الأزهر في ألف عام - ج ١

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي

الأزهر في ألف عام - ج ١

المؤلف:

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٦

إمرته مائة ألف مقاتل مزودين بالآلات الحربية ، وبالمال الكثير.

جوهر الصقلي فاتح مصر :

ولد جوهر بجزيرة صقلية نحو عام ٣٠٠ ه‍ ، ومع أنه رومي الأصل إلا أنه نشأ في صقلية نشأة إسلامية خالصة ، فقد دخل الإسلام جزيرة صقلية سنة ٢١٢ ه‍ ، ويرجح المؤرخون ان أباه كان مسلما (١).

واتصل جوهر ببلاط المعز ، ويبدو أنه كان في حاشيته العسكرية ، وقد قربه الخليفة الفاطمي ، لما توسمه فيه من الإخلاص للدين ، ولمواهبه الفذة وثقافته الواسعة ، وظل يتدرج في سلك المناصب في دولة المعز ، حتى اتخذه المعز كاتبا له عام ٣٤١ ه‍ ـ ٩٥٣ م ، وهي السنة التي ولى المعز فيها الخلافة ، ثم رقاه إلى منصب الوزارة سنة ٣٤٧ ه‍ ، وولاه قيادة جيش كثيف لتوسيع ملك المعز في شمالي إفريقية ، وقد انتصر جوهر ، وتوغل في فتوحه حتى وصل إلى شاطىء المحيط الأطلسي.

ولما فكر المعز في فتح مصر أسند لجوهر قيادة الجيش الفاتح ، ولما رحل جوهر من القيروان إلى مصر في يوم السبت ١٤ ربيع الثاني عام ٣٥٨ ه‍ ـ فبراير ٩٦٩ م ، خرج الخليفة لتوديعه بنفسه ، وقال : والله لو خرج جوهر وحده لفتح مصر وليدخلن إلى مصر بالأردية من غير حرب ، ولينزلن في خرابات ابن طولون ، ويبني مدينة تقهر الدنيا ، وانشد ابن هاني الأندلسي المعزّ قصيدته :

رأيت بعيني فوق ما كنت أسمع

وقد راعني يوم من الحشر أروع

غداة كأن الأفق سد بمثله

فعاد غروب الشمس من حيث تطلع

فلم أدر إذ ودعت كيف أودع

ولم أدر إذ شيعت كيف أشيع

ألا إن هذا حشد من لم يذق له

غرار الكرى جفن ولا بات يهجع

إذا حل في أرض بناها مدائنا

وإن سار من أرض غدت وهي بلقع

__________________

(١) تاريخ جوهر الصقلي لعلي إبراهيم حسن ط ١٩٣٣.

٢١

تحل بيوت المال حيث محله

وجم العطايا والرواق المرفع

وكبرت الفرسان لله إذ بدا

وظل السلاح المنتصى يتقعقع

وعب عباب الموكب الفخم حوله

ورق كما رق الصباح الملمع

رحلت إلى الفسطاط أول رحلة

بأيمن فأل بالذي أنت تجمع

فإن يك في مصر ظماء لمورد

فقد جاءهم نيل سوى النيل يهرع

ووصل جوهر إلى برقة ، ومنها سار حتى الإسكندرية في رجب ٣٥٨ ه‍ ، ثم استمر في سيره فدخل مصر وقت الزوال من يوم الثلاثاء ١٧ شعبان عام ٣٥٨ ه‍ بناء على صلح عقد بين المصريين والفاطميين ، وجاء في وثيقة الصلح الرسمية (١) : إنه يتعهد ب «نشر العدل ، وبسط الحق ، وحسم الظلم ، وقطع العدوان ، ونفي الأذى ورفع الحزن ، والقيام في الحق ، وإعانة المظلوم ، مع الشفقة والإحسان ، وجميل النظر وكرم الصحبة ، ولطف العشرة وافتقاد الأحوال ، وحياطة أهل البلد في ليلهم ونهارهم الخ».

واتصل نبأ الفتح بالمعز فسر سرورا عظيما ، ونظم ابن هانىء أمامه قصيدته :

تقول بنو العباس : هل فتحت مصر؟

فقل لبني العباس : قد قضي الأمر

وأخذ جوهر يعمل على بث الدعوة للمعز الفاطمي في مصر خاصة ولأهل بيته من العلويين عامة ، واختط مدينة القاهرة المعزية ، وبنى الأزهر الشريف ، وصار جامع عمرو وجامع ابن طولون والجامع الأرهر مراكز للدعاية لعقائد العلويين الفاطميين ودعوتهم ، كما كانت الدعوة لهذا المذهب تذاع على يدي داعي الدعاة ومن كان يعاونه من الدعاة.

خطب للمعز في جامع عمرو في التاسع عشر من شعبان سنة ٣٥٨ ه‍ ـ ٩٦٩ م ، وكان ذكر المعز في خطبة الجمعة بدل اسم الخليفة

__________________

(١) ٦٧ ـ ٨٠ اتعاظ الحنفا

٢٢

العباسي حادثا خطيرا في تاريخ مصر ، وفي يوم الجمعة ١٨ من ذي القعدة سنة ٣٥٨ ه‍ دعا الخطيب لآل البيت وزاد في الخطبة : «اللهم صل على محمد المصطفى ، وعلى علي المرتضى ، وعلى فاطمة البتول ، وعلى الحسن والحسين سبطي الرسول الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، اللهم صل على الأئمة الراشدين آباء أمير المؤمنين الهادين المهديين» ... وفي يوم الجمعة ٨ جمادي الأولى ٣٥٩ ه‍ صلى جوهر بجامع ابن طولون وأذن المؤذنون : «حي على خير العمل» .. أما الجامع الأزهر فقد كان أهم مركز للدعوة الفاطمية.

