الشيعة هم أهل السنّة

الدكتور محمّد التيجاني السماوي

الشيعة هم أهل السنّة

المؤلف:

الدكتور محمّد التيجاني السماوي


المحقق: مركز الأبحاث العقائديّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-20-X
الصفحات: ٥٢٢

وفي صحيح مسلم قال سعد بن أبي وقاص : سمعتُ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لعلي : « أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيَّ بعدي » ، وسمعته يقول يوم خيبر : « لأعطينّ الراية رجلا يحبّ الله ورسولَه ، ويُحبّه الله ورسولُه » ، قال : فتطاولنا لها ، فقال : « ادعوا علياً .. » ولمّا نزلتْ هذه الآية ( فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ ) (١) دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال : « اللّهمّ هؤلاء أهلي » (٢).

فكيف يعرف سعد بن أبي وقّاص كلّ هذه الحقائق ثمّ يمتنع عن بيعته؟!

كيف يسمع سعد قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من كان الله ورسوله وليه فعليٌّ وليُّه ، اللّهمّ والِ مَن والاه وعادِ مَن عاداه » والذي رواه هو بنفسه ثمّ لا يواليه لا ينصره؟!

كيف يغيب على سعد بن أبي وقّاص حديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « مَن ماتَ

__________________

عليه سعد ، فذكروا علياً ، فنال منه ، فغضب سعد وقال : تقول هذا لرجل سمعت رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : « من كنت مولاه فعلي مولاه » ، وسمعته يقول : « أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي » ، وسمعته يقول : « لأعطين الراية اليوم رجلا يحب اللّه ورسوله ». وصرّح الشيخ الألباني في صحيحته ٤ : ٣٣٥ ح١٧٥٠ بصحّته.

فهذه المناقب مروية عن سعد بن أبي وقاص منفردة كما في خصائص النسائي ، ومجتمعة كما في سنن ابن ماجة وغيره ، وعليه فكلام عثمان الخميس في كتابه كشف الجاني : ١٨٤ عار عن الصحّة ، وإنكار للواضحات نتيجة التسرّع في ردّ فضائل أهل البيت عليهم‌السلام ، والتي تعتريه حدّة عند سماعها كما اعترت إمامه ابن تيمية من قبله.

١ ـ آل عمران : ٦١.

٢ ـ صحيح مسلم ٧ : ١٢٠ ، ( كتاب الفضائل ، باب فضائل علي بن أبي طالب ).

٣٢١

وليستْ في عنقه بيعة ماتَ ميتة جاهليّة » (١) الذي رواه عبد الله بن عمر ، فيموت سعد ميته جاهلية ناكباً عن بيعة أمير المؤمنين ، وسيّد الوصيّين ، وقائد الغرّ المحجلين؟!

يذكر المؤرخون بأنّ سعداً جاء إلى الإمام علي معتذراً فقال : والله يا أمير المؤمنين لاَ ريب لي في أنّك أحقَّ الناس بالخلافة ، وأنت أمينٌ على الدين والدّنيا ، غير أنّه سينازعك على هذا الأمر أُناسٌ ، فلو رغبت في بيعتي لك أعطني سيفاً له لسانٌ يقول لي : خذ هذا ودع هذا!

فقال له علي : « أترى أحداً خالف القرآن في القول أو العمل؟ لقد بايعني المهاجرون والأنصار على أن أعمل فيهم بكتاب الله وسنّة نبيّه ، فإن رغبتَ بايعتَ وإلاّ جلستَ في دارك ، فإنّي لستُ مكرهكَ عليه » (٢).

أليس موقف سعد بن أبي وقاص غريباً؟! فهو يشهدُ بأن عليّاً لا ريب فيه ، وأنّه أحقّ الناس بالخلافة ، وأنّه أمينٌ على الدّين والدّنيا ، ثمّ بعد هذا يُطالبه بسيف ناطق كشرط على بيعته حتّى يعرف به الحقّ من الباطل؟!

أليس هذا تناقضاً يرفُضه العقلاء؟ وهل هذا إلاّ المُحال الذي يطلبه مكابرٌ عرف الحقَّ من صاحب الرسالة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أكثر من حديث روى هو بنفسه منها أكثر من خمسة؟!

ألم يكن سعد حاضراً بيعة أبي بكر وعمر وعثمان ، والتي حكموا في كلّ

__________________

١ ـ صحيح مسلم ٦ : ٢٢ ( كتاب الامارة ، باب الأمر بلزوم الجماعة عند ظهور الفتن ).

