الشيعة هم أهل السنّة

الدكتور محمّد التيجاني السماوي

الشيعة هم أهل السنّة

المؤلف:

الدكتور محمّد التيجاني السماوي


المحقق: مركز الأبحاث العقائديّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-20-X
الصفحات: ٥٢٢

فإذا كانت هذه أقوالهم تشهد على عقيدتهم ، فمن الطبيعي جدّاً أن يتناقض هؤلاء مع ما يقوله أهل البيت من عرض كلّ حديث على كتاب الله ووزنه عليه ؛ لأنّ القرآن هو القاضي على السنّة ، ومن الطبيعي أيضاً أن يرفضوا هذه الأحاديث ، ولا يعترفوا بها ولو رواها أئمة أهل البيت ؛ لأنّها تنسف مذهبهم نسفاً.

فقد ذكر البيهقي في كتاب دلائل النبوة بأنّ الحديث الذي رُوي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو قوله : « إذا جاءكم الحديث عنّي فاعرضوه على كتاب الله » ، قال البيهقي : هذا حديث باطل لا يصحّ ، وهو ينعكس على نفسه بالبطلان ، فليس في القرآن دلالة على عرض الحديث على القرآن (١).

وصرّح ابن عبد البر نقلا عن عبد الرحمان بن مهدي بأنّ الحديث الذي روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « ما أتاكم عنّي فاعرضوه على كتاب الله ، فإن وافق كتاب الله فأنا قلته ، وإن خالف كتاب الله فلم أقله » ، هذه الألفاظ لا تصحّ عنه عند أهل العلم بصحيح النقل من سقيمه ، وقال بأنّ هذا الحديث وضعه الزنادقة والخوارج (٢).

أُنظر إلى هذا التعصّب الأعمى الذي لم يترك لهم سبيلا للتحقيق العلمي والخضوع للحقّ ، فأصبحوا يسمون رواة هذا الحديث ـ وهم أئمة الهدى من العترة الطاهرة ـ بالزنادقة والخوارج ، ويتهمونهم بوضع الحديث!

وهل لنا أن نسألهم : ما هو هدف الزنادقة والخوارج من وضع هذا

__________________

١ ـ دلائل النبوة ١ : ٢٧ ، فصل في قبول الأخبار.

٢ ـ جامع بيان العلم : ٤٢٨ ، ( باب ٦٥ ، موضع السنّة من الكتاب ).

٤٠١

الحديث الذي يجعل كتاب الله ـ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ـ مرجعاً لكلّ شيء؟

والعاقل المنصف يميل إلى هؤلاء الزنادقة والخوارج الذين يُعظّمون كتاب الله ، ويجعلونه في المرتبة الأُولى للتشريع ، أحسن له من الميل إلى « أهل السنّة والجماعة » الذين يقضون على كتاب الله بأحاديث مكذوبة ، وينسخون أحكامه ببدع مزعومة.

( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً ) (١).

فالذين يسمّونهم زنادقة وخوارج هم أهل بيت النبوة ، أئمة الهدى ومصابيح الدجى ، الذين وصفهم جدهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّهم أمان الأُمّة من الاختلاف ، فإذا خالفتهم قبيلة صارت حزب إبليس ، وذنبهم الوحيد هو أنّهم تمسّكوا بسنّة جدّهم ، ورفضوا ما سواها من البدع البكرية ، والعمرية ، والعثمانية ، والمعاوية ، واليزيدية ، والمروانية ، والأموية ، وبما أنّ السلطة الحاكمة بيد هؤلاء المذكورين ، فمن الطبيعي أن يشتموا المعارضين لهم بأنّهم خوارج كانت وزنادقة ، وأن يحاربوهم وينبذوهم ، ألم يُلعن علي وأهل البيت على منابرهم ثمانين عاماً؟ ألم يُقتل الحسن بسمّهم ، والحسين وذريته بسيوفهم؟

ودعنا من الرجوع إلى مأساة أهل البيت الذين لم تنته مظلمتهم بعد ، ولنعد إلى هؤلاء الذين يسمّون أنفسهم « أهل السنّة والجماعة » ، والذين ينكرون حديث عرض السنّة على القرآن ، فلماذا لم يسمّوا أبا بكر

__________________

١ ـ الكهف : ٥.

٤٠٢

« الصديق » من الخوارج أو من الزنادقة؟ وهو الذي أحرق الأحاديث وخطب في الناس قائلا : « أنّكم تحدثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها ، والناس بعدكم أشدّ اختلافاً ، فلا تحدّثوا عن رسول الله شيئاً ، فمن سألكم فقولوا : بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلّوا حلاله وحرّموا حرامه » (١).

ألم يُقدّم أبو بكر القرآن علي السنّة؟ بل جعله المصدر الوحيد ، ورفض السنّة بدعوى أنّ الناس يختلفون فيها؟!

ولماذا لم يسمّوا عمر بن الخطّاب من الخوارج أو من الزنادقة ، وهو الذي رفض السنّة النبويّة من أوّل يوم عندما قال : حسبنا كتاب الله ، يكفينا! وقد أحرق هو أيضاً كلّ ما جمعه الصحابة من الأحاديث والسنن على عهده (٢) ، ولم يقف عند ذلك الحدّ حتى نهى الصحابة عن إفشاء الحديث (٣).

ولماذا لم يسمّوا أُمّ المؤمنين عائشة ـ التي يؤخذ عنها نصف الدين ـ بأنّها من الخوارج ومن الزنادقة ، فهي التي اشتهرت بعرض الحديث على القرآن ، فكانت كلّما بلغها حديث لا تعرفه عرضته على كتاب الله وأنكرته إذا عارض القرآن ، فقد أنكرت على عمر بن الخطّاب حديث : إنّ الميّت يُعذّب في قبره ببكاء أهله عليه ، وقالت : حسبكم القرآن ، فإنّه يقول : ولا تزرُ وازرة وزرَ أخرى (٤).

__________________

١ ـ الذهبي في تذكرة الحفّاظ ١ : ٣ وهو مرسل صحيح من مراسيل أبي مليكة.

٢ ـ الطبقات الكبرى ٥ : ١٨٨ ، سير أعلام النبلاء ٥ : ٥٩.

٣ ـ الذهبي في تذكرة الحفاظ ١ : ٦.

٤ ـ صحيح البخاري ٢ : ٨١ ( كتاب الجنائز ، باب قول النبيّ : يعذّب الميّت ببعض

٤٠٣

كما أنكرت حديث عبد الله بن عمر الذي روى بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قام على القليب وفيه قتلى بدر من المشركين ، فقال لهم ما قال ، ثمّ التفت إلى أصحابه فقال : « إنّهم ليسمعون ما أقول ».

فكذَّبت عائشة أن يكون الأموات يسمعون وقالت : إنّما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّهم ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حقّ » ، ثمّ استشهدت على كذب الحديث بعرضه على القرآن ، فقرأت قوله سبحانه : ( إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى ) (١) ، ( وَمَا أَنتَ بِمُسْمِع مَنْ فِي الْقُبُورِ ) (٢) (٣).

وأنكرت أحاديث كثيرة كانت في كلّ مرّة تعرضها على كتاب الله ، فقالت لمن حدَّث بأنّ محمّداً رأى ربّه : لقد قفَّ شعري ممّا قلت ، أين أنت من ثلاث من حدّثكهنّ بها فقد كذب : من حدّثك أنّ محمّداً رأى ربّه فقد كذب ، ثمّ قرأت قوله تعالى : ( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (٤) ، وقرأت : ( وَمَا كَانَ لِبَشَر أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَاب ) (٥).

ومن حدّثك أنّه يعلم ما في غد فقد كذب ، ثمّ قرأت قول الله : ( وَمَا

__________________

بكاء أهله عليه ) ، وكذلك صحيح مسلم ٣ : ٤٣ ، ( كتاب الجنائز ، باب الميّت يعذّب ببكاء أهله عليه ).

١ ـ النمل : ٨٠.

٢ ـ فاطر : ٢٢.

٣ ـ صحيح البخاري ٥ : ٩ باب دعاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على كفّار قريش ، وكذلك صحيح مسلم ٣ : ٤٤ باب الميت يعذب ببكاء أهله.

٤ ـ الأنعام : ١٠٣.

٥ ـ الشورى : ٥١.

٤٠٤

تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً ) (١).

ومن حدَّثك أنّه كتم فقد كذب ، ثمّ قرأت قوله تعالى : ( بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ ) (٢) (٣).

كذلك كان أبو هريرة راوية أهل السنّة عندهم ، كان كثيراً ما يحدّث الحديث ثمّ يقول : فاقرأوا إن شئتم قوله تعالى ، فيعرض حديثه على كتاب الله حتى يصدّقه المستمعون.

فلماذا لا يسمّي « أهل السنّة والجماعة » كلّ هؤلاء من الخوارج والزنادقة ، فهم يعرضون الأحاديث التي يسمعونها على كتاب الله ، ويكذّبون ما خالف منها القرآن؟! إنّهم لا يجرأون علي ذلك.

أمّا إذا تعلّق الأمر بأئمة أهل البيت ، فإنّهم لا يتورّعون بأن يشتموهم بكلّ نقيصة ، ولا ذنب لهم سوى عرض الحديث على كتاب الله ، كي يفتضح أُولئك الوضَّاعون والمدلّسون الذين يسعون لتعطيل أحكام الله وإبطالها بأحاديث مكذوبة.

لأنّهم يدركون تماماً أنّه لو عرضت أحاديثهم على كتاب الله ، فسوف لن يوافق كتاب الله على تسعة أعشار منها ، والعشر العاشر الذي يؤيّده كتاب الله لأنّه من أقوال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يؤولون بعضه على غير ما أراده الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

١ ـ لقمان : ٣٤.

٢ ـ المائدة : ٦٧.

٣ ـ صحيح البخاري ٦ : ٥٠ ( كتاب التفسير ، تفسير سورة النجم ) ، صحيح مسلم ١ : ١١٠ ( كتاب التفسير ، باب معنى قوله اللّه عزّ وجل ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ) ) ، مسند أحمد ٦ : ٤٩.

٤٠٥

كتأويلهم حديث : « الخلفاء من بعدي اثنا عشر كلّهم من قريش » ، وحديث : « تمسّكوا بسنّة الخلفاء الراشدين بعدي » ، وكقوله : « اختلاف أُمّتي رحمة » ، وغيرها من الأحاديث الشريفة والتي يقصد بها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أئمة العترة الطاهرة ، ولكنّهم صرفوها إلى خلفائهم الغاصبين ، وإلى بعض الصحابة المنقلبين.

وحتى الألقاب التي يضفونها على الصحابة كتسمية أبي بكر بـ « الصديق » ، وعمر بـ « الفاروق » ، وعثمان بـ « ذي النورين » ، وخالد بـ « سيف الله » ، والحال أنّ كلّ هذه الألقاب هي لعليّ على لسان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الصدّيقون ثلاثة : حبيب النجار مؤمن آل يس ، وحزقيل مؤمن آل فرعون ، وعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وهو أفضلهم » (١).

وعليّ نفسه كان يقول : « أنا الصدّيق الأكبر ، ولا يقولها بعدي إلاّ كذّاب » (٢) ،

__________________

١ ـ الجامع الصغير للسيوطي ٢ : ١١٥ ح٥١٤٩ ، كنز العمال ١١ : ٦٠١ ح٣٢٨٩٧ ، الدر المنثور ٥ : ٢٦٢ ، تاريخ دمشق ٤٢ : ٣١٣.

٢ ـ المستدرك للحاكم ٣ : ١١١ ، المصنّف لابن أبي شيبة ٧ : ٤٩٨ ح٢١ ، كتاب السنّة لابن أبي عاصم : ٥٨٤ ح١٣٢٤ ، السنن الكبرى للنسائي ٥ : ١٠٧ ، أمّا عباد بن عباد لله راوي الحديث فقد أورده العجلي في معرفة الثقات ٢ : ١٧ ووثّقه ، وكذلك ذكره ابن حبان في كتابه الثقات ٥ : ١٤١. وابن ماجة في سننه ١ : ٥٥ ، وعلّق العلاّمة البوصيري في كفاية الحاجة بقوله : ( انفرد به ابن ماجة عن الكتب التسعة ، قال في الزوائد : هذا إسناد صحيح ، رجاله ثقات ).

ومع وجود هؤلاء العلماء المصحّحين لهذا الحديث تجد عثمان الخميس في كتابه كشف الجاني : ١٩٠ يصف الحديث بالوضع معتمداً على ابن الجوزي ، في كتابه الموضوعات!!

٤٠٦

__________________

وإذا رجعنا إلى ترجمة ابن الجوزي نجد أنّ العلماء قالوا في حقّه : إنّه كثير الخطأ والأوهام في ما يصنّفه ؛ إذ كان يفرغ من الكتاب ولا يعتبره ، وقد استدرك عليه الذهبي كتابه الموضوعات تحت عنوان ( تلخيص الموضوعات ) وقال في ترجمته في السير ٢١ : ٣٨١ : « وكتب إلى أبي بكر بن طوخان ، أخبرنا الإمام موفّق الدين قال : ابن الجوزي إمام أهل عصره في الوعظ ، وصنّف في فنون العلم تصانيف حسنة ، وكان صاحب فنون ، كان يصنّف في الفقه ويدرس وكان حافظاً للحديث ، إلاّ أنّنا لم نرض تصانيفه في السنّة ولا طريقته فيها ، وكان العامة يعظّمونه ، وكانت تنفلت منه في بعض الأوقات كلمات تنكر عليه في السنّة ، فيستفتى عليها ويضيق صدره من أجلها ».

وقال الحافظ سيف الدين ابن المجد : هو كثير الوهم ، فإنّ في مشيخته مع صغرها أوهاماً ، قال في حديث أخرجه البخاري عن محمّد المثنى ، عن الفضل بن هشام ، عن الأعمش! وإنّما هو عن الفضل بن مساور عن أبي عوانة عن الأعمش.

وقال في آخر : أخرجه البخاري ، عن عبد اللّه بن منير ، عن عبد الرحمن بن عبد اللّه بن دينار ، وبينهما أبو النظر ، فاسقطه.

وقال في حديث : أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمّد الاثرم ، وإنما هو محمّد بن أحمد.

وقال في آخر : أخرجه البخاري عن الأويسي عن إبراهيم عن الزهري ، وإنّما هو عن إبراهيم بن مسعد ، عن صالح ، عن الزهري.

وقال في آخر : حدّثنا قتيبة ، حدّثنا خالد بن إسماعيل ، وإنّما هو حدّثنا حاتم.

وفي آخر : حدّثنا أبو الفتح محمّد بن علي العشاري ، وإنّما هو أبو طالب.

وقال : حميد بن هلال عن عفان بن كاهل ، وإنّما هو هضاب بن كاهل.

قال : أخرجه البخاري عن أحمد بن أبي إياس ، وإنما هو آدم.

وفي وفاة يحيى بن ثابت ، وابن خضير ، وابن المقرب ذكر ما خولف فيه.

٤٠٧

__________________

قلت ( يعني الذهبي ) : هذه عيوب وحشة في جزئين.

قال السيف : سمعت ابن نقطة يقول : قيل لابن الأخضر : ألا تجيب عن بعض أوهام ابن الجوزي؟ قال : إنّما تتبع على من قلّ غلطه ، فأمّا هذا فأوهامه كثيرة.

ثمّ قال السيف : ما رأيت أحداً يعتمد عليه في دينه وعلمه وعقله راضياً عنه.

قال : وقال جدّي : كان أبو المظفّر بن حمدي ينكر على أبي الفرج كثيراً كلمات يخالف فيها السنّة.

قال السيف : وعاتبه أبو الفتح ابن المنّي في أشياء ، ولمّا بان تخليطه أخيراً رجع عنه أعيان أصحابنا وأصحابه.

وكان أبو إسحاق العقلي يكاتبه وينكر عليه ».

وقال الذهبي في السير ٢١ : ٣٧٨ : « قرأت بخطّ محمّد بن عبد الجليل الموقاني : إنّ ابن الجوزي شرب ( البلاذر ) فسقطت لحيته .. قال : وكان كثيراً الغلط في ما يصنّفه ، فإنّه كان يفرغ من الكتاب ولا يعتبره.

قلت ( يعني الذهبي ) : هكذا هو ، له أوهام وألوان من ترك المراجعة ، وأخذ العلم من صحف .. ».

قال الإمام السندي في شرحه على سنن ابن ماجه في شرحه للحديث ١ : ٨٥ : « قوله : « أنا الصدّيق الأكبر » هو للمبالغة من الصدق ، وتصديق الحقّ بلا توقّف من باب الصدق ، ولا يكون عادة إلاّ من غلب عليه الصدق ..

قال : كأنه أراد بقوله : « الصدّيق الأكبر » إنّه أسبق إيماناً من أبي بكر أيضاً.

وفي الإصابة في ترجمة علي : هو أوّل الناس إسلاماً في قول كثير من أهل العلم. قوله : « صلّيت قبل الناس بسبع سنين » ولعلّه أراد به أنّه أسلم صغيراً ، وصلّى في سن الصغر وكلّ من أسلم من معاصريه ما أسلم في سنّه. بل أقل ما تأخر معاصره عن سنّه سبع سنين فصار كأنه صلى قبلهم سبع سنين وهم تأخروا عنه بهذا القدر. فكان من حكم بالوضع حكم عليه لعدم ظهوره معناه ، لا لأجل خلل في إسناده. وقد ظهر معناه بما ذكرنا ».

٤٠٨

وهو الفاروق الأعظم الذي فرَّق الله به الحقّ من الباطل (١) ، ألم يقل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ حبّه إيمان وبغضه نفاق (٢) ، وأنّ الحقّ يدور معه حيث دار (٣)؟

وأمّا « ذو النورين » (٤) ، فهو عليه‌السلام ، والد الحسن والحسين عليهما‌السلام سيّدي شباب أهل الجنّة ، وهما نوران من صلب النبوة.

وأمّا « سيف الله » فهو الذي قال فيه جبريل عليه‌السلام يوم أحد : « لا فتى إلاّ عليّ ولا سيف إلاّ ذوالفقار » (٥).

وهو بحقّ سيف الله الذي سلَّه على المشركين فقتل أبطالهم ، وجندل

__________________

ومنه تعرف أنّ المضعّفين له لم يضعّفوه لخلل في سنده ، وإنّما لما ادعوه من وجود النكارة في متنه حيث أطلق على نفسه الصديق الأكبر وأنّه صلّى قبل الناس بسبع سنين! وهذا خلاف ما عليه القوم من سبق إيمان أبي بكر وأنّه الصديق الأكبر.

إلاّ أنّه بما ذكرناه وذكره علماء السنّة يتّضح أنّ الحديث صحيح سنداً ، ولا نكارة في متنه ؛ لأنّ الكثير من علماء أهل السنّة ذهب إلى إسلام علي بن أبي طالب قبل أبي بكر ، وعليه فتندفع جميع التوهمات التي ذكرت.

١ ـ الاحتجاج ١ : ٢٠٤ ، اليقين لابن طاووس : ٤٩٩.

٢ ـ صحيح مسلم في فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام.

٣ ـ سنن الترمذي ٥ : ٢٩٧ ، المستدرك للحاكم ٣ : ١٢٥ وصحّحه ، المعجم الأوسط ٦ : ٩٥.

٤ ـ سمّى أهل السنّة والجماعة عثمان بذي النورين ، ويعلّلون ذلك بأّنّه تزوّج رقيّة وأُمّ كلثوم بنتي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والصحيح أنّهما ربيبتاه ، وعلى فرض أنّهما بنتاه فكيف تكونان نورين ولم يحدّث النبيّ لهما بفضيلة واحدة ، ولماذا لا تكون فاطمة التي قال في حقّها « سيّدة نساء العالمين » هي النور ، ولماذا لم يسمّوا علياً بذي النور ، على هذا الأساس؟ ( المؤلّف ).

٥ ـ نظم درر السمطين للزرندي : ١٢٠ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٢١٧.

٤٠٩

شجعانهم ، وهشَّم أنوفهم ، حتى أذعنوا للحق وهم كارهون ، وهو سيف الله ؛ لأنّه لم يهرب من معركة أبداً ، ولم يخشَ من مبارزة قط ، وهو الذي فتح خيبر وقد عجز عنها أكابر الصحابة ورجعوا منهزمين.

لقد قامت السياسة من أوّل خلافة على عزله وتجريده من كلّ فضل وفضيلة ، ولمّا جاء معاوية للحكم ذهب أشواطاً بعيدة فعمل على لعن علي وانتقاصه ، وعلى رفع شأن مناوئيه ، ونسب إليهم كلّ فضائله وألقابه زوراً منه وبهتاناً ، ومن يقدر في ذلك العهد على تكذيبه أو معارضته؟ وقد وافقوه على سبِّه ولعنه والبراءة منه ، وقد قلَّب أتباعه من « أهل السنّة والجماعة » كلّ الحقائق ظهراً على عقب ، فأصبح عندهم المنكر معروفاً والمعروف منكراً ، وأصبح علي وشيعته هم الزنادقة والخوارج والروافض ، فاستباحوا بذلك لعنهم وقتلهم ، وأصبح أعداء الله ورسوله وأهل بيته هم « أهل السنّة »! فاقرأ واعجب ، وإن كنت في شك من هذا فابحث ونقِّب.

( مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ) (١).

صدق الله العلي العظيم

__________________

١ ـ هود : ٢٤.

٤١٠

الأحاديث النبويّة عند « أهل السنّة » متناقضة

لعلّ الباحث يجد كثيراً من السنن التي تُنسب إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي في الحقيقة ليست إلاّ بدعاً ابتدعها بعضُ الصحابة بعد وفاته ، وألزموا الناس بها وحملوهم عليها قهراً ، حتى اعتقد أُولئك المساكين أنّها من أفعال النبيّ وأقواله.

ولذلك جاءت تلك البدع في أغلبها متناقضة ومتعارضة مع القرآن ، فاضطرّ علماؤهم للتأويل ، والقول بأنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعل هذا مرّة ، وفعل ذاك أُخرى ، كقولهم بأنّه صلّى مرّة بالبسملة وأُخرى صلّى بدون البسملة ، ومرّة مسح رجليه في الوضوء وأُخرى غسلهما ، ومرّة قبض يديه في الصلاة وأُخرى أسدلها ، حتى ذهب البعض منهم للقول بأنّه فعل ذلك متعمّداً للتخفيف على أُمّته حتى يختار كلّ واحد منهم ما يناسبه من العمل.

إنه كذبٌ يرفضه الإسلام الذي بنى عقائده على كلمة التوحيد وتوحيد العبادة حتى في المظهر واللباس ، فلم يسمح للمحرم وقت الحجّ أن يلبس ما يريد لا شكلا ولا لوناً ، ولم يسمح للمأموم إلاّ أن يتبع إمامه في حركاته وسكناته من قيام وركوع وسجود وجلوس.

كما أنّه كذبٌ لأنّ الأئمة الطاهرين من أهل البيت يرفضون تلك الروايات ، ولا يقبلون بالاختلاف في العبادات شكلا ومضموناً.

وإذا رجعنا إلى تناقض الأحاديث عند « أهل السنّة والجماعة » فهي كثيرة

٤١١

جدّاً تفوق الحصر ، وسوف نعمل على جمعها في كتاب خاصّ إن شاء الله.

وكالعادة وبإيجاز نذكر هنا بعض الأمثلة ؛ ليتبيّن للباحث على أيّ أساس بنى « أهل السنّة والجماعة » مذهبهم وعقيدتهم.

فقد جاء في صحيح مسلم (١) ، وفي شرح الموطأ لجلال الدين السيوطي عن أنس بن مالك قال : صلّيت خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان ، فلم أسمع أحداً منهم يقرأ : بسم الله الرحمان الرحيم.

وفي رواية أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان لا يجهر بقراءة بسم الله الرحمان الرحيم ، قال : وقد روى هذا الحديث عن أنس ، قتادة ، وثابت البناني وغيرهما ، وكلّهم أسنده وذكر فيه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ أنّهم اختلف عليهم في لفظه اختلافاً كثيراً ، مضطرباً ومتدافعاً ، فمنهم من يقول فيه : كانوا لا يقرأون بسم الله الرحمان الرحيم ، ومنهم من يقول : كانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمان الرحيم ، ومنهم من يقول : كانوا يجهرون ببسم الله الرحمان الرحيم ، ومنهم من قال : كانوا لا يتركون بسم الله الرحمان الرحيم ، ومنهم من قال : كانوا يفتتحون القراءة بالحمد لله ربِّ العالمين.

قال : وهذا اضطراب لا تقوم معه حجّة لأحد من الفقهاء (٢).

أمّا إذا أردت معرفة السرّ الحقيقي لهذا التناقض والاضطراب من نفس

__________________

١ ـ صحيح مسلم ٢ : ١٢ باب حجّة من قال : لا يجهر بالبسملة.

٢ ـ تنوير الحوالك شرح على موطأ مالك ١ : ١٠٣. ونحن نقول : الحمدُ لله أن شهد شاهدٌ من أهلها على أضطراب الأحاديث عندهم وتناقضها وأنّه ـ كما اعترف ـ لا تقوم لأحد من فقهائهم حجّة ، إنّما الحجّة قائمة مع أئمة الهدى الأطهار الذين لم يختلفوا في شيء ( المؤلّف ).

٤١٢

الراوي ، وهو أنس بن مالك الذي كان يلازم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّه حاجبه ، فتراه مرّة يروي بأنّهم ( رسول الله والخلفاء الثلاثة ) كانوا لا يقرأون بسم الله الرحمان الرحيم ، ومرّة بأنّهم لا يتركونها!!

إنّما هو الواقع الأليم المؤسف الذي اتبعه أكثر الصحابة في نقل الحديث وروايته ، حسبما تقتضيه المصلحة السياسية وحسبما يرضي الأمراء.

فلا شكّ بأنّه روي عدم القراءة لبسم الله الرحمان الرحيم ، عندما عمل بنو أُميّة وحكّامهم على تغيير كلّ سنّة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان عليّ بن أبي طالب يتمسّك بها ويعمل على إحيائها.

فقد قامت سياستهم على مخالفته في كلّ شيء والعمل بضدّه ، حيث اشتهر ـ سلام الله عليه ـ بأنّه كان يبالغ في الجهر بالبسملة حتى في الصلاة السرية.

وهذا ليس ادّعاء منّا أو من الشيعة ، فنحن لم نعتمد في كلّ ما كتبنا إلاّ على كتب « أهل السنّة والجماعة » وتصريحاتهم.

وقد ذكر الإمام النيسابوري في تفسير غرائب القرآن ، وبعد ذكره للروايات المتناقضة عن أنس بن مالك قال : « وفيها تهمة أُخرى ، وهي أنّ علياً ( رضي الله عنه ) كان يبالغ في الجهر بالتسمية ، ولمّا كان زمن بني أُميّة بالغوا في المنع من الجهر سعياً منهم في إبطال آثار عليّ بن أبي طالب ، فلعلّه إنّما خاف منهم فلهذا اضطربت أقواله » (١).

__________________

١ ـ تفسير غرائب القرآن للنيسابوري بهامش تفسير الطبري ١ : ٧٩ ، تفسير الفخر الرازي ١ : ٢٠٦.

٤١٣

كما صرّح الشيخ أبو زهرة ما يقارب هذا المعنى إذ قال : « لا بد أن يكون للحكم الأموي أثر في اختفاء كثير من آثار علي عليه‌السلام في القضاء والإفتاء ؛ لأنّه ليس من المعقول أن يلعنوا عليّاً فوق المنابر ، وأن يتركوا العلماء يتحدّثون بعلمه ، وينقلون فتاواه وأقواله للناس ، وخصوصاً ما يتصل بأساس الحكم الإسلامي » (١).

والحمد الله الذي أظهر الحقّ على لسان بعض علمائهم ، فاعترفوا بأنّ عليّاً كان يبالغ في الجهر ببسم الله الرحمان الرحيم.

ونستنتج بأنّ الذي دعاه ـ سلام الله عليه ـ أن يبالغ في الجهر بالتسمية ، هو أنّ الخلفاء الذين سبقوه تركوها إمّا عمداً أو سهواً واقتدى بهم الناس ، فأصبحت سنّة متبعة وهي بلا شكّ مبطلة للصلاة إذا ما تركت عمداً ، وإلاّ لما بالغ الإمام عليّ عليه‌السلام في الجهر بها حتى في الصلاة السرية.

ثمّ إنّنا نشمُّ من روايات أنس بن مالك التزلّف لإرضاء بني أُميّة الذين أطروه وأغدقوا عليه الأموال ، وبنوا له القصور ؛ لأنّه من المناوئين لعليّ عليه‌السلام هو الآخر ، ويظهر بغضه لأمير المؤمنين عليه‌السلام من قصة الطير المشوي عندما قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « اللهمّ ائتني بأحبّ الخلق إليك يأكل معي هذا الطير » ، فجاء علي يستأذن فرده أنس ثلاث مرّات ، ولما عرف النبيّ في المرة الرابعة قال لأنس : « ما حملك على ما فعلت »؟ قال أنس : رجوت أن

__________________

١ ـ الشيخ أبو زهرة في كتاب الإمام الصادق : ٢٨٥ ، نقلا عن وضوء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للشهرستاني ١ : ١٩٣.

٤١٤

يكون واحداً من الأنصار (١).

ويكفي هذا الصحابي أن يسمع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدعو ربّه بأن يأتيه بأحبّ الخلق إليه ، ويستجيب الله لدعاء رسوله فيأتيه بعليّ عليه‌السلام ، ولكنّ بغض أنس له يحمله على الكذب ، فيردّ عليّاً مدّعياً بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حاجة له ، ويتكرّر منه الكذب ثلاث مرّات متوالية ؛ لأنّه لم يقبل أن يكون عليّ عليه‌السلام أحبّ الخلق إلى الله بعد رسوله ، ولكن عليّاً اقتحم الباب في المرّة الرابعة ودخل ، فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما حبسك عنّي يا علي »؟ قال : « جئتك فردّني أنس ثلاث مرات » ، قال : « ما حملك على ذلك يا أنس »؟ قال : يا رسول الله سمعت دعاءك ، فأحببت أن يكون رجلا من قومي.

والتاريخ بعد ذلك يحدّثنا بأنّ أنس بقي على بغضه للإمام عليه‌السلام طيلة

__________________

١ ـ هذا الحديث معروف بحديث الطير ، وله طرق عديدة ومتكاثرة جدّاً عن جمع كبير من الصحابة ، منهم علي بن أبي طالب وابن عباس وسفينة وأبي سعيد الخدري وأنس وغيرهم ، وأخرجه جمع كبير من الحفّاظ والمحدّثين! فقد أخرجه الحاكم في المستدرك ٣ : ١٣٠ وقال : ( صحيح على شرط الشيخين ) ثمّ قال : ( وقد رواه عن أنس جماعة من أصحابه زيادة على ثلاثين نفساً ، ثمّ صحّت الرواية عن علي وأبي سعيد الخدري وسفينة ) ، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد ٩ : ١٢٦ وقال : ( رجال الطبراني رجال الصحيح غير فطر بن خليفة وهو ثقة ) ، كما صحّح الحديث الحافظ ابن حجر العسقلاني في ( أجوبة الحافظ ابن حجر عن أحاديث المصابيح ) المطبوع في آخر كتاب المشكاة ٣ : ١٧١٩. وأخرجه أحمد في فضائل الصحابة ٢ : ٥٦٠ ، والترمذي في السنن ٥ : ٣٠٠ ، والبزاز في المسند ٩ : ٢٨٧ ، والطبراني في الأوسط ٢ : ٢٠٧ ، وأبو نعيم في ( مسند أبي حنيفة ) ١ : ٢٣٤ ، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ٣ : ٣٩٠ ، تاريخ دمشق ٤٢ : ٢٥٢ ، والمناقب للخوارزمي : ١١٥.

٤١٥

حياته ، وهو الذي استشهده عليّ يوم الرحبة بحديث الغدير ، فكتم الشهادة ودعا عليه الإمام عليه‌السلام فلم يقم من مجلسه إلاّ أبرص ، فكيف لا يصبح أنساً من المناوئين لعلي عليه‌السلام وهو يبغضه ويتقرَّب إلى أعدائه بالبراءة منه.

لكلّ ذلك جاءت روايته في خصوص البسملة تفوح بالولاء لمعاوية بن أبي سفيان إذ يقول : « صلّيت خلف النبيّ وأبي بكر وعمر وعثمان » ويعني بذلك أنّه ما كان يقبل بالصلاة وراء عليّ ، وهو بالضبط ما كان يريده معاوية وأتباعه من رفع ذكر الخلفاء الثلاثة ، وطمس ذكر علي عليه‌السلام وعدم التحدّث باسمه.

وبما أنّه ثبت من طريق أئمة العترة الطاهرة وشيعتهم بأنّ علياً عليه‌السلام كان يجهر بالبسملة في الفاتحة والسورة التي بعدها ، كما ثبت أيضاً من طريق « أهل السنّة والجماعة » بأنّه كان يبالغ في الجهر بالبسملة حتى في الصلاة السرية ، فثبت بذلك أنّها هي السنّة النبويّة الصحيحة ، فمن تركها فقد ترك الواجب وأبطل صلاته ؛ لأنّ مخالفة السنّة هو الضلال ، فما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا.

ولنا بعد هذا عدّة مآخذ على روايات الصحابة التي تخالف سنّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعدّة أمثلة ذكرنا البعض منها في أبحاث سابقة ، وسنذكر البعض الآخر في أبحاث لاحقة ، والمهم في كلّ ذلك أن نعرف بأنّ « أهل السنّة والجماعة » يقتدون بأقوال وأفعال الصحابة :

أوّلا : لإيمانهم بأنّ أقوالهم وأفعالهم هي سنّة ملزمة.

ثانياً : لاشتباههم في أنّ ما قاله الصحابة وما فعلوه لا يخالف السنّة

٤١٦

النبويّة ؛ لأنّ الصحابة كانوا يحكمون بآرائهم وينسبون ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حتى يتمكّنوا من التأثير في النفوس ويأمنوا معارضة المعارضين.

وإذا كان عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام هو المعارض الوحيد الذي حاول بكلّ جهوده في أيام خلافته إرجاع الناس للسنّة النبويّة بأقواله وأفعاله وقضائه ، ولكن بدون جدوى ؛ لأنّهم شغلوه بالحروب الطاحنة ، فلم ينتهِ من حرب إلاّ وأشعلوا له حرباً أُخرى ، ولم ينته من حرب الجمل حتى أسعروا حرب صفين ، ولم ينته من صفين حتى أشعلوا حرب النهروان ، ولم ينتهِ منها حتى اغتالوه في محراب الصلاة.

وجاء معاوية للخلافة وكان همّه الوحيد هو إطفاء نور الله ، فعمل بكلّ جهوده للقضاء على سنّة النبيّ التي أحياها الإمام عليّ عليه‌السلام ، وأرجع الناس لبدع الخلفاء ، وخصوصاً البدع التي سنّها هو لهم ، وعمل على سبِّ عليّ عليه‌السلام ولعنه حتى لا يذكره ذاكر إلاّ بما هو مشين.

يذكر المدائني أنّ بعض الصحابة جاء إلى معاوية فقال له : « يا أمير المؤمنين ، إنّ عليّاً عليه‌السلام مات وليس هناك شيء تخافه ، فلو رفعت هذا اللعن عنه؟ فقال معاوية : لا والله حتى يهرم عليه الكبير ويشيب عليه الصغير ». يقول المدائني : فمكثوا على ذلك ( بنو أُميّة ) دهراً ، وعلَّموه إلى صبيانهم في الكتاتيب ، وإلى نسائهم وخدمهم ومواليهم (١).

وقد نجح معاوية في مخطّطه نجاحاً كبيراً ، إذ أبعد الأُمّة الإسلاميّة ( إلاّ

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٤ : ١٥٧.

٤١٧

القليل منها ) عن وليّها وقائدها الحقيقي ، وجرَّهم إلى معاداته والبراءة منه ، وألبس لهم الباطل بالحقّ ، وجعلهم يعتقدون بأنّهم هم « أهل السنّة » ، وأنّ من والى عليّاً واتّبعه فهو خارجي وصاحب بدعة.

