تقرر بحكم العرف والتقليد وحكم العقيدة والسمعة أنه صوت الأمة الذي يسمعه الحاكم الدخيل من المحكومين. وأنه ملاذ القوة الروحية في نفوس أبناء الأمة وفي نفوس الحاكمين الذين يدينون بعقيدتها ..»

وكتب دائرة معارف كوليرز «Colliers» :

... ويفد إلى الأزهر الألوف من دول العالم الإسلامي ويعتبر أقدم جامعة في العالم تدرس علوم القرآن والشريعة مع العلوم التطبيقية والأكاديمية.

وقال د. ثروت عكاشة وزير الثقافة في مصر في الندوة الدولية للعيد الألفي للقاهرة المنعقدة في مارس ١٩٦٩.

ولقد هيىء لهذه المدينة منذ إنشائها أن تقوم فيها أقدم جامعة في العالم وهي جامعة الأزهر التي كانت منذ إنشائها منهلا للثقافة الدينية ، مكنت القاهرة بذلك أن تحمي لواء الثقافة الدينية بين شعوب العالم الإسلامي. كما كانت تلك الجامعة الأزهرية مشعلا للفكر. فأيقظت

٥

الرأي وأنارت الطريق أمام المفكرين. وكذلك كانت المنبعث للنهضة العربية في القرن الماضي. وأصبحت كعبة للقاصدين في الشرق والغرب.

ثم قال : إن مما زاد من شأنها وقوعها في منطقة بين بحرين وبين قارتين ولقد مكن لها هذا الموقع أن تصبح حاضرة من حواضر العالم منذ زمن قديم وأن تتجمع فيها ثقافات فرعونية وأغريقية ولاتينية وبيزنطية وإسلامية ومسيحية. فاكتسبت بهذا مكانة ومنزلة على مر السنين.

يقول الدكتور بيير دودج P.Dodge في كتابه عن «الأزهر» :

«إن الأزهر ظاهرة ظهرت مع الزمن شيئا فشيئا ، عشرة قرون قام فيها حارسا أمينا على الدين الاسلامي وعلى اللغة العربية» :

وكتب الشيخ علي الطنطاوي من علماء سوريا :

«أولئكم علماء الأزهر ، وهل في الدنيا معهد علم له قدم الأزهر ، وعظمة الأزهر ، وأثر الأزهر في الفكر البشري وفي الحضارة الإنسانية؟

أي معهد يجر وراءه أمجاد الف سنة؟ فالأزهر درة الدهر تكسرت على جدرانه أمواج القرون وهو قائم ..»

وكتب الدكتور احمد زكي :

«إني أدعو كل مفكر أن يفكر في الأزهر ، وكل كاتب أن يكتب في الأزهر مدرسة الإسلام الكبرى ، ليتحقق للأزهر ما يبتغيه وما ينبغي له على ضوء من الفكر هاد إن شاء الله».

وكتبت دائرة معارف القرن العشرين : إن الجامع الأزهر هو أقدم جامعة علمية في العالم ، ويعتبر مركزا لنشر علوم القرآن عبر التاريخ.

٦

تصدير

الأزهر هو النشيد الإسلامي الخالد ، الذي تردده الأجيال ، وتتناقله الألسن من جيل إلى جيل ، على مر العصور ..

والجامع الأزهر هو الدعامة الأولى التي استطاع الفاطميون من ألف سنة أن يحققوا بها أهدافهم الدينية والسياسية ، وأن يهيمنوا بها على الشعوب الاسلامية ؛ ولا يزال المحراب الرابع الذي يقدسه ويجله المسلمون كافة ، في مشارق الأرض ومغاربها.

والجامعة الأزهرية هي أقدم وأعرق الجامعات العلمية في العالم كله حتى اليوم.

وإن هذا التاريخ الخالد ، والتراث العظيم ، والمشاركة الجبارة ، للأزهر الشريف ، في الحياة المصرية والإسلامية عامة .. لهي الدافع الأكبر لنا على إخراج هذا التاريخ الحافل للأزهر ، في ذكرى بنائه الألفية.