ولا ننسى أن نذكر أن جوهرا قد وضع أساس المدينة الجديدة «القاهرة المعزية» في الليلة التي دخل فيها مدينة الفسطاط ، أي في ١٧ شعبان ٣٥٨ ه‍ ـ ١٧ يوليو ٩٦٩ م وأقام فيها قصر الخليفة المعز ، ووضع أساسه في اليوم التالي .. وتشمل القاهرة المعزية على ما رواه المقريزي أحياء : الجامع الأزهر والجمالية والحسينية وباب الشعرية والموسكى والغورية وباب الخلق ، وقد أحيطت القاهرة بسور كبير من اللبن ، وكانت بولاق هي ميناء القاهرة ، وقد أصبحت بولاق بعد ذلك بمدة كبيرة مدينة تجارية منذ سنة ٧١٣ ه‍ ، عندما أمر الملك الناصر بعمارتها وبنى بها الدور على شاطىء النيل فسكنها الناس وعمروها. وقد جعل جوهر للقاهرة أربعة أبواب هي بابا زويلة وباب النصر وباب الفتوح.

وبعد ذلك رحل المعز من مدينته المنصورية (١) ، ودخل القاهرة في ٧ رمضان سنة ٣٦٢ ه‍ نصف يونيو ٩٧٣ م ، وظل ملكا على مصر حتى توفي عام ٣٦٥ ه‍ ، وتوفي بعده جوهر بمدة كبيرة ، وذلك عام ٣٨١ ه‍ (٢٠ / ١ ابن خلكان).

__________________

(١) راجع الحديث عنها في كتاب «الموعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار» للمقريزي ١٣٦٦ ج ١. وهذا الاسم أطلقه إسماعيل بن المنصور ثالث الخلفاء الفاطميين على مدينة «صبرة» وتتصل بالقيروان وقد بناها المنصور الفاطمي في سنة ٣٣٧ ه‍ واستوطنها وسماها المنصورية (ص ٢٥ البكري).

٢٣

المعز الملك الفاطمي :

هو الخليفة الفاطمي الرابع ، ينتسب إلى رسول الله عن طريق ابنته فاطمة الزهراء وإلى علي بن أبي طالب ابن عم الرسول.

ولد بمدينة المهدية قرب القيروان ، وهي عاصمة الفاطميين ، وذلك في ١١ رمضان سنة ٣١٧ ه‍ ، وأمه أم ولد. وربي تربية عالية ، وكان ولي عهد أبيه المنصور ، وولي الخلافة عام ٣٤١ ه‍ .. وفي عام ٣٤٨ فتحت جيوشه بقيادة جوهر مصر.

خرج المعز من المنصورية دار ملكه يوم الاثنين ٢١ شوال عام ٣٦١ ه‍ : ٥ أغسطس عام ٩٧٢ .. ودخل الاسكندرية يوم السبت ٢٣ شعبان ٣٦٢ ه‍ : ٢٩ مايو ٩٧٣ م.

وقد دخل القاهرة عام ٣٦٢ ه‍ ـ ٩٧٣ م ، وتوفي في ١٤ ربيع الثاني ٣٦٥ ه‍ ـ ٢٠ ديسمبر ٩٧٥ م ، بعد أن وسع دولته ، وصبغها بصبغة عالية من الحضارة والرقي والنهضة ، وكانت القاهرة بعد إنشائها عاصمة ملكه الضخم.

كان نقش خاتم المعز يحمل شعار دولته وهو «لتوحيد الإله الصمد دعا الإمام معد ، لتوحيد الإله العظيم دعا الامام أبو تميم».

وقد وضع على كل مصلحة من مصالح الحكومة موظفين : أحدهما مصري والآخر مغربي .. وكان عهده على قصره من أزهى عصور مصر وأزهرها ، وزادت فيه ثروة البلاد زيادة كبيرة. وكانت القاهرة إذ ذاك تسمى «المدينة» ، وكانت في الحقيقة عبارة عن قصرين عظيمين ولواحقهما : بهما من السكان ٣٠٠٠٠ نسمة ، وكان بين القصرين ميدان عظيم يكفي لاستعراض ١٠٠٠٠ جندي ، وكان ثروة الأسرة المالكة زمن المعز وبعده فوق ما يتصور ، فإن إحدى بناته ماتت وتركت وراءها ما يعادل ٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ٢ دينارا ، وأخرى تركت خمسة أكياس من الزمرد ومقادير كثيرة من الأحجار الكريمة الأخرى علاوة على ٣٠٠٠ إناء فضي مطعم.

٢٤

وقد بذل «المعز» غاية وسعه في استجلاب محبة الناس واحترامهم له ، بعدله ، وحسن إدارته والتفاته إلى جميع دقائق شؤونهم. فكان يرأس بنفسه حفلة قطع الخليج ، وزاد من محبتهم له إرساله كسوة فاخرة للكعبة كل عام. ومنع جنده من البقاء في المدينة بعد الغروب ، اجتنابا لما عساه أن يحدث من الهياج ، وألغى نظام جباية الخراج بواسطة الملتزمين ، للخسارة التي كانت تلحق البلاد من وراء أرباحهم الباهظة ، وبذلك زاد الخراج بدون أن يضر بمصلحة المزارعين.

وكان للمعز عدة أبناء ، ومن بناته رشيدة بنت المعز ، وعبدة بنت المعز (١).

وقد خلف المعز ابنه العزيز بالله أبو منصور نزار (٢) ٣٦٥ ـ ٣٨٦ ه‍ : ٩٧٥ ـ ٩٦٦ م ، وكان يعقوب بن كلس أكبر وزرائه.

وبعده تولى حكم مصر الحاكم بأمر الله أبو علي منصور ٣٨٦ ـ ٤١١ ه‍ : ٩٩٦ ـ ١٠٢١ م ، وقد مات مقتولا.

وخلفه ابنه الظاهر لإعزاز دين الله أبو الحسن علي ٤١١ ـ ٤٢٧ ه‍ : ١٠٢١ ـ ١٠٣٦ م.

وتولى بعده ابنه المستنصر بالله أبو تميم معد ٤٢٧ ـ ٤٨٧ ه‍ : ١٠٣٦ ـ ١٠٩٤ م .. وظل الفاطميون يتوارثون حكم مصر (٣) ، حتى انتهى ملكهم منها عام ٥٦٧ ه‍.

