الشيعة هم أهل السنّة

الدكتور محمّد التيجاني السماوي

الشيعة هم أهل السنّة

المؤلف:

الدكتور محمّد التيجاني السماوي


المحقق: مركز الأبحاث العقائديّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-20-X
الصفحات: ٥٢٢

والجماعة » يسمّون أيضاً بـ « القدريّة » لقولهم بذلك (١).

والنتيجة هي أنّ « أهل السنّة والجماعة » يؤمنون بولاية العهد ويعتبرونها خلافة شرعيّة ، لا لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بها ، أو أنّه عيَّن ولياً لعهده ، فهم ينكرون ذلك أشدّ الإنكار ، ولكن لأنّ أبا بكر عهد إلى عمر ، وعمر عهد إلى الستّة ، ومعاوية عهد إلى يزيد ، وهكذا.

ولم يقل أحد من العلماء عندهم ، ولا أحد من أئمة المذاهب الأربعة ، بأنّ الحكم الأموي أو الحكم العباسي أو الخلافة العثمانية هي غير شرعيّة ، بل نراهم يسارعون إلى البيعة والتأييد وتصحيح خلافتهم ، بل ذهب أكثرهم للقول بشرعيّة الخلافة لكلّ من تغلَّب عليها بالقوّة والقهر ، ولا يهمهم إن كان براً أم فاجراً ، تقياً أم فاسقاً ، عربياً قرشياً أم تركياً وكردياً.

يقول الدكتور أحمد محمود صبحي في هذا الصدد : « موقف أهل السنّة

__________________

١ ـ لمّا كثر الكلام حول أفعال العباد وكيفيّة ارتباطها بالله تعالى وانشقّت الأُمة الإسلامية إلى جبرية وعدليّة ، حاولت كلّ فرقة إطلاق لقب « القدريّة » على الاُخرى ، لما له من الذمّ على لسان صاحب الشريعة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكنّ الأوفق إطلاق لقب القدريّة على من قال بأنّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ، وذلك لأنّ الاسم إنّما يشتقّ من الشيء المثبت لذلك الشيء ، كما يسمّى من أثبت إلهاً ثانياً بالثنوي ، ومن أثبت جسماً لله تعالى بالمجسّم ، ولو اشتقّ اسم الشيء لنافيه لكان الموحّد ثنوياً والمنزه مجسمياً.

هذا بالاضافة إلى ما رواه السيّد ابن طاووس في الطرائف : ٣٤٤ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّه قال : « لعنت القدريّة على لسان سبعين نبياً « ، قيل : ومن القدريّة يا رسول الله؟ فقال : » قوم يزعمون أنّ الله قدّر عليهم المعاصي وعذّبهم عليها ».

فالمؤلّف يقصد هنا هذا المعنى من القدريّة المستلزم للجبر ، وهو ما عليه غالب أهل السنّة وإن حاولوا تنزيه أنفسهم من وصمة الجبر بنظرية الكسب.

٤٦١

في مسألة الخلافة هو التسليم بالأمر الواقع ، دون تأييد أو خروج عليه » (١).

ولكنّ الواقع أنّ « أهل السنّة » يؤيّدون أيضاً ، فقد ذكر أبو يعلى الفرّاء عن الإمام أحمد بن حنبل قوله : « إنّ الخلافة تثبت بالغلبة والقهر ، ولا تفتقر إلى العقد ».

وقال في رواية عبدوس بن مالك العطّار : « من غلب بالسيف حتى صار خليفة وسمّي أمير المؤمنين ، فلا يحلّ لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماماً براً كان أم فاجراً ». واحتجّ بقول عبد الله بن عمر : « نحن مع من غلب » (٢).

وبذلك أصبح « أهل السنّة والجماعة » رهينة هذه البدعة ـ بدعة ولاية العهد ـ فهم يبايعون الغالب والمتغلّب بقطع النظر عن ورعه وتقواه وعلمه ( براً كان أم فاجراً ) ، والدليل على أنّ أغلب الصحابة الذين قاتلوا مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معاوية بن أبي سفيان في عدّة غزوات ، بايعوه فيما بعد على أنّه أمير للمؤمنين ، كما قبلوا بخلافة مروان بن الحكم الذي سمّاه رسول الله « الوزغ » (٣) وطرده من المدينة وقال : « لا يساكنني حياً ولا ميتاً » (٤).

بل قبلوا بخلافة يزيد بن معاوية ، وبايعوه بإمارة المؤمنين ، ولمّا ثار عليه الحسين سبط النبيّ قتلوه وأهل بيته ؛ لتثبيت ملك يزيد وتصحيح خلافته ، وذهب علماؤهم إلى القول بأنّ الحسين قتل بسيف جدّه ، ومنهم من يكتب

__________________

١ ـ نظرية الإمامة لمحمود صبحي : ٢٣.

٢ ـ راجع معالم المدرستين للعسكري ١ : ١٤٨ عن الأحكام السلطانية : ٧ ـ ١١.

٣ ـ المستدرك ٤ : ٤٧٩ وصححّه.

٤ ـ راجع الغدير ٨ : ٢٤٣ عن أنساب الأشراف.

٤٦٢

حتى اليوم كتباً على حقائق « أمير المؤمنين يزيد بن معاوية » كلّ ذلك تأييداً منهم لخلافة يزيد ، وإدانة الحسين ؛ لأنّه خرج عليه.

وإذا عرفنا كلّ هذا ، فليس أمامنا إلاّ الاعتراف بأنّ « أهل السنّة والجماعة » قد خالفوا السنّة التي نسبوها إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهي قولهم بأنّه ترك الأمر شورى بين المسلمين.

أمّا الشيعة فقد تمسّكوا في مبدأ الإمامة بقول واحد وهو « النصّ من الله ورسوله على الخليفة » ، فالإمامة عندهم لا تصحّ إلاّ بالنصّ ، ولا تكون إلاّ للمعصوم والأعلم والأتقى والأفضل ، فلا يجوز عندهم تقديم المفضول على الفاضل ، ولذلك نراهم رفضوا خلافة الصحابة أولا ، كما رفضوا خلافة « أهل السنّة والجماعة » ثانياً.

وبما أنّ النصوص التي يدّعيها الشيعة في شأن الخلافة لها وجود فعلي ومصداق حقيقي في صحاح « أهل السنّة والجماعة » ، فليس أمامنا إلاّ الاعتراف بأنّ الشيعة هم الذين تمسكوا بالسنّة النبويّة الصحيحة.

وسواء أقلنا بأنّ الأمر شورى أم هو بالنصّ في شأن الخلافة ؛ فإنّ الشيعة وحدهم على حقّ ؛ لأنّ الشخص الوحيد الذي تعيّن بالنصّ وبالشورى معاً هو علي بن أبي طالب ، ولا قائل من المسلمين شيعياً كان أم سنياً يقول بأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشار إلى ولاية العهد من قريب أو بعيد.

ولا قائل من المسلمين سنياً كان أم شيعياً يقول بأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لأصحابه : تركت أمركم شورى ، فاختاروا من شئتم لخلافتي.

ونحن نتحدّى العالمين أن يأتونا بحديث واحد من هذا القبيل ، فإن لم

٤٦٣

يفعلوا ولن يفعلوا ، فليرجعوا إلى السنّة النبويّة الثابتة ، والتاريخ الإسلامي الصحيح لعلّهم يرشدون.

أم أنّهم يقولون بأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهمل هذا الأمر الخطير ، ولم يبيّن معالمه ليدخل أُمّته في صراع دائم وفتنة عمياء ، تمزّق وحدتهم وتفرّق شملهم ، وتنحرف بهم عن صراط الله المستقيم ، ونحن نرى اليوم بأنّ الفاسقين من الحكّام الجائرين يفكّرون في مصير شعوبهم من بعد خلافتهم فيعمدون إلى تعيين خلف لهم في حالة الشغور ، فكيف بمن أرسله الله رحمة للعالمين؟!

٤٦٤

٢ ـ القول بعدالة الصحابة يخالف صريح السنّة

إذا نظرنا إلى أفعال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأقواله تجاه الصحابة ، نجده قد أعطى كلّ ذي حقّ حقّه ، فهو يغضب لله ويرضى لرضاه ، وكلّ صحابي خالف أمر الله سبحانه تبرّأ منه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما تبرّأ ممّا صنع خالد بن الوليد في قتله بني جذيمة ، وكما غضب على أُسامة عندما جاءه ليشفع للمرأة الشريفة التي سرقت ، فقال قولته المشهورة : « ويلك ، أتشفع في حدّ من حدود الله؟ والله لو سرقت فاطمة بنت محمّد لقطعت يدها ، إنّما أهلك من كان قبلكم ؛ لأنّهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه ، وإذا سرق الوضيع أقاموا عليه الحدّ » (١).

ونجده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحياناً يبارك ويترضّى على بعض أصحابه المخلصين ، ويدعو لهم ويستغفر لهم ، كما نجده يلعن البعض منهم الذين يعصون أوامره ، ولا يقيمون لها وزناً أحياناً أُخرى ، مثل قوله : « لعن الله من تخلَّف عن جيش أُسامة » (٢) وذلك عندما طعنوا في تأميره ، ورفضوا الالتحاق بجيشه بحجّة أنّه صغير السنّ.

كما نجده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوضّح للناس ولا يتركهم يغترّوا ببعض الصحابة المزيّفين ، فيقول في أحد المنافقين : « إنّ له أصحاباً يحقّر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من

__________________

١ ـ سنن النسائي ٨ : ٧٤ ، وكذلك في السنن الكبرى ٤ : ٣٣٤ ح٧٣٨٨.

٢ ـ الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٢٣.

٤٦٥

الدين كما يمرق السهم من الرمية ».

وقد يتوقّف فلا يصلّي على أحد الصحابة الذين استشهدوا في غزوة خيبر ضمن جيش المسلمين ، ويكشف على حقيقته ويقول : « إنّه غلّ في سبيل الله » (١) ، ولمّا فتّشوا متاعه وجدوا فيه خرزاً من خرز اليهود.

ويحدّثنا المحدّثون (٢) أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عطش في غزوة تبوك ، فقال المنافقون : إنّ محمّداً يخبر بأخبار السماء ، ولا يعلم الطريق إلى الماء ، فنزل جبريل وأخبره بأسمائهم ، وأخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهم سعد بن عبادة ، فقال له سعد : إن شئت ضربت أعناقهم ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا يتحدّث الناس أنّ محمّداً يقتل أصحابه ، ولكن نحسن صحبتهم ما أقاموا معنا » (٣).

وقد سار فيهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما أشار به القرآن الكريم في حقّهم ، فقد رضي الله عن الصادقين منهم ، وغضب على المنافقين والمرتدّين والناكثين منهم ، ولعنهم في العديد من الآيات المحكمات ، وقد وافينا البحث لهذا الموضوع في كتاب « فاسألوا أهل الذكر » في فصل « القرآن الكريم يكشف حقائق بعض الصحابة » ، فمن أراد التحقيق فعليه بالرجوع إلى الكتاب المذكور.

__________________

١ ـ مسند أحمد ٤ : ١١٤ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٩٥٠ ح٢٨٤٨ ، سنن أبي داود ١ : ٦١٤ ح٢٧١٠.

٢ ـ سعد بن عبادة : ١٦.

٣ ـ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا يتحدّث الناس أنّ محمّداً يقتل أصحابه ، ولكن نحسنُ صحبتهم ... » فيه دليل واضحٌ على أنّ المنافقين هم من الصحابة ، فقول « أهل السنّة والجماعة » بأنّ المنافقين ليسوا من الصحابة مردود عليهم ؛ لأنّه ردٌّ على رسول الله الذي يُسمّيهم أصحابه ( المؤلّف ).

٤٦٦

ويكفينا مثل واحد من أعمال بعض الصحابة المنافقين التي كشفها الله سبحانه وفضح أصحابها ، وكانوا اثني عشر رجلا من الصحابة تذرَّعوا ببعد المسافة ، وأن الوقت لا يسعهم للحضور مع النبيّ ، فبنوا مسجداً لأداء الصلاة في وقتها ، فهل ترى إخلاصاً ووفاءً أكبر من هذا؟ أن يصرف العبد أموالا طائلة لبناء مسجد حرصاً منه على أداء فريضة الصلاة في وقتها ، وفي جماعة يجمعهم مسجد واحد؟

ولكن الله سبحانه الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، والذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، علم سرائرهم وما تخفي صدورهم ، فأوحى إلى رسوله بأمرهم ، وأطلعه على نفاقهم بقوله : ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ المُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الحُسْنى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) (١).

وكما أنّ الله لا يستحي من الحقّ فكذلك رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كان يقول لأصحابه صراحة بأنّهم سيتقاتلون على الدنيا ، وأنّهم سيتبعون في الضلالة سنن اليهود والنصارى شبراً بشبر وذراعاً بذراع ، وأنّهم سينقلبون بعده على أدبارهم ويرتدون ، وأنّهم يوم القيامة سيدخلون إلى النار ، ولا ينجو منهم إلاّ القليل الذي عبَّر عنه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهمل النعم ، وأنّهم وأنّهم ...

فكيف يحاول « أهل السنّة والجماعة » إقناعنا بعد كلّ هذا بأنّ الصحابة كلّهم عدول ، وأنّهم في الجنّة جميعاً ، وأنّ أحكامهم ملزمة لنا ، وأنّ آراءهم

__________________

١ ـ التوبة : ١٠٧.

٤٦٧

وبدعهم واجبة الاتباع ، وأنّ الطعن على أيّ واحد منهم مروق عن الدين يوجب القتل؟!

إنّه قول لا يقبله المجانين فضلا عن العقلاء ، إنّه قول زور وبهتان لفقه الأمراء والسلاطين ، والذين ساروا في ركابهم من علماء السوء المتطفّلين على العلم ، ونحن لا يمكن لنا قبول هذا القول أبداً مادامت لنا عقول ؛ لأنّه ردّ على الله ورسوله ، ومن ردّ قول الله وقول الرسول فقد كفر ، ولأنّه يصادم العقل والوجدان.

ونحن لا نلزم « أهل السنّة والجماعة » بالعدول عنه أو برفضه ، فهم أحرار في ما يعتقدونه ، وهم وحدهم المسؤولون عن نتائجه وعواقبه الوخيمة.

ولكن عليهم أن لا يكفرّوا من يتبع القرآن والسنّة في عدالة الصحابة ، فيقول للمحسن منهم : أحسنت ، ويقول للمسيء منهم : أخطأت وأسأت ، ويتولّى أولياء الله ورسوله منهم ، ويتبرّأ من أعداء الله ورسوله منهم أيضاً.

وبهذا يتبيّن لنا أيضاً بأنّ « أهل السنّة والجماعة » خالفوا صريح القرآن وصريح من سبّ صحابياً ، إذا قلت له : كيف لا تكفِّر معاوية وكلّ الصحابة الذين اتّبعوه على سبّ ولعن عليّ من فوق المنابر؟ فسيجيبك حتماً كما هو معروف : ( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ ) (١).

__________________

١ ـ البقرة : ١٣٤.

٤٦٨

٣ ـ النبيّ يأمر المسلمين بالاقتداء بعترته وأهل السنّة يخالفونه

لقد أثبتنا في ما سبق من أبحاث بأنّ حديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي عُرف بحديث الثقلين ، وهو قوله : « تركت فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، وأن اللطيف الخبير أنبأني أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ».

وأثبتنا بأنّ هذا الحديث هو حديث صحيح متواتر أخرجه الشيعة ، كما أخرجه « أهل السنّة والجماعة » في صحاحهم ومسانيدهم ، والمعروف بأنّ « أهل السنّة والجماعة » نبذوا أهل البيت وراء ظهورهم (١) ، وولّوا وجوههم شطر أئمة المذاهب الأربعة الذين فرضتهم السلطات الجائرة والتي حظيت بدورها بتأييد وبيعة « أهل السنّة والجماعة ».

وإذا شئنا التوسّع في البحث لقلنا بأنّ « أهل السنّة والجماعة » هم الذين حاربوا أهل البيت النبوي بقيادة الحكّام الأمويين والعباسيين ، ولذلك لو فتشت في عقائدهم وكتب الحديث عندهم ، فسوف لا تجد لفقه أهل البيت شيئاً عندهم يذكر ، وسوف تجد كلّ فقههم وأحاديثهم منسوبة لأعداء أهل البيت ، من النواصب والمحاربين لهم ، كعبد اللّه بن عمر ،

__________________

١ ـ ولنا أن نقول بأنّ أهل السنّة والجماعة قد لعنوهم وحاربوهم وقتلوهم ، هذا إذا فهمنا بأنّ زعيم أهل السنّة هو معاوية ، وما جرّأ معاوية عليهم إلاّ أبو بكر وعمر وعثمان ، كما اعترف معاوية نفسه بذلك ( المؤلّف ).

٤٦٩

وعائشة ، وأبي هريرة ، وغيرهم.

فنصف الدين عندهم يؤخذ عن عائشة الحميراء ، وفقيه أهل السنّة هو عبد الله بن عمر ، راوية الإسلام عندهم هو أبو هريرة شيخ المضيرة ، والطلقاء وأبناء الطلقاء هم القضاة والمشرِّعون في دين الله عندهم.

والدليل أنّ « أهل السنّة والجماعة » لم يكن لهم وجود معروف بهذا الاسم ، ولكنّهم كانوا في مجموعهم المعارضين لأهل البيت من يوم السقيفة ، وهم الذين تآمروا على انتزاع الخلافة من أهل البيت ، والعمل على إقصائهم عن المسرح السياسي للأُمة.

وتكوَّنت فرقة « أهل السنّة والجماعة » كردِّ فعل على الشيعة الذين تكتلوا وراء أهل البيت وانقطعوا إليهم ، وقالوا بإمامتهم اتباعاً للقرآن والسنّة.

ومن الطبيعي أن يكون المعارضون للحقّ هم الأكثرية الساحقة من الأُمّة خصوصاً بعد الفتن والحروب ، أضف إلى ذلك أنّ أهل البيت لم يتمكّنوا من الحكم إلاّ أربعة أعوام ، وهي خلافة الإمام علي ، وقد أشغلوه فيها بالحروب الدامية.

أمّا « أهل السنّة والجماعة » المعارضون لأهل البيت ، فقد حكموا مئات السنين ، وامتدّ ملكهم وسلطانهم شرقاً وغرباً ، وكان لهم الحول والطول والذهب والفضّة ، فكان « أهل السنّة والجماعة » هم الغالبون ؛ لأنّهم الحاكمون ، وكان الشيعة بقيادة أهل البيت هم المغلوبون ؛ لأنّهم محكومون ومضطهدون بل مشرّدون ومقتولون.

ونحن لا نريد الإطالة في هذا الموضوع بقدر ما نريد الكشف عن خفايا

٤٧٠

« أهل السنّة والجماعة » الذين خالفوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وصيته ، وفي تركته التي تضمن الهداية وتمنع من الضلالة ، أما الشيعة فقد تمسكوا بوصية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واقتدوا بعترته الطاهرة ، وتحمّلوا من أجل ذلك العناء والأتعاب.

والحقيقة أنّ هذا الخلاف والعصيان من « أهل السنّة والجماعة » وهذا القبول والرضى من الشيعة بخصوص الثقلين والتمسّك بهما معاً ، ظهرت معالمه من يوم الخميس الذي سُمِّي يوم الرزية ، عندما طلب إليهم الرسول احضار الكتف والدواة ليكتب لهم ذلك الكتاب الذي يعصمهم من الضلالة ، فوقف عمر ذلك الموقف الخطير ، ورفض أمر النبيّ مدّعياً بأنّ كتاب الله يكفيهم ولا حاجة للعترة.

فكأنّ النبيّ يقول تمسّكوا بالثقلين : القرآن والعترة ، وعمر يردّ عليه : حسبنا ثقلا واحداً وهو القرآن ، ولا حاجة لنا بالثقل الثاني ، وهذا قوله بالضبط « حسبنا كتاب الله يكفينا ».

وقول عمر يمثّل موقف « أهل السنّة والجماعة » لأنّ قريش المتمثّلة في أبي بكر ، وعثمان ، وعبد الرحمان بن عوف ، وأبي عبيدة ، وخالد بن الوليد ، وطلحة بن عبيد الله ، كلّ هؤلاء وقفوا يؤيّدون عمر في موقفه ، قال ابن عباس : فمنهم من يقول ما قال عمر ، ومنهم من يقول : قربوا للرسول ليكتب الكتاب (١).

__________________

١ ـ مسند أحمد ١ : ٣٢٥ ، صحيح البخاري ٧ : ٩ ( كتاب المرض والطب ، باب قول المريض : قوموا عنّي ) ، ٨ : ١٦١ ( كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة ، باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تسألوا أهل الكتاب ) ، صحيح مسلم ٥ : ٧٦ ( كتاب الهبات ، باب الأمر بقضاء النذر ).

٤٧١

ومن البديهي أنّ عليّاً وشيعته من ذلك اليوم تمسّكوا بوصيّة النبيّ ولو لم تُكتب ، وعملوا بالقرآن والسنّة معاً ، ولم يعمل أعداؤهم حتى بالقرآن الذي قبلوه في بداية الأمر ، ولكنّهم عطَّلوا أحكامه عندما وصلوا إلى الحكم ، فاجتهدوا بآرائهم ونبذوا كتاب الله وسنّة رسوله وراء ظهورهم.

٤٧٢

٤ ـ « أهل السنّة والجماعة » ومودّة أهل البيت

لا يشكّ أحد من المسلمين في أنّ الله سبحانه وتعالى جعل مودة أهل البيت عليهم‌السلام ضريبة على المسلمين مقابل منحهم الرسالة المحمّدية ، وما فيها من فضائل النعم ، فقال عزّ وجلّ : ( قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (١).

وقد نزلت هذه الآية الكريمة تفرض على المسلمين مودّة العترة الطاهرة ، وهم عليّ وفاطمة والحسن والحسين ، بشهادة أكثر من ثلاثين مصدراً من مصادر « أهل السنّة والجماعة » (٢) ، حتى قال الإمام الشافعي في ذلك :

يا أهل بيت رسول الله حبّكم

فرض من الله في القرآن أنزله (٣)

فإذا كانت محبتهم نزل بها القرآن ، وجعلها فرض على أهل القبلة كافة ، كما اعترف بذلك الإمام الشافعي! وإذا كانت مودّتهم هي أجر الرسالة المحمّدية ، كما نطق صريح البيان ، وإذا كانت مودتهم عبادة يُتقرَّب بها إليه سبحانه ، فما بال « أهل السنّة والجماعة » لا يقيمون لأهل البيت وزناً ، ولا

__________________

١ ـ الشورى : ٢٣.

٢ ـ راجع في ذلك كتاب « مع الصادقين » للمؤلّف.

٣ ـ راجع الصواعق المحرقة ٢ : ٤٣٥ ، الآية الثانية من الآيات النازلة في أهل البيت عليهم‌السلام.

٤٧٣

ينزّلونهم إلاّ دون منزلة الصحابة (١)؟

ولنا أن نسأل « أهل السنّة والجماعة » بل لنا أن نتحدّاهم أن يأتونا بآية قرآنية واحدة ، أو بحديث نبوي واحد يفرض على المسلمين مودّة أبي بكر أو عمر أو عثمان ، أو أيّ واحد من الصحابة؟!

كلاّ وأنّى لهم مثل ذلك ، فلا يوجد في كتاب الله ولا في سنّة رسوله شيء من ذلك ، بل يوجد في القرآن آيات عديدة تشير إلى منزلة أهل البيت الرفيعة ، وتفضّلهم على سائر العباد.

وفي السنّة النبويّة أحاديث كثيرة تفضّل أهل البيت وتقدّمهم على سائر المسلمين ، تقديم الإمام على المأموم والعالم على الجاهل.

ويكفينا من القرآن آية المودّة التي نحن بصدد ذكرها ، وآية المباهلة ، وآية الصلاة على النبيّ وآله ، وآية إذهاب الرجس والتطهير ، وآية الولاية ، وآية الاصطفاء ووراثه الكتاب.

ويكفينا من السنّة النبويّة حديث الثقلين ، وحديث السفينة ، وحديث المنزلة ، وحديث الصلاة الكاملة ، وحديث النجوم ، وحديث مدينة العلم ، وحديث الأئمة بعدي اثنا عشر.

ولا نريد القول بأنّ ثلث القرآن نزل في مدح أهل البيت عليهم‌السلام وذكر فضائلهم ، كما يقول بعض الصحابة كابن عباس ، ولا أن ندّعي بأنّ ثلث

__________________

١ ـ فـ « أهل السنّة والجماعة » كلّهم يقولون بتفضيل أبي بكر وعمر وعثمان على عليّ بن أبي طالب ، وإذا كان علي هو سيّد العترة وأفضل أهل البيت بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّ أهل البيت عند « أهل السنّة والجماعة » يأتون بعد الصحابة الثلاثة المعروفين عندهم بالخلفاء الراشدين!! ( المؤلّف ).

٤٧٤

السنّة النبويّة كلّه تنويه وتمجيد في أهل البيت ، وتوجيه الناس إلى فضلهم وفضائلهم ، كما ألمح لذلك الإمام أحمد بن حنبل.

ويكفينا من القرآن والسنّة ما أوردناه من صحاح « أهل السنّة والجماعة » للدلالة على تفضيل أهل البيت على من سواهم من البشر.

وبعد نظرة وجيزة إلى عقائد « أهل السنّة والجماعة » وإلى كتبهم وإلى سلوكهم التاريخي تجاه أهل البيت ، ندرك بدون غموض بأنّهم اختاروا الجانب المعاكس والمعادي لأهل البيت عليهم‌السلام ، وبأنّهم أشهروا سيوفهم لقتالهم ، وسخّروا أقلامهم لانتقاصهم والنيل منهم ، ولرفع شأن أعدائهم ومن حاربهم.

ويكفينا على ذلك دليلٌ واحدٌ يعطينا الحجّة البالغة ، وكما قدّمنا بأنّ « أهل السنّة والجماعة » لم يعرفوا إلاّ في القرن الثاني للهجرة كردِّ فعل على الشيعة الذين والوا أهل البيت وانقطعوا إليهم ، فإنّنا لا نجد شيئاً في فقههم وعباداتهم وكلّ معتقداتهم يرجعون فيه إلى السنّة النبويّة المروية عن أهل البيت (١).

__________________

١ ـ وهب أنّهم كما يزعمون اليوم ويقولون : نحن أولى بعلي وأهل البيت من الشيعة ، فلماذا ترك علماؤهم وأئمّة المذاهب عندهم فقه أهل البيت وكان عندهم نسياً منسياً؟ واتّبعوا مذاهب ابتدعوها ما أنزل الله بها من سلطان ، قال تعالى : ( إِنَّ أَوْلَى الناسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ) ، أمّا الذين لم يتّبعوه فليسوا أولى به كما لا يخفى ( المؤلّف ).

وقد قال ابن تيميّة الحراني في كتابه منهاج السنّة ٧ : ٥٢٩ : « فليس في الأئمة الأربعة ولا غيرهم من أئمة الفقهاء من يرجع إليه [ يعني علي بن أبي طالب ] في فقهه .. » فهذا تصريح واضح بأنّ أهل السنّة تركوا فقه الإمام علي عليه‌السلام الذي هو سيّد العترة الطاهرة.

٤٧٥

__________________

وقال ابن قيم الجوزيّة في أعلام الموقعين ١ : ٢١ في كلامه حول انتشار العلم وعمّن مأخذه ، ونفي وجود أي دور لعلي بن أبي طالب عليه‌السلام : « والدين والفقه والعلم انتشر في الأُمّة عن أصحاب ابن مسعود ، وأصحاب زيد بن ثابت ، وأصحاب عبد اللّه بن عمر ، وأصحاب عبد اللّه بن عباس ، فعلم الناس عامته عن أصحاب هؤلاء الأربعة ، فأمّا أهل المدينة فعلمهم عن أصحاب زيد بن ثابت وعبد اللّه بن عمر ، وأمّا أهل مكّة فعلمهم عن أصحاب عبد اللّه بن عباس ، وأمّا أهل العراق فعلمهم عن أصحاب عبد اللّه بن مسعود ».

فنفى وجود علم لعلي بن أبي طالب عليه‌السلام أو تلامذة حملت علمه وأدته إلى الناس ، ولأجل هذا الحيف الذي صدر من ابن القيّم الجوزيّة في حقّ عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، والذي لازم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طيلة حياته وبقي بعده مدّة غير قليلة .. لأجل ذلك علّق الإمام محمّد أبو زهرة على هذا الكلام قائلا :

« ثمّ إنّ هناك عليّ بن أبي طالب الذي مكث نحواً من ثلاثين سنة بعد أن قبض اللّه تعالى رسوله إليه ، يفتي ، ويرشد ويوجّه ، وقد كان غواصّاً طالباً للحقائق ، وقد أقام في الكوفة نحو خمس سنوات ، ولابدّ أنّه ترك فيها فتاوى وأقضية وكان فيها المنفرد بالتوجيه والارشاد ، وأنّه عرف بغزارة في العلم كرم اللّه وجهه ، وعمق وانصراف إلى الإفتاء في مدّة الخلفاء قبله ، والمشاركة في كلّ الأُمور العميقة التي تحتاج إلى فحص وتقليب للأُمور من كلّ وجوهها ، مع تمحيص وقوّة واستنباط.

وإنّه يجب علينا أن نقرّ هنا أنّ فقه علي وفتاويه وأقضيته لم ترو في كتب السنّة بالقدر الذي يتّفق مع مدّة خلافته ، ولا مع المدّة التي كان منصرفاً فيها إلى الدرس والإفتاء في مدّة الراشدين قبله. وقد كانت حياته كلّها للفقه وعلم الدين ، وكان أكثر الصحابة اتصالاً برسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) فقد رافق الرسول وهو صبيّ قبل أن يبعث عليه‌السلام ، واستمرّ معه إلى أن قبض اللّه تعالى رسوله إليه ، ولذا كان يجب أن يذكر له في كتب السنّة أضعاف ما هو مذكور فيها.

٤٧٦

__________________

وإذا كان لنا أن نعرف السبب الذي من أجله اختفى عن جمهور المسلمين بعض مرويّات عليّ وفقهه ، فإنّا نقول : إنّه لابدّ أن يكون للحكم الأموي أثر في اختفاء الكثير من آثار علي في القضاء والإفتاء ؛ لأنّه ليس من المعقول أن يلعنوا عليّاً فوق المنابر وأن يتركوا العلماء يتحدّثون بعلمه ، وينقلون فتاويه وأقواله للناس ، وخصوصاً ما كان يتصل منها بأُسس الحكم الإسلامي.

والعراق الذي عاش فيه عليّ رضي اللّه عنه وكرّم اللّه وجهه ، وفيه انبثق علمه ، كان يحكمه في صدر الدولة الأموية ووسطها حكّام غلاظ شداد ، لا يمكن أن يتركوا آراء علي تسري في وسط الجماهير الإسلاميّة ، وهم الذين يخلقون الريب والشكوك حوله ، حتى إنّهم يتخذون من تكنية النبي ( صلى الله عليه وسلم ) له ( بأبي تراب ) ذريعة لتنقيصه ، وهو ( رضي الله عنه ) كان يطرب لهذه الكنية ، ويستريح لسماعها ؛ لأنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قالها في محبّة ، كمحبّة الوالد لولده ».

ثمّ يعرّج بعد ذلك على قضيته الأخيرة التي ذكرها ، وهي ترك تراث الإمام علي العلمي من قبل المحدّثين ، فهل كلّ الأُمّة تركته ، أم أنّ هناك من حفظ تراثه العلمي؟

يقول أبو زهرة مجيباً على هذا التسائل : « ولكن هل كان اختفاء أكثر آثار علي ( رضي الله عنه ) وعدم شهرتها بين جماهير المسلمين سبيلا لاندثارها وذهابها في لجة التاريخ إلى حيث لا يعلم بها أحد؟!

إنّ عليّاً ( رضي الله عنه ) قد استشهد وقد ترك وراءه من ذريته أبراراً أطهاراً كانوا أئمة في علم الإسلام ، وكانوا ممّن يقتدى بهم ، ترك ولديه من فاطمة الحسن والحسين ، وترك روّاد الفكر محمّد بن الحنفية ، فأودعهم ( رضي الله عنه ) ذلك العلم وقد قال ابن عبّاس : ( إنّه ما انتفع بكلام بعد كلام رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) كما انتفع بكلام عليّ بن أبي طالب كرّم اللّه وجهه ).

لقد قام أُولئك الأبناء بالمحافظة على تراث أبيهم الفكري ، وهو إمام الهدى ، فحفظوه من الضياع ، وقد انتقل معهم إلى المدينة لما انتقلوا إليها بعد

٤٧٧

__________________

استشهاده ( رضي الله عنه ).

وقد يقول قائل : إنّه قد يكون في الاستتار مجال للتزييد؟

ونقول في الإجابة عن هذا : إنّ التزيد لا يمكن أن يكون من رجال أهل البيت الكريم ، الذي اشتهر رجاله بالصدق في القول والعمل والإخلاص وفي كلّ شؤون دينهم ؛ فهل يتصوّر التزيد من الحسين أو علي زين العابدين أو الباقر أو الصادق؟! إنّ ذلك لا يتصوّر ، ولا يمكن أن يفرضه عالم مسلم مهما تكن نحلته ». الإمام الصادق للإمام محمّد أبو زهرة : ١٢٦ ـ ١٢٨.

فإذا كان فقه عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام محفوظاً عند أبنائه الحسن والحسين وعلي ابن الحسين والباقر والصادق ، فلماذا تركتهم الأُمّة ولم ترجع إليهم في الأخذ بفقه علي عليه‌السلام؟!

ولماذا تركهم الإمام أبو زهرة نفسه وولّى وجهه شطر الأئمة من أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ولم يضمّ إليهم الإمام جعفر بن محمّد الصادق ، ويجعله عدلهم ومساوياً لهم في الأخذ على الأقلّ؟

ولماذا ولّوا وجوههم شطر النواصب والخوارج؟ أمثال عمران بن حطّان وعكرمة البربري ، وجرير بن عثمان الحمصي ، وحصين بن نمير الواسطي ، وإسحاق بن سويد العدوي والوليد بن كثير بن يحيى المدني ، وقيس بن أبي حازم .. وغيرهم الكثير الذي أخرجت لهم الصحاح كالبخاري ومسلم ، وتركت سادة أهل البيت أمثال جعفر الصادق ومحمّد الباقر وغيرهم؟!

وهناك استفهامات كثيرة يعجز أحفاد الأمويين الإجابة عنها واقناع المسلمين بأسبابها.

وقد توهّم الدكتور إبراهيم الرحيلي في كتابه الانتصار للصحب والآل : ١٦٨ تناقض المؤلّف في كلامه ؛ إذ قال تحت عنوان تناقضات المؤلّف : ( قوله في كتابه الشيعة هم أهل السنّة : « ويكفينا على ذلك دليل واحد يعطينا الحجّة البالغة ، وكما قدّمنا بأنّ أهل السنّة والجماعة لم يعرفوا إلاّ في القرن الثاني للهجرة كردِّ فعل

٤٧٨

ورغم أنّ أهل البيت أدرى بما فيه ، فهم ذرّية المصطفى وعترته ، ورغم أنّهم لم يسبقهم أحد في علم ولا في عمل ، وأنّهم واكبوا مسيرة الأُمّة طوال ثلاثة قرون ، وتداولوا الإمامة الروحية والدينية عبر الأئمة الاثني عشر الذين لم يخالف منهم واحد رأي الثاني ؛ فإننا نجد « أهل السنّة والجماعة » يتعبّدون بالمذاهب الأربعة التي لم تخلق إلاّ في القرن الثالث للهجرة ، والتي يخالف فيها بعضهم رأي البعض الآخر ، ومع ذلك نبذوا أهل البيت وراء ظهورهم ، ووقفوا منهم موقف العداء ، بل وحاربوا كلّ من تشيَّع لهم ، ولا زالوا يحاربونهم حتى يوم الناس هذا.

__________________

على الشيعة الذين والوا أهل البيت وانقطعوا إليهم ، فإنّنا لا نجد شيئاً في فقههم وعباداتهم وكلّ معتقداتهم يرجعون فيه إلى السنّة النبويّة المروية عن أهل البيت » يعارض هذا قوله في الكتاب نفسه : « وإذا شئنا التوسّع في البحث لقلنا بأنّ « أهل السنّة والجماعة » هم الذين حاربوا أهل البيت النبوي ... ولذلك لو فتشت في عقائدهم وكتب الحديث عندهم فسوف لا تجد لفقه أهل البيت شيئاً عندهم يذكر ».

قال الرحيلي : ففي النصّ الأوّل يدّعي أنّ كلّ معتقدات أهل السنّة وفقهم ترجع إلى أهل البيت!! وفي النصّ الثاني يناقض ذلك تماماً ويزعم أنّ أهل السنّة أخذوا كلّ معتقداتهم ... من أعداء أهل البيت .. ).

هذا ما ذكره الرحيلي ، وهو يثير العجب حيث إنّ المؤلّف نفى في النصّ الأوّل رجوع أهل السنّة إلى أهل البيت وقال : « .. لا نجد شيئاً في فقههم يرجعون فيه إلى السنّة النبويّة المروية عن أهل البيت ». وكذلك في النصّ الثاني نفى رجوع أهل السنّة في الأُصول والفروع لأهل البيت ، فكيف يتفوّه الرحيلي بهذا الكلام ويدّعي التناقض على المؤلّف مع أنّه لا تناقض إلاّ في مخيّلته التي أعماها التعصّب المقيت!!

٤٧٩

وإذا أردنا دليلا آخر ، فما علينا إلاّ أن نحلّل موقف « أهل السنّة والجماعة » من ذكرى يوم عاشوراء ، ذلك اليوم المشؤوم الذي هُدم فيه ركن الإسلام بقتل سيّد شباب أهل الجنّة ، والعترة الطاهرة من ذرّية المصطفى ، والنخبة الصالحة من أصحابه المؤمنين.

أوّلا : نلاحظ أنّهم يقفون من قتلة الحسين موقف الراضي الشامت المعين ، ولا يستغرب منهم ذلك ، فقتلة الحسين كلّهم من « أهل السنّة والجماعة » ، ويكفي أن نعرف بأنّ قائد الجيش الذي ولاَّه ابن زياد لقتل الحسين هو عمر بن سعد بن أبي وقاص.

ولذلك فـ « أهل السنّة والجماعة » يترضّون على الصحابة أجمعين بما فيهم قتلة الحسين والذين شاركوهم ، ويوثّقون أحاديثهم ، بل وفيهم من يعتبر الإمام الحسين « خارجياً » ؛ لأنّه خرج على أمير المؤمنين يزيد بن معاوية!

وقد قدّمنا فيما سبق بأنّ فقيه « أهل السنّة والجماعة » عبد الله بن عمر قد بايع يزيد بن معاوية ، وحرَّم أن يخرج أحد من أتباعه على يزيد ، وقال : « نحن مع من غلب ».

ثانياً : نرى بأنّ « أهل السنّة والجماعة » على مرّ التاريخ من يوم عاشوراء إلى يوم الناس هذا ، يحتفلون بيوم عاشوراء ويجعلونه عيداً ، يخرجون فيه زكاة أموالهم ويوسعون فيه على عيالهم ، ويروون بأنّه يوم بركات ورحمات.

ولا يكفيهم كلّ ذلك ، فتراهم إلى اليوم يشنّعون على الشيعة ، وينتقدون بكاءهم على الحسين ، وفي بعض البلدان الإسلامية يمنعونهم من إقامة

٤٨٠