الشيعة هم أهل السنّة

الدكتور محمّد التيجاني السماوي

الشيعة هم أهل السنّة

المؤلف:

الدكتور محمّد التيجاني السماوي


المحقق: مركز الأبحاث العقائديّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-20-X
الصفحات: ٥٢٢

وقد بقيَ بغضها لولده من بعده إلى أن منعتْ أن يُدفن الإمام الحسن بجانب جدّه ، وخرجتْ تصيحُ راكبة على بغلة تستنفر بني أُميّة وتستعين بهم على بني هاشم قائلة : لا تدخلوا بيتي من لا أحبّ ، وأرادتْ أنْ تشعل حرباً أُخرى ، حتى قال لها بعض أقاربها : « ألا يكفينا يوم الجَمَل الأحمر حتّى يُقال يوم البغلة الشهباء » (١).

وهي بلا شكّ واكبتْ مسيرة كبيرة من حكم بني أُميّة ، وسمعتهم يلعنون عليّاً وأهل البيت على المنابر ، فما أنكرت ذلك ولا نهتْ عنه ، ولعلّها كانتْ تشجّع على ذلك من طرف خفي.

فقد أخرج أحمد بن حنبل في مسنده قال : جاء رجلٌ فوقع في علي وعمّار عند عائشة ، فقالت : أمّا علي فلستْ قائلة لك فيه شيئاً ، وأمّا عمّار فإنّي سمعتُ النبيّ يقول فيه : « لا يُخيّر بين أمرين إلاّ اختار أرشدهما » (٢).

فلا نستغرب إذاً من عائشة إذا أماتتْ سنّة النبيّ ، وأحيتْ بدعة عثمان في إتمام الصلاة لإرضاء معاوية ، وحكّام بني أُميّة الذين كانوا يتبعونها في حلّها وفي ترحالها ، ويمجّدونها ويأخذون الدّين عنها.

كما أنّ عائشة كانتْ تفتي لهم برضاعة الكبير ، وكانت ترى أنّ الرجال يمكنهم أن يرضعوا من النساء ، فيصبحوا بذلك من محارمهنّ (٣).

__________________

١ ـ تهذيب التهذيب ٦ : ١٠ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٢٥.

٢ ـ مسند الإمام أحمد بن حنبل ٦ : ١١٣ ، تاريخ دمشق ٤٣ : ٤٠٧.

٣ ـ قد وفينا البحث في هذه المهزلة في كتاب ( لأكون مع الصادقين ) في باب خلاف عائشة مع بقية أزواج النبيّ ( المؤلّف ).

٣٤١

وما أخرجه الإمام مالك في موطّئه تقشعرّ منه جلود المؤمنين والمؤمنات ، إذ يقول بأنّها كانتْ تبعث بالرّجال إلى أُختها أُمّ كلثوم وإلى بنات أخيها ، فيرضعوا منهنّ وتستبيح أمّ المؤمنين عائشة بعد تلك الرضاعة مقابلتهم بدون حجاب (١) ، لأنّهم على رأيها أصبحوا من مَحارمها!

وما علينا إلاّ أن نتصوّر أحد المسلمين يُفاجئ زوجته مع أحد الرجال ، وهو يُداعب ثدييها بالرّضاعة فتقول زوجتُه : إنّي أرضعه لكي يُصبح ابني ويدخُل علينا بدون حرج.

وما على الزوج المسكين إلاّ أن يتحمّل بدعة عائشة ، ولا يجد في نفسه حرجاً ممّا قضيت ويسلّم تسليماً.

وأنا أُلْفِتُ الباحثين والمحقّقين إلى هذه الطّامة ، فهي وحدها كافيه للكشف عن الحقيقة ولمعرفة الحقّ من الباطل.

وبهذا يتبينُ لنا بأنّ « أهل السنّة والجماعة » يعبدون الله بنصوص ما أنزل بها من سلطان ، بدون تمحيص ولا تثبيت ، ولو تبيّنوا تلك البدع لنفرتْ نفوسهم منها وتركوها طائعين.

هذا ما لامسته شخصياً عند بعض « علماء السنّة » المتحرّرين الذين عندما اطّلعوا على حديث رضاعة الكبير ، استغربوا وذهلوا وأكّدوا بأنّهم لم يسمعوا به أبداً.

وهذه ظاهرة سارية عند « أهل السنّة والجماعة » فكثير من الأحاديث

__________________

١ ـ موطأ مالك ٢ : ٦٠٦ باب رضاعة الكبير ، ولفظه : « فكانت تأمر أُختها أُمّ كلثوم بنت أبي بكر وبنات أخيها أن يرضعن من أحبت أن يدخل عليها من الرجال ... ».

٣٤٢

التي يحتجّ بها الشيعة موجودة في صحاحهم ، وهم يجهلونها ويكفّرون مَن يقول بها.

( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوح وَاِمْرَأَةَ لُوط كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) (١).

٩ ـ خالد بن الوليد :

خالد بن الوليد بن المغيرة من بني مخزوم ، الملقّب عند « أهل السنّة والجماعة » بسيف الله.

