الشيعة هم أهل السنّة

الدكتور محمّد التيجاني السماوي

الشيعة هم أهل السنّة

المؤلف:

الدكتور محمّد التيجاني السماوي


المحقق: مركز الأبحاث العقائديّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-20-X
الصفحات: ٥٢٢

إليك بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقرابتك منه ، إلاّ ما أعفيتني من الكلام في هذا ، قال : قد أعفاك أمير المؤمنين.

أمّا ابن سمعان فقال له : أنتَ والله خير الرجال يا أمير المؤمنين ، تحجّ بيت الله الحرام ، وتجاهد العدوّ ، وتؤمّن السبل ، ويأمن الضعيف بك أن يأكله القويُّ ، وبك قوام الدّين ، فأنتَ خير الرجال وأعدل الأئمّة.

أمّا ابن أبي ذؤيب فقال له : أنتَ والله عندي شرّ الرجال ، استأثرت بمال الله ورسوله ، وسهم ذوي القُربى واليتامى والمساكين ، وأهْلكتَ الضعيف ، وأتعبتَ القوي ، وأمسكتَ أموالهم ، فما حُجّتك غداً بين يدي الله؟

فقال له أبو جعفر : ويحك ما تقول؟ أتعقل؟ أنظر ما أمامك؟

قال : نعم قد رأيت أسيافاً ، وإنّما هو الموت ، ولابدّ منه ، عاجله خير من آجله.

وبعد هذه المحاورة طرد المنصور ابن أبي ذؤيب وابن سمعان ، واختلى بمالك وحده وأمّنَه وقال له :

يا أبا عبد الله انصرف إلى مصرك راشداً مهدياً ، وإن أحببْتَ ما عندنا ، فنحنُ لا نُؤثر عليك أحداً ، ولا نعدلُ بك مخلوقاً.

قال : ثمّ بعث أبو جعفر المنصور من الغد لكلّ واحد منهم صرّة فيها خمسة آلاف دينار مع أحد شرطته وقال له :

تدفع لكلّ رجل منهم صُرّة ، أمّا مالك بن أنس إن أخذها فبسبيله ، وإن ردّها فلا جناح عليه في ما فعل.

وأمّا ابن أبي ذؤيب فائتني برأسه إنْ أخذها ، وإنْ ردّها عليك ، فبسبيله لا جناح عليه.

١٨١

وإن يكن ابن سمعان ردّها فَأئت برأسه ، وإن أخذها فهي عافيتُه.

قال مالك : فنهض بها إلى القوم ، فأمّا ابن سمعان فأخذها فسلم ، وأمّا ابن أبي ذؤيب فردّها فسَلم ، وأما أنا فكنتُ والله محتاجاً إليها فأخذتها (١).

ونلاحظ من هذه القصّة بأن مالكاً يعرف جور الخليفة وظلمه ، ولكنّه وللعلاقة الودية التي كانت بينه وبين المنصور فقد ناشده بمحمّد وقرابته منه.

وهذا ما كان يُعجبُ الحكّام العباسيين ويهمّهم في ذلك العصر ، وهو أن يعظّمهم الناس ويمجّدونهم بقرابتهم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولذلك فَهِم الخليفةُ قصد مالك فأعجبه ذلك وأعفاه من الكلام.

أمّا الثاني وهو ابن سمعان فقد أطراه بما ليس فيه مخافة القتل إذ كان السياف واقفاً ينتظر إشارة الخليفة.

أمّا الثالث وهو ابن أبي ذؤيب فكان شجاعاً ، لا يخشى في الله لومة لائم ، وكان مؤمناً مخلصاً وصادقاً ناصحاً لله ولرسوله ولعامّة المسلمين ، فجابهه بحقيقة أمره ، وكشف عن زيفه ومغالطته ، وعندما هدّده بالقتل رحّب به ولم يخَفْ منه.

ولذلك نرى أنّ الخليفة امتحنَ الرجلين بالأموال الطائلة ، وأعفى الإمام مالكاً من ذلك الامتحان ، فهو سالم في الحالتين إن أخذها أو ردّها.

أمّا ابن أبي ذؤيب فيقطع رأسه إن أخذها ، وكذلك ابن سمعان يقطع رأسه إنْ ردّها.

ولما كان أبو جعفر المنصور داهيةً عُظمى تراه عمل على رفع مكانة

__________________

١ ـ تاريخ الخلفاء لابن قتيبة ٢ : ١٩٦.

١٨٢

مالك وفرض مذهبه ، وقضى على مذهب ابن أبي ذؤيب بالرغم من أنّ ابن أبي ذؤيب كان أعلم من مالك وأفضل منه ، كما اعترف بذلك الإمام أحمد ابن حنبل (١).

كما أنّ ليث بن سعد كان أفقه من مالك ، كما اعترف بذلك الإمام الشافعي (٢).

والحقيقة في ذلك العصر أنّ الإمام جعفر الصادق كان أفضل وأعلم وأفقه منهم جميعاً وقد اعترفوا كلّهم بذلك (٣) ، وهل يتجرّأ أحدٌ من الأُمّة أن يُباريه في علم أو في عمل ، في فضل أو في شرف ، وجدّه علي بن أبي طالب هو أفضل وأعلم وأفقه من الخلق كلّهم بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

ولكنّ السياسة هي التي ترفَعُ قوماً وتضعُ آخرين ، والمالَ هو الذي يُقدّمُ قوماً ويُؤخّر آخرين.

والذي يهمّنا في هذا البحث هو أن نُبيّن بالأدلّة الواضحة والحُجج الدّامغة ، بأنّ المذاهب الأربعة لـ « أهل السنّة والجماعة » هي مذاهب ابتدعتها السياسة ، وفرضتها على الناس بوسائل الترهيب والترغيب والدّعاية ، فالنّاس على دين ملوكهم.

ومن أراد مزيداً من البيان والتحقيق فعليه بقراءة كتاب « الإمام الصادق والمذاهب الأربعة » للشيخ أسد حيدر ( رحمه الله ) ، وهناك سيعرف ما حضي

__________________

١ ـ تذكرة الحفاظ ١ : ١٩١.

٢ ـ راجع تهذيب التهذيب لابن حجر ٨ : ٤١٥ ، البداية والنهاية ١٠ : ١٧٨.

٣ ـ قد مرّ عليك قول مالك : ما رأت عينٌ ولا سمعتْ أذنٌ ولا خطر على قلب بشر أفقه من جعفر بن محمّد الصادق.

١٨٣

به الإمام مالك من الجاه والسلطان ، حتى إنّ الإمام الشافعي كان يتوسّل بوالي المدينة كي يدخل على مالك ، فيقول له الوالي : « أفضل المشي راجلا من المدينة إلى مكة أهون عليَّ من الوقوف على باب مالك ، لأنّي لا أشعر بالذلة إلاّ عند الوقوف على بابه » (١).

وهذا أحمد أمين المصري يقول في كتابه ظهر الإسلام : « كانَ للحكومات دخلٌ كبير في نصرة مذهب أهل السنّة ، والحكومات عادة إذا كانتْ قويّة وأيّدتْ مذهباً من المذاهب تبعهُ الناسُ بالتقليد ، وظلّ سنداً إلى أن تدول الدولة » (٢).

ونحن نقول بأنّ مذهب الإمام جعفر الصادق ، وهو مذهب أهل البيت إذا جاز لنا تسميتُه بالمذهب جرياً على عادة المسلمين ، وإلاّ فإنّه الإسلام الصحيح الذي جاء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لم يُؤيّده أي حاكم ، ولم تعترف به أيّة سلطة ، بل عمل كلّ الحكّام على إسقاطه والقضاء عليه ، وتنفير الناس منه بشتّى الوسائل.

فإذا شقّ تلك الظلمات الحالكة ، وكان له أتباعٌ وأنصارٌ عبر القرون الظّالمة ، فذلك من فضل الله تعالى على المسلمين ؛ لأنّ نور الله لا تُطفِئُه الأفواه ، ولا تقضي عليه السيوف ، ولا تبطله الدّعايات الكاذبة ، والإشاعات المُغرضة ؛ لئلاّ يكون للناس على الله حجّة ، أو يقولوا إنّا كنّا عن هذا غافلين.

والذين اقتدوا بأئمة الهُدى من العترة الطاهرة ، كانُوا ثلّة قليلة يُعدّون على

__________________

١ ـ نحوه في تاريخ دمشق لابن عساكر ٥١ : ٢٨٦.

٢ ـ كتاب ظهر الإسلام ٤ : ٩٦ ، الفصل الثالث.

١٨٤

الأصابع بعد وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتكاثروا على مرّ التاريخ والعصور ؛ لأنّ الشجرة الطّيبة أصلها ثابتٌ وفرعها في السماء ، تؤتي أُكلها كلّ حين بإذن ربها ، وما كان لله دام واتّصل.

وقد حاولتْ قريش القضاء على محمّد في بداية الدعوة ، ولمّا عجزتْ عن ذلك بفضل الله وفضل أبي طالب وعلي اللذين كانا يفديانه بنفسيهما ، سلّت قريش نفسها بأنّ محمّداً أبتر ليس له عقب إذا مات انقطع نسله وانتهى أمره ، فصبروا على مضض.

ولكنّ ربّ العالمين أعطاه الكوثر ، وأصبح محمّد جدّ الحسنين ، وبشرّ المؤمنين بأنهما إمَامان إن قاما وإن قعدَا ، وبأنّ الأئمة كلّهم من ذرية الحسين ، وهذا كلّه يهدّد مصالح قريش ومستقبلها.

وهذا لم يُعجب قريش ، فثارت ثائرتُها بعد وفاة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحاولتْ القضاء على عترته كلّها ، فأحاطوا بيت فاطمة بالحطب (١) ، ولولا استسلام علي وتضحيتُه بحقّه في الخلافة ومسالمته لهم ، لقُضي عليهم ، وانتهى أمرُ الإسلام من ذلك اليوم.

وسكتتْ قريش ، وهدأ روعها ما دامتْ هي الحاكمة ، وليس في نسل محمّد من يهدّد مصالحها ، وبمجرّد ما رجعتْ الخلافة لعلي اشعلتْ قُريش

__________________

١ ـ قصّة تهديد القوم لإحراق بيت فاطمة عليها‌السلام أخرجها ابن أبي شيبة في مصنّفه ٨ : ٥٧٢ بسند صحيح ، وقد قال الباحث السلفي حسن فرحان المالكي في كتابه ( قراءة في كتب العقائد ـ المذهب الحنبلي نموذجاً ) : ٥٢ في الهامش : ( كنت أظنّ المداهمة مكذوبة لا تصحّ حتي وجدت لها أسانيد قويّة منها ما أخرجه ابن أبي شيبة في المصنّف ) الذي نقلناه بالجزء والصفحة.

١٨٥

ضدّه الحروب الطّاحنة ، ولم تهدأ حتّى قضتْ عليه ، وأرجعتْ الخلافة إلى أخبث بطن من بطونها ، فأصبحت ملكية قيصرية يعهد بها الآباء إلى أبنائهم ، وعندما رفض الحسين مبايعة يزيد قريش ، هبّت قريش عند ذلك وثارتْ ثورتها العارمة للقضاء نهائياً على العترة النبويّة ، وكلّ شيء اسمه نسلُ محمّد ابن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فكانت مذبحة كربلاء ، والتي قتلوا فيها ذريّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما في ذلك الصبيان والرضّع ، وأرادوا اجتثاث شجرة النبوّة بكلّ فروعها ، ولكنّ الله سبحانه وتعالى أنجز وعدَه لمحمّد ، فأنقذ علي بن الحسين ، وأخرج من صلبه بقية الأئمّة ، ومُلئتْ الأرض بنسله شرقاً ومغرباً ، وكان الكوثر.

فما من بلد ولا قرية ولا بقعة من الأرض إلاّ لنسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها وجود وأثرٌ ، وعند الناس لهم فيها احترام ومودّة.

وها نحن اليوم ، وبعد كلّ المحاولات التي باءتْ بالفشل أصبح عدد نفوس الشيعة الجعفريّة وحدهم يبلغُ ٢٥٠ مليون مسلم في العالم ، كلّهم يقلّدون الأئمة الاثني عشر من عترة النبيّ ، ويتقرّبونَ إلى الله بمودّتهم وموالاتهم ، ويرجون شفاعة جدّهم.

ولن تجد مثل هذا العدد في أيّ مذهب من المذاهب الأُخرى إذا أخذنا كلّ مذهب على انفراد ، رغم تأييد الحكّام ودعمهم.

( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) (١).

__________________

١ ـ الأنفال : ٣٠.

١٨٦

ألم يأمر فرعون بذبح كلّ مولود من الذكور في بني إسرائيل عندما أخبره المنجّمون بأنّ مولوداً في الإسرائيليين يهدّد بزوال ملكه؟ ولكن خير الماكرين أنقذ موسى من مكر فرعون وأوصله حتّى تربّى في حجر فرعون نفسه ، وقوّض ملكه ، وأهلك حزبه ، وكان أمر الله مفعولا.

ألم يعمل معاوية ( فرعون زمانه ) على لعن علي وقتله وقتل أولاده وشيعته؟ ألم يحرّم أن يذكره ذاكر بفضيلة؟ ألم يحاول بكلّ مكره على إطفاء نور الله وإرجاع الأمر إلى الجاهلية؟ ولكنّ خير الماكرين رفع ذكر علي على رغم أنف معاوية وحزبه ، وأصبح ذكر علي يلهجُ به المسلمون سنّة وشيعة بل حتّى النصارى واليهود ، وأصبح قبر علي مزاراً بعد قبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يقصده ملايين المسلمين ، يذرفون الدموع ، ويتقرّبون إلى الله به ، وتعلو مقامَه قبّةٌ ومآذن ذهبية شامخة في السماء تأخذ بالأبصار.

بينما خمدَ ذكر معاوية الامبراطور الذي ملك الأرض وعاث فيها فساداً ، فهل تجد له ركزاً؟ أم تجد له مزاراً يُذكر غير مقبرة مظلمة ومهملة؟ فإنّ للباطل جولة وللحقّ دولة ، فاعتبروا يا أُولي الألباب.

والحمدُ لله على هدايته ، الحمدُ لله الذي عرّفنَا بأنّ الشيعة هم على سنّة الرسول ، فهم أهل السنّة النبويّة لأنّهم اقتدوا بأهل البيت ، وأهل البيت أدرى بما فيه ، وهم الذين اصطفاهم الله وأورثهم علم الكتاب.

كما عرّفنا بأن « أهل السنّة والجماعة » قد اتّبعوا بدع الحكّام من السلف والخلف ، كما أنّهم لا حجّة لهم فيما يدّعونه.

١٨٧
١٨٨

حديث الثقلين عند الشيعة

وممّا يدلّ على أنّ الشيعة هم اتباع السنّة النبويّة الصحيحة ، هو ما يروى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حديث الثقلين وقوله : « إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ما أن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً ، فلا تتقدّموهم فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهم فتهلكوا ، ولا تعلموهم فإنّهم أعلم منكم » وفي بعض الروايات : « وإنّ اللطيف الخبير أنبأني أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض » (١).

__________________

١ ـ مضى تخريجه والكلام حوله في نهاية موضوع ( أهل السنّة ومحق السنّة ) السابق من هذا الكتاب ، وننقل هنا كلام الشيخ الألباني في صحيحته حول هذا الحديث ، قال الشيخ محمّد الألباني في صحيحته ٤ : ٣٥٥ ـ ٣٥٩ ح١٧٦١ : ( حديث العترة وبعض طرقه :

١٧٦١ ـ ( يا أيها الناس إنّي تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا ؛ كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ) أخرجه الترمذي ٢ : ٣٠٨ ، والطبراني ( ٢٦٨٠ ) عن زيد بن الحسن الأنماطي ، عن جعفر ، عن أبيه ، عن جابر بن عبد اللّه قال : « رأيت رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجّته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب ، فسمعته يقول : ... » فذكره ، وقال : حديث حسن غريب من هذا الوجه ، وزيد بن الحسن قد روى عنه سعيد بن سليمان وغير واحد من أهل العلم ».

قلت : قال أبو حاتم منكر الحديث ، وذكره ابن حبّان في الثقات وقال الحافظ : ضعيف.

قلت [ الألباني ] : لكنّ الحديث صحيح ، فإنّ له شاهداً من حديث زيد بن أرقم

١٨٩

__________________

قال : « قام رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوماً فينا خطيباً بماء يُدّعى ( خُمّاً ) بين مكّة والمدينة ، فحمد اللّه ، وأثنى عليه ، ووعظ وذكر ، ثمّ قال :

أمّا بعد ؛ ألا أيّها الناس فإنما أنا بشرٌ ، يوشك أن يأتي رسول ربّي فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين : أوّلهما كتاب اللّه ، فيه الهدى والنور ، من استمسك به وأخذ به كان على الهدى ، ومن أخطأه ضلّ ، فخذوا بكتاب اللّه ، واستمسكوا به ـ فحثّ على كتاب اللّه ورغّب فيه ـ ثمّ قال : وأهل بيتي ، أُذّكركم اللّه في أهل بيتي ، أُذّكركم اللّه في أهل بيتي ، أُذّكركم اللّه في أهل بيتي ». أخرجه مسلم ٧ : ١٢٢ ـ ١٢٣ ، والطحاوي في مشكل الآثار ٤ : ٣٦٨ ، وأحمد ٤ : ٣٦٦ ـ ٣٦٧ ، وابن أبي عاصم في السنّة ١٥٥٠ ـ ١٥٥١ ، والطبراني ( ٥٠٢٦ ) من طرق يزيد بن حيان التميمي عنه.

ثمّ أخرج أحمد ٤ : ٣٧١ ، والطبراني ( ٥٠٤٠ ) ، والطحاوي من طريق علي بن ربيعة قال : « لقيت زيد بن أرقم وهو داخل على المختار أو خارج من عنده ، فقلت له : أسمعت رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه وعترتي؟ قال : نعم ». وإسناده صحيح ورجاله رجال الصحيح.

وله طُرق أُخرى عند الطبراني ( ٤٩٦٩ ، ٤٩٧١ ، ٤٩٨٠ ، ٤٩٨٢ ، ٥٠٤٠ ) ، وبعضها عند الحاكم ( ٣ : ١٠٩ ، ١٤٨ ، ٥٣٣ ) ، وصحّح هو والذهبي بعضها.

وشاهد آخر من حديث عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً : « إني أوشك أو أُدعى فأُجيب ، وإنّي تارك فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا بعدي ؛ الثقلين أحدهما أكبر من الآخرة : كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ألا وأنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ». أخرجه أحمد ( ٣ : ١٤ ، ١٧ ، ٢٦ ، ٥٩ ) ، وابن أبي عاصم ( ١٥٥٣ ـ ١٥٥٥ ) ، والطبراني ( ٢٦٧٨ ـ ٢٦٧٩ ) والديلمي ( ٢ : ١ / ٤٥ ).

وهو إسناد حسن في الشواهد ، له شواهد أُخرى من حديث أبي هريرة عند الدارقطني (٥٢٩) ، والحاكم ( ١ : ٩٣ ) والخطيب في الفقيه والمتفقه ( ٥٦ / ١ ) ،

١٩٠

__________________

وابن عبّاس عند الحاكم وصحّحه ووافقه الذهبي وعمرو بن عوف عند ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله ( ٢ : ٤ / ١١٠ ) ، وهي وإن كانت مفرداتها لا تخلو من ضعف فبعضها يقوّي بعضها ، وخيرها حديث ابن عبّاس.