__________________

(١) ١١٤ ج ٥ التمدن الاسلامي لجورجي زيدان.

(٢) ولد في المهدية عام ٣٤٤ ه‍.

(٣) وهم : المستعلى بالله (٤٨٧ ـ ٤٩٥ ه‍) ، والآمر بأحكام الله المنصور (٤٩٥ ـ ٥٢٤ ه‍) ، ثم الآمر بأحكام الله عبد المجيد (٥٢٤ ـ ٥٤٤ ه‍) ، ثم الظافر (٥٤٤ ـ ٥٤٩ ه‍) ، ثم الفائز (٥٤٩ ـ ٥٥٥ ه‍) ، ثم العاضد (٥٥٥ ـ ٥٦٦ ه‍)

٢٥
٢٦

الفصل الثالث

تأسيس الأزهر وبدء حياته الجامعيّة

الأزهر بيت العلم العتيق ، ومثابة الثقافة الاسلامية ، حمل لواء المعرفة في مصر وفي الشرق الإسلامي قرونا متصلة ، وحفظ التراث الإسلامي دينا ولغة من عاديات الزمن ، ونشره على الآفاق ، ولم يبخل به على أي طالب علم قصده من مشارق الأرض أو مغاربها. وقد ظل الأزهر طوال ألف سنة ـ وما يزال حتى اليوم ـ كعبة العلم والدين ، ومعقد آمال المسلمين ، وقد تخرج فيه أفواج وأفواج من جلة العلماء انتشروا في بقاع الأرض ، وحملوا معهم مشاعل المعرفة والثقافة التي تزودوا بها في الأزهر ، فأضاؤو جنبات الأرض علما ونورا وتقى.

أنشأ الجامع الأزهر جوهر الصقلي قائد الخليفة الفاطمي «المعز لدين الله» ، وشرع في بنائه يوم السبت لست بقين من شهر جمادى الأول (١) سنة ٣٥٩ ه‍ (٩٧٠ م) ، وكمل بناؤه لسبع خلون من شهر رمضان سنة ٣٦١ ه‍ ٢٢ يونيو ٩٧٢ م ، وكان الغرض من إنشائه أن يكون رمزا للسيادة الروحية للدولة الفاطمية ، ومنبرا للدعوة التي حملتها هذه الدولة الجديدة إلى مصر. وقد كتب بدائرة القبة التي في الرواق الأول وهي على يمين المحراب والمنبر ما نصه بعد البسملة : مما أمر ببنائه عبد الله

__________________

(١) يذكر بعض المؤرخين انه شرع في بنائه في يوم السبت الرابع من شهر رمضان عام ٣٥٩ ه‍ (٢٧٣ ج ٢ المقريزي ، ٣٦٤ ج ٣ القلقشندي).

٢٧

ووليه أبو تميم معد الإمام المعز لدين الله أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى آبائه وأبنائه الأكرمين ، على يد عبده جوهر الكاتب الصقلي ، وذلك في سنة ستين وثلثمائة».

وقد أطلق على هذا المسجد اسم الأزهر ، نسبة إلى فاطمة الزهراء التي ينتسب إليها الفاطميون ، أو لأنه كان يحيط به قصور فخمة ، تسمى بالقصور الزهراء ، أو لأنه يظن أن هذا الجامع أكثر الجوامع فخامة ورواء ، أو للتفاؤل بأنه سيكون أعظم المساجد ضياء ونورا.

وضع يوم السبت ٢٤ جمادى الأول سنة ٣٥٩ ه‍ الحجر الأساسي له «وظل العمال والمهندسون يعملون في بنائه عامين تقريبا حتى جاءت أول جمعة رمضان سنة ٣٦١ ه‍ ، فجمعت فيه ، باحتفال رسمي هائل ، تجلت فيه أبهة الملك وسؤدده وعظمته ، التي اشهر بها الفاطميون أكثر من سواهم. والمقريزي يصف لنا هذا الاحتفال وصفا شائقا يفيض روعة وجلالا.

وبعد أن استقر سلطان المعز ، وتم بناء المعقل الذي أقامه للدعوة ، أفرغ جهده في إحكام دولته وتنظيمها ، ووفق في ذلك أكثر توفيق ، وقطع المعز الفاطمي كل علاقة بينه وبين الخليفة العباسي ، وقضى على كل صلة روحية له في مصر ، فقصر التدريس في الأزهر على المذهب الفاطمي في الفقه ، وتعاليم الفقه ، وتعاليم الشيعة في الدين والفلسفة والتوحيد ، واستجلب لهذه الدراسة أكابر العلماء وفطاحل الفقهاء في عصره ، وكان عددهم ثلاثين عالما ، أجزل لهم العطاء وبنى لهم منازل فخمة ألحقت بالأزهر فيما بعد ، وصارت من أروقته ، وشرعوا يدرسون ويتفقهون في مذاهب الفاطميين وتعاليمهم ويهدمون بذلك المذاهب الأخرى التي كانت شائعة في بغداد مقر الخلافة وسائر البلاد الإسلامية ، وكانت هذه النخبة الممتازة من الأساتذة وعلى رأسها كبير العلماء «أبو يعقوب قاضي الخندق» سببا من الأسباب التي جعلت الأزهر يصبح

٢٨

قبل كل طالب من أقاصي الأرض بعد أن ذاع صيته في الآفاق. وذكر المقريزي أن أول ما درس في الأزهر الفقه الفاطمي على مذهب الشيعة ، فإنه في صفر سنة ٣٦٥ ه‍ جلس قاضي مصر «أبو الحسن علي بن النعمان ابن محمد بن حيون» وأملى مختصر أبيه في الفقه على أهل البيت ، ويعرف هذا المختصر بالاقتصار ، وكان جمعا عظيما أثبتت فيه أسماء الحاضرين .. فكان الأزهر على ذلك ظل معطلا منذ افتتاحه أربع سنوات من التدريس حتى جاء صفر سنة ٣٦٥ ه‍ وافتتحت الدراسة فيه باجتماع عظيم حضره كثيرون ، وقيدوا أسماءهم.

واستوزر (المعز) وابنه (العزيز) من بعده الوزير يعقوب بن كلس ، وهو يهودي الأصل ثم أسلم ، ولعل الخليفة تخيره لما اشتهر عن اليهود من الحذق في الدعاية وإتقانها ، وقد نشط الوزير فألف كتابا في الفقه ، يتضمن ما سمعه من الخليفة المعز وابنه من بعده. وهذا الكتاب مبوب على أبواب الفقه الفاطمي ، وكان يقرؤه على الناس ، وكان يجلس بنفسه يوم الجمعة يقرأ على الناس في مجلس خاص به مصنفاته كما يجتمع يوم الثلاثاء بالفقهاء وجماعة المتكلمين وأهل الجدل.

قام المعز بتأسيس الأزهر إذن ، واستوزر ابن كلس وعمل على استجلاب أكابر العلماء ، وأوعز اليهم تدريس الفقه الفاطمي ، ولم تقتصر هذه الدعوة في اتجاهها على هذه الناحية فقط ، بل هناك ناحية سرية كان يقوم بها (داعي الدعاة) وأعوانه ، من قبل الحكومة ، ليبثوا تعاليم الشيعة ومبادئهم ودعوتهم من طريق السر والخفاء أحيانا ومن الجهر والعلانية في غالب الأحيان. وكان لهذا الداعي مجلس يفرده في الأزهر للنساء ، وهذه الدعوة كما يقول المقريزي وضعوا فيها الكتب الكثيرة ، وصارت علما من العلوم المدونة ، ثم اضمحلت وذهبت بذهاب أهلها.

سلك الفاطميون في دعوتهم طريق الجهر ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ، وسلكوا الخفاء والتستر إذا أعوزتهم الحاجة ، وكانوا يدرسون الفقه

٢٩

الفاطمي علانية لأنه الوسيلة المناسبة التي يستطيعون بها الدخول على سائر الشعب المصري ، الذي كانت تهيمن عليه السنة ومذاهبها سيما المذهب الشافعي منها ، ولأن حاجة الناس الى الفقه ماسة ، ينظمون به شؤونهم ويحددون به أحوالهم الشخصية وما يتبعها من حقوق وواجبات ، سيما وأن هذا الفقه في قضاياه ليس بعيد الخلاف مع السنة ، بعد مزج التعاليم الشيعية وفلسفتها مع مبادىء التوحيد الإسلامي ، وكان يقوم بكل هذا العلماء المعينون وأتباعهم وكانوا يمنحون مرتبات شهرية ، وجعلوا ذلك بابا من أبواب الدعوة .. وكان القائم بهذه الدعوة هو داعي الدعاة ، وهو من كبار الموظفين ، وكان يلي قاضي القضاة في الرتبة ويتزيّا بزيه ، وكانت وظيفة قاضي القضاة وداعي الدعاة تسندان في كثير من الأحيان إلى رجل واحد ، وقد خصص لداعي الدعاة قسم كبير من قصر الخلفاء الفاطميين ، وكان يساعده في نشر تعاليم الفاطمية اثنا عشر نقيبا ، كما كان له نواب ينوبون عنه في البلاد بلغ عددهم مائة وواحدا وخمسين ، وكان فقهاء الدولة البارزون في الشريعة الإسلامية تحت نفوذه وله مكان خاص بالقصر هو (دار العلم) ، فكانوا يتصلون به ويتلقون عنه الأوامر ويقدمون إليه في يوم الاثنين ويوم الخميس ما أعدوه للمحاضرة في أصول المذهب الفاطمي وكانت المحاضرات تعرض قبل إلقائها على الخليفة فيقرؤها ويذيلها بإمضائه ثم تبلغ اليهم عن طريق (داعي الدعاة) وهو الذي يعرضها بنفسه على الخليفة. وكان الداعي فوق هذا يعقد

المجالس ويقرأ على الناس من مصنفاته ، وكان يجلس على كرسي الدعوة في الإيوان الكبير فيحاضر الناس ، ويعقد للنساء مجلسا خاصا بالأزهر ، وفيه يلقنهن أصول مذهب الإسماعيلية أو الفاطمية.

ولم يكن ذلك كل ما قام به الفاطميون في نشر مذهبهم ، فكانت هناك مجالس تعرض على الناس كل على حسب طبقته ، فكان لأهل البيت مجلس ، وللخاصة مجلس. وشيوخ الدولة مجلس ، وللعامة والطارئين مجلس ، والوافدين من البلاد الأجنبية مجلس.

٣٠

وكان عندما يفرغ داعي الدعاة من إلقاء محاضرته على المؤمنين والمؤمنات أقبلوا عليه فقبلوا يديه فيمسح على رؤوسهم بالجزء الذي عليه إمضاء الخليفة ، وكان من اختصاص (داعي الدعاة) جمع النجوى وتدوين اسم من يدفع إليه أكثر من المال المقرر ، والنجوى نوع من الصدقة مقدارها ثلاثة دراهم وثلث درهم ، أما السادة الإسماعيلية فكان الواحد منهم يدفع ثلاثة وثلاثين دينارا وثلثي دينار ويمتازون عن عامة الناس فيعطى الواحد منهم رقعة مذيلة بإمضاء الخليفة وفيها هذه العبارة (بارك الله فيك وفي مالك وولدك ودينك) .. وقد لاقت الدعوة الفاطمية السياسية والدينية نجاحا عظيما في خلافة الحاكم بأمر الله ، فقد بذل هذا الخليفة مجهودا كبيرا في نشرها حتى أرغم الناس عليها لقوانينه الجائرة وانضموا إليها مكرهين.

وأهم الكتب التي تبحث في هذه التعاليم كما يقول الأستاذ أحمد توفيق عياد : كتاب «أسرار الباطنية للباقلاني المتوفى سنة ٤٠٣ ه‍» و «الملل والنحل» للشهرستاني و «رسائل إخوان الصفا» : ويجب أن يشار إلى وثيقة هامة في هذا الموضوع وهي المخطوط الموجود بدار الكتب بالقاهرة وعنوانها (رسائل الحاكم بأمر الله والقائمين بأمر دعوته). كما أنه يوجد مخطوط آخر في أربعة مجلدات بالمكتبة الأهلية بباريس عنوانه (المشاهد والأسرار التوحيدية لمولانا الحاكم).

ومنها يتبين أن الدعوة قد بنيت على آراء فلسفية مصدرها عقائد الباطنية والمعتزلة والفلسفة وهي أساس الشريعة عن الفاطميين قد حلت في عهد الحاكم في محل القرآن والسنة ، ومنها يتضح كيف بلغت هذه الدعوة وعملت في عقول الأهالي حتى تجاسر الحاكم أن يدعي الألوهية وأن الله قد تجسم في شخصه. وهذه الدعوة تلخص لنا تعاليمهم ، والأصل فيها أنهم أخذوا مذهب الأفلاطونية الحديثة وطبقوه على مذهبهم الشيعي تطبيقا غريبا ، واستخدموا ما نقله إخوان الصفا في رسائلهم من هذا المذهب الأفلاطوني.

٣١

ودعوتهم مرتبة على منازل ، دعوة بعد دعوة ، حتى تبلغ هذه الدعوات تسعا يبدأ الداعي أولا باستدراج المدعو بعد أن يكون قد وقف على هذه التعاليم ومبلغ إيمانه بدينه ، ويستهويه إلى هالته العقلية ، ويشرع يشككه في أفكاره بأسئلة إنكارية : ما معنى العدو بين الصفا والمروة؟ ولم كانت الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة وما بال الله قد خلق الدنيا في ستة أيام؟ أعجز عن خلقها في ساعة واحدة؟ وما معنى الصراط المضروب في القرآن مثلا والكاتبين والحافظين؟ أخاف أن نكابره ونجاحده حتى أدلى العيون وأقام علينا الشهود وقيد ذلك في القرطاس بالكتابة؟

وهكذا يستمر يلقي الأسئلة سراعا وينفث سموم الريب في النفس ، ثم يعقب على هذه الأسئلة بأسئلة الغرض منها استهواء المدعو إلى حظيرة الفلسفة والهرطقة التي كانوا يقولون بها : أين أرواحكم؟ وكيف صورها وأين مستقرها ، وما أول أمرها؟ والإنسان ما هو؟ وما حقيقته؟ وما الفرق بين حياته وحياة البهائم؟ وما معنى قول الفلاسفة : الانسان عالم صغير والعالم إنسان كبير؟ وأمثالها حتى إذا علم الداعي أن نفس المدعو قد تعلقت بما سأله عنه وطلب منه الجواب عنها ، قال له حينئذ : لا تتعجل فإن دين الله أعلا وأجل من أن يبذل لغير أهله ، ثم بعد حديث وإغواء يأخذ عليه عهدا ألا يفشي سرا ، ولا يظاهر أحدا عليهم ، ولا يطلب لهم غيلة ، ولا يكتمهم نصحا! ولا يوالي عدوا لهم ، فإذا أعطى العهد طلب منه جعلا من المال يجعله مقدمة أمام كشفه له الأمور وتعريفه إياها.

وينتقل إلى الدعوة الثانية ومرماها إثبات ضرورة وجوب الإمام الذي ينصبه الله للناس ، وإلى تقرير أن الأئمة السبعة آخرهم محمد بن إسماعيل ابن جعفر ، وهو صاحب ذلك الزمان ، وعنده علم المستورات وبواطن المعلومات التي لا يمكن أن توجد عند أحد غيره ، وعلى جميع الكافة اتباعه والخضوع له والانقياد إليه والتسليم له ، لأن الهداية في موافقته واتباعه والضلال والحيرة في العدول عنه .. ثم ينتقل إلى تعليل اعتقادهم في الأئمة والنقباء الاثني عشر.

٣٢

وهنا يكون الداعي قد تمكن من نفس المدعو فيعمل على تعمير منطقة العقل ويدعوه إلى النظر في كلام أفلاطون وأرسطو وفيثاغورس ، وينهاه عن قبول الأخبار والاحتجاج بالسمعيات.

ثم ينتقل إلى اثبات معجزة النبي الصادق والوحي على طريقة تعاليمهم الشيعية. وقد ظلت الدعوة قائمة الى هذه المبادىء ، وكان من زعمائها في القرن الخامس الهجري «الحسن بن محمد الصباح».

وهذه التعاليم تظهر بجلاء في رسائل إخوان الصفا ، وتوهم أن الروح التي أملتها روح عالية تتسع آفاقها لاستيعاب حيز كبير من حقائق هذا الوجود ، وأن العقلية التي أخرجتها عقلية حرة جريئة. والواقع ربما خالف هذا فإن الفاطميين وإن كان يشم من كلامهم الدعوة إلى وحدة الوجود ، والنظر إلى هذا العالم بعين الحكمة والاعتبار والتفلسف ، إلا أنهم أفسدوا هذه النظرة السامية بحجرهم على العقول في الاعتقاد بأئمتهم ، وأفسدوا كل شيء حينما حاولوا أن يستغلوا ما في هذه التعاليم من طرافة وطلاوة لمصلحتهم الخاصة ، بمحاولة تطبيقها على ما تبتغي أهواؤهم السياسية ، وأنهم حاولوا فرض شيء كثير من الاستبداد على عقول الناس ومشاعرهم لحد يكاد يبلغ الجمود ، وآية ذلك ظاهرة في الفقه في هذا العصر ، وتوقف التفكير فيه عند حد التقليد وعجزه عن الابتكار والرأي والقياس. وآية ذلك ظاهرة في بعض شعراء هذا العصر الذين أفسدت عليهم شاعريتهم حتى صاروا يؤلهون الحاكم ويعتقدون أن الله قد يتجسم في شخص الأئمة والخلفاء : من ذلك ما قاله ابن هانىء الأندلسي في المعز :

ما شئت لا ما شاءت الأقدار

فاحكم فأنت الواحد القهار

وكأنما أنت النبي محمد

وكأنما أنصارك الأنصار

وهو الذي تجدي شفاعته غدا

حقا وتخمد إذ تراه النار

إنهم استمدوا تعاليمهم من الأفلاطونية الحديثة وأخذوا ما نقله

٣٣

إخوان الصفا عنها وعن الفلسفة اليونانية فأفسدوها حينما أرادوا تطبيقها على الناس ، يبتغون من وراء ذلك تشكيل عقائدهم بأسلوب يضمن لهم السلطان والإمامة. ومثل هذا الأسلوب في التفكير والاعتقاد أقرب الى أن يكون فارسيا منه إلى أي شيء آخر ، وقد كان للشيعة أكبر عضد في فارس ، ولعل المذهب تأثر كثيرا بعقلية الفرس الواقعية واعتقادهم في الحلول وتأليه الأكاسرة. ومثل هذا الأسلوب بعدما يكون عن النفسية المصرية فقد صعب تمثيله وهضمه فنبذته ولو أنها أكرهت عليه مدة طويلة.

«ولا يمكننا أن نقدر مقدار النجاح في شيوع المذهب الإسماعيلي بمصر وقدر الذين انتحلوه من خاصة الأمة ، إلا أنا نعلم أن أثره في العامة كان قليلا جدا لما يروى من أخبار نفورهم من مظاهر الاسماعيلية ومن عقائدهم ، ويظهر أن بيئة الفقهاء لم تتقبله ، ووسموه بميسم الكفر والإلحاد ، فنفر الجمهور منه ، وزاد نفرته السرية التي كانت تحيط بالدعوة ، فزاد ذلك في تأييد اعتقادهم أنه خارج عن الدين توارثوه عن أئمتهم وعن علمائهم».

وهذه العبودية التي فرضها الفاطميون على العلماء بنشر تعاليمهم وحدها وتأييد مذهبهم الفاطمي في الفقه ومحاجتهم الناس ، أثرت أثرا بليغا في تطور التشريع الإسلامي ، فقد سار التشريع في هذا العهد في دور التقليد وعدم الاجتهاد. فإن الجو ، لا يساعد العلماء على الابتكار والتجديد.

ولكن نلاحظ من ناحية أخرى أن نشاطهم في بث الدعوة أدى إلى خلق هذا النوع الجديد من العلوم الذي أطلق عليها «أدب البحث» وألفت في قواعدها الكتب ، وكثرت مجالس النظر وشاعت المناظرات والمجادلات شيوعا.

وبقي مذهب الشيعة منتشرا في مصر قضاء وفي الأزهر دراسة ، إلى أن انقرضت دولة الفاطميين.

٣٤

وعادت لمصر حينئذ السنة المحمدية ، وأول مذهب سني درس بالأزهر المذهب الشافعي وانقرض من ذلك الحين المذهب الشيعي ، ولم يبق له أثر بالأزهر سوى الجراية ، تعطى لمن هو متمذهب بهذا المذهب ، وهذا الجراية كانت تصرف لأصحابها لوقت قريب. هذا وتعاليم الشيعة الآن معمول بها في فارس وبمصر متحف خاص (بالبهائية) التي تعمل على حد هذه التعاليم ، ويقرر الأستاذ (بيرم) في رسالة وضعها عن الأزهر وقدمها لمؤتمر المستشرقين المنعقد بمدينة (هامبورج) في أوائل سبتمبر سنة ١٩٠٢ أن العلوم الرياضية كانت تدرس بالأزهر ، كالعلوم الفلكية والطبيعية والجغرافية ، ولكنه استند في تقريره هذا إلى أنه استنتج ذلك من عناية الفاطميين بهذه العلوم وعنايتهم بالكتب وجمعها واستبعد ألا تكون هذه العلوم قد درست بالأزهر ، والأزهر كان متأثرا في حياته بكثير من العوامل السياسية التي ظهرت وقتذاك. وإن ما كان يدرس فيه في عهد الفاطميين هو التعاليم الشيعية الإسماعيلية والدعوة إليها ، والمذهب الفاطمي في الفقه .. وكان لهذه التعاليم أثر واضح في الحياة الخلقية في ذلك العصر ، وقد عدد آفاتها الغزالي وآفات عقلية أوقفت التشريع الإسلامي عند حد التقليد وعدم الاجتهاد ، وأصبح التشريع الإسلامي في هذا العصر هو المرحلة الأخيرة لتطوره. ولم يكن للعقول في ذلك الوقت سبيل الى الاجتهاد والقياس ، واحتاجوا إلى تنظير المسائل في الإلحاق وتفرقها عند الاشتباه بعد الاستناد إلى الأصول المقررة وصار ذلك كله يحتاج إلى ملكة راسخة يقتدر بها على هذا النوع من التنظير والتفرقة.

ومن هذا كله نعلن أن الأزهر اتخذ أول ما أنشىء مسجدا لعبادة الله والدعاية للفاطميين ودولتهم ، ثم عقدت في جنباته حلقات الدروس العامة ، فكان الأساتذة من فقهاء الشيعة يجلسون لإلقاء دروسهم على كل من يحضرها في الفقه واللغة والأدب والمنطق والطبيعيات والرياضيات.

وأول كتاب قرىء في الأزهر على ما ذكرناه هو «الإقتصار» في فقه آل البيت لأبي حنيفة النعمان بن أبي عبد الله بن محمد القيرواني قاضي

٣٥

المعز لدين الله ، وكان مالكي المذهب ثم انتحل المذهب الإسماعيلي فأخلص له ، وكان من دعائم الدعوة الفاطمية. وكتابه «الدعائم» من أصول المذهب الإسماعيلي ، ونهج على منهاجه الوزير يعقوب بن كلس في كتابه «مصنف الوزير» وله كتاب اسمه «مختصر الآثار فيما روي عن الائمة الأطهار» (١) ، ومن كتبه أيضا : «الينبوع» «والمجالس والمسايرات». وتوفي النعمان هذا في شهر جمادى الآخرة عام ٣٦٣ ه‍ ، وصلى عليه المعز لدين الله.

وكان يتولى درسة كتاب «الاقتصار» في الأزهر ابن النعمان واسمه أبو الحسن علي بن النعمان (٢) .. وكتبه الأخرى كان بعضها يقرأ في

__________________

(١) منه نسخة خطية في الفاتيكان رقم ٥ ـ ١١٠٤

(٢) كان علي شيعيا غاليا ، وشاعرا مجودا (٨٤ ج ٣ شذرات الذهب) وتوفي أبو الحسن هذا عام ٣٧٤ ه‍ ـ فولي القضاء بعده أخوه أبو عبد الله محمد وتوفي عام ٣٨٩ ه‍ (٥٥ ج ٤ ابن خلدون).

ولأبي الحسن علي بن النعمان شعر في اليتيمة (٣٨٤ و٣٨٥ ج ١) .. وكذلك لأخيه القاضي أبي عبد الله محمد بن النعمان شعر (٣٨٥ و٣٨٦ ج ١ اليتيمة).

وكان أبو الحسن علي بن النعمان أول من لقب بقاضي القضاة في يمصر (٩١ ج ٢ حسن المحاضرة).

وكان علي بن النعمان محل عطف وثقة العزيز بالله ثاني خلفاء دولة هذا المذهب بمصر إلى أن قلد القضاء بالديار المصرية ، والشام ، والحرمين ، والمغرب ، وجميع مملكته ، والخطابة والإمامة ، ودار الضرب. وقرىء مرسوم توليته هذه الأشياء بالجامع الأزهر وبجامع عمرو ، وكان أمرهما إليه. وكان من عادة الدولة وقتئذ أن من يقلد هذه الوظيفة يخلع عليه الخلع المذهبة ، ويقلد السيف ، ويتم له ذلك بلا طبل ولا بوق ، إلا إذا ولي أمر الدعوة مع الحكم ، فلقد كان للدعوة في خلعها الطبل ، واليوق والبنود ، ولا تزال الطبول والبنود موجودة بمصر حتى الساعة عند أرباب الطرق الصوفية ، وهي بقية أو أثر من آثار هذه الدولة بمصر.

وكانت رتبة قاضي القضاة وقتئذ أجل رتب أرباب العمائم بمصر. ويكون في بعض الأوقات داعيا فيقال له حينئذ : قاضي القضاة وداعي الدعاة. وكانت العادة ألا يحضر لاملاك ولا جنازة إلا بإذن. وكان داعي الدعاة يلي قاضي القضاة في الرتبة ويتزيا بزيه في اللباس وغيره.

٣٦

الأزهر ، والبعض الآخر يقرأ في حلقات خاصة للذين يريدون التخصص في فقه الشيعة والدعوة الفاطمية.

وظل الجامع الأزهر مثابة لحلقات الدروس يلقيها بنو النعمان حتى سنة ٣٦٩ ه‍ ، إذ بدأت حلقات الأزهر تتحول إلى دراسة جامعية منظمة مستقرة ، فقد بدأ يعقوب بن كلس (١) وزير المعز لدين الله يقرأ بانتظام فيه كتابه المعروف بالرسالة الوزيرية في الفقه الشيعي ، وكان يجلس بنفسه لقراءته في الناس خاصتهم وعامتهم ، ويهرع لسماعه سائر الفقهاء والقضاة والأدباء وأكابر القصر ورجالات الدولة والدعوة ، وكانت تمتاز حلقات ابن كلس بتحررها من القيود الرسمية ، واتجاهها نحو الأهداف العلمية ، وبذلك كانت أول مجالس جامعية عقدت بالجامع الأزهر.

وفي عام ٣٧٨ ـ ٩٨٨ استأذن ابن كلس الخليفة العزيز بالله في أن يعين بالأزهر جماعة من الفقهاء للقراءة والدرس يحضرون مجلسه ويلازمونه ويعقدون مجالسهم بالأزهر في كل جمعة من بعد الصلاة حتى العصر ، وكان عددهم سبعة وثلاثين فقيها ، وكان رئيسهم ومنظم حلقاتهم هو الفقيه أبو يعقوب قاضي الخندق ، وقد رتب لهم العزيز أرزاقا وجرايات شهرية

__________________

(١) كان يعقوب يهوديا ، ولد في بغداد ، وجاء إلى مصر سنة ٣٣٤ ه‍ ، واتصل بكافور ، وأسلم في شعبان ٣٥٦ ه‍ ، ثم سار إلى بلاد المغرب واتصل بالمعز وكان رائدا لجيشه في فتح مصر ، وحضر مع المعز إلى مصر عام ٣٦٢ ه‍ ، ولما توفي رثاه مائة شاعر (٣٩١ ـ ٣٩٧ ج ٣ ابن خلكان).

ويروى أنه تسابق العزيز بالله الفاطمي مع وزيره يعقوب بن كلس بالحمام ، فسبق حمام الوزير ، فعز ذلك على العزيز ، ووجد أعداء يعقوب إلى الطعن فيه سبيلا فقالوا للعزيز : إنه قد اختار من كل صنف أجوده وأعلاه ، ولم يبق منه إلا أدناه حتى الحمام ، وراموا بذلك أن يغروه به حسدا منهم لعله يتغير عليه ، فاتصل ذلك بالوزير فكتب الى العزيز :

قل لأمير المؤمنين الذي

له العلا والمثل الثاقب

طائرك السابق لكنه

جاء وفي خدمته حاجب

فأعجبه ذلك منه ، وسكن غضبه.

٣٧

وأنشأ لهم دارا للسكنى بجوار الأزهر ، وخلع عليهم في يوم الفطر ، وأجرى عليهم ابن كلس أيضا رزقا من ماله الخاص (١).