أبوه من أكبر الأثرياء الذين لا يقدّر ثراؤهم بقيمة ، يقول عبّاس محمود العقّاد : كان أغنى أبناء زمانه في صفوف الثراء المعروفة بينهم كافّة ، الذهب والفضّة ، والبساتين والكروم ، والتجارة والعروض ، والخدم والجواري والعبيد ، وسمّي من أجل ذلك بالوحيد (٢).

وأبوه هذا هو الوليد بن المغيرة الذي نزل فيه القرآن يتوعّده بالنار وبئس القرار ، فقال تعالى في شأنه : ( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً * سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ *

__________________

١ ـ التحريم : ١٠.

٢ ـ عبقرية خالد ، عباس العقّاد : ٢٤.

٣٤٣

إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ... ) (١).

ويروى أنّ الوليد جاء للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يُغريه بالأموال ليترك الدين الجديد ، فأنزل الله فيه : ( وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاّف مَهِين * هَمَّاز مَشَّاء بِنَمِيم * مَنَّاع لِلْخَيْرِ مُعْتَد أَثِيم * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيم * أَن كَانَ ذَا مَال وَبَنِينَ * إذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ) (٢).

وكان الوليد يعتقد بأنّه أحقّ وأولى بالنبوّة من محمّد ، فكان يقول : أينزل القرآن والنبوّة على محمّد الفقير ، وأُترك أنا كبير قريش وسيّدها؟

وعلى هذه العقيدة تربّى خالد بن الوليد حاقداً على الإسلام ، وعلى نبيّ الإسلام الذي سفّه أحلام أبيه ، وقوّض عرشه ، فشارك خالد في الحروب كلّها ضد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولا شكّ بأنّ خالداً كان يُشارك أباه في اعتقاده بأنّه أولى بالنبوّة من محمّد الفقير اليتيم ، ولأنّ خالداً كأبيه من عظماء قريش إنْ لم يكن أعظمهم على الإطلاق ، فلو نزل القرآن والنبوّة على أبيه لكان لخالد منهما النصيب الأوفر ، ولورث النبوّة والملك كما ورث سليمان داود.

وقد سجّل الله سبحانه اعتقادهم هذا بقوله :

( وَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُل مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم ) (٣).

__________________

١ ـ المدثر : ١١ ـ ٢٦.

٢ ـ القلم : ١٠ ـ ١٦.

٣ ـ الزخرف : ٣٠ ـ ٣١.

٣٤٤

فلا غرابة أنْ يعمل كلّ ما في وسعه للقضاء على محمّد ودعوته ، وقد رأيناه يجهّزُ جيشاً كبيراً بما أتاح له الثراء في غزوة أُحُد ، ويكمنُ للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم محاولا القضاء عليه ، وقد حاول أيضاً عام الحديبيّة أن يغتال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكنّ الله سبحانه أفشل مخططاته كلّها فباءت بالفشل ، ونصر نبيَّه في المواطن كلّها.

ولمّا عرف خالد كغيره من عظماء قريش بأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يُقهر ، ورأى الناس يدخلون في دين الله أفواجاً ، عند ذلك استسلم للأمر الواقع وفي نفسه حسرة ، فكان إسلامه متأخّراً إلى السنّة الثامنة للهجرة ، وقبل فتح مكة بأربعة شهور.

ودشّن خالد إسلامه بمخالفة أوامر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث نهاهم عن القتال ، فدخل خالد إلى مكّة يوم الفتح بعدما قتلَ أكثر من ثلاثين رجلا أغلبهم من قُريش ، وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوصاهم بأن لا يقتلوا أحداً.

ومهما اعتذر المعتذرون عن خالد بأّنّه صُدَّ عن الدّخول إلى مكّة ، وبأّنّهم شهروا في وجهه السلاح ، فهذا لا يُبيح له القتال بعد نهي النبيّ عنه ، وكان بوسعه أن يرجع إلى باب آخر فيدخله بدون قتال ، كما فعل الآخرون ، أو أن يبعث للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستشيره في قتال الذين منعوه الدخول.

ولكن شيئاً من ذلك لم يكن ، واجتهد خالد برأيه مقابل النصّ الذي سمعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وما دمنا نتحدّث عن الاجتهاد مقابل النصّ ، والذي أصبح له أنصار ومؤيّدون ، أو قُل : أصبحتْ له مدرسة قائمة تخرَّجَ منها عُظماء الصحابة

٣٤٥

والمشرّعون ، وسُمّيتْ فيما بعد بمدرسة الخلفاء ، لابدّ لنا من الإشارة هنا بأنّ الاجتهاد بهذا المعنى هو معصيةُ الله ورسوله لا غير ، ولأنّنا ألِفْنا اصطلاح الاجتهاد مقابل النصّ فأصبح وكأنّه أمرٌ مشروع ، وفي الحقيقة يجب أن نقول : وعصى خالدٌ أمر النبيّ بدل أن نقول : واجتهد خالد برأيه مقابل النصّ ، كما علّمنا القرآن عندما قال : ( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ) (١) ، لأنّ الله نهاه عن الأكل من الشجرة ولأنّ آدم أكلَ منها ، فلا تقول : فاجتهد آدمُ برأيه مقابل النصّ.

ويجب على المسلم أن يقف عند حدّه ، ولا يقول برأيه في مسألة وردَ فيها أمرٌ أو نهيٌ منَ الله أو من رسوله ؛ لأنّ ذلك هو الكفر الصريح.