وإنه لمن دواعي الفخر للأزهر الشريف أن ينظر إليه المسلمون كافة خلال العشرة القرون الماضية ، نظرة مملوءة بالإكبار والإجلال ، وأن يعتبروه كعبتهم الثانية التي استبدت بشرف المحافظة على التراث الإسلامي المجيد.

٧

وفي هذه الدراسة تأريخ لحياة هذه الجامعة العريقة ، من شتى جوانبها الروحية والعقلية والعلمية والتاريخية .. والله ولي التوفيق ، وواهب السداد ، وما توفيقي إلا بالله ..

المؤلف

٨

المقدّمة

الأزهر في مقدمة الجامعات العلمية التي سارت مع التاريخ أجيالا طوالا ، فهو أطولها عمرا ، وأجلها أثرا في تاريخ الفكر العربي والإسلامي ؛ وإن ألف سنة أو تزيد ، قضاها الأزهر الجامعي ، وشاهد أحداثها الضخمة ، واشترك فيها في هذه الأحداث مؤثرا وموجها وبانيا ؛ لتاريخ ممعن في الطول ، لا يمكن استيعاب حياة جامعة علمية لم تدون أخبارها فيه ، إلا بمشقة وعسر وجهد وإرهاق شديد .. ولم تعمر في الشرق جامعات علمية غير الأزهر في القاهرة ، والزيتونة في تونس .. ولكن الأزهر ينفرد بضخامة ما أحدث من آثار في تاريخ العرب والمسلمين ، من شتى النواحي الروحية والثقافية والفكرية والسياسية والقومية والاجتماعية ، بل والاقتصادية كذلك.

والأزهر ـ طول عصور التاريخ ـ حارس التراث العربي ، ومجدد الثقافة الإسلامية ، والمشعل الذي يضيء ولا يخبو ، والملاذ الذي تهوي إليه أفئدة المسلمين من كل مكان ، والضوء ينير لهم الطريق ، ويبصرهم سواء السبيل ... والأزهر اليوم يتدثر برداء هذا المجد الخالد ، وذلك التاريخ القديم المجيد ، وإن كان قد أصبح وئيد الأثر والتأثير في حياة الناس ، في المادية المظلمة التي يعش فيها عصرنا الحاضر ، وسار وراء المتنافسين في ميدان التجديد والابتكار واليقظة الفكرية ، وقيدته أغلال ثقيلة من الركود وفقدان الحيوية ، وأساءت إلى سمعته بين الناس التيارات

٩

السياسية التي كانت تدخل في العصور السابقة إلى أروقته ومحاريبه ومعاهده ، هدامة ، قاطعة ما بين الأزهر والناس من أسباب ، واستغلال بعض الناس له ، حفاظا على منصب ، أو تملقا لذي سلطان.

ولكن الأزهر ـ مع ما انتابه في بعض الأحايين من الحيرة والتردد ـ يسير اليوم منطلقا إلى غاياته وأهدافه ومثله ، يتطلع في نظرة الواثق إلى المستقبل ، ويحتقر هؤلاء المترددين والحائرين والمعوقين ، وتنظر مئذنته الشماء في سخرية وإشفاق واحتقار ، إلى الذين يحاولون أن يبنوا وأن يهدموا ، فلا يستطيعون هدما ولا بناء.

والأزهر اليوم يأبى النوم والحياة حوله صاخبة مضطربة متحركة ، وهو يكره اللهو وقد خلقه الله وخلق الحياة للعمل والجد والحيوية والنشاط.

وإذا كانت أول خطوة لفهم الإنسان لنفسه ولرسالته في الحياة هي أن يعرف تاريخه ، ويعي ماضيه ، ويدرس ما يتصل به من مقومات وخصائص وتراث ، فإن هذا الكتاب لمما يساعد على هذه الدراسة وتلك المعرفة وهذا الوعي ؛ التي هي العنصر الأول في البعث واليقظة والإحياء (١) .. وإني لأقدمه إلى القارىء ، معتزا بأني أقدم له ثمرة مجهود شاق ، وبتوفيق الله الذي لا ينساني ، وما توفيقي إلا بالله ...

المؤلف

__________________

(١) راجع كتابات لي عن الأزهر في :

ـ ص ١٤٧ قصص من التاريخ ـ للمؤلف : قصة الأزهر الجامعي بعد عشرين عاما.