وفي عام ٣٨٠ ه‍ رتب المتصدون لقراءة العلم بالأزهر ، وبذلك صار الأزهر معهدا جامعيا للعلم والتعليم والدراسة ، وكان هؤلاء الأساتذة الذي رتبهم ابن كلس للقراءة والدرس بالأزهر وأقرهم العزيز بالله أول الأساتذة المدرسين الذين عينوا بالجامع الأزهر الشريف ، ومن هذا التاريخ يبدأ الأزهر حياته الجامعية العلمية الصحيحة .. وفي الحق أن هذا يدل على أن ابن كلس كان وزيرا عظيما وعالما جليلا وأديبا كبيرا.

وكان يعقد بداره مجالس علمية وأدبية دورية ينتظم في سلكها أكابر الفقهاء والأدباء والشعراء (٢) ، وكان يشرف بنفسه على هذه المجالس ، ويشترك في أعمالها ، ويغدق العطاء على روادها. وقد أخذ ابن كلس بقسط حسن في التأليف والكتابة فوضع كتابا في القراءات ، وكتابا في الفقه ، وكتابا في آداب رسول الله ، وكتابا في علم الأبدان والصحة ، ومختصرا في فقه الشيعة مما سمعه من المعز لدين الله. وهو المعروف بالرسالة الوزيرية. وكان يقرأ كتبه على الناس تارة بالجامع الأزهر وتارة بداره ، ويجتمع لديه الكتاب والنحاة والشعراء فيناظرهم ويصلهم ، وكانت موائدة دائما منصوبة معدة للوافدين ، وكان كثير الصلات والإحسان ، وبالجملة فقد كان هذا الوزير والعالم الأديب مفخرة في جبين عصره ، وقد أشاد شعراء العصر بجلاله وجوده ، ومن ذلك ما قاله أحدهم حين أصابت الوزير علة في يده :

يد الوزير هي الدنيا فإن ألمت

رأيت في كل شيء ذلك الألما

تأمل الملك وانظر فرط علته

من أجله واسأل القرطاس والقلما

ومرض ابن كلس في شوال سنة ٣٨٠ ه‍ ، فجزع عليه العزيز أيما

__________________

(١) صبح الأعشي عن المسبحي ٣٦٧ ج ٣ ، وخطط المقريزي ص ٤٩ ج ٤.

(٢) ٤٧ تاريخ الأزهر لعنان.

٣٨

جزع ، ولبث يعوده ويرعاه ، حتى توفي في الخامس من ذي الحجة ، فحزن عليه حزنا شديدا ، وأمر بتجهيزه تجهيز الأمراء والملوك ، وخرج من القصر إلى داره في موكب صامت محزن ، وشهد تجهيزه وصلى عليه بنفسه ، ووقف حتى تم دفنه وهو يبكي بدمع غزير واحتجب في داره ثلاثا لا يأكل على مائدته ، والحزن يشمل الخاصة والقصر كله ، وأفاض الشعراء في رثاء الوزير الراحل ومديحه ، فوصلهم العزيز جميعا ، وعلى الجملة فقد سما ابن كلس في ظل الدولة الفاطمية إلى أرفع مكانة .. ومهما كان فإن تلك الخطوة الأولى في ترتيب الأساتذة والدروس بالأزهر بطريقة منظمة مستقرة ، كان لها أثر كبير في تطور الغاية التي علقتها الخلافة الفاطمية بادىء ذي بدء على إنشاء الجامع الأزهر ، فقد كانت هذه الغاية كما رأينا أن يكون المسجد الجامع الجديد رمز الخلافة الجديدة ومنبرا لدعوتها (١).

ابتدأ الأزهر حياته العلمية المنظمة بخمسة وثلاثين طالبا. ولم يشجع هؤلاء بما رأينا فحسب ، بل كان هناك لون آخر من ألوان التشجيع ، فيحدثنا المقريزي أن العزيز بالله «خلع عليهم في يوم عيد فطر وحملهم على بغلات». ولم يكن الأزهر في ذلك العهد مقصورا على الرجال فحسب ، بل كان للمرأة فيه نصيب فكن يفردن فيه بمجلس خاص (٢).

وهكذا آلت تلك الحركة العلمية الميمونة إلى الأزهر ، وازدهرت فيه وترعرعت حتى تخرج فيه أئمة فضلاء ، وشيوخ أجلاء ، خدموا الإسلام والمسلمين بالتأليف تارة ، وبالتدريس أخرى ، حتى أصبح مفخرة العالم الإسلامي عامة ، ومصر خاصة.

__________________

(١) راجع في هذا البحث وما يتعلق به : خطط المقريزي (الطبعة الأهلية) ج ٤ ص ٤٩ ، ١٥٦ ، ١٥٧ ، ج ٣ ص ٧ ـ ١٠ ، وابن خلكان ج ٢ ص ٤٤١.

(٢) خطط المقريزي ج ـ ٢ ص ٢٢٦

٣٩

ولقد عالجت هذه الجامعة الكبرى علوم الدين ، فيسرت سبلها ، وأكثرت كتبها واهتمت بشؤون اللغة العربية ، فهذبت طرقها ، وأصلحت شأنها ، وبقيت على مدى الأجيال والقرون قائمة بعملها ، مضطلعة بمهمتها ، حتى نبه ذكرها وذاع صيتها ، وأمّها الطلاب من كل فج ، ليغترفوا من منهلها ، ويستضيئوا بنورها ، وانحدر اليها العلماء من كل صوب ، ليسهموا في النفع بها ، ونشر آثارها ، فازدهرت فيها أنواع العلوم والفنون ، وأمدت العالم الإسلامي بما هو في حاجة إليه.

ولقد كان الأزهر الشريف منذ نشأته موضع عناية الخلفاء الفاطميين : يتعهدونه بالعناية والرعاية ، ويغدقون على من به من العلماء والطلبة العطايا والهبات ، ويذهبون إليه بأنفسهم للصلاة والوقوف على حاله ، مما كان له الأثر البالغ في حفز همم الشيوخ والطلبة إلى التفرغ للعلم.

٤٠