قال الله للملائكة : ( اسْجُدُوا لآدَمَ ) ، فهذا أمر ، ( فَسَجَدُوا ) ، وهذا إيجابٌ وامتثال وطاعة ، ( إِلاَّ إِبْلِيسَ ) (٢) إلاّ إبليس فإنّه اجتهد برأيه فقال : أنا خيرٌ منه فكيف أسجد له؟ وهنا عصيانٌ وتمرّد ، بقطع النظر عمّن هو خير ، آدم أمْ إبليس؟

ولذلك قرّر سبحانه : ( مَا كَانَ لِمُؤْمِن وَلا مُؤْمِنَة إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) (٣).

وإلى هذا أشار الإمام جعفر الصادق عندما قال لأبي حنيفة : « لا تقسْ فإنّ الشريعة إذا قيستْ مُحِقَتْ ، وإنّ أوّل من قاسَ إبليس عندما قال : أنا خيرٌ

__________________

١ ـ طه : ١٢١.

٢ ـ طه : ١١٦.

٣ ـ الأحزاب : ٣٦.

٣٤٦

منه خلقتني من نار وخلقته من طين » (١).

وقوله : « إنّ الشريعة إذا قيستْ مُحِقَتْ » هو أحسن تعبير للدّلالة على فساد القياس ، فلو استعمل الناس آراءهم المختلفة مقابل النصوص ، فلا ولن يبق للشريعة أثر ، ولو اتّبع الحقُّ أهواءهم لفسدت السماوات والأرض.

ونعود بعد هذا العرض الوجيز للاجتهاد لنقول في هذه المرّة بأنّ خالد بن الوليد عصى أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّةً أُخرى ، عندما بعثه إلى بني جذيمة يدعوهم إلى الإسلام ولم يأمره بقتال.

فذهب إليهم وأوقع فيهم وغدر بهم بعدما أعلنوا إسلامهم وقتلهم صبراً ، حتّى أتّهمه عبد الرحمان بن عوف ـ الذي حضر معه تلك الوقعة ـ بأنّه إنّما قتلهم ليثأر لعمّيه اللذين قتلهما بنو جذيمة (٢).

ولمّا سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتلك الوقعة الشنيعة تبرّأ إلى الله ممّا صنع خالد ثلاث مرّات ، ثمّ أرسل إليهم علي بن أبي طالب بأموال كثيرة ، فودّى لهم كلّ الدّماء التي أهرقها خالد.

ومهما يعتذر المعتذرون من « أهل السنّة والجماعة » عن خالد بن الوليد ،

__________________

١ ـ نحوه في الكافي ١ : ٥٨ ح٢٠.

٢ ـ أخرج اليعقوبي في تاريخه ٢ : ٦١ أنّ عبد الرحمان بن عوف قال : والله لقد قتل خالد القوم وهم مسلمون ، فقال خالد : إنّما قتلتهم بأبيك عوف بن عبد عوف ، فقال له عبد الرحمان : ما قتلت بأبي ولكنّك قتلت بعمّك الفاكه بن المغيرة.

أُنظر رعاك الله : إنّ خالداً لم ينكر قتله للقوم وهم مسلمون بل اعترف بأنّه قتلهم بعوف والد عبد الرحمان ، فهل يحقّ في دين الله أن يقتل قومٌ برجل واحد؟ وهل يجوز قتل المسلمين برجل كافر؟!

٣٤٧

فإنّ صفحات تاريخه حافلة بالمآسي والمعاصي لكتاب الله وسنّة رسوله ، ويكفي الباحث أن يقرأ تاريخه وما فعله في اليمامة أيام أبي بكر ، وغدره بمالك بن نويرة وقومه ، وكيف قتلهم صبراً وهم مسلمون ، ودخل بزوجة مالك ونكحها في ليلتها ، ولم يراعِ في ذلك شرع الإسلام ولا مروءة العرب.

حتّى إنّ عمر بن الخطّاب مع تساهله في الأحكام إلاّ أنّه شنّع عليه ، وسمّاه عدوّ الله ، وتوعّده بالرجم.

وعلى الباحثين أن يراجعوا التاريخ بعين البصيرة ، ومن وجهة النقد البنّاء الذي يوصلهم إلى الحقيقة بكلّ تجرّد وحياد ، ولا تأخذهم العصبيّة المذهبيّة ، فيقوّموا الأشخاص من خلال الأحاديث المكذوبة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّ « أهل السنّة والجماعة » ـ وهم بنو أُميّة في الواقع ـ يمسحونَ الأحداث التاريخية بحديث واحد يضعونه من عندهم ؛ ليقطعوا به الطّريق على الباحثين فلا يصلون إلى الحقيقة.

وما أسهل أن يقول أحدهم : قال رسول الله لخالد بن الوليد : « مرحباً بسيف الله » ، فيأخذ هذا الحديث المكذوب مأخذه من نفوس المسلمين الأبرياء الذين يُحسنُون الظّن ، ولا يعرفون خفايا الأُمور ودسائس الأمويين ، فيتأوّلُون بعد هذا الحديث الموضوع كلّ ما يقال في خالد من حقائق ويلتمسون لها أعذاراً.

وهذا ما يُسمّى بالتأثير النفسي على الأشخاص ، وهو الدّاء العضال الذي يحجب الإنسان عن الحقّ ، ويقلب الواقع تماماً.

خذ لذلك مثلا أبا طالب عمّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قيل : إنّه مات على الكفر ، وإنّ

٣٤٨

النبيّ قال فيه : « أبو طالب في ضحضاح من نار يغلي منها دماغه ».

ومن أجل هذا الحديث المكذوب يعتقد « أهل السنّة والجماعة » بأنّ أبا طالب مشرك وهو في النار ، ولا يتقبّلون بعد ذلك التحليل العقلي الذي يوصلهم إلى الحقيقة ، وبهذا الحديث تُنسف كلّ حياة أبي طالب وجهاده في سبيل الإسلام من أجل دعوة ابن أخيه ، حتّى عاداه قومه وعاداهم ، إلى أن رضي بالحصار في شعب مكّة لمدّة ثلاث سنين مع ابن أخيه يأكل خلالها أوراق الشجر ، وتنسفُ كلّ مواقفه البطوليّة ، وأشعاره العقائديّة في نصرة دعوة النبيّ ، وكذلك يُعفَى كلّ ما فعله النبيّ في حقّ عمّه ، وكيف غسّله وكفّنه في قميصه ، ونزل في قبره ، وسمّى ذلك العام بعام الحزن وقال : « والله ما نالت منّي قريش إلاّ بعد موت أبي طالب ، وإنّ الله أوحى إليَّ أن أخرج منها فقد مات ناصرك » (١) ، فهاجر من مكّة في يومه.

__________________

١ ـ تلفيق بين حديثين أوله في تاريخ دمشق ٦٦ : ٣٣٨ ، والثاني في البحار ٢٢ : ٢٦١. وقد كتب العلماء من السنّة والشيعة كتباً عديدة لإثبات إيمان أبي طالب عليه‌السلام وأنّ السياسة الأموّية هي التي كفرّته لا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا دينه الحنيف ، ومن تلك المؤلّفات كتاب ( أسنى المطالب في نجاة أبي طالب ) للعالم الشافعي الكبير أحمد بن زيني دحلان ، قال في مقدّمة كتابه : ١٥ : ( فيقول العبد الفقير خادم طلبة العلم بالمسجد الحرام ، كثير الذنوب والآثام ، المرتجى من ربّه الغفران أحمد بن زيني دحلان : قد وقفت على تأليف جليل للعلاّمة النبيل مولانا السيّد محمّد بن رسول البرزنجي المتوفّى سنة ألف ومائة وثلاثة في نجاة أبوي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذيّله في آخره بخاتمة أبي طالب عمّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأثبت نجاته.

وأقام أدلّة على ذلك وبراهين من الكتاب والسنّة وأقوال العلماء يحصل لمن تأملها أنّه ناج بيقين ، مع بيان معان صحيحة للنصوص التي تفضي خلاف ذلك

٣٤٩

وخذ لذلك مثلا أبا سفيان بن حرب والد معاوية ، قيل : إنّه أسْلم بعد فتح مكّة ، وقال النبيّ فيه : « من دخل دار أبي سفيان فهو آمنٌ » (١).

ومن أجل هذا الحديث الذي ليس فيه فضلٌ ولا فضيلة يعتقد « أهل السنّة والجماعة » بأنّ أبا سفيان أسلم وحَسُنَ إسلامه وهو في الجنّة ، لأنّ الإسلام يجبُّ ما قبله.

ولا يتقبّلون بعد ذلك التحليل العقلي الذي يوصلهم إلى الحقيقة ، وبهذا الحديث أيضاً يُعفى كلّ ما فعله أبو سفيان تجاه صاحب الرسالة ودعوته ، وتُنسى كلّ الحروب التي قادَها وموّلها للقضاء على محمّد ، ويُنسى حقده وبغضه للنّبي حتّى إنّه لمّا جاؤوا به وقالوا له أسلم وإلاّ ضربنا عنقك قال : أشهد أنّ لا إله إلاّ الله ، فقالوا : قل : أشهد أنّ محمّداً رسول الله ، فقال : أمّا هذه ففي نفسي شيء منها.

وكان إذا اجتمع بالنّبي بعد استسلامه يقول في نفسه : بأيّ شيء غلبني هذا؟ فيقول له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالله غلبتك يا أبا سفيان (٢).

فهذان مَثَلان ضربتهما من واقعنَا الإسلامي ، حتّى يتبيّنَ للباحثين مفعول

__________________

حتى صارت جميع النصوص صريحة في نجاته وسلك في ذلك مسلكاً ما سبقه إليه أحد بحيث ينقاد لأدلّته كلّ من أنكر نجاته وجحد.

وكلّ دليل استدلّ به القائلون بعدم نجاته قلبه عليهم وجعله دليلا لنجاته ، وتتبعّ كلّ شبهة تمسّك بها القائلون بعدم النجاة وأزال ما اشتبه عليهم بسببها وأقام دليلا على دعواه ) إلى آخر كلامه.

١ ـ صحيح مسلم ٥ : ١٧١.

٢ ـ بغية الباحث : ٢٨٤ ح٩٤٣.

٣٥٠

التأثير النفسي على الناس وكيف يحجُبُهم عن الحقّ ، ومن هذا نفْهمُ بأنّ « أهل السنّة والجماعة » غلّفُوا الصحابة بهالة من الأحاديث المكذوبة ، أكسبتهُم حصانةً وقداسة في نفوس الغافلين ، فلم يعودوا يتقبّلون فيهم نقد الناقدين ولومة اللاّئمين.

وإذا اعتقد المسلمُ بأنّ هؤلاء بشَّرَهم رسو الله بالجنّة ، فلا يتقبّل بعد ذلك فيهم أيّ قول ، وكل ما فعلوه يهون ويلتمس لهم فيه أعذارٌ أو تأويلاتٌ ، هذا إذا لم يغلق الباب من أوّله.

ولذلك وضعوا لكلِّ واحد من كُبرائهم لقباً نسبوه للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ فهذا صديقٌ ، وهذا فاروقٌ ، وهذا ذو النورين ، وهناك حبّ رسول الله ، وهناك حواري رسول الله ، وهناك حبيبة رسول الله ، وهناك أمين الأُمّة ، وهناك راوية الإسلام ، وهناك كاتب الوحي ، وهناك صاحب النعلين ، وحجام الرسول ، وسيف الله المسلول ، وغير ذلك.

وكلّها في الحقيقة لا تْسمن ولا تغني من جوع في ميزان الحقّ عند الله ، إنْ هي إلاّ أسماءٌ سمّيتموها أنتم وأباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ، إنّما الذي ينفعُ عند الله ويضرّ هو الأعمال.

والتاريخ هو خير شاهد على الأعمال ، وبها نُقيّم شخصية الإنسان وقيمته ، ولا نقيّم الإنسانَ ممّا يقالُ فيه كذباً وبهتاناً.

وهي بالضبط مقولة الإمام علي : « اعرف الحقّ تعرف أهله » (١) وبما أنّنا درسنا التاريخ ، وعرفنا ما فعله خالد بن الوليد ، وعرفنا الحقّ من الباطل ؛ فلا

__________________

١ ـ روضة الواعظين : ٣١.

٣٥١

يمكن لنا أن نسمّيه سيف الله.

ويحقّ لنا أن نسأل متى لقّبه رسول الله بذلك ، هل سمّاه سيف الله عندما قتل أهل مكّة يوم الفتح ، وقد عرفنا بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهاه عن القتال؟! أمْ عندما بعثه مع سرية زيد بن حارثة إلى مؤتة وقال : إذا قتل زيد ، فجعفر بن أبي طالب ، وإذا قتل جعفر فعبد الله بن رواحة ، ولم يعيّنه حتّى في المرتبة الرابعة لقيادة الجيش ، وبعد مقتل الثلاثة لاذ خالد بالفرار من المعركة بمن بقي من الجيش؟!

أم لقّبه بسيف الله عندما خرج معه إلى غزوة حنين التي صحبه فيها اثني عشر ألف مقاتل ، فأعطى الأدبار وولى هارباً تاركاً رسول الله في المعركة ، ومعه اثنا عشر رجلا؟

وإذا كان الله يقول : ( وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَال أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَة فَقَدْ بَاءَ بِغَضَب مِنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) (١).

فكيف يسمحُ لسيفه بالهروب؟ إنّه حقّ أمر عجيب!

وأنا أعتقد أنّ خالداً لم يكن يعرف هذا اللّقب في حياة النبيّ أصلا ، ولم يقله رسول الله أبداً ، وغاية ما هناك أنّ أبا بكر هو الذي أعطى لخالد هذا الوسام عندما بعثه لإسكات الثائرين عليه من أجل الخلافة ، وفعل بهم ما فعل ، ونقم عليه عمر بن الخطّاب وقال لأبي بكر : « إنّ سيف خالد لرهقاً » وهو أعرف الناس به وأقربهم إليه ، عند ذلك قال أبو بكر لعمر : إنّ خالداً

__________________

١ ـ الأنفال : ١٦.

٣٥٢

سيفٌ من سيوف الله سلّه على أعدائه ، إنّه تأوّل فأخطأ (١)!! ومن هنا جاء هذا اللّقب.

وأخرج الطبري في الرياض النضرة أنّه كان في بني سليم ردّة ، فبعث إليهم أبو بكر خالد بن الوليد ، فجمع رجالا منهم في الحضائر وأضرم عليهم النار فأحرقهم ، فبلغ ذلك عمر بن الخطّاب ، فأتى أبا بكر فقال : تدع رجُلا يعذّب بعذاب الله عزّ وجلّ؟

فقال أبو بكر : والله لا أشم سيفاً سلَّهُ الله على عدوه حتّى يكون هو الذي يشيمه ، ثمّ أمره فمضى من وجهه إلى مسيلمة (٢).

ومن هنا سمّى « أهل السنّة والجماعة » خالداً بـ « سيف الله المسلُول » ولو أنّ خالداً عصى أمرَ الرسول ، وحرق الناس بالنّار ضارباً بالسنّة عرض الجدار.

فقد أخرج البخاري في صحيحه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « إنّ النار لا يُعذِّب بها إلاّ الله » (٣) ، وقوله أيضاً : « لا يعذّب بالنار إلاّ ربّها » (٤).

وقد قدّمنا أنّ أبا بكر كان يقول قبل موته : يا ليتني لم أحرق الفجاءة السلمي! (٥)

ونحن نقول : يا ليتَ سائلا يسأل عمر بن الخطّاب ويقول له : إذا كنتَ

__________________

١ ـ تاريخ الطبري ٢ : ٥٠٣ ، الإصابة ٥ : ٥٦١.

٢ ـ الطبقات الكبرى ٧ : ٣٩٦ ، تاريخ دمشق ١٦ : ٢٤٠.

٣ ـ صحيح البخاري ٤ : ٧ ( كتاب الجهاد والسير ، باب الخروج في رمضان ).

٤ ـ السنن الكبرى للبيهقي ٩ : ٧٢ ، مسند أحمد ٣ : ٤٩٤ ، سنن أبي داود ١ : ٦٠٣.

٥ ـ تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٣٧ ، شرح النهج لابن أبي الحديد ٢ : ٤٧.

٣٥٣

تعرف أنّه لا يعذِّب بالنار إلاّ الله ، فلماذا أقسمتَ غداة وفاة الرسول لتحرقنّ بيت الزهراء بمن فيها أو يخرجوا للبيعة ، ولولا تسليم علي وأمره الجماعة بالخروج للبيعة لنفّذت فيهم مُرادك؟!

وإن الشكّ يُداخلني بعض الأوقات فاستبعد أن يكون عمر يُعارضُ أبا بكر فلا يلتفتُ إليه وإلى معارضته ، فهذا غريبٌ! وقد رأينا أبا بكر لا يقفُ بوجه عمر ولا يثبت أمام معارضته حتّى قال له غير مرّة : « لقد قلتُ لك بأنّك أقوى منّي على هذا الأمر فغلبتني » (١)! ومرّة أُخرى لما اشتكى إليه المؤلّفة قلوبهم فِعْلَ عمر بالكتاب الذي كتبه إليهم وأنّه بصق فيه ومزّقه ، وسألوه : أأنت الخليفة أم عمر؟ فقال : بل هو إن شاء الله (٢)!!

ولذلك أقول : لعلّ المُعارض لَه في أفعال خالد البَشِعة هو علي بن أبي طالب ، ولكنّ المؤرّخين الأوّلين والرواة كانوا كثيراً ما يتحاشون ذكر اسمه فأبدلوه بعمر ، كما وردت بعض الروايات المسندة إلى أبي زينب أو إلى رجل ، ويقصدون به علياً ولا يصرّحون بذلك.

وليس هذا إلاّ مجرّد احتمال ، أو أنّنا نقبل قول بعض المؤرّخين بأنّ عمر ابن الخطّاب كان يبغض خالداً ، ولا يطيق رؤيته لأنّه يغار منه ، فقد استهوى خالد قلوب الناس بما حقّقه من انتصارات ، ويُقال بأنّ خالداً صارع عُمر في الجاهلية فغلبه وكَسَر رجله.

والمهمّ أنّ عمر عزل خالداً يوم تولّى الخلافة ، ولكن لم يُقم عليه الحدّ

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٢ : ٥٩.

٢ ـ النص والاجتهاد : ٤٣ ، عن الجوهرة النيرة على مختصر القدوري : ١٦٤.

٣٥٤

بالرّجم كما توعّده بذلك.

والنتيجة : إنّ خالد بن الوليد وعمر بن الخطّاب كانا مترادفين في الشدّة والغطرسة ، كلّ منهما فظّ غليظ القلب ، عمل كلٌ منهما على مخالفة السنّة النبويّة وعصيان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حياته وبعد وفاته ، كما كان كلّ منهما يبغضُ وصيّ النبيّ ويعمل على إبعاده ، وقد تآمر خالد مع عمر وأبي بكر على اغتيال علي عقيب وفاة النبيّ (١) ، ولكنّ الله سبحانه وتعالى نجّاهُ منهم ليقضيَ أمراً كان مفعولا.

ومرّة أُخرى يتّضح لنا بعد دراسة شخصيّة خالد بن الوليد الذي يتغنّى به « أهل السنّة والجماعة » بأنّهم أكثر بُعداً عن السنّة النبويّة ، وهم يقتدون بمن خالفها ونبذها وراء ظهره ، ولم يراع لها ولا لكتابِ الله حرمة ولا احتراماً.

١٠ ـ أبو هريرة الدوسي :

هو من الصحابة المتأخّرين عن الإسلام ، وعلى حسب ترتيب الطّبقات لابن سعد ، فهو يُعدّ من الطبقة التاسعة أو العاشرة.

قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في آخر السنة السابعة للهجرة ، وبذلك يقول المؤرّخون بأنّ صحبته للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم تتجاوز ثلاث سنين (٢) على أكثر تقدير ، ومنهم من ينزل بتلك الصحبة إلى أقلّ من سنتين باعتبار أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعثه مع ابن الحضرمي إلى البحرين ، فتُوفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو بالبحرين.

__________________

١ ـ بحار الأنوار ٣٠ : ٣٠٧.

٢ ـ صحيح البخاري ٤ : ١٧٥ في ما رواه أبو هريرة عن نفسه ، باب علامات النّبوة.