ثمّ وجدّت له شاهداً قويّاً من حديث علي مرفوعاً به ، أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار ( ٢ : ٣٠٧ ) من طريق أبي عامر العقدي : ثنا يزيد بن كثير عن محمّد بن عمر بن علي ، عن أبيه ، عن علي مرفوعاً بلفظ : « كتاب اللّه بأيديكم ، وأهل بيتي » ... ).

ثمّ يقول الشيخ الألباني رداً على من ضعّف الحديث مع كثيرة طرقه وصحتها يقول : ( بعد تخريج الحديث بزمن بعيد ، كُتب عليَّ أن أهاجر من دمشق إلى عمّان ، ثمّ أن أُسافر منها إلى الامارات العربية أوائل سنة ١٤٠٢ هجري ، فلقيت في قطر بعض الأساتذة والدكاترة الطيّبين ، فأهدى إليَّ أحدهم رسالة له مطبوعة في تضعيف هذا الحديث ، فلّما قرأتها تبيّن لي أنّه حديث عهد بهذه الصناعة ، وذلك من ناحيتين ذكرتهما له :

الأُولى : إنّه اقتصر في تخريجه على بعض المصادر المطبوعة المتداولة ، ولذلك قصّر تقصيراً فاحشاً في تحقيق الكلام عليه ، وفاته كثير من الطرق والأسانيد التي هي بذاتها صحيحة أو حسنة فضلا عن الشواهد والمتابعات ، كما يشاهد كلّ ناظر يقابل تخريجه بما خرجته هنا.

الثانية : إنّه لم يلتفت إلى أقوال المصحّحين للحديث من العلماء ، ولا إلى قاعدتهم التي ذكروها في مصطلح الحديث : إنّ الحديث الضعيف يتقوّى بكثرة الطُرق ، فوقع في هذا الخطأ الفادح من تضعيف الحديث الصحيح.

وكان قد نمي إليّ قبل الالتقاء به والاطلاع على رسالته أنّ أحد الدكاترة في الكويت يضعّف هذا الحديث ، وتأكّدت من ذلك حين جاءني خطاب من أحد الإخوة هناك يستدرك عليّ إيرادي الحديث في صحيح الجامع الصغير بالأرقام ( ٢٤٥٣ ، ٢٤٥٤ ، ٢٧٤٥ ، ٧٧٥٤ ) ؛ لأنّ الدكتور المشار إليه قد ضعّفه ، وأنّ هذا

١٩١

وحديث الثقلين هذا أخرجه « أهل السنّة والجماعة » في أكثر من عشرين مصدراً من صحاحهم ومسانيدهم ، كما أخرجه الشيعة في كلّ كتب الحديث.

وهو كما ترى صريح صراحة لا مزيد عليها بأنّ « أهل السنّة والجماعة » ضلّوا ؛ لأنّهم لم يتمسكوا بهما معاً ، وهلكوا لأنّهم تقدّموا على أهل البيت ،

__________________

استغرب منّي تصحيحه! ويرجو الأخ المشار إليه أن أُعيد النظر في تحقيق هذا الحديث ، وقد فعلت ذلك احتياطاً ، فلعلّه يجد فيه ما يدلّ على خطأ الدكتور ، وخطأه هو في استرواحه واعتماده عليه ، وعدم تنبيه للفرق بين ناشئ في هذا العلم ومتمكّن فيه ، وهي غفلة أصابت كثير من الناس الذي يتبعون كلّ من كتب في هذا المجال ، وليست له قدم راسخة فيه ، واللّه المستعان ) انتهى كلام الشيخ الألباني.

وقال ابن كثير في تفسيره ٤ : ١٤٢ : ( وقد ثبت في الصحيح أنّ رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) قال في خطبته بغدير خمّ : « إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه وعترتي ، وأنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض » .. ).

ومن هذا الكلام يتّضح أنّ ما ذكره عثمان الخميس في كتابه كشف الجاني : ١٧٨ من اتهام المؤلّف بالكذب في وجود هذا الحديث في صحيح مسلم والترمذي ما هو إلاّ مكابرة وتعنت وليست غفلة ، مع أنّ الشيخ الألباني والملقّب ببخاري العصر عند السلفية يصرّح بأنّه في صحيح مسلم والترمذي وغيرها من المصادر وكذلك ابن كثير ، والحديث صحيح لا غبار عليه ، بل كما ذكرنا في تعليقة سابقة أنّه حديث متواتر. وأعجب من ذلك تكذيب عثمان الخميس للحديث ، مع تصريح أئمته بأنّه صحيح ، بل وتصريح بعضهم بأنّه متواتر ، فهل يدّعي عثمان بأنّه أعلم من الشيخ الألباني وابن كثير وغيرهم المصرّحين بصحة الحديث؟! ولا يبعد ذلك منه بعدما رأيناه في كتابه كشف الجاني ينكر الواضحات والمسلمات الثابتة عندهم!! وللّه في خلقه شؤون.

١٩٢

وظنوا بأنّ أبا حنيفة ومالكاً والشافعي وابن حنبل أعلم من العترة الطاهرة ، فقلّدوهم وتركوا العترة الطاهرة.

على أنّ قول بعضهم بأنّهم تمسّكوا بالقرآن لا دليل عليه ؛ لأنّ القرآن كلّه عمومات وليس فيه تفاصيل الأحكام ، وهو حمّال أوجه ولابدّ له من مُبيّن ومفسّر ، كما هو الحال بالنسبة للسنّة النبويّة التي تتطلّب رواة ثقات ومفسّرين عالمين.

وليس هناك حلّ لهذا المشكل إلاّ بالرجوع لأهل البيت ، أعني الأئمة من العترة الطاهرة الذين أوصى بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وإذا أضفنا إلى حديث الثقلين المتقدّم أحاديث أُخرى لها نفس المعنى ، وترمي إلى نفس الهدف ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ لن يفترقا حتى يردا علي الحوض » (١) ، وقوله أيضاً : « عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ ، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض يوم القيامة » (٢) ؛ تأكّد لدينا ولدى

__________________

١ ـ المعجم الصغير للطبراني ١ : ٢٥٥ ، والأوسط ٥ : ١٣٥ ، الجامع الصغير للسيوطي ٢ : ١٧٧ ، المستدرك للحاكم ٣ : ١٢٤ وصححه ووافقه الذهبي في تلخيص المستدرك ، كنز العمال ١١ : ٦٠٣ ح٣٢٩١٢ ، فيض القدير في شرح الجامع الصغير ، المناوي ٤ : ٤٧٠.

٢ ـ تاريخ بغداد ١٤ : ٣٢٢ ح٧٦٤٣ ، تاريخ دمشق ٤٢ : ٤١٩ ، ٤٤٩ ، وفي مجمع الزوائد ٧ : ٢٣٥ عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ( عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ حيث كان ) ، قال الهيثمي : ( رواه البزار وفيه سعد بن شعيب ولم أعرفه ، وبقية رجاله رجال الصحيح ).

قال الشيخ الأميني : « الرجل الذي لم يعرفه الهيثمي هو سعيد بن شعيب

١٩٣

كلّ باحث بأنّ من ترك عليّاً فقد ترك التفسير الحقيقي لكتاب الله تعالى ، ومن ترك عليّاً فقد نبذ الحقّ وراء ظهره واتبع الباطل ، فليس بعد الحقّ إلاّ الضلال ، وتأكّد لدينا أيضاً بأنّ « أهل السنّة والجماعة » تركوا القرآن والسنّة النبويّة بتركهم الحقّ وهو علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، كما تأكّدتْ نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله بأنّ أُمّته ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة كلّها في الضلالة إلاّ فرقة واحدة (١).

وهذه الفرقة الناجية هي التي اتّبعتْ الحقَّ والهدى باتّباعها للإمام علي عليه‌السلام ، فحاربوا حربه ، وسالموا سلمه ، واقتدوا به في علمه ، وتمسّكوا بالأئمة الميامين من ولده.

( أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْن تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ) (٢).

__________________

الحضرمي ، قد خفي عليه لمكان التصحيف ، ترجمه غير واحد بما قال شمس الدين إبراهيم الجوزجاني بأنّه كان شيخاً صالحاً صدوقاً كما في خلاصة الكمال ١١٨ ، وتهذيب التهذيب ٤ : ٤٨ » الغدير ٣ : ١٧٧.

١ ـ ورد حديث افتراق الأُمّة بألفاظ مختلفة ، راجع سنن الدارمي ٢ : ٢٤١ ، المصنّف لعبدالرزاق ١٠ : ١٥٦ وفي كتاب السنّة لابن أبي عاصم : ٣٢ خصّص باباً بهذا العنوان ، مسند أحمد ٤ : ١٠٢ ، سنن ابن ماجة ٢ : ١٣٢٢ ح٣٩٩٣ ، وغيرها من المصادر.

٢ ـ البيّنة : ٧ ـ ٨.

١٩٤

حديث الثقلين عند « أهل السنّة »

كما قدّمنا فإنّ نفس الحديث الذي ذكرناه في الفصل السابق ، هو الذي أخرجه علماء « أهل السنّة والجماعة » ، واعترفوا بصحّته في أكثر من عشرين مصدراً من مصادرهم المشهورة.

وإذا اعترفوا بصحة الحديث فقد شهدوا على أنفسهم بالضّلالة ضمنياً ؛ لأنّهم لم يتمسّكوا بالعترة الطاهرة ، واعتنقوا مذاهب واهية ما أنزل الله بها من سلطان ، ولا وجود لها في السنّة النبويّة.