٢ ـ الفتوح لابن أعثم ١ : ٤٤٠ ، ذكر من فشل عن البيعة وقعد عنها.

٣٢٢

منها بقتل مَن يتخلّف عنها خوفاً من الفتنة؟

وقد بايع سعدٌ لعثمان وانحاز إليه بدون شرط ، وسمع عبد الرحمان بن عوف يُهدّد علياً مسلِّطاً السيف فوق رأسه قائلا : فلا تجعل على نفسك سبيلا فإنّه السيف لا غير (١).

وكان حاضراً لما امتنع عليّ عن بيعة أبي بكر ، فهدّده عمر بن الخطّاب وقال له : بايع وإلاّ والله الذي لا إله إلاّ هو نضرب عنقك (٢).

وهل جرّأ المتخلّفين عن البيعة ، والذين تطاولوا على وصيّ النبيّ أمثال عبد الله بن عمر ، وأُسامة بن زيد ، ومحمّد بن مسلمة ، إلاّ تخلّف سعد بن أبي وقّاص؟

وإنّك تلاحظ أنّ الاشخاص الخمسة الذين عيّنهم عمر بن الخطّاب لمنافسة علي في الخلافة قد لعبوا بالضبط الدور الذي رسمه لهم ابن الخطّاب ، وهو منع علي من الوصول إليها ، فهذا عبد الرحمان يختار للخلافة صهره عثمان ، ويهدّد عليّاً بالقتل إن لم يُبايع ، كلّ ذلك لأنّ عمر رجّح كفّة عبد الرحمان على الباقين ، وبعد موت عبد الرحمان بن عوف ومقتل عثمان ابن عفّان لم يبق من المنافسين لعلي في الخلافة إلاّ ثلاثة طلحة والزبير وسعد.

ولمّا رأى هؤلاء بأنّ المهاجرين والأنصار هرعوا للإمام علي وبايعوه ولم يلتفتوا لأيّ واحد منهم ، عند ذلك أضمروا له الشرّ وأرادوا به الهموم ،

__________________

١ ـ الإمامة والسياسة لابن قتيبة ١ : ٤٥ في بيعة عثمان.

٢ ـ الإمامة والسياسة لابن قتيبة ١ : ٣٠ في بيعة عليّ عليه‌السلام.

٣٢٣

فحاربه طلحة والزبير ، وخذله سعد.

ولا تنسَ بأنّ عثمان بن عفّان لم يمت حتّى كوّنَ لعلي مُنافساً جديداً هو أخطر منهم جميعاً ، وأشدّ مكراً ودَهاء ، وأكثرهم عدّة وعدداً ، فقد مهّد له عثمان للاستيلاء على الخلافة بأنْ ضمّ له تحت ولايته التي دامت عشرين عاماً أهمّ الولايات ، والتي تجمع أكثر من ثلثي العائدات للدولة الإسلامية بأسرها.

وهذا المنافس هو معاوية الذي لم يكنْ له دينٌ ولا خلقٌ ، وليس له شغلٌ إلاّ الوصول إلى الخلافة بأيّ ثمن وعن أيّ طريق.

ومع ذلك فإنّ أمير المؤمنين عليّاً لم يجبر الناس على البيعة بالقوّة والإكراه ، كما فعل الخلفاء من قبله ، ولكنّه تقيّد ( سلام الله عليه ) بأحكام القرآن والسنّة ، ولم يغيّر ولم يبدّل أبداً ، ألم تقرأ قوله لسعد : « لقد بايعني المهاجرون والأنصار على أن أعمل فيهم بكتاب الله وسنّة نبيّه ، فإن رغبتَ بايعتَ وإلاّ جلست في دارك ، فإنّي لستُ مكرهك عليه ».

هنيئاً لك يابن أبي طالب ، يا من أحييتَ القرآن والسنّة بعدما أماتهما غيرك من قبلك ، فهذا كتاب الله ينادي : ( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ) (١).

وقوله تعالى : ( أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ) (٢).

__________________

١ ـ الفتح : ١٠.

٢ ـ يونس : ٩٩.

٣٢٤

فلا إكراه في الدّين ، ولا بيعة بالإكراه في الإسلام ، ولم يأمر الله نبيّه أن يقاتل الناس ليبايعوه.

وهذه سنّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيرته الشريفة تحدّثنا بأنّه لم يكره أحداً من الناس على بيعته أبداً ، ولكنّ الخلفