الشيعة هم أهل السنّة

الدكتور محمّد التيجاني السماوي

الشيعة هم أهل السنّة

المؤلف:

الدكتور محمّد التيجاني السماوي


المحقق: مركز الأبحاث العقائديّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-20-X
الصفحات: ٥٢٢

ذكرى العزاء ، ويهجمون عليهم بالسلاح ، ويعملون فيهم ضرباً وتقتيلا بدعوى محاربة البدع.

وفي الحقيقة هم لا يحاربون البدع بقدر ما يمثلون دور الحكَّام الأمويين والعباسيين ، الذين حاولوا جهدهم القضاء على ذكرى عاشوراء ، ووصل بهم الأمر إلى نبش قبر الحسين وإعفائه ومنع الناس من زيارته.

فهم إلى الآن يريدون القضاء على إحياء تلك الذكرى خوفاً من أن يعرف الناس ومن يجهلون حقيقة أهل البيت واقع الأُمور ، فتنكشف بذلك عورات أسيادهم وكبرائهم ، ويعرف الناس الحقّ من الباطل ، والمؤمن من الفاسق.

وبهذا يتبيَّن لنا مرّة أُخرى بأنّ الشيعة هم أهل السنّة النبويّة ؛ لأنّهم اتبعوا سنّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى في الحزن والبكاء علي أبي عبد الله الحسين ، وذلك بروايات ثابتة أنّه بكى على ولده الحسين عندما أعلمه جبريل بمقتله في كربلاء وذلك قبل الواقعة بخمسين عاماً.

ويتبيّن لنا أيضاً بأنّ « أهل السنّة والجماعة » يحتفلون بيوم عاشوراء ؛ لأنّهم اتبعوا سنّة يزيد بن معاوية وبني أُميّة في احتفالهم بذلك اليوم ؛ لأنّهم انتصروا فيه على الحسين ، وأخمدوا ثورته التي كانت تهدّد كيانهم ، وقطعوا بذلك دابر الشغب على حدّ زعمهم.

والتاريخ يحدّثنا بأنّ يزيد وبني أُميّة ، احتفلوا بذلك اليوم احتفالا كبيراً حتى وصل إليهم رأس الحسين وسبايا أهل البيت ، ففرحوا بذلك وشمتوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا في ذلك أشعاراً.

وتقرَّب إليهم علماء السوء من « أهل السنّة والجماعة » ، فوضعوا لهم

٤٨١

أحاديث في فضل ذلك اليوم ، وأنّ عاشوراء هو اليوم الذي تاب الله فيه على آدم ، وهو اليوم الذي رست فيه سفينة نوح على جبل الجودي ، وهو اليوم الذي كانت فيه النار برداً وسلاماً على إبراهيم ، وهو اليوم الذي خرج فيه يوسف من السجن وردّ فيه بصر يعقوب ، وهو اليوم الذي انتصر فيه موسى على فرعون ، وهو اليوم الذي نزلت فيه على عيسى مائدة من السماء.

وهذه الروايات كلّها يردّدها علماء « أهل السنّة والجماعة » وأئمتهم على المنابر حتى اليوم بمناسبة عاشوراء ، وهي روايات كلّها من وضع الدجّالين الذين تزيّوا بزي العلماء ، وتقرَّبوا إلى الحكَّام بكلّ الوسائل ، فباعوا آخرتهم بدنياهم ، فما ربحت تجارتهم وهم في الآخرة من الخاسرين.

وقد أمعنوا في الكذب عندما رووا بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هاجر إلى المدينة فصادف دخوله إليها يوم عاشوراء ، فوجد يهود المدينة صياماً ، فسألهم عن السبب ، قالوا : هذا اليوم الذي انتصر فيه موسى على فرعون ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نحن أولى بموسى منكم (١) ، ثمّ أمر المسلمين بصوم عاشوراء وتاسوعاء لمخالفة اليهود.

وهذا كذب مفضوح إذ إنّ اليهود يعيشون معنا ، ولم نسمع لهم بعيد يصومون فيه يسمونه عاشوراء.