والعجيب من علماء « أهل السنّة » اليوم ، وبعد انقراض بني أُميّة وهلاكهم ، وفي عصر كثر فيه الاتصال المباشر ، وتوفرت فيه وسائل البحوث العلمية ، فكيف لا يتوبون ويرجعون إلى الله من قريب كي يشملهم قوله سبحانه وتعالى : ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى ) (١).

وإذا كان الناس في القرون الخالية زمن الخلافة مُكرهين على اتّباع السلطان بالقهر والقوّة ، فما هو عذرهم اليوم ، والسلطان في كلّ البلاد لا يهمه من أمر الدين شيئاً ما دام عرشه مضموناً ، وهو يتبجّح بالديمقراطية وبحقوق الإنسان التي من ضمنها حريّة الفكر والعقيدة؟!

بقي هناك من علماء « أهل السنّة » المعترضون على حديث الثقلين

__________________

١ ـ طه : ٨٢.

١٩٥

المذكور ، بحديث « تركت فيكم كتاب الله وسنّتي » (١).

وأقلّ ما يُقال في هؤلاء : إنّهم بعيدون عن مقاييس العلم وأصول البحث والمعرفة ، وإثبات الحجّة والدليل.

__________________

١ ـ قلنا فيما سبق من الأبحاث بأنّ حديث « كتاب الله وسنّتي » هو حديث مرسلٌ غير مسند ولم تخرجّه الصحاح ، بينما حديث « كتاب الله وعترتي » هو حديث صحيح ومتواتر أخرجته كلّ الصحاح عند السنّة والشيعة ( المؤلّف ).

١٩٦

كتاب الله وعترتي ، أو كتاب الله وسنّتي؟

قد وافينا البحث في هذا الموضوع في كتاب « مع الصادقين » ، وقُلنا باختصار بأنّ الحديثين لا يتناقضان ؛ لأنّ السنّة النبويّة الصحيحة محفوظة عند العترة الطاهرة من أهل البيت عليهم‌السلام ، وأهل البيت أدرى بما فيه ، وعليّ بن أبي طالب هو باب السنّة النبويّة ، وهو أولى أن يكون راوية الإسلام من أبي هريرة ، ومن كعب الأحبار ، ووهب بن منبه.

ومع ذلك لابدّ من مزيد البيان والتوضيح ، ولو أدى ذلك إلى التكرار ، فإنّ في الإعادة إفادة ، ولعلّ بعضهم لم يقرأوه هناك ، فإنّهم سيطّلعون عليه هنا بمزيد من التفصيل والإيضاح.

ولعلّ القرّاء الكرام يجدون في هذا البحث ما يقنعهم بأنّ حديث « كتاب الله وعترتي » هو الأصل ، وإنّما عمد الخلفاء على إبداله بحديث « كتاب الله وسنّتي » ليبعدوا بذلك أهل البيت عن مسرح الحياة.

ولابدّ من الملاحظة بأنّ حديث « كتاب الله وسنّتي » لا يصُحُّ حتى عند « أهل السنّة والجماعة » ، لأنّهم رووا في صحاحهم بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهاهم عن كتابتها ، إذا كان حديث النهي صحيحاً ، فكيف يجوز للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقول : تركت فيكم سُنّتي ، وهي غير مكتوبة ولا معلومة؟!

ثمّ لو كان حديث « كتاب الله وسنّتي » صحيحاً ، فكيف جاز لعمر بن الخطّاب أنْ يرد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقول : حسبنا كتاب الله؟!

١٩٧

وإذا كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ترك سنّة مكتوبة ، فكيف جاز لأبي بكر وعمر حرقها ومنعها من الناس؟!

وإذا كان حديث « كتاب الله وسنّتي » صحيحاً ، فلماذا يخطبُ أبو بكر بعد وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقول : « لا تحدثوا عن رسول الله شيئاً ، فمن سألكم فقولوا : بيننا وبينكم كتاب الله ، فاستحلوا حلاله وحرّموا حرامه » (١)؟!

وإذا كان حديث « كتاب الله وسنّتي » صحيحاً ، فلماذا خالفها أبو بكر في قتال مانعي الزكاة ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من قال لا إله إلاّ الله عصم منّي دمه وماله وحسابه على الله! » (٢)؟.

وإذا كان حديث « كتاب الله وسنّتي » صحيحاً ، فكيف جاز لأبي بكر وعمر ومن وافقهما من الصحابة أن يستبيحوا حرمة الزهراء ، ويهجموا على بيتها مهدّدين بحرقها بمن فيها ، ألم يسمعوا قول النبيّ فيها : « فاطمة بضعة منِّي من أغضبها فقد أغضبني ومن آذاها فقد آذاني » (٣).

بلى والله لقد سمعوها ووعوها.

ألم يسمعوا قول الله تعالى : ( قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (٤) التي نزلت فيها وفي بعلها وولديها؟ (٥) فهل كانت مودّة أهل البيت

__________________

١ ـ تذكرة الحفاظ ١ : ٣.

٢ ـ صحيح مسلم ١ : ٣٨ باختلاف ، باب الأمر بقتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ اللّه.

٣ ـ صحيح البخاري ٤ : ٢١٠ ، ( كتاب المناقب ، باب مناقب قرابة رسول اللّه ).

٤ ـ الشورى : ٢٣.

٥ ـ ورد نزولها فيهم عليهم‌السلام في شواهد التنزيل للحسكاني ٢ : ١٩١ ، المعجم الكبير

١٩٨

__________________

١١ : ٣٥١ ، الدر المنثور ٦ : ٧ ، الصواعق المحرقة ٢ : ٤٨٧ الآيات النازلة فيهم ، ذخائر العقبى : ٢٥ ، ينابيع المودة ٢ : ٣٢٥ وغيرها.

وذكر ابن حجر الهيتمي في الصواعق أيضاً : أخرج البزار والطبراني عن الحسن ( رضي الله عنه ) عن طرق بعضها حسان أنّه خطب خطبة من جملتها : « وأنا من أهل البيت الذين افترض الله عزّ وجلّ مودّتهم وموالاتهم ، فقال فيما أنزل على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ).

وهناك بعض الإثارات حول هذه الآية وتفسيرها نذكرها مع الإجابة عليها ، منها القربى في الآية عامة ولا تختص بعليّ وفاطمة والحسنين عليهم‌السلام؟

وفيه إنّ الله تعالى لمّا أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يقول للناس : ( قل ما أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى ) فلابدّ من أن تكون هذه القربى ذات خصوصية ومميزات جعلتهم مؤهلين لهذه الرتبة السامية ، فليست الدعوة عامة ، فإنّ مودة الأقرباء على إطلاقهم ليست ممّا يندب إليه في الإسلام ، مضافاً إلى أنّ الروايات الواردة هي التي تقيّده وتفسّره ، وقد فسّرته بهؤلاء عليهم‌السلام.

ومنها السبب في استعمال كلمة « في القربى » بدل قوله : « لذوي القربى » وما شاكل؟

ويكفينا في الإجابة عليه ما ذكره الزمخشري في تفسيره حول هذه الآية : « فإن قلت : هلاّ قيل : « إلاّ مودة القربى أو المودة للقربى؟ وما معنى قوله : إلاّ المودة في القربى؟ قلت : جعلوا مكاناً للمودة ومقرّاً لها كقولك : لي في آل فلان مودة ، ولي فيهم هوى وحب شديد ، تريد : أحبهم وهم مكان حبي ومحله. قال : وليست « في » بصلة للمودة كاللام إذا قلت : إلاّ المودة للقربى ، إنّما هي متعلّقة بمحذوف تعلّق الظرف به في قولك : المال في الكيس ، وتقديره : إلاّ المودة ثابتة في القرب ومتمكنة فيها ».

ومنها : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيف يسأل أجراً على رسالته؟

وفيه أولا : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما طلب ذلك من تلقاء نفسه بل بأمر من الله تعالى

١٩٩

هي ترويعهم وتهديدهم بالحرق ، وضغط الباب على بطن فاطمة حتى أسقطت جنينها بأبي هي وأُمي؟!

وإذا كان حديث « كتاب الله وسنّتي » صحيحاً ، فكيف استحلّ معاوية والصحابة الذين بايعوه وساروا في ركابه أن يلعنوا علياً ويسبوه على المنابر طيلة حكم بني أُمية ، ألم يسمعوا أمر الله لهم بأن يصلّوا عليه كما يصلّون على النبيّ؟ ألم يسمعوا قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من سبّ عليّاً فقد سبّني ، ومن

__________________

حيث أمره وقال له : ( قل ما أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى ).

ثانياً : المقصود من الأجر الذي نفى الأنبياء أخذه إنّما هو الأجر المادي الذي يعود نفعه إلى صاحب الرسالة لتنافيه مع مقام الدعوة والرسالة ، فما سأله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمر من الله لم يكن أجراً ماديّاً بل هو أجر معنوي وأُخروي يعود نفعه إلى الناس أنفسهم ، وذلك لأنّ مودة ذي القربى تجر المحب إلى أن ينتهج سبيلهم في الحياة ويجعلهم اسوة في دينه ودنياه ، وإلى هذا يشير ما جاء في دعاء الندبة : « ثمّ جعلت أجر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مودتهم في كتابك فقلت : « لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى » ، وقلت : « ما سألتكم من أجر فهو لكم » ، وقلت : « ما أسألكم عليه من أجر إلاّ من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا » فكانوا هم السبيل إليك والمسلك إلى رضوانك ».

وورد في الصواعق ٢ : ٤٨٩ ما يدلّ على أنّ بعض الصحابة تضجّروا من فعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال ابن حجر : « ونقل الثعلبي والبغوي عنه إنّه لما نزل قوله تعالى : ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى ) قال قوم في نفوسهم : ما يريد إلاّ أن يحثنا على قرابته من بعده ، فأخبر جبرئيل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّهم اتّهموه ، فأنزل : ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ) فقال القوم : يا رسول الله إنّك صادق ، فنزل : ( هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ).

٢٠٠