الأزهر في ألف عام - ج ١

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي

الأزهر في ألف عام - ج ١

المؤلف:

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٦

الأزهر ، وهو أصح ما يكون جسما وعقلا ، فكان لهذه الفجاءة أثر في النفوس لم نشهد مثله لأحد قبله ، لأن الناس كانوا أحوج ما يكونون إلى مثله في هذا العهد من الانتقال ، وفي هذا الدور من الاعتراك بين القديم والحديث ، وكان الأستاذ بشخصيته الممتازة ، وسعة أفقه الثقافي خير من يدرك آثار هذا العهد في حياة الأمم ، وأصلح من يوكل إليه أمر التوفيق بينهما لمصلحة الدين والدنيا معا. فلا غرو إن ساور الهلع كل نفس تنتظر عهد الاستقرار والهدوء والتقدم. لم أر فيمن قابلت من القادة والأعلين أكرم خلقا في غير استكانة ، ولا أهدأ نفسا في غير وهن ، ولا أكثر بشاشة في غير رخوة ، من الشيخ مصطفى عبد الرازق ، وكل ذلك إلى حزم لا يعتوره لوث ، واحتياط لا يشوبه تنطع ، وأناة لا يفسدها فتور ، وإدمان على العمل ينسى معه نفسه ، وهي صفات كبار القادة. وعلية المصلحين ، ممن خلقوا لمعالجة الشؤون المعقدة ، وحسم المنازعات الشائكة ، والتوفيق بين المطالب المتنافرة ، وهذه مواقف كما تقتضي مضاء العزيمة ، تحتاج إلى هوادة الأناة ، وكما تستدعي سرعة البت ، لا بد لها من القدرة على إزالة الحوائل ، وقديما قالوا : رب عجلة أورثت ريثا ، ورب إقدام جر إلى نكوص ، فكان بما حباه به بارئه من هذه المواهب النادرة ، كفاء المهمة التي وفق المسؤولون في إسنادها إليه ، وكنت لا أشك في أنه بما جبل عليه من حب الإصلاح ، وما اتصف به من الصفات التي سردناها آنفا ، سيصل إلى حل مشكلة الأزهر حلا حاسما ، يعيش تحت نظامه آمنا شر العوادي ، وفي منجاة من عوامل القلق والاضطراب. ذلك أنه بما تضلع من إلمام بنظم الجامعات ، وما حصل من علم بمقوماتها وحاجاتها ؛ لتمضيته في صميمها سنين طوالا من حياته طالبا ومدرسا ، يعرف من أسرار حياتها وبقائها وبواعث عللها وأعراضها ، ما لا يعلمه إلا الأقلون ، والأزهر لا يخرج عن جامعة قديمة في دور انتقال ، تتفاعل لتتناسب والعهد الذي تعيش فيه ، فهي في حاجة إلى أن تحصل على المقومات التي تؤاتيها بهذا التناسب ، وهو لا ينحصر في زيادة ميزانيتها ، ولا في تهذيب برامج

٢٨١

دراستها ، ولكنه يتعداهما إلى ما هو إيجاد المجال الحيوي لخريجيها.

ولد فقيدنا أجزل الله ثوابه في قرية أبي جرج بمديرية المنيا سنة (١٣٠٤) ه الموافقة لسنة (١٨٨٥) م وتلقى التعليم الأولى فيها ، ثم بعث به والده إلى الأزهر فلبث فيه اثنتي عشرة سنة. ولما نال درجة العالمية فيه أسندت إليه مهمة التدريس في مدرسة القضاء الشرعي. ثم رأى أن الأولى به أن يتمم ثقافته بالمعارف الغربية ، فأم باريس ، والتحق بجامعة (السوربون) المشهورة ونال إجازة في الأدب الفرنسي والفلسفة ، وانتقل من السوربون إلى معهد الدراسات الاجتماعية العليا لينال حظا من معارفها. ثم دعاه الأستاذ لامبيير إلى ليون ليلقى محاضرات في الشريعة الإسلامية ، ويقوم بتدريس اللغة العربية هناك ، فلم تمنعه هذه الأعمال من متابعة دراساته في الفلسفة والأدب الفرنسي. وفي هذه الأثناء تتلمذ للأستاذ جوبلو ، الذي كان مرجع علم المنطق في فرنسا إذ ذاك ، ولما عاد إلى مصر سنة ١٩١٦ ، عين سكرتير المجلس الأزهر الأعلى ، ثم مفتشا للمحاكم الشرعية سنة ١٩٢١. وفي سنة ١٩٢٧ عين أستاذا للمنطق والفلسفة الإسلامية بجامعة فؤاد ، وإليه يرجع الفضل في إحياء المصطلحات العربية القديمة واستعمالها في تعليم فروع الفلسفة.

ومما هو جدير بالذكر أن جميع مدرسي الفلسفة في عهدنا الحاضر بجامعتي فؤاد والاسكندرية من تلاميذه ، ولم تنقطع صلتهم به ، وقد أسندت إليه وزارة الأوقاف مرتين (١) ، ولما توفي الأستاذ الشيخ محمد مصطفى المراغي ، وعز وجود من يملأ مكانه ، أسندت المشيخة إليه في ٢٧ من ديسمبر سنة ١٩٤٥.

ومن مؤلفاته العديدة :

__________________

(١) وأسفرت الوزارة كذلك إلى شقيقه علي عبد الرازق من بعده ، وتوفي علي عبد الرّازق من ٢٤ / ٩ / ١٩٦٦.

٢٨٢

١ ـ ترجمة فرنسية لرسالة التوحيد تأليف الشيخ محمد عبده ، وضعها بالاشتراك مع الأستاذ ميشيل ، وحلاها هو بمقدمة طويلة.

٢ ـ رسائل صغيرة بالفرنسية عن المرحوم الأثري الكبير بهجت بك ، وعن معنى الإسلام ومعنى الدين في الإسلام.

٣ ـ كتاب التمهيد لتاريخ الفلسفة.

٤ ـ فيلسوف العرب والمعلم الثاني. لاسلامية.

٥ ـ الدين والوحي في الإسلام.

٦ ـ الإمام الشافعي.

٧ ـ الامام محمد عبده ، وهو مجموع محاضرات ألقيت في الجامعة الشعبية سنة ١٩١٩ .... وكلها مؤلفات تعتبر غاية في الإفادة.

وله كتب لم تنشر ، منها مؤلف كبير في المنطق ، وكتاب في التصوف ، وفصول في الأدب تقع في مجلدين كبيرين. وكان رئيسا لمجلس إدارة الجمعية الخيرية ، التي كان والده من مؤسسيها ، وكان عضوا في مجمع اللغة العربية ، والمجمع العلمي المصري.

وفي ٢٧ مارس عام ١٩٤٧ أقيمت حفلة لتأبينه في جامعة فؤاد الأول ، ألقى فيها لطفي السيد وعبد العزيز فهمي والدكتور حسين هيكل ومنصور فهمي وإبراهيم دسوقي أباظة وطه حسين وأمين الخولى والعقاد وسواهم كلمات وقصائد في الإشادة بمناقبه. وألقى الشيخ محمد عبد اللطيف دراز في الحفلة كلمة جاء فيها :

عرفت مصطفى عبد الرازق سكرتيرا عاما لمجلس الأزهر الأعلى ، وعرفته موظفا في وزارة العدل بعد إبعاده عن الأزهر بسبب موقف وطني كريم ، وعرفته أستاذا في الجامعة ، ووزيرا ، وشيخا للجامع الأزهر ، وخالطته أطول مخالطة ، وخبرته أشد الخبرة في كل ما ينبغي أن يعرف صديق عن صديق ، وأخ عن أخ ، فأشهد ما تقلب به دهر ، ولا حاد عن

٢٨٣

عهد ، ولا زال عنه من خلق الرجال ما يزول عن المسترجلين والمتعاظمين ، إذا دالت الدولة ونبا الزمان وتقطعت بهم الأسباب ، فهو راض وإن سخط غيره ، وهو سمح وإن تعسر الزمان.

كان مصطفى عبد الرازق مثقفا ، ولكن أية ثقافة هي؟ هي الثقافة الإسلامية التي أفنى العمر في تصويرها والدعوة إليها ، وحمل الأمة عليها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي ومحمد مصطفى المراغي وغيرهم من قادة النهضة وأئمة الإسلام في عصرنا القريب. كان هو المثال الذي تمثلت فيه هذه الثقافة الحية الناهضة الجامعة بين خير ما في الشرق وخير ما في الغرب من تراث الإسلام الطاهر ، وثمرة العقول الناضجة ، وبهذا نعلم مقدار خسارتنا وخسارة الأزهر والإسلام بفقد هذا الرجل. كان مصطفى عبد الرازق مؤمنا ، وإيمانه هو الذي كون له هذه النفس القوية العظيمة ، فإن الثقافة وحدها لا تصنع النفوس ، فنحن نرى بعض المثقفين يتخذون من ثقافتهم طريقا لمجرد كسب العيش ، وهي في البعض الآخر طريق إلى الشرور والمآثم والفتن ، تشقى ولا تسعد ، وتدمر ولا تعمر ، وتهلك الحرث والنسل ، ويبغى بها الناس بعضهم على بعض ، ويسعون بها في الأرض فسادا ، فما أبعد الفرق بين هذه الثقافة وبين كرائم الإيمان!. تلك مادية صرف ، وليس من هذا فقط كان فسادها فقد تنفع المادة وتصلح ، ولكن فسادها كان من أن الشيطان تولى زمامها فصرفها عن غايتها المثلى وأركسها في الشهوات والأهواء. أما مواهب الايمان فهي نفحات قدسية تملأ القلب هداية ونورا ، وسكينة وثباتا ، وأمنا وسلاما ، ومحبة ورضا ، وأملا في الله ومراقبة له ، وعملا لوجه ربك ذي الجلال والإكرام. وهذه هي السعادة التي جاء بها المرسلون وجاهد في سبيلها المصلحون ، وسعد بها المؤمنون ، فإذا هيء لنفس طيبة نبيلة أن تجمع بين هبة الدين الحق والعلم الصحيح ، فقد أشرقت بنور على نور ، ونور الإيمان بالله يملأ القلب ، ونور العلم يهتدي به العقل في الوصول إلى الحق. وكذلك كان فضل الله ونعمته على فقيدنا الكريم عليه رحمة الله :

٢٨٤

جمع الله له من خير ما يحمد لعباده الصالحين ، فمنحه سلامة الفطرة ، فكان من أسلم الناس نفسا ، ومنحة سداد العقيدة فكان من أنفذ الناس بصيرة في الدين ، ومن أشدهم استمساكا به واعتصاما بهديه ، ومنحه العلم الصحيح والمعرفة الواسعة فكان من أجمع الناس لعلوم الشرق والغرب ، تمثلهما عن خبرة ودراية وإمامة ، وهو بهذا من الأمثلة الكاملة في الشرق للثقافة الإسلامية الكاملة. فإذا أراد الأزهر مثالا أعلى لأبنائه وإذا أراد الأزهر مثالا أعلى لشيوخه ورؤسائه ، فإن مصطفى عبد الرازق هو المثل الذي يعز نظيره ويندر وجوده. وهل هناك أدلة على بنوته الأصيلة للأزهر من أن ثقافته الحديثة لم تحل بينه وبين أزهريته في جميع مراحل حياته ، وبقي ابنا للأزهر في روحه وعمله وفي وفائه لأصدقائه؟ وقد بالغ في التمسك بأزهريته إلى حد أنه وقد تقلد منصب الوزارة لم يستطع أن يغير زيه الأزهري وقد قبل منه ذلك على روى. وهل هناك دليل على تأصل الروح الأزهري في نفسه أظهر من هذا؟ إن الطلبة الأزهريين الآن يحاولون أن يخلعوا أزياءهم ليبرزوا في صورة أخرى زعموا أنها هي الموافقة لروح العصر ، فكيف تقول في رجل سافر إلى أوروبا وتولى من المناصب وخالط من الأشخاص والهيئات والبيئات ما كان يلح في دعائه إلى تغيير زيه فلم يجد منه ذلك كله إلا إباء وامتناعا واعتصاما بكل ما يدل على أنه ابن الأزهر؟ ومسألة الزي عندنا مسألة شكلية ، ولكني قصدت أن أشير إلى مظهر للأزهرية الأصيلة في نفس مصطفى عبد الرازق ، وهذه الأزهرية الصحيحة هي التي مكنت له أن يجمع بين ثقافة الشرق والغرب فلم يختلفا عليه ، ولم يستعص عليه أمرهما كما استعصى على غيره. وإذا تحدث متحدث عن مصطفى عبد الرازق فلن يستطيع أن يغفل الحديث عن سماحة نفسه وعطفه على المحتاجين ، وإن كان حديثه معادا ، لأن في تكرار هذا الحديث متعة لنفس المتحدث ونفوس السامعين ، يعرف هذه السماحة كل موطن من المواطن التي عاش فيها الفقيد موظفا وغير موظف ، في الجامعة وفي الأزهر ، يعرف الطلبة الذين كاد الفقر أن يحول بينهم

٢٨٥

وبين عايتهم ، فكان مصطفى عبد الرازق هو الذي يكفيهم ، وهو الذي يفرج عنهم ـ بفضل الله عليهم وعليه ـ هذه الشدة ، وتعرفه عائلات فقيرة أخنى عليها الدهر ، فكان مصطفى عبد الرازق غوثها ومددها وعائلها ، يخفى ذلك عن الناس ، ولو استطاع لأخفاه عن نفسه ، حتى لا تعرف شماله ما تنفق يمينه.

وفي مارس عام ١٩٤٧ أيضا أقام معهد المنيا الديني حفلة تأبين للمغفور له الأستاذ الأكبر الراحل ، ألقى فيها صاحب الفضيلة الشيخ محمود أبو العيون خطبة بليغة جاء فيها : فجع الأزهر في شيخه فجاءة ، فكانت صدمة الفجيعة فيه شديدة ، صدمة روعت القلوب ، وأذهلت النفوس ، وأدهشت العقول. وقعت الواقعة في وقت كان الأزهر يستشرف بواكير أعمال شيخه الجليل وإصلاحاته التي وضع أسسها في أيامه القليلة التي قضاها بين ربوعه .. إن الشيخ مصطفى كان يحمل على أطواء قلبه النابض بالخير للأزهر والإسلام بنود العمل المجيد ، والنهضة الصالحة للجامعة الأزهرية بما يكفل لها الحياة الأزهرية القيمة ، والمستوى الرفيع بين جامعات الأمم المتحضرة. وكان طموحه وهدفه أن ييسر للأزهر النهوض برسالته الدينية والجماعية ، ونشر السلام والطمأنينة في هذا العالم المملوء بالشرور والقلق الروحى.

كان يجمعنا إليه ويضع الاقتراح في مسألة معينة من مسائل الإصلاح في الأزهر ، ونتداول الرأي فيها ويدلى هو برأيه كالمستفهم ، وفي النهاية يستقيم الأمر على الأساس الذي ارتآه في نفسه وفي سريرته. وهكذا دواليك ، حتى اجتمع من ذلك جملة مسائل للإصلاح الذي انتواه ، ووضع أساسه ، وأزمع إجراءه. وفي الحق : انه ما كان يقطع برأى دون الإجماع منا على استحسانه ونفعه ، وكان سبيله في الإقناع الرفق واللين ، والحجة الناطقة ، والبرهان الواضح. وضع مرة مسألة أمامنا : فقيدنا العظيم ، ووكيل الأزهر ، ومديره ، والمائل أمامكم. تداولنا الرأي في المسألة فكان رأيي مخالفا للجميع في صلابة. فابتسم المغفور له ابتسامة عميقة الإحساس ،

٢٨٦

ثم قال : لعل لفلان حجة يكون فيها مقنع لنا. وما زال بي يلطف ويرق ، ويعالج ويقنع ، حتى جرني إليه وأسلس قيادي ، فكنت في صف الجماعة.

وكان شيخنا كثير الحلم والأناة. وأذكر أنه عرض من بعض الطلبة شيء مخالف قبيل وفاته مما يستفز صدر الحليم ، فرعد وزمع ، وتمعر وجهه على غير عادته ، فقلت : سيدي أين غاب عنك حلمك ، ولم تغيرت عادتك في هذه المرة؟! فقال مبتسما ، وفي صوت مرنان : ومن ذا الذي ياعز لا يتغير؟ إن الأزهر حين فجع في شيخه الأكبر ، فإنما فجع في أسمى وأطيب وأعرق الخلال الكريمة التي لو وزعت على جماعة كثيرة لوسعتهم جميعا ، وكان أجلى ما في خلاله الوفاء ، الوفاء الخالص المتصل ، لأصدقائه ولداته ، والعفاة المحرومين الذين اتصلوا به ، وكان إلى جانب الوفاء الكرم والسماحة ، كرم النفس ، وسماحة الصدر إلى حد التضحية بكل نفيس في سبيل ذلك. وفي جانب الوفاء والكرم والسماحة والحياء.

ومن كلماته كلمة ألقاها بمناسبة اختياره رئيسا فخريا لجمعيات المحافظة على القرآن الكريم بعد وفاة الشيخ المراغي ، قال فيها :

«القرآن مصقلة القلوب كما ورد في الحديث ، وما أحوج قلوبنا إلى ما يصقلها ويجلو منها الصدأ! والقرآن هدى ونور ، فهل إلا القرآن لما بغشى العالم اليوم من ظلام وضلال ، والقرآن من بعد هذا ثقاف للألسن ، يقوم عوجها ، ويصلح عجمتها ، ويغذى من البلاغة مادتها ، فمن عمل على تنشئة أطفالنا على حفظ القرآن وترتيله ومدارسته ، فإنما يصلح القلوب ، ويقوم الأخلاق ، ويخدم العربية ، وما أشرف ذلك مقصدا وأعظمه نفعا!» ويتقاضانا الوفاء بمناسبة أول احتفال سنوي بعد وفاة الرئيس الفخري السابق رضى الله عنه أن نذكر مآثره الباقيات في خدمة القرآن الكريم : كان رحمه الله مسلما صادقا ، وكان يحب القرآن حبا جما ، وقد عنى في أكثر دروسه الدينية بالتفسير في أسلوب يلائم جلال كتاب الله ، ويوطد أسباب فهمه لأذواق الأجيال الحاضرة ، كما كان يصنع من قبل أستاذنا الإمام «الشيخ محمد عبده». ووجه الأزهر إلى العناية بالدراسات العالية لعلوم

٢٨٧

القرآن ، وقد أنشأ معهد القراءات والتجويد ، والمرجو أن يتابع الأزهر السير في هذه السبيل ، فيقوى معهد القراءات ويكمله ، وينشىء إلى جانبه دراسات عالية للحديث وعلومه ، حتى يستوفي الأزهر جميع الوسائل التي تعده لأن يكون كعبة المسلمين في كل ما يتصل بالقرآن والحديث. وفي مجلة الأزهر دراسة عن الشيخ مصطفى عبد الرازق (١).

رأي طه حسين في الشيخ

كتب طه حسين عن مصطفى عبد الرزق يقول :

كنت في السادسة عشرة حين لقيته لأول مرة حين أقبل زائرا لثلاثة من رفاقه في الأزهر ، بينهم أخي ، وكانوا جميعا يقيمون في غرفات متقاربة في ربع من تلك الربوع التي كان طلاب الأزهر يحتلونها في حوش عطى .. وكانوا يجتمعون في غرفة أحدهم حين يزورهم الزائرون ، وقد كان الاجتماع في غرفتنا تلك المرة. وقد لقيت منه شابا حار الصوت ، صادق اللهجة ، عذب الحديث ، لا يرفع صوته إلا بمقدار ، وكان قليل الحركة ، معتدل النشاط ، يمتاز من رفاقه أولئك بهذا الوقار الهادىء المطمئن الذي لا يتسم به الشباب عادة ، وإنما هو سمة الشيوخ ومن يجري مجراهم من الذين تقدمت بهم السن.

كان جم الأدب ، موفور التواضع ، لا يتجاوزر القصد في قول أو عمل ، يفرض عليه طبعه ذلك ، ويفرضه هو على الذين يجالسهم أو يتحدث إليهم ، كأنما كان يلقي في نفوسهم وقلوبهم وعلى ألسنتهم ، فضلا من وقاره وهدوء نفسه. فهم يتحدثون مثله في أناة ، ويضحكون مثله في قصد ، ويروون معه أحاديث الجد ، وربما عبثوا شيئا بنوادر الشيوخ من أساتذة الأزهر. ومضى وقت غير قصير قبل أن تقوى الصلة بينه وبيني.

__________________

(١) عدد شعبان ١٣٧٠.

٢٨٨

كان قد أشرف على الخروج من طور الطلب إلى طور العلماء ، وكنت في أول عهدي بالدرس ، لم أنفق في الأزهر إلا عامين أو ثلاثة ، وكان أولئك الرفاق يلقونه في درس الأستاذ الإمام ، ويزورونه ـ إذا أقبل الليل ـ في داره بعابدين. فإذا عادوا تحدثوا عنه وعن إخوته ، وعمن كانوا يلقونه في تلك الدار من أصحاب المنازل الرفيعة ، يملأون أفواههم بهذه الأحاديث ، ويشعرون بأنها ترفعهم درجة عن أمثالهم من الطلاب.

وكان أولئك الرفاق يمتازون من زملائهم بالذكاء ، وحسن التحصيل ، والبراعة في مجادلة الشيوخ. وأكبر الظن أن هذا هو الذي لفت إليهم زميلهم مصطفى عبد الرازق ، فقد كان شديد الحرص على أن يصل أسبابه بأسباب الذين يحبون العلم ، ويمتازون فيه ، كأنه أخذ هذه الخصلة عن والده وعن أستاذه الإمام ، فكلاهما كان يرى حب العلم نادرا في مصر ، ويبحث عن الذين يتصفون به بين طلاب الأزهر وغيرهم من الشباب. وقد ظلت هذه الخصلة ملازمة لمصطفى عبد الرازق حياته كلها ، وقد وصلت أسبابه بكثير من الذين امتازوا في طلب العلم بين الأزهريين وبين المختلفين إلى مدرسة القضاء وبين الجامعيين آخر الأمر ، على اختلاف بيئاتهم وطبقاتهم.

وكان لا يعرف محبا لطلب العلم مخلصا في هذا الحب إلا سعى إليه واتصل به وقربه منه وفتح له قلبه وعقله وداره أيضا. ومهما أنس فلن أنسى تلك الجماعة التي ألفها من بعض أولئك الممتازين من طلاب العلم في الأزهر ، ونظم لها اجتماعا برياسته مساء الجمعة من كل أسبوع. وكانت هذه الجماعة تلتقي في غرفة من غرفات الطلاب في ربع من ربوعهم أيضا بخان الخليلي ، ويلقي أعضاؤها أحاديث في موضوعات مختلفة تدور كلها حول الإصلاح الذي كانت مصر كلها تتحرق ظمأ إليه ، وإلى إصلاح الأزهر خاصة بعد أن شب الأستاذ الإمام في قلوب الممتازين من شبابه جذوة الثورة على ذلك الركود الذي اطمأن إليه الأزهر قرونا طوالا.

٢٨٩

وكان افتتاح مصطفى عبد الرازق لجلسات تلك الجماعة هو أشد ما يعجبني ويروعني ، فهو لم يكن يزيد على أن يسمي الله ويقرأ الفاتحة ، ثم تأخذ الجماعة فيما تريد أن تدير بينها من الحديث وأي افتتاح أبلغ وأوقع في القلوب من اسم الله وفاتحة الكتاب المجيد! وقد عرفت بعد ذلك أن مصطفى عبد الرازق كان يذهب في ذلك مذهب الوفاء الصادق لأستاذه الإمام الذي افتتح رسالته في التوحيد نفس هذا الافتتاح.

وإذا كان حب العلم وطلابه المخلصين هو الخصلة الأولى من الخصال التي لزمته حياته كلها ، فخصلة الوفاء هي الخصلة الثانية من خصاله. فقد عرفته محبا للعلم وطلابه كأشد ما يكون الحب وأصدقه وأعمقه ، يسعى إليهم ويقربهم منه ويؤثرهم بالخير وينزلهم من نفسه مكانة الصديق ، وعرفته كذلك وفيا لكل من أحب من الناس لا يفرق بينهم في ذلك مهما تكن الظروف ومهما يبعد بهم الزمان والمكان ومهما تلم الأحداث وتدلهم الخطوب.

كان وفيا للشافعي ، رحمه الله ، لأنه كان يذهب مذهبه في الفقه ، ويرى الوفاء له دينا عليه. ومن أجل ذلك ترجم رسالته وعني بدرسها وترجمتها وقتا غير قصير. وأثر هذا الوفاء للشافعي في حياته العقلية نفسها وفي نهجه الفلسفي تأثيرا شديدا ، وفتح له أبوابا من العلم لم تفتح لأحد من قبله من علماء المسلمين. فدراسته لرسالة الشافعي في الأصول ألقت في روعه رأيا خصبا لم يستغله تلاميذه بعد ، وأرجو أن يتاح لبعضهم تعمقه واستقصاء آثاره الخطيرة في تاريخ الحياة العقلية للمسلمين. فقد رأى أن الشافعي يفلسف في أصول الفقه وما يتصل به من المشكلات المختلفة في الدين واللغة واستنباط الأحكام من النصوص ، فارتقى برأيه هذا إلى من سبق الشافعي من المفكرين المسلمين الذين لم يجادلوا في أصول الفقه وحدها ، بل جادلوا في أصول الدين أيضا ، فأولئك الزعماء القدماء للأحزاب الإسلامية الأولى. حين كانوا يجادلون في مذاهب أحزابهم وآرائها فيمن ثاروا بعثمان ومن تابعوا عليا ومن خاصموه ومن وقف من هذه

٢٩٠

الفتنة موقف الحياد ، وحين كانوا يجادلون في مقترف الكبيرة أمؤمن هو أم كافر أم هو يصير إلى منزلة بين منزلتين من الإيمان والكفر أم هو مرجأ إلى الله يقضي في أمره بالحق؟ وحين صاروا من هذا الجدال إلى الجدال في أمور أخرى أعمق من هذه الأمور ، فجادلوا في العدل والتوحيد ، إنما كانوا يفلسفون في مسائل الدين قبل أن يعرفوا الفلسفة اليونانية ، بل قبل أن يحسنوا العلم باللاهوت عند المسيحيين واليهود. ومعنى ذلك أن المسلمين قد أنشأوا فلسفتهم الأولى من عند أنفسهم ، وكانت فلسفة يسيرة سمحة كالإسلام نفسه ، ثم لقيت الفلسفة اليونانية بعد ذلك فأدركها ما في هذه الفلسفة من العسر والتعقيد.

وكذلك جره الوفاء للشافعي ، رحمه الله ، إلى استكشاف مذهب جديد في الفلسفة الإسلامية له خطره العظيم أن عرف تلاميذه كيف يتعمقون وينتهون به إلى غايته.

وكان وفيا للذين عرفهم وحسنت الصلة بينه وبينهم من الأساتذة الفرنسيين حين أقام في فرنسا طالبا للعلم الحديث ، بعد أن أخذ بحظه من العلم القديم في مصر.

عرف أستاذا فرنسيا شابا في إحدى الجامعات هناك واشتد الألف بينهما ، ثم أعلنت الحرب العالمية الأولى ، ودعى ذلك الأستاذ الفرنسي إلى أداء واجبه العسكري ، فاستجاب للدعاء وترك زوجة وليس لها عائل ، فكان مصطفى عبد الرازق يؤثرها على نفسه بالنصيب الأوفر مما كان يصل إليه من المال ، لا يتردد في ذلك ولا ينقطع عنه حتى عاد إلى مصر. والله يعلم ماذا فعل بعد عودته. وقد عرفت ذلك من الأستاذ الفرنسي نفسه ، وقد كلمت فيه مصطفى فغير مجرى الحديث ، وظل وفيا لهذا الأستاذ ، حتى إذا وضعت الحرب أوزارها ، ومضى شيء من الوقت ، وخلا منصب فني من المناصب في مصر ، ولم يكن بين المصريين من يستطيع النهوض بأعباء هذا المنصب ، وأخدت الحكومة تبحث عن أجنبي ـ جدّ مصطفى حتى اختير صديقه ذاك لهذا المنصب. وسألته عن عنايته الخاصة بهذا

٢٩١

الأستاذ وجده في السعي له ، فأنبأني بأنه يرى فيه الكفاية لمنصبه أولا ، وبأنه فقد زوجه وجزع لفقدها ، فمن الخير أن يترك وطنه ومدينته ويشغل عمله ذاك الجديد ، عسى أن يجد في ذلك عزاء وتسلية.

وربما جر عليه وفاؤه ذاك بعض ما كان يضيق به من الأمر ، ولكنه لم يحفل قط بعواقب الوفاء أتكون خيرا أم شرا ، بل لم يحفل قط بعواقب الواجب وما يمكن أن تجر عليه مما يسوؤه أو يرضيه. كان سعد زغلول منفيا عن وطنه وكانت زوجه تعيش في دارها بالقاهرة يبرها المصريون والسعديون منهم خاصة ، وكان مصطفى من أسرة تذهب مذهب الأحرار الدستوريين الذين كانوا يخاصمون سعدا أشد الخصام ، وكان مفتشا قضائيا بوزارة العدل ، وأقبل عيد من الأعياد ، فلم يتردد مصطفى في أن يذهب إلى دار سعد ويترك بطاقته هناك.

وانقضت أيام العيد ، وذهب مصطفى إلى عمله ، فلم يكد يستقر في مكتبه حتى دعي للقاء الوزير. فلما لقيه قال له الوزير : ألم أعلم أنك ذهبت الى دار سعد وتركت فيها بطاقتك يوم العيد؟ قال مصطفى : قد كان ذلك. قال الوزير : أو لم تعلم أن سعدا يناوىء الحكومة القائمة وأن زيارة داره سياسة محظورة على الموظفين؟ قال مصطفى : تلك مجاملات لا شأن لها بالسياسة ولا بالحكومة ، قال الوزير : فأنت مفصول منذ الآن. قال مصطفى : أنت وما تريد. وعاد مصطفى إلى داره غير حافل بما كان. ولكن رئيس الوزراء ثروت باشا ، رحمه الله ، علم بالأمر فعاتب الوزير فيه ، وترضى ذلك الوفى الذي وشت به الأرصاد فعوقب على الوفاء.

والبر بطلاب العلم خاصة ، وبكل من يحتاج إلى البر عامة ، كان الخصلة الثالثة من خصال مصطفى عبد الرازق. فلم أعرف قط قلبا ابر بفقير ولا نفسا أرق لذي حاجة ، ولا يدا أسرع إلى العطاء ، من قلب مصطفى عبد الرازق ونفسه ويده.

كان أستاذا في كلية الآداب بجامعة القاهرة ، وكنت لها عميدا في

٢٩٢

بعض الأوقات ، وكان فقراء الطلبة أكثر مما تحتمل قواعد المجانية في الكلية إذ ذاك ، فكان يسعى إلي في بعضهم ، فأجتهد له في ذلك حتى لا أجد سبيلا إلى الاجتهاد ، فأشهد ما تخلف قط عن أداء نفقات التعليم عن أولئك الذين كانت تضيق بهم القواعد. وكلمته في ذلك ذات يوم وقلت له : توشك ألا تجد شيئا من مرتبك آخر الشهر ، فضحك ضحكة حلوة ، وقدم إلي سيجارة من نوع جديد ، كما كان يقول ، ثم ألقى بهذه الكلمة التي لم أنسها قط ، والتي ينبغي أن يذكرها كل قادر على العون : وماذا تريد أن نصنع بهؤلاء الطلاب؟ أتريد أن نتركهم يصدون عن العلم ونحن نرى؟

كان وفيا وكان أبيا وكان برا وكان سمح الطبع والنفس والقلب. لم أره قط يخرج عن هذه الخصال منذ عرفته إلى أن فرق بيننا الموت. وكان لهذه الخصال كلها تأثير أي تأثير في حديثه إذا تكلم وفي فنه اذا كتب.

واقرأ ما شئت من فصول هذا الكتاب : ما كتبه منها أيام شبابه الأول ، وما كتبه منها بعد أن تقدمت به السن ، ما كتبه منها حين كانت الأيام هينة لينة ، وما كتبه منها حين كانت الأيام شدادا ثاقلا.

لم يكن شيء قادرا على ان يغير من خصاله تلك شيئا. كان سمحا في جميع أطواره وفي أطوار من حوله من الناس وما يحيط به من الظروف. كانت الابتسامة الحلوة أدل شيء عليه ، والحديث العذب ألزم شيء له. وكان يضيف إلى خصاله هذه خصلة أخرى إذا كتب ، وهي خصلة العناية الدقيقة جدا بالتفكير أولا وبالتعبير بعد ذلك عما فكر فيه. كان لا يكره شيئا كما كان يكره العجلة في القول والعمل والمشي أيضا.

كان شديد الإيثار للإناة. وكان ذلك ربما عرضه لدعابات الصديق والزملاء ، فما أكثر ما كانت تعقد الاجتماعات ، ويحضر أعضاء هذه الاجتماعات في الموعد المقدر لا يتأخرون عنه إلا الدقيقة أو الدقائق القليلة إلا مصطفى ، فكان يأتي دائما متأخرا جدا وكان زملاؤه لا يحبون

٢٩٣

أن يأخذوا في العمل قبل حضوره. فكانوا ينتظرون وينتظرون ، وربما اضطرهم ذلك إلى بعض الضيق ، ولكنه كان يطلع عليهم بابتسامته الحلوة تلك ، فلا يكادون يرونه حتى يضحكوا له ، ولا يأخذون في عملهم إلا بعد دعابة لا تمل.

وكان لهذه الأناة أثرها في كتابته ، فأنت لا تجد فيما يكتب معنى نافرا أو فجا لم يتم نضجه قبل أن يعرب عنه. وأنت لا تجد فيما يكتب لفظا نابيا عن موضعه ، أو كلمة قلقة في مكانها ، وإنما كان كلامه يجري هادئا مطمئنا كما يجري ماء الجدول النقي ، حتى حين يداعب صفحته النسيم وكنت أشبه له كتابته بعمل صاحب الجواهر : يستأني بها ويتأنق في صنعها لتخرج من يده جميلة رائعة تثير فيمن يراها المتعة والرضى والإعجاب. كان يتأنق في فنه كما كان يتأنق في حياته كلها ، وكما كان يتأنق في سيرته مع الناس جميعا ، سواء منهم من كان يألف ومن كان يجفو. فلست أعرف أن أحدا سخط عليه أو ضاق به أو شكا منه. كان راضي النفس ، يبعث الرضى في نفوس الناس حين يرونه وحين يسمعونه وحين يقرؤون له.

واني لأذكر حديثا له ألقاه في مؤتمر من مؤتمرات المستشرقين في مدينة «ليدن» وكان المؤتمرون كثيرين ، وكانت أحاديثهم كثيرة متنوعة ، وكان رئيس الجلسة مضطرا إلى أن يقدر للمتحدثين عشرين دقيقة لا يعدوها احد مهما يكن حديثه. وقد التزم المؤتمرون ذلك ولم يخالف عنه أحد منهم. فلما أخذ مصطفى في حديثه في صوته ذاك الهادىء العذب الرقيق أصغت إليه الآذان ، ثم صغت إليه القلوب ، ثم اتصلت به النفوس ، وكان يقطع حديثه بين حين وحين ويلتفت إلى الرئيس مبتسما كأنه يسأله : أيمضي في حديثه! فيشير الرئيس إليه : أن نعم ، حتى إذا أتم حديثه كان قد جاوز الأربعين من الدقائق. لم يحس أحد أنه قد أطال ، وأخذ من الوقت أكثر مما كان ينبغي له.

واقرأ هذا السفر الضخم الذي تختلف فيه الأحاديث والموضوعات

٢٩٤

اختلافا شديدا فستراه على ذلك مؤتلفا أشد الائتلاف يؤلف بين مختلفاته ما تفيض عليه نفس الكاتب الهادئة السمحة الرزينة من هدوء سمح رزين.

ولو أني أرسلت نفسي على سجيتها لما وجدت لحديثي عن مصطفى غاية انتهى اليها أو حدا أقف عنده.

فاشهد ما مر بي يوم دون أن أفكر فيه يقظا ، وأشهد ما مر أسبوع دون أن أراه فيما يرى النائم ، كما كنت ألقاه اثناء الحياة.

فلأخلص أنا للتفكير في هذا الصديق العزيز ، ولتخلص أنت لقراءة أصدق حديث لأخ عن أخيه اولا ، وأسمح كلام كتبه كاتب في هذا العصر الحديث بعد ذلك.

٢٩٥

الشيخ مأمون الشنّاوي شيخ الأزهر

١٨٨٠ ـ ١٩٥٠

ـ ١ ـ

من بيت علم وتقوى وصلاح ، كان والده الشيخ سيد أحمد الشناوي من مركز السمبلاوين ، وأقام في بلدة الزرقا من أعمال مديرية الدقهلية لمصالح مالية له ، وكان عالما جليلا متفقها في شئون الدين ، وكان أخوه الأكبر فضيلة الأستاذ الجليل المرحوم الشيخ سيد الشناوي من كبار رجال القضاء الشرعي ، وتولى رئاسة المحكمة العليا الشرعية ، ومات بعد أن ترك وراءه ذكرى عاطرة ، وآثارا طيبة في القضاء ، وأحكاما تعد مثالا يحتذى في سلامة الفهم ، ونفاذ الخاطر ، وسعة الإطلاع.

ـ ٢ ـ

ولد عام ١٨٨٥ ، وحفظ القرآن الكريم في قريته وهو في الثانية عشرة من عمره.

وأرسله والده إلى الأزهر الشريف بالقاهرة يطلب العلم ، فعاش عيشة طلاب الأزهر ، يوجهه أخوه الأكبر الشيخ السيد الشناوي الذي كان قد سبقه بسنوات إلى المجاورة في الأزهر.

وكاد الشيخ محمد مأمون يسأم من حياته في الأزهر ، وينقطع عن الدراسة ، ويترك التعليم ، ويعيش في قريته فلاحا يزرع الأرض ، لو لا أن والده أخبره أنه

٢٩٦

رأى في نومه حلما يدل على أنه سيكون له ولدان عالمان ، فاستبشر محمد مأمون بهذه الرؤيا وعاد إلى الأزهر.

وواصل الدراسة حتى كان موضع إعجاب شيوخه ، وأساتذته ، وفي طليعتهم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده ، والشيخ أبو الفضل الجيزاوي.

وتقدم الشاب الشيخ محمد مأمون لامتحان العالمية ، ولكنه كان قد سبقته وشايات بعض الطلاب إلى أساتذته ، بأنه يتناولهم بالنقد ، وأنه شاعر ، إلى غير ذلك ، فأخذ أعضاء اللجنة يتحدونه وهو يتحداهم .. وكان الشيخ أبو الفضل الجيزاوي أحد الأعضاء ، ولكنه لم يكن يعرف شيئا عن الوشايات التي بلغت زملاءه ، ورأى هذا العالم الصغير الشاب جديرا بلقب «عالم» ، بل مثالا لإخوانه في سلامة الفهم وسعة المحصول العلمي ، فدافع عنه ونال شهادة العالمية عام ١٩٠٦ .. ومما يذكر أنه وهو يتأهب لامتحان العالمية أصابه إجهاد شديد من كثرة المذاكرة ، فذهب إلى عالم صالح من أولياء الله ، يستفتيه في أمره ، فبشره هذا الولي بأنه سيكون عالما فاضلا فقاضيا عادلا ، فإماما نبيلا ، فرئيسا جليلا ، فشيخا كبيرا .. وتحققت النبوءة على مر الأيام.

ـ ٣ ـ

وعين مدرسا بمعهد الاسكندرية الديني ، بعد تخرجه من الأزهر. ثم اختير عام ١٩١٧ قاضيا شرعيا بعد أن طارت شهرته ، وذاع صيته ، وضرب أحسن الأمثال في جلال الخلق ، وسعة الأفق ، وطول الباع في الإلمام بأسرار علوم الشريعة والدين.

واختير محمد مأمون الشناوي إماما (للسراي) ، ثقة بعلمه وخلقه ودينه وفضله ، فكان موضع التقدير والإجلال من الجميع.

وفي عام ١٩٣٠ صدر قانون تنظيم الجامع الأزهر والمعاهد الدينية في عهد شيخه الشيخ الأحمدي الظواهري ؛ وأنشئت الكليات الأزهرية الثلاث : الشريعة واللغة وأصول الدين ، على نظام جامعي راق ، فاختير ثلاثة من كبار رجال الدين

٢٩٧

لتولي مشيخة الكليات الثلاث ، وهم الشيخ محمد مأمون الشناوي الذي تولى مشيخة كلية الشريعة ، والأستاذ الأكبر الشيخ إبراهيم حمروش شيخ معهد الزقازيق الديني حينذاك وقد تولى مشيخة كلية اللغة العربية ، والشيخ الجليل المرحوم الشيخ عبد المجيد اللبان شيخ القسم العام بالأزهر الشريف الذي تولى مشيخة كلية أصول الدين. وكان للشيخ مأمون طيب الله ثراه آثار جليلة في التوجيه العلمي والديني للأساتذة والطلاب ...

ولما افتتحت كلية الشريعة ـ يوم الأربعاء ٣ من ذي الحجة عام ١٣٥٠ ٢٩ مارس ١٩٣٣ ـ ألقى الشيخ محمد مأمون الشناوي كلية قيمة في حفلة الافتتاح صور فيها سير النهضة العلمية والدينية في الأزهر عامة وفي كلية الشريعة خاصة.

ـ ٤ ـ

وفي عام ١٩٣٤ منح الشيخ محمد مأمون الشناوي عضوية جماعة كبار العلماء.

ثم اختير وكيلا للأزهر بعد ذلك بعشر سنوات ـ عام ١٩٤٤ ـ وفي عهد وكالته للأزهر فاض الخير على العلماء ، وشملهم الأنصاف وسارت الأمور في الأزهر في مجراها الطبيعي .. وتولى منصب رئاسة لجنة الفتوى بالأزهر الشريف.

وفي عام ١٩٤٥ توفي شيخ الأزهر الشريف الأستاذ الأكبر المغفور له الشيخ مصطفى المراغي طيب الله ثراه ، وأريد اختيار خلف له ، وكان من الطبيعي أن يعين في منصب المشيخة وكيل الأزهر أو أحد كبار علماء الأزهر الشريف وفي مقدمتهم الأستاذ الأكبر الشيخ إبراهيم حمروش ، ومفتي الديار حينذاك الشيخ عبد المجيد سليم ، ولكن الحكومة في عهد النقراشي أصرت على تعيين المغفور له الأستاذ الأكبر الشيخ مصطفى عبد الرازق في منصب المشيخة الجليلة.

وقدم الشيخ مأمون استقالته من وكالة الأزهر ، كما قدم الأستاذ الأكبر الشيخ إبراهيم حمروش استقالته من كلية الشريعة ، والشيخ عبد المجيد سليم

٢٩٨

استقالته من الإفتاء ، وذلك يوم الثلاثاء ١١ ديسمبر عام ١٩٤٥.

وأصدر كبار الشيوخ وفي مقدمتهم الشيخ الشناوي بعد ذلك بيومين بيانا تاريخيا للأمة الإسلامية عن الخلاف بين الأزهر الشريف والحكومة في شأن مشيخة الجامع الأزهر ، إثر إقدام الحكومة على تعديل قانون الأزهر وتعيين المغفور له الأستاذ الأكبر الشيخ مصطفى عبد الرازق شيخا للأزهر ، وقد رفع هذا البيان إلى المسئولين في ١٣ ديسمبر عام ١٩٤٥.

ـ ٥ ـ

وفي مساء يوم الأحد ٧ ربيع الأول عام ١٣٦٧ ه‍ ـ ١٨ يناير عام ١٩٤٨ عين الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مأمون الشناوي شيخا للأزهر الشريف بعد شيخه الراحل المغفور له الأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرازق.

واستقبل فضيلته من الأزهريين ومن العالم الإسلامي استقبالا رائعا. وللأستاذ الأكبر الشيخ الشناوي مآثر خالدة على الأزهر في عهد مشيخته ..

ففي عهده أنشىء معهد محمد علي الديني بالمنصورة ومعهد منوف ، وأنشئت الوحدة الصحية للأزهر ، وضم معهد المنيا وجرجا وسمنود إلى الأزهر. وزادت البعوث الإسلامية إلى الأزهر ، كما زادت بعثات الأزهر إلى البلاد العربية والإسلامية.

وفي عهده ألغي البغاء الرسمي ، وجعل الدين مادة أساسية في المدارس ، وحوربت الفوضى الخلقية والاجتماعية والصور الخليعة ، وحددت الخمور في المحلات العامة.

وفي عهده نقلت كلية اللغة من الصليبة إلى البراموني ، ونقلت كلية الشريعة إلى المباني الجديدة للجامعة الأزهرية ، واشترك الأزهر في المؤتمر الثقافي العربي ، وتمت أماني كلية اللغة في المساواة بينها وبين معاهد اللغة العربية المختلفة ،

٢٩٩

وارتفعت ميزانية الأزهر ، وقضي على الفتن المختلفة فيه ، إلى غير ذلك من جلائل الأعمال.

ـ ٦ ـ

وبعد حياة حافلة بجلائل الأعمال توفي الأستاذ الأكبر الشيخ الشناوي عليه رحمة الله ، ففي الساعة العاشرة من صباح اليوما لحادي والعشرين من ذي القعدة عام ١٣٦٩ ه‍ ـ ٤ سبتمبر عام ١٩٥٠ فاضت روحه الطاهرة إلى بارئها راضية مرضية.

وابنته الصحف في العالم العربي والغربي في حسرة ولوعة وتقدير. وفي ذلك تقول جريدة المصري عدد ٥ سبتمبر ١٩٥٠ م : فجعت مصر بل العالم الإسلامي كله أمس بوفاة المغفور له الأستاذ الأكبر محمد مأمون الشناوي شيخ الجامع الأزهر ؛ وقد خسر العالم الإسلامي بوفاته عالما ثبتا وحجة قوية وفقدت مصر فيه الورع والتقوى والبر والخير والإخلاص لدين الله ، وفقد الأزهر فيه كبير علمائه وشيخا من أخلص شيوخه ، ظل يعمل لخيره ، ويواصل السعي لتحقيق رسالته بين ربوع العالم الإسلامي ، ولم يقعد به المرض أو النصب يوما عن مواصلة سعيه وصرف اهتمامه إليه.

تولى رحمه الله مشيخة الأزهر في ١٨ يناير سنة ١٩٤٨ وكان الأزهر في ذلك الحين نهبا لعصبية ممقوتة كادت تقضي على ما يتمتع به من سمعة طيبة وماله في العالم من مكانة ، فرأب الصدع ولم الشمل وقضى على الفتنة في مهدها ، وشعر الأزهريون جميعا بأنهم أبناء جامعة واحدة وأنهم تربطهم صلات أقوى من صلات الدم .. وعلى هذا النحو ساس فضيلته شئون الأزهر ، وعمل على تقوية ما بينه وبين العالم الإسلامي من روابط فأوفد البعوث الإسلامية المختلفة إلى ربوع العالم الإسلامي تنشر مبادىء الإسلام والثقافة الإسلامية وتقرب ما بين المسلمين وتعمل على إزالة الفرقة والخلاف بينهم.

وزيادة في تقوية الروابط بين البلاد الإسلامية أرسل فضيلته بعثة إلى انجلترا

٣٠٠