وهل لنا أن نسأل ربنا عزّ وجلّ : كيف جعل هذا اليوم مباركاً على كلّ أنبيائه ورسله من آدم إلى عيسى إلاّ محمّد ، فقد كان عليه هذا اليوم مصيبة وعزاء وشؤماً ، إذ قُتل فيه ذريته وعترته ، وذُبحوا ذبح الغنم ، وأخذت بناته

__________________

١ ـ مسند أحمد ١ : ٣٣٦ ، سنن أبي داود ١ : ٥٤٦.

٤٨٢

سبايا؟ والجواب : إنّه ( لا يُسْأَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ) (١).

( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (٢).

__________________

١ ـ الأنبياء : ٢٣.

٢ ـ آل عمران : ٦١.

٤٨٣
٤٨٤

٥ ـ أهل السنّة والجماعة والصلاة البتراء

بعدما قدّمنا في فصل سابق نزول الآية وتفسيرها من قبل الرسول نفسه ، وتعليمهم كيفيّة الصلاة الكاملة ، ونهيهم عن الصلاة البتراء التي لا يقبلها الله سبحانه ، ومع ذلك نجد إصراراً كبيراً من طرف « أهل السنّة والجماعة » على الصلاة البتراء لئلاّ يذكرون آل محمّد ضمن الصلاة ، وإذا ما ذكروهم غصباً تراهم يضيفون الصحابة معهم ، وإذا قلت أمام أحدهم : صلّى الله عليه وآله ، فإنّه يفهم على الفور بأنّك شيعي ، وذلك لأنّ الصلاة الكاملة على محمّد وآل محمّد أصبحت شعاراً للشيعة وحدهم.

وهذه حقيقة لا مرية فيها ، وقد اعتمدتها شخصياً في بداية البحث ، فكنت أعرف تشيّع الكاتب من قوله بعد ذكر محمّد : صلى الله عليه وآله وسلّم ، وعندما لا أجد إلاّ لفظة صلّى الله عليه وسلّم أعرف أنّه سنّي.

كما أفهم تشيّع الكاتب عندما يكتب « عليّ عليه‌السلام » ، ولكنّه عندما يكتب كرَّم الله وجهه أعرف بأنّه سنّي.

ونرى من خلال الصلاة الكاملة بأن الشيعة اقتدوا بالسنّة النبويّة الشريفة ، بينما خالف « أهل السنّة والجماعة » أوامر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يقيموا لها وزناً ، فتراهم دائماً يصلّون الصلاة البتراء ، وإذا ما اضطروا إلى إضافة الآل فأنّهم عند ذلك يضيفون معهم الصحابة أجمعين بدون استثناء ، حتى لا يبقوا لأهل

٤٨٥

البيت فضلا ولا خصوصية.

وهذا كلّه ناتج عن موقف الأمويين تجاه أهل البيت ، والعداوة التي كانوا يحملونها لهم ، حتى وصل بهم الأمر أن أبدلوا الصلاة عليهم بلعنهم على المنابر ، وحمل الناس على ذلك بوسائل الترهيب والترغيب.

فـ « أهل السنّة والجماعة » لم يجاروهم في السبّ واللعن لأهل البيت ، ولو فعلوا ذلك لافتضحوا عند المسلمين ، ولعُرفوا على حقيقتهم وتبرّأ منهم الناس ، فتركوا السبّ واللعن ، ولكنّهم أضمروا العداوة والبغضاء لأهل البيت ، وحاولوا بكلّ جهودهم إطفاء نورهم بأن رفعوا مكانة أعدائهم من الصحابة ، واختلقوا لهم فضائل خيالية لا تمت للحقّ بصلة.

والدليل على ذلك أنّك تجد « أهل السنّة والجماعة » حتى اليوم يقولون شيئاً في معاوية والصحابة الذين لعنوا أهل البيت طيلة ثمانين عاماً ، بل ويترضّون عليهم أجمعين ، وفي الوقت يكفِّرون أيّ مسلم ينتقص أحداً منهم ( من الصحابة ) ويكشف عن جرائمه ، فيفتون بقتله.

وقد حاول بعض الوضّاعين أن يضيف إلى الصلاة الكاملة ـ التي علمها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أصحابه ـ جزءاً آخر ، ظنّاً منه بأنّ ذلك سينقص من مكانة أهل البيت وقيمتهم ، فروى بأنّه قال : قولوا اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد وعلى أزواجه وذريته ، والباحث يفهم بأنّ هذا الجزء قد أُضيف لكي تلحق عائشة بركب أهل البيت.

ونحن نقول لهم : لو سلَّمنا جدلا بصحة الرواية ، وقبلنا أُمهات المؤمنين ضمنها ، فإنّ الصحابة لا دخل لهم فيها ، وأنا أتحدّى أن يأتي أحد المسلمين

٤٨٦

بدليل من القرآن أو من السنّة في هذا المعنى ، فنجوم السماء أقرب إليه من ذلك.

والقرآن والسنّة أمرا كلّ الصحابة ، وكلّ من يأتي بعدهم من المسلمين إلى قيام الساعة بالصلاة على محمّد وآل محمّد ، وهذه وحدها مرتبة عظيمة تقصر عنها كلّ المراتب ، ومنقبة جليلة لا يلحقهم فيها لاحق.

فأبو بكر وعمر وعثمان ، وكلّ الصحابة أجمعين ، وكلّ المسلمين في العالم ، والذين يعدّون بمئات الملايين عندما يصلّون يقولون في تشهدهم : اللهّم صلّ على محمّد وآل محمّد! وإذا لم يقولوا ذلك فصلاتهم مردودة لا يقبلها الله سبحانه.

وهذا هوا المعنى بالضبط الذي قصده الإمام الشافعي عندما قال :

يكفيكم من عظيم الشأن أنّكم

من لم يصلّ عليكم لا صلاة له (١)

وقد اتهم الشافعي بالتشيّع من أجل قوله هذا ، فإنّ أذناب الأمويين والعباسيين يتهمون بالتشيّع كلّ من صلّى على محمّد وآل محمّد ، أو قال فيهم شعراً ، أو حدَّث بفضيلة من فضائلهم.

وعلى كلّ حال فالبحث في هذا المجال واسع ، قد يتكرّر في العديد من الكتب ، فلا بأس بالإعادة إذا كان فيها إفادة.

والمهم أنّنا عرفنا خلال هذا الفصل بأنّ الشيعة هم أهل السنّة النبويّة ، وصلاتهم كاملة ومقبولة حتى على رأي من خالفهم ، و « أهل السنّة

__________________

١ ـ راجع الصواعق المحرقة ٣ : ٤٣٥.

٤٨٧

والجماعة » خالفوا في ذلك صريح السنّة النبويّة ، وصلاتهم بتراء غير مقبولة حتى على رأي أئمتهم وعلمائهم.

( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً ) (١).

__________________

١ ـ النساء : ٥٤.

٤٨٨

٦ ـ عصمة النبيّ وتأثيرها على « أهل السنّة والجماعة »

إنّ نظريّة العصمة مختلف فيها عند المسلمين ، وهي في الحقيقة العامل الوحيد الذي يفرض على المسلمين أن يتقبَّلوا أحكام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدون نقاش ولا جدال ، إذا ما اعتقدوا في أنّه لا ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى ، فلا يؤمنون بأنّ أقوال النبيّ وأحكامه إذا لم تكن قرآناً يتلى ، فهي مجرّد اجتهاد منه ، فإذا اعتقدوا هذا الاعتقاد ، وسلّموا بأنّ الأمر كلّه لله ، وليس النبيّ إلاّ واسطة للتبليغ والبيان فقط فهم شيعة ، وقد اشتهر كثير من الصحابة بهذا الاعتقاد ، وعلى رأس هؤلاء الإمام علي عليه‌السلام الذي ما كان يغيِّر من سنّة النبيّ قليلا ولا كثيراً باعتبارها من وحي الله ، فلا يجوز استعمال الرأي والاجتهاد مقابل أحكام الله سبحانه وتعالى.

وأمّا إذا اعتقدوا أنّ النبيّ غير معصوم في أقواله وأفعاله ، والعصمة لا تختصّ إلاّ بالقرآن الكريم وما يتلى من آياته ، وما عدا ذلك فهو كسائر البشر يخطئ ويصيب ، أمّا إذا قالوا بهذا فإنّهم « أهل السنّة والجماعة » الذين يجوِّزون أن يجتهد الصحابة والعلماء مقابل أقوال وأحكام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بما يتماشى والمصلحة العامة طبقاً للظروف التي تقتضيها الحال ، حسب رأي الحاكم في كلّ زمان.

وإنّه غنيّ عن البيان بأنّ مدرسة الخلفاء الراشدين ( باستثناء الإمام علي ) قد اجتهدوا بآرائهم مقابل السنّة النبويّة ، ثمّ ذهبوا شوطاً أبعد فاجتهدوا

٤٨٩

مقابل النصوص القرآنية أيضاً ، وأصبحت آراؤهم فيما بعد أحكاماً عند « أهل السنّة والجماعة » ، يعملون بها ويفرضونها على المسلمين.

وقد تكلّمنا عن اجتهادات أبي بكر وعمر وعثمان في كتاب « مع الصادقين » ، وكذلك في كتاب « فاسألوا أهل الذكر » وقد نفرد لهم كتاباً خاصاً في المستقبل إن شاء الله تعالى.

وقد عرفنا أنّ « أهل السنّة والجماعة » يضيفون إلى المصدرين الأساسين للتشريع الإسلامي ( القرآن والسنّة ) مصادر أُخرى كثيرة ، من جملتها سنّة الشيخين ( أبي بكر وعمر ) واجتهاد الصحابي ، وهذا ناتج عن اعتقادهم بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن معصوماً ، وإنّما كان يجتهد برأيه ، وكان بعض الصحابة يصوِّب رأيه ويصلح خطأه.

وبهذا يتبيَّن لنا بأنّ « أهل السنّة والجماعة » عندما يقولون بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس معصوماً ، فهم يجوِّزون بذلك مخالفته وعصيانه من حيث يشعرون أو من حيث لا يشعرون ؛ لأنّ غير المعصوم غير واجب الطاعة شرعاً وعقلا ، وما دمنا نعتقد بخطئه فلا تلزمنا طاعته .. كيف نطيع الخطأ؟

كما يتبيَّن لنا في المقابل بأنّ الشيعة عندما يقولون بعصمة النبيّ المطلقة ، فهم يفرضون بذلك طاعته ؛ لأنّه معصوم عن الخطأ ، فلا تجوز مخالفته ومعصيته بأيّ حال من الأحوال ، ومن يخالفه أو يعصيه فقد خالف وعصى ربّه ، وإلى ذلك يشير القرآن الكريم في العديد من الآيات بقوله : ( وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (١) ، وقوله : ( أَطِيعُوا

__________________

١ ـ الحشر : ٧.

٤٩٠

اللّهَ وَالرَّسُولَ ) (١) ، وقوله : ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ) (٢). إلى آيات كثيرة تفرض على المسلمين طاعة النبيّ وعدم مخالفته باعتباره معصوماً ، ولا يبلغ إلاّ ما أمره به الله سبحانه.

وهذا يفرض بالضرورة أن يكون الشيعة هم أهل السنّة النبويّة لاعتقادهم بعصمتها ووجوب اتباعها ، كما يفرض أن يكون « أهل السنّة والجماعة » بعيدين عن السنّة النبويّة لاعتقادهم بخطئها وجواز مخالفتها.

( كانَ الناسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الكِتابَ بِالحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراط مُسْتَقِيم ) (٣).

__________________

١ ـ آل عمران : ٣٢.