٣٥٥

ولم يكن أبو هريرة من الّذين عُرِفوا بجهاد أو شجاعة ، ولا من أُولئك الدّهاة المفكّرين ، ولا من الفقهاء الحافظين ، ولم يكن يعرف القراءة والكتابة ، وقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ملء بطنه ، كما صرّح هو بذلك (١) ، وكما فهم النبيّ منه ذلك عندما أسكنه في أهل الصفة ، وكلّما جيء للنّبي بصدقة من الأكل بعث بها إليهم ، وكان كما يروي هو عن نفسه كثير الجوع ، فيعترض طريق الصحابة ويمثل دور المصروع ، طمعاً في أن يدخلوه إلى بيوتهم ويُطعمُوه.

ولكنّه اشتهر بكثرة الأحاديث التي يرويها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فبلغَت مرويّاتُه ما يقرب من ستّة آلاف حديث ، وهذا ما ألفتَ نظر المحقّقين إليه ، ولأنّه مع قلّة الصحبة روى أحاديث ووقائع لم يحضرها أبداً.

وجمع بعض المحققّين مجموع مرويّات الخلفاء الراشدين ، والعشرة المبشّرين ، وأُمّهات المؤمنين ، وأهل البيت الطّاهرين ، فلم تبلغ كلّها عشر معشار ما رواه أبو هريرة بمفرده ، مع العلم بأنّ من هؤلاء علي بن أبي طالب الذي صاحب النبيّ ثلاثين عاماً.

ومن ثمّ توجّهت إلى أبي هريرة أصابع الاتّهام ، ووصفته بالكذب والوضع والتدليس ، وقالوا بأنّه أوّل راوية أتُّهم في الإسلام (٢).

__________________

١ ـ صحيح البخاري ٣ : ٢ ( كتاب البيوع ) و ٣ : ٧٤ ( كتاب المساقاة ).

٢ ـ روى الذهبي في سير أعلام النبلاء ٢ : ٦٠٨ بسنده قال : ( سمعت الشعبي يقول : كان أبو هريرة يدلّس ).

وفي هامش المصدر المذكور ذكر محقّق الكتاب عن الأعمش أنّه قال : ( كان

٣٥٦

ولكنّ « أهل السنّة والجماعة » يُلقّبونه بـ « راوية الإسلام » ويحترمونه كثيراً ويحتجّون به ، ولعلّ البعض منهم يعتقد بأنّه أعلم من علي ، وذلك لحديث يرويه هو عن نفسه قال : قلتُ : يا رسول الله إنّي أسمع منك حديثاً كثيراً أنساه قال : « أبسط رداءَك » ، فبسطته قال : فغرف بيديه ثمّ قال : « ضمّهُ » فضممتُه ، فما نسيت شيئاً بعدها (١).

وأكثر أبو هريرة الرواية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى ضربه عمر بن الخطّاب بالدرّة وقال له : قد أكثرتَ من الرواية وأحر بك أن تكون كاذباً على رسول الله (٢). وذلك لرواية رواها أنّ الله خلق السماوات والأرض والخلق فعدّ سبعة أيّام ، فلمّا سمع بذلك عمر دعاه وطلب منه إعادة الحديث ، فلمّا أعاده ضربه عمر وقال : يقول الله في ستّة أيام وأنت تقول في سبعة؟ فقال أبو هريرة : علّني سمعته من كعب الأحبار ، فقال عمر : ما دمتَ لا تفرّق بين أحاديث النبيّ وكعب الأحبار فلا تحدّث.

كما يُروي أنّ الإمام علي بن أبي طالب قال : ألا إنّ أكذب الأحياء على

__________________

إبراهيم صيرفياً في الحديث أجيؤه بالحديث ، قال : فكتب مما أخذته عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : كانوا يتركون أشياء من أحاديث أبي هريرة .. ).

١ ـ صحيح البخاري ١ : ٣٨ من ( كتاب العلم ، باب حفظ العلم ) وكذلك ٤ : ١٨٨.

٢ ـ أنظر كتاب أبي هريرة لمحمود أبو رية المصري : ١٠٣. وفي سير أعلام النبلاء ٢ : ٦٠٠ ـ ٦٠٢ : ( عن السائب بن يزيد سمع عمر يقول لأبي هريرة : لتتركن الحديث عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو لألحقنك بأرض دوس .. عن ابن عجلان : إنّ أبا هريرة كان يقول : إنّي لأُحدّث أحاديث لو تكلّمت بها زمن عمر لشجّ رأسي .. وعن أبي هريرة قال : ما كنا نستطيع أن نقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى قبض عمر ـ رض ـ كنا نخاف سياطه ).

٣٥٧

رسول الله أبو هريرة الدّوسي (١).

كما أنّ عائشة أُمّ المؤمنين كذّبتهُ عدّة مرّات في عدّة أحاديث كان يرويها عن رسول الله ، فأنكرت عليه مرّةً وقالتْ له : متى سمعتَ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول ذلك؟

فقال لها : لقد شغلك عن حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المرآة والمكحلة والخضاب ، ولمّا أصرّتْ على تكذيبه وشهّرتْ به ، وتدخّل مروان بن الحكم وتثبّت من صحّة الحديث ، اعترف عند ذلك أبو هريرة وقال : إنّي لم أسمعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنّما سمعته من الفضل بن العبّاس (٢).