وإذا كان الإمام أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام وما أدراك ، يُلعن فوق المنابر ويتقرَّب إلى الله بسبّه ولعنه ، فما بالك بالشيعة الذين اتبعوه ، فقد منعوا عطاءهم ، وحرّقوا عليهم ديارهم ، وصلبوهم على جذوع النخل ، ودفنوهم أحياء ، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم.

إنّ معاوية في نظري هو حلقة من سلسلة المؤامرة الكبرى وفصل من فصولها ، ولكنّه نجح أكثر من غيره في طمس الحقائق وتقليبها ظهراً على عقب ، وأرجع الأُمّة إلى الجاهليّة الأُولى في لباس الإسلام.

وتجدر الإشارة بأنّه كان أدهى ممّن سبقه من الخلفاء ، فكان ممثلا بارعاً يجيد التمثيل ، فيبكي في بعض الأحيان حتى يؤثّر في الحاضرين ، فيعتقدون أنّه من الزهاد العباد المخلصين ، ويقسو ويتجبّر أحياناً أُخرى حتى يخيل إلى الحاضرين أنّه من أكبر الملحدين ، ويظنّ البدوي بأنّه رسول الله!

ولابدّ لإتمام البحث أن نعرف من خلال رسالة محمّد بن أبي بكر التي وجهها إليه وردّه عليها مدى مكره ودهائه ، كما سنعرف من خلال الرسالتين حقائق لا غنى للباحثين من الوقوف عليها.

٤١٨

كتاب محمّد بن أبي بكر إلى معاوية

من محمّد بن أبي بكر إلى الغاوي معاوية بن صخر :

سلام على أهل طاعة الله ، ممّن هو سلم لأهل ولاية الله ، أمّا بعد :

فإنّ الله بجلاله وعظمته ، وسلطانه وقدرته ، خلق خلقه بلا عبث منه ولا ضعف في قوّته ، ولا حاجة به إلى خلقهم ، لكنّه خلقهم عبيداً وجعل منهم غوياً ورشيداً ، وشقياً وسعيداً ، ثمّ اختار على علم فاصطفى وانتخب منهم محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فاختصه برسالته ، واختاره لوحيه ، وائتمنه على أمره ، وبعثه رسولا ومبشراً ونذيراً ، مصدّقاً لما بين يديه من الكتب ، ودليلا على الشرائع ، فدعا إلى سبيل أمره بالحكمة والموعظة الحسنة.

فكان أوّل من أجاب وأناب وأمن وصدق وأسلم وسلم ، أخوه وابن عمّه علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، صدَّقه بالغيب المكتوم ، وآثره على كلّ حميم ، ووقاه بنفسه كلّ هول ، وواساه بنفسه في كلّ خوف ، وحارب حربه وسالم سلمه ، فلم يبرح مبتذلا لنفسه في ساعات الأزل ومقامات الروع ، حتى برز سابقاً لا نظير له في جهاده ، ولا مقارب له في فعله.

وقد رأيتك تساميه ، وأنت أنت ، وهو هو السابق المبرز في كلّ خير ، أوّل الناس إسلاماً ، وأصدق الناس نيّة ، وأفضل الناس ذريّة ، وخير الناس زوجة ، وأفضل الناس ابن عمّ ، أخوه الشاري لنفسه يوم مؤتة ، وعمّه سيّد الشهداء

٤١٩

يوم أحد ، وأبوه الذاب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن حوزته ، وأنت اللعين ابن اللعين ، لم تزل أنت وأبوك تبغيان لدين الله الغوائل ، وتجهدان في إطفاء نور الله ، تجمعان على ذلك الجموع ، وتبذلان فيه المال ، وتؤلّبان عليه القبائل.

على هذا مات أبوك ، وعلى ذلك خلفته ، والشاهد عليك بذلك من تدني ، ويلجأ إليك من بقية الأحزاب ، ورؤساء النفاق والشقاق لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والشاهد لعليّ مع فضله المبين وسابقته القديمة أنصاره الذين معه الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن ، ففضَّلهم وأثنى عليهم من المهاجرين والأنصار ، فهم معه كتائب وعصائب يجالدون حوله بأسيافهم ، ويهرقون دماءهم دونه ، يرون الحقّ في اتباعه والشقاء في خلافه.

فكيف ـ يا لك الويل ـ تعدل نفسك بعليّ ، وهو وارث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووصيّه وأبو ولده ، وأوّل الناس له اتباعاً وأقربهم به عهداً ، يخبره بسرّه ، ويطلعه على أمره ، وأنت عدوّه وابن عدوه؟!

فتمتّع في دنياك ما استطعت بباطلك ، وليمددك ابن العاص في غوايتك ، فكأنّ أجلك قد انقضى ، وكيدك قد وهى ، وسوف يتبيّن لك لمن تكون العاقبة العليا!

واعلم أنّك إنّما تكايد ربّك الذي قد أمنت كيده ، وآيست من روحه ، وهو لك بالمرصاد ، وأنت منه في غرور. والسلام على من اتبع الهدى (١).

* * *

__________________

١ ـ مروج الذهب للمسعودي ٣ : ١١ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٣ : ١٨٨ ، أنساب الأشراف للبلاذري : ٣٩٣.

٤٢٠