٢ ـ آل عمران : ٣١.

٣ ـ البقرة : ٢١٣.

٤٩١
٤٩٢

مع الدكتور الموسوي و « التصحيح »

التقيتُ مجموعة من الشباب المثقّف في بيت أخ تربطني به وشائج القرابة والصبا في ضواحي باريس ، بمناسبة وليمة أقامها لمولد ابنه الذي رزقه الله بعد طول انتظار ، ودار الحديث بيننا عن الشيعة والسنّة ، وكان الجميع ـ وأغلبهم من الجزائريين المتحمّسين للثورة الإسلامية ـ ينتقدون الشيعة ويردّدون تلك الأساطير المعروفة ، واختلفوا فيما بينهم بين مؤيد منصف يقول بأنّ الشيعة إخوتنا في الدّين ، ومناهض له يصف الشيعة بكلّ ضلالة ويفضّل عليهم النصارى.

ولمّا تعمّقنا في البحث والاستدلال ، كان بعضهم يهزأ منّي ويقول بأنّني من المغرورين الذين بهرتهم الثورة الإيرانية ، وحاول صديقي إقناعهم بأنّني باحث كبير ، وأطراني أمام الحاضرين ، وقال بأنّني مؤلّف كتب عديدة في هذه المواضيع.

ولكن أحدهم قال بأنّ لديه الحجّة التي ليس بعدها حجّة ، وسكت الجميع ، وتساءلت عن هذه الحجّة ، فطلب منّي الانتظار بضع دقائق ، وذهب مُسرعاً إلى بيته المجاور ورجع يحمل بين يديه كتاب « الشيعة والتصحيح » للدكتور موسى الموسوي ، وضحكت عندما رأيت الكتاب وقلت : أهذه هي الحجّة التي ليس بعدها حجّة؟ التفت إلى الحاضرين وقال :

هذا من أكبر علماء الشيعة ، وهو مرجع من مراجعهم ، وله شهادة في

٤٩٣

الاجتهاد وأبوه وجدّه من أكبر علمائهم ، ولكنّه عرف الحقّ ونبذ التشيع ، وأصبح من أهل السنّة والجماعة.

وأنا واثقٌ من أن الأخ ( ويقصدني ) لو يقرأ هذا الكتاب لما دافع عن الشيعة أبداً ، ولعرف خفاياهم وانحرافاتهم.

وضحكتُ مرّة أُخرى وقلت له : وحتّى تعرفَ أنّي قرأتُه قراءة باحث ، فسأعطيك أمام الحاضرين الحجّة التي ليس بعدها حجّة من الكتاب نفسه الذي جئت به!

قال مع الحاضرين بلهفة : هات نسمع منك.

قلت : أنا لا أتذكّر رقم الصفحة ، ولكن أعرف العنوان وأذكره جيّداً وهو : أقوال أئمة الشيعة في الخلفاء الراشدين.

قال : وما في ذلك؟

قلت : ابحث عنه واقرأه أمام الحاضرين وبعدها سأبين لك الحجّة.

وأخرج الفقرة وقرأها أمام الحاضرين ، وملخّصها أنّ الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام كان يفتخر بانتسابه لأبي بكر « الصديق » ، فيقول : « أولدني أبو بكر مرّتين » والذين رووا هذه الروايات يروون أيضاً بأنّ الإمام الصادق كان يطعن في أبي بكر من جهة أُخرى.

ويعلّق الدكتور الموسوي على هذا بقوله : « فهل يُعقلُ أن يفتخر الإمام الصادق بجدّه من جهة ، ويطعن فيه جهة أُخرى؟ إن مثل هذا الكلام قد يصدر من السوقي الجاهل ، ولكنّه لا يصدر من إمام ».

وتساءل الجميع : ما الحجّة في هذا؟! وقالوا : إنه كلام معقول ومنطقي.

٤٩٤

قلتُ : إنّ الدكتور الموسوي استنتج من قول الإمام الصادق : « أولدني أبو بكر مرّتين » بأنّه يفتخر بجدّه ، مع أنّه ليس في هذه العبارة ما يوحي بالمدح والثناء على أبي بكر ، ومع أنّ الصادق ليس هو حفيد مباشر لأبي بكر ، وإنّما لأنّ أمّه جدّها أبو بكر ، ومع العلم بأنّ الصادق ولد بعد وفاة أبي بكر بسبعين عاماً فلم يره أبداً.

قالوا : لم نفهم قصْدك من كلّ هذا؟!

قُلتُ : ما رأيكم في من يفتخر بجدّه المباشر والدُ أبيه ، ويقول بأنّه أعلم أهل زمانه ولم يعرف التاريخ مثله ، ثمّ يقول بأنّه درس وتأدّب على يديه ، فهل يُعقلُ أنْ يطعنَ فيه بعد ذلك ، وهل يقبلُ عاقلٌ أنْ يفتخر بشخص من جهة ثمّ يكفّره من جهة أخرى؟!

فقالوا جميعاً : لا يُعقلُ ولا يكون ذلك أبداً.

فقلتُ : إقرأ إذاً ما جاء فيه أوّل صفحة من هذا الكتاب الذي بين يديك ، فسترى بأنّ الدكتور الموسوي هو ذلك الرجل.

فقرأ : « ولدتُ وترعرعت في بيت الزعامة الكبرى للطائفة الشيعية ، ودرستُ وتأدّبتُ على يد أكبر زعيم وقائد ديني عرفه تاريخ التشيع منذ الغيبة الكبرى وحتى هذا اليوم ، وهو جدّنا الإمام الأكبر السيد أبو الحسن الموسوي الذي قيل فيه : « أنسى من قبله وأتعب من بعده ».

قلتُ : الحمدُ لله الذي أظهر الحجّة على لسان الموسوي نفسه ، وقد حكم على نفسه بنفسه إذ قال فيما قرأتم : هل يعقل أن يفتخر بجدّه من جهة ويطعن فيه من جهة أُخرى؟ وحكم بأنّ هذا لا يصدر إلاّ من السُّوقي الجاهل.

٤٩٥

وإنّ الذي يصف جدّه بهذه الأوصاف العظيمة التي لم تتوفّر لغيره من أفذاذ العلماء ، ويدّعي بأنّه تأدّب على يديه وأخذ دروسه وعلومه منه ، لا يكفّره بعد ذلك ويطعن في عقيدته ، إلاّ إذا كان سوقياً جاهلا.

وأطرق الجميع رؤوسهم ، وابتهج صديقي صاحب البيت قائلا : ألم أقل لكم إنّ الأخ التيجاني باحث موضوعي ومنطقي؟

وفكّر صاحب الكتاب الذي كان يرعدُ ويزبد وقال : يا أخي ربّما عرف الحقّ الدكتور الموسوي بعدما كبر وتعلّم فسبحان الله ، طلب العلم من المهد إلى اللّحد!

وأجبتُ : لو كان الأمر كما تقول لوجب على الدكتور أن يتبرّأ من جدّه ، ومن أُستاذه أيضاً الذي أعطاه شهادة الاجتهاد ، لا أن يفتخر بهما ويحتجّ بشهادتهما ، وهو يكتب في نفس الوقت تكفيرهما من حيث لا يشعر.

ولو اردتُ أن أُناقشكم في كلّ المواضيع التي كتبها لأريتكم العجب العجاب.

وانتهى ذلك اللقاء بعد توضيحات وشروح عن واقع تلك الإشكالات ، وكانت له نتائج إيجابية بحمد الله إذ استبصر منهم ثلاثة بعد قراءة كُتبي.

وإنّي أنتهزُ هذه الفُرصة لأقدّم للقرّاء الكرام بعض الصفحات التي كتبتُها في هذا الموضوع على عجالة ؛ لأنّ كتاب « الشيعة والتصحيح » له تأثير في الأوساط التي يتواجد فيها الوهابيون ، وبما أنّ هؤلاء لهم من الأموال والنفوذ في بعض المناطق ، فقد يؤثّرون في بعض الشباب من المسلمين الذين لا يعرفون الشيعة ، فيخدعوهم بهذا الكتاب ، ويمنعونهم من الوصول إلى

٤٩٦

الأبحاث المفيدة ، ومن ثمّ يقيمون أمامهم حاجزاً للوصول إلى الحقيقة المنشودة.

وهؤلاء المعترضون جعلوا حجّتهم على الشيعة كتاب « الشيعة والتصحيح » للدكتور موسى الموسوي الذي طبع بالملايين ، وَوُزِّع مجّاناً في أوساط الشباب المثقّف من طرف سلطات معروفة ، عرف الخاصّ والعامُّ أهدافها ومراميها.

وقد ظنّ هؤلاء المساكين أنّهم فَنّدوا مذهب الشيعة الإمامية بطبع الكتاب ونشره ؛ لأنّ مؤلفه « آية الله » الموسوي وهو من الشيعة لتكون الحجّة من باب : وشهد شاهد من أهلها.

وغفل هؤلاء المساكين عن عدّة أُمور لم يحسبوا لها حساباً ، ولم يقدّروا نتائجها العكسيّة التي عادت عليهم بالوبال.

وإنّي شخصياً لا أكلّف نفسي شيئاً من الوقت للردّ على أكاذيب الدكتور موسى الموسوي التي ملأ بها كتابه ، وأعتقدُ أنّ في كتابي « مع الصادقين » ردّاً مقنعاً على مفترياته ، مع أنّه كتب قبل كتابه بوقت قصير ، ولم يكن مضمونه إلاّ إظهار معتقدات الشيعة التي ترتكز كلّها على القرآن الكريم ، والسنّة النبويّة الصحيحة ، وإجماع المسلمين بمن فيهم « أهل السنّة والجماعة » ، فلم نمرّ على عقيدة واحدة من عقائدهم إلاّ وأثبتناها في صحاح « أهل السنّة والجماعة ».

فتبيّن بذلك أنّ كلام الدكتور موسى الموسوي هراءٌ وافتراء لا يقوم على دليل علمي ولا منطق إسلامي ، وهو طعن على « أهل السنّة » قبل الشيعة.

٤٩٧

وتبيّن أيضاً بأنّ الذين روّجوا له كتابه لا يعرفون من حقائق الإسلام شيئاً ، وكشفوا بذلك عن عوراتهم وجهلهم.

وكلّ ما انتقده مدّعي « التصحيح » من عقائد الشيعة ، وشنّع به عليهم موجود بحمد الله في صحاح « أهل السنّة والجماعة ».

فالعيبُ ليس على الشيعة ، وإنّما العيب على موسى الموسوي وعلى « أهل السنّة والجماعة » الذين لا يعرفون ما يوجد في صحاحهم ومسانيدهم.

فالقول بالإمامة والنصّ على اثني عشر خليفة كلّهم من قريش ، ليس هو من اختراعات الشيعة ، وهو موجود في صحاح « أهل السنّة والجماعة ».

والقول بالمهدي وأنّه من العترة الطّاهرة يملأ الأرض عدلا وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً ، ليس هو من اختراعات الشيعة إنّما هو موجود في صحاح « أهل السنّة والجماعة ».

والقول بأنّ الإمام علي بن أبي طالب هو وصىّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس من اختراعات الشيعة ، وهو موجود في صحاح « أهل السنّة والجماعة ».

والقول بالتقيّة والعمل بها ليس هو من اختراعات الشيعة ، وقد نزل بها القرآن ، وأثبتتها السنّة النبويّة ، وكلّ ذلك موجود في صحاح « أهل السنّة والجماعة ».

والقول بزواج المتعة وأنّها حلال ليس هو من اختراعات الشيعة ، وإنّما أحلّها الله ورسولُه وحرّمها عمر ، كما هو ثابتٌ في كتب وصحاح « أهل السنّة والجماعة ».

٤٩٨

والقول بوجوب الخُمس في مكاسب الأرباح ليس هو من اختراعات الشيعة ، وإنّما أوجبه كتاب الله وسنّة رسوله يشهد بذلك صحاح « أهل السنّة والجماعة ».

أمّا زيارة مراقد الأئمة فليس مختصاً بالشيعة ، فأهل السنّة والجماعة يزورون مراقد الأولياء والصالحين ، بل ويقيمون لهم مراسم وأفراحاً موسميّة.

والقول بالبداء ، وأنّ اللّه يمحو ما يشاء ويثبت ، ليس هو من خيال الشيعة ، بل هو ثابتٌ في صحيح البخاري.

والقول بجمع الصَّلاتين في غير ضرورة ليس هو من اختراع الشيعة ، بل هو ما جاء في القرآن الكريم وفعله الرسول العظيم ، كما هو ثابتٌ في صحاح « أهل السنّة والجماعة ».

والقول بوجوب السجود على التُّراب وعلى الأرض ليس هو من اختراعات الشيعة ، بل هو فعل سيّد المرسلين وخاتم النبيّين ، يشهد بذلك صحاح « أهل السنّة والجماعة ».

وما عدا ذلك من الأقوال التي ذكرها الدكتور موسى الموسوي ، والتي لا يقصد من ورائها إلاّ التهويل والتهريج كدعاية تحريف القرآن ، فـ « أهل السنّة والجماعة » أولى بهذه التهمة من الشيعة ، كما أوضحنا ذلك في كتاب « مع الصادقين ».

والخُلاصة : إنّ كتاب « التصحيح » الذي ألّفه الدكتور الموسوي ، كلّه يتناقض مع كتاب الله وسنّة رسول الله ، وإجماع المسلمين ، وما أوجبه العقل السليم.

٤٩٩

فكثير مِمّا أنكره الموسوي هو من ضروريات الدّين التي نزل بها الذكر الحكيم ، وأمر بها الرسول العظيم ، وأجمع عليها كلّ المسلمين ، والمنكر لها كافر بإجماع المسلمين.

فإن كان يقصد بـ « التصحيح » إبدال تلك العقائد وتلك الأحكام ، فقد كفر وخرج من ربقة الإسلام ، وعلى المسلمين كافة أن يقاوموه.

وإن كان يقصد بـ « التصحيح » إبدال عقائده الشخصية التي يُعاني من مركّباتها ، والتي يظهر منها أنّه لم يعرف من الشيعة شيئاً ، ولعلّه نقم عليهم إذ حمّلهم مسؤولية قتل والده الذي ذُبِـحَ كالكبش ( كما يقول هو في صفحة ٥ من كتابه ) على يد مجرم في لبوس رجل الدّين.

فنشأ من صغره بتلك العقدة ناقماً على الشيعة بدون ذنب اقترفوه ، وحوَّل وجهه شطر « أهل السنّة والجماعة » وشاركهم في الحقد والبغض لأتباع أهل البيت ، بدون الانتماء إليهم ، فبقيَ مذبذباً لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، فلم يعرف من الشيعة غير ما يردّده أعداؤهم من الأكاذيب ، ولم يعرف من « أهل السنّة والجماعة » غير صلاة الجمعة والجماعة ( إن كان يحضرها ).

فإذا كان هذا هو المقصود بالتصحيح ، فما عليه إلاّ تصحيح عقائده الفاسدة التي خالف بها إجماع الأُمّة.

وإذا كان الدكتور موسى الموسوي قد نشأ وترعرع حسب ما يدّعي ( في الصفحة الخامسة من كتابه ) ودرس وتأدّب على يد أكبر زعيم وقائد ديني عرفه تاريخ التشيّع منذ الغيبة الكبرى وحتى هذا اليوم ، وهو جدّه الإمام الأكبر السيد أبو الحسن الموسوي الذي قيل فيه : « أنسى من قبله وأتعب من

٥٠٠