وفي هذه الرواية بالخصوص اتهمه النظام ، وقال فيه : لقد استشهد أبو هريرة بالفضل بن العبّاس بعد موته ، ونسبَ الحديث إليه ليوهم الناسَ بأنّه سمعه منه (٣).

كما قال ابن قُتيبة في كتابه « تأويل مختلف الحديث » : كان أبو هريرة يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذا وكذا ، وإنّما سمعه من غيره (٤).

كما أنّ الذّهبي أخرج في كتابه « أعلام النبلاء » بأنّ يزيد بن إبراهيم سمع شعبة بن الحجّاج يقول : كان أبو هريرة مدلّساً (٥).

وجاء في كتاب « البداية والنهاية » لابن كثير أنّ يزيد بن هارون سمع

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٤ : ٦٨.

٢ ـ صحيح البخاري ٢ : ٢٣٢ ( كتاب الصوم ، باب الصائم يصبح جنباً ).

٣ ـ عن النظام ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث ٣٣.

٤ ـ تأويل مختلف الحديث : ٤٨.

٥ ـ سير أعلام النبلاء ٢ : ٦٠٨.

٣٥٨

شعبة يقول فيه ذلك أيضاً يعني كان مدلّساً ، وكان يروي ما سمعه من كعب الأحبار ومن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا يميّز بين هذا وهذا (١).

كما أنّ أبا جعفر الإسكافي قال : أبو هريرة مدخولٌ عند شيوخنا غير مرضي الرواية (٢).

وقد اشتهر أبو هريرة في حياته من بين الصحابة بالكذب والتدليس ، والإكثار من الأحاديث الموضوعة ، حتّى إنّ بعضهم كان يستهزئ به ويطلب منه وضع الأحاديث لما يريد.

فقد رُوِيَ أنّ رجلا من قريش لبسَ جبّةً جديدة وأخذ يتبخترُ فيها ، ومرّ بأبي هريرة فقال له : يا أبا هريرة إنّك تكثر الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهل سمعته يقول في حلتي هذه شيئاً؟

فقال أبو هريرة : سمعت أبا القاسم يقول : إنّ رجلا ممّن كان قبلكم بينما كان يتبختَرُ في حُلّته إذ خسف الله به الأرض ، فهو يتجلجلُ فيها حتى تقوم الساعة ، فوالله ما أدري لعلّه كان من قومك ورهطك (٣).

وكيف لا يشكّ الناسُ في روايات أبي هريرة إذا كانت متناقضة ، فقد يروي حديثاً ثمّ يروي نقيضه ، وإذا عارضوه واحتجّوا عليه بما رواه سابقاً ، يعرضُ عنهم أو يَرطن بالحبشيّة (٤).

وكيف لا يتّهمونه بالكذب والوضع ، وقد شهد هو على نفسه بأنّه يُحدِّث

__________________

١ ـ البداية والنهاية ٨ : ١١٧.

٢ ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٤ : ٦٧.

٣ ـ البداية والنهاية ٨ : ١١٦ ، صحيح ابن حبان ١٢ : ٤٩٧.

٤ ـ صحيح البخاري ٧ : ٣١ ( كتاب الطب ، باب لا هامة ).

٣٥٩

من جُعبته وينسبه للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

أخرج البخاري في صحيحه أنّ أبا هريرة قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أفضل الصدقة ما ترك غنىً ، واليد العليا خيرٌ من اليد السُّفلى ، وابدأ بمن تعول ، تقول المرأة : إمّا أن تُطعمني وإمّا أن تُطلِّقني ، ويقول العبد : أطعمني واستعملني ، ويقول الابن : أطعمني إلى من تدَعُني ، فقالوا : يا أبا هريرة سمعت هذا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟!

فقال : لا ، هذا من كيس أبي هريرة (١).

أُنظر كيف يبدأ الحديث بقوله : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ بعد ذلك عندما يُنكرُون عليه ويستفهمونه يعترف بوضعه ويقول : هو من كيس أبي هريرة!

فهنيئاً لأبي هريرة بهذا الكيس المليء بالأكاذيب والأساطير ، والذي وجد له رواجاً عند معاوية وبني أُميّة ، واكتسب من ورائه الجاه والسلطان ، والأموال والقصور ، فقد ولاّه معاوية ولاية المدينة المنوّرة ، وبنى له قصر العقيق ، وزوّجه من المرأة الشريفة التي كان أبو هريرة يخدمها.

وإذا كان أبو هريرة وزير معاوية المقرّب ، فليس ذلك لفضله ولا لشرفه أو علمه ، ولكنّه كان يجد عنده الأحاديث التي يريدها ويروّجها ، وإذا كان بعض الصحابة يتلكّأون في لعن أبي تراب ويجدون في ذلك حرجاً ، فإنّ أبا هريرة لعن علياً في عقر داره وعلى مسمع من شيعته.

روى أبن ابي الحديد قال : لمّا قدم أبو هريرة العراق مع معاوية عام

__________________

١ ـ صحيح البخاري ٦ : ١٩٠ ( كتاب النفقات ، باب وجوب النفقة على الأهل والعيال ).

٣٦٠