ـ ص ٥٠ نداء الحياة ـ للمؤلف : الأزهر الخالد.

ـ ص ٥٨ نداء الحياة ـ للمؤلف : الأزهر العظيم.

ـ ص ٦٥ نداء الحياة ـ للمؤلف : رسالة الأزهر في القرن العشرين.

ـ ص ٥٥ فصول من الثقافة المعاصرة ـ رسالة الأزهر في النصف الثاني من القرن العشرين.

١٠

الباب الأوّل

الأزهر خلاك التاريخ

١١
١٢

الفصل الأوّل

مصر الإسلاميّة قبل إنشاء الأزهر

ـ ١ ـ

فتحت مصر في عهد عمر بن الخطاب عام ١٨ ه‍ على يد عمرو بن العاص ، وبنى بها مسجده الجامع المعروف اليوم باسم «جامع عمرو بن العاص» عام ٢١ ه‍ (١) ، واختط الجيزة في هذه السنة أيضا ، كما اختط مدينة الفسطاط حول مسجده الجامع ، واتخذها عاصمة مصر ، وحفر خليج أمير المؤمنين الموصل للنيل بالبحر الأحمر (٢).

ووفد كثير من القبائل العربية على مصر زرافات ووحدانا ، وأقاموا بها ، وذاعت اللغة العربية بين أهليها ، بسبب اتصال العرب بأهل مصر واختلاطهم بهم.

وقد استقر بمصر كثير من الصحابة (٣) ومشاهير التابعين (٤) وأتباع التابعين (٥) ، ونشأت بها طبقة من المجتهدين كالليث بن سعد المتوفى (٦)

__________________

(١) ١٣٣ ج ٢ حسن المحاضرة.

(٢) راجع الجزء الأول من حسن المحاضرة للسيوطي.

(٣) راجع ٧٢ ج ١ حسن المحاضرة وما بعدها

(٤) راجع ١٠٥ ج ١ حسن المحاضرة وما بعدها

(٥) راجع ١١٢ ج ١ حسن المحاضرة وما بعدها

(٦) راجع ج ١ ١٢٠ حسن المحاضرة وما بعدها

١٣

عام ١٧٥ ه‍ ، وهاجر اليها الإمام الشافعي (١) المتوفى عام ٢٠٤ ه‍ ، وخلفه البويطي المصري المتوفى عام ٢٣١ ه‍ (٢).

وقد نمت الحركة العلمية في الفسطاط ، وكثرت الحلقات في مسجد عمرو الذي كان مركزا علميا لنشر الدين الإسلامي وتعاليمه السمحة ..

وكبرت هذه الحركة العلمية واتسعت ، ونمت وازدهرت ، وأم هذا المسجد الجامع كثير من العلماء الأعلام ، والأئمة المجتهدين ، ممن أفادوا العالم الإسلامي ، وأدوا له خدمة صادقة في ميادين الدين والشريعة ، واللغة والعلوم .. وأشهر هؤلاء : عبد الله بن عمرو بن العاص ، وعبد الله بن لهيعة ، ثم الليث بن سعد .. وقد كان للإمام محمد بن إدريس الشافعي بمسجد عمرو زاوية يدرس فيها مذهبه ، ويدون آراءه ، وعلى يديه تخرج كثير من العلماء الفضلاء الذين دونوا مذهبه ، ونشروا علمه : كالربيع بن سليمان ، والمازني ، والبويطي ، وغيرهم .. وكان أبو تمام يسقي الماء في جامع عمرو ، وفيه كانت دراسته الأولى.

وقد انتشر المذهب الشافعي في مصر على يدي الشافعي وتلاميذه ، ومن قبل كانت السيادة للمذهب المالكي ، الذي كان أول من أدخله إلى مصر عثمان بن الحكم الجذامي (٣) المتوفى عام ١٦٣ ه‍. كما كان أول محاولة لنشر المذهب الحنفي فيها على يد القاضي إسماعيل بن سميع الكندي (٤) ، الذي ولاه العباسيون قضاء مصر عام ١٦٤ ه‍ ، فعمل على نشر مذهب أبي حنيفة فيها ، وكرهه المصريون من أجل ذلك كرها شديدا.

ويذكر السيوطي في كتابه حسن المحاضرة كثيرا ممن كانوا بمصر من

__________________

(١) راجع ج ١٢١ ج ١ حسن المحاضرة وما بعدها ، ١٣٨ ج ١ ابن خلكان.

(٢) راجع ١٢٣ ج ١ حسن المحاضرة وما بعدها.

(٣) ١٩٠ ج ١ حسن المحاضرة.

(٤) ١٩٦ ج ١ المرجع

١٤

حفاظ الحديث ونقاده (١) ، ومن المحدثين الذين لم يبلغوا درجة الحفظ (٢) ، كما يذكر من كان بها من الفقهاء الشافعية (٣) والمالكية (٤) والحنفية (٥) .. أما الحنابلة فكانوا قليلين فيها ، ولم يسمع السيوطي كما يقول بخبرهم إلا في القرن السابع وما بعده (٦) .. كما يذكر من كان بها من أئمة القراءات (٧) ، ومن الصلحاء والزهاد والصوفية (٨) وأئمة النحو واللغة (٩) ، وأرباب المعقولات وعلوم الأوائل والحكماء والأطباء والمنجمين (١٠) ، وقد ظل التدريس في الجامع العتيق عامر الحلقات مدة طويلة.

خضعت مصر ـ أول ما خضعت للحكم لإسلامي ـ للخلفاء الراشدين ، ثم لدولة بني أمية ، ثم لدولة بني العباس ، وكان يختار لها ولاة يثق بهم الخلفاء

ـ ٢ ـ

واستقل بمصر أحمد بن طولون وكان قد ولي الحكم فيها سنة ٢٥٣ ه‍ ، ثم أضيفت إليه نيابة الشام والعواصم والثغور وإفريقية ، فأقام بها مدة طويلة ، وبنى جامعه المشهور ، وكان ميلاده في بغداد عام ٢١٤ وكان أبوه طولون من الأتراك الذين أهداهم نوح السماني عامل بخاري إلى المأمون.

__________________

(١) ١٤٥ وما بعدها ج ١ حسن المحاضرة

(٢) ١٥٥ وما بعدها ج ١ حسن المحاضرة

(٣) ١٦٧ وما بعدها ج ١ حسن المحاضرة

(٤) ١٩٠ وما بعدها ج ١ حسن المحاضرة

(٥) ١٩٧ وما بعدها ج ١ حسن المحاضرة

(٦) ٢٠٥ وما بعدها ج ١ حسن المحاضرة

(٧) ٢٠٧ وما بعدها ج ١ حسن المحاضرة

(٨) ٢١٨ وما بعدها ج ١ حسن المحاضرة

(٩) ٢٢٨ وما بعدها ج ١ حسن المحاضرة

(١٠) ٢٣٢ ج ١ حسن المحاضرة وما بعدها

١٥

واستمر ابن طولون أميرا على مصر حتى مات بها عام ٢٧٠ ه‍ (١) ، وولي بعده ابنه أبو الجيش خمارويه ، وظل أميرا على مصر حتى قتل عام ٢٨٢ ه‍ ، وولي بعده ابنه «جيش» فأقام تسعة أشهر قتل بعدها ، وخلفه أخوه هارون بن خمارويه الذي ظل أميرا على مصر حتى قتل عام ٢٩٢ ه‍ ، وولى عمه أبو المغانم شيبان ، فورد من قبل المكتفي بعد اثني عشر يوما من ولايته محمد بن سليمان الواثقي الذي سلم إليه شيبان الأمر ، واستصفى أموال آل طولون ، وانقضت الدولة الطولونية ، وامحت أيامها من تاريخ مصر السياسي.

كان من البدهي أن تكون عاصمة الملك في أيام الدولة الطولونية هي مدينة أحمد بن طولون ، وأصبح مسجده المشهور محط الرحال ، ومجلس العلماء ، ومستقرا للحلقات العلمية الكثيرة التي تدرس فيها علوم الدين واللغة والأدب .. وظهر في مصر وفي حلقات مسجد أحمد بن طولون كثير من العلماء والأئمة والأدباء والشعراء.

ومع ذلك فقد ظل «مسجد عمرو» يؤدي رسالته بجانب المسجد الطولوني الكبير ، بل ظل إلى أمد قريب يعج بالحلقات والعلماء ، حتى لبروى أنه كان فيه قبل عام ٧٤٩ ه‍ بضع وأربعون حلقة ، لإقراء العلم لا تكاد تبرح منه (٢).

أسس جامع ابن طولون (٢) عام ٢٦٣ ه‍ ، في مدينة أحمد بن طولون التي سماها «القطائع» ، وفرغ من بنائه عام ٢٦٦ ه‍. وصلى فيه القاضي بكار إماما وخطب فيه أبو يعقوب البلخي ، وأملى فيه الحديث الربيع بن سليمان تلميذ الإمام الشافعي (٣) ، وظلت الحلقات العلمية فيه إلى أمد بعيد ، فكانت فيه دروس للتفسير والحديث والفقه على

__________________

(١) راجع ٩ و١٠ ج ٢ حسن المحاضرة.

(٢) ١٣٦ ج ٢ حسن المحاضرة طبعة القاهرة ١٣٢٧

(٣) ١٣٧ ج ٢ المرجع السابق

١٦

المذاهب الأربعة ، والقراءات والطب والميقات (١) .. وكان أعمر ما يكون في دولة بني طولون.

ـ ٣ ـ

وفي عام ٣٢١ ه‍ ولي على مصر من قبل خلفاء بني العباس محمد ابن طغج الإخشيدي الذي أقام الدولة الإخشيدية في مصر والشام ، ومات في ذي الحجة عام ٣٣٤ ه‍ ، وخلفه ابنه أبو القاسم أنوجور وكان صغيرا ، فأقيم أستاذه كافور الإخشيدي وصيا عليه ، وحكم المملكة باسمه ، ومات أنوجور عام ٣٤٩ ه‍ ، فقام أخوه على مقامه حتى مات عام ٣٥٥ ه‍ ، فاستقرت المملكة باسم كافور ودعي له على المنابر في مصر والشام ، ومات عام ٣٥٧ ه‍ ، فولى المصريون بعده أبا الفوارس أحمد بن علي بن الإخشيد ، فأقام شهورا حتى فتح الفاطميون مصر ، وانتزعها جوهر الصقلي منه عام ٣٥٨ ه‍.

وفي عهد الدولة الإخشيدية ظل المسجد العتيق ومسجد أحمد بن طولون يؤديان رسالتهما العلمية.

كانت الحلقات العلمية في هذين المسجدين حافلة بالعلماء والمتعلمين ، وكانت تعقد حلقات خاصة في منازل أكابر العلماء والفقهاء ، حيث كانوا يجتمعون بتلامذتهم ، يقرأون ويدرسون بعض شروح الفقه الإسلامي ، وبعض كتب العبادات والتصوف واللغة والأدب ، ومن ذلك حلقة ببيت عبد الله بن الحكم الفقيه المالكي وولديه عبد الرحمن ومحمد ، وكانوا من أنبغ الفقهاء المحدثين حتى أوائل القرن الثالث ... وهذه الأسرة هي التي أكرمت وفادة الإمام الشافعي في مصر .. وفي القرن الرابع كان العلماء في المسجد العتيق والمسجد الطولوني عديدين ، وكان من أشهرهم : أبو القاسم بن قديد ، وتلميده الكندي صاحب الكتاب

__________________

(١) ١٣٨ ج ٢ المرجع السابق.

١٧

المشهور في تاريخ ولاة مصر وقضاتها ، وأبو القاسم بن طباطبا الحسني الشاعر .. وكانت مجالس الدراسة والحلقات الأدبية الخاصة من تقاليد الحياة المصرية العالية ، وشجع الإخشيدي وخلفاؤه العلوم والآداب ودراسة الشريعة ، وكانت حلقة المتنبي الذي وفد إلى مصر عام ٣٤٦ ه‍ ـ ٥٩٧ م من أحفل مجالس الأدب والشعر والنقد.

ولقد كانت السيدة نفيسة بنت سيدى حسن الأنور تعتكف بمسجد عمرو.

١٨

الفصل الثاني

مصر في ظلاك الدولة الفاطميّة

تمهيد :

إن شيعة علي كرم الله وجهه بعد قتل علي ظلت تتوارث الدعوة إلى خلافة آل البيت ، لإعادة الملك والخلافة للعلويين ، وزعم الكثير منهم أن الخلافة لم تصح ولن تصح لغير أهل البيت من أولاد علي .. ولما عجز العلويون عن الاستحواذ على السلطة من طريق السياسة والقوة ، لقتل من خرج من أئمتهم ، التمسوها من طريق الدين ، فقالوا : إن الله لا يترك خلقه بدون إمام حق ، واعتقدوا أن ذلك الإمام هو المهدي المنتظر ، الذي يبيد المغتصبين ، ويحيي مجد بيت رسول الله.

بدء الدعوة للفاطمية :

في عام ٢٨٠ ه‍ ـ ٨٩٣ م ذهب أحد دعاة الشيعة ، واسمه «أبو عبد الله الشيعي» إلى بلاد البربر بشمالي إفريقية ، داعيا لعبيد الله بن محمد من نسل جعفر الصادق ، فنجح في دعوته «وطرد الأمير الأغلبي الحاكم لتلك البلاد التابع للدولة العباسية ، وذلك عام ٢٩٦ ه‍ ـ ٩٠٨ م ، وأعلن أن الخليفة الحقيقي للمسلمين ورئيس دينهم المنتظر هو إمامه «عبيد الله» الملقب بالمهدي ، من نسل فاطمة بنت رسول الله ، ولذلك سميت سلالته بالفاطميين.

١٩

قيام الدولة الفاطمية :

حضر عبيد الله إلى بلاد المغرب ، وظل ملكا عليها مدة كبيرة (٢٩٧ ـ ٣٢٢ ه‍ : ٩١٠ ـ ٩٣٤ م) ، كان الأمر فيها كله بيده ، وأخضع قبائل العرب ، والبربر ، ودان له الحاكم المسلم الوالي على جزيرة صقلية ، وجاهد في سبيل نشر الدين ومحاربة البدع في تلك البلاد ، وكان من أكبر أمانيه فتح مصر ، فأرسل لغزوها ثلاثة جيوش : اثنين منها بقيادة ابنه «أبي القاسم» فحال دون نجاحه عدة أمور ، منها مجاعة في المغرب حدثت عام ٣١٦ ه‍ ، ووباء فشا في أحد هذه الجيوش ، وفتكت عدواه بأهل المغرب .. وشغل عبد الله بالأمور الداخلية باقي حياته.

وفي عام ٣٢٢ ه‍ ـ ٩٣٤ م خلفه ابنه الأكبر «القائم بأمر الله أبو القاسم محمد» ، فبذل غاية همته في توسيع نطاق ملكه ، وأرسل أسطولا أغار على شواطىء إيطاليا وفرنسا والأندلس ، وأرسل جيشا إلى مصر هزمه الإخشيد ، ووطد ملكه في شمال إفريقية.

وخلفه «المنصور إسماعيل» سنة ٣٣٣ ه‍ ـ ٩٤٥ م ، فسار في الملك سيرة أبيه نحو سبع سنوات.

ولما مات خلفه ابنه «المعز لدين الله أبو تميم معد» سنة ٣٤١ ه‍ ـ ٩٥٣ م ، فكانت أيامه مبدأ عصر جديد في تاريخ الفاطميين ، وكان مثقفا ثقافة عالية ، سياسيا داهية ، وطد ملكه في بلاد المغرب ، فدانت له جميع رؤساء القبائل المغربية ، وخضعت له مراكش بأكملها حتى شواطىء المحيط الأطلسي .. ثم صرف همه لفتح مصر ، فحفر الآبار ، وبنى أماكن للاستراحة في الطريق الموصل إليها ، وكانت مصر وقتئذ في اضطراب لحقها عقب وفاة كافور ، ولم يكن في وسع خلافة بغداد مساعدتها لاشتغالها بصد غارات القرامطة ، وكان دعاة المعز ينشرون دعوتهم في أنحاء كثيرة من القطر المصري .. ووكل المعز قيادة الجيش الفاتح إلى أكبر قواده ، وهو جوهر الصقلي الرومي الأصل ، وكان تحت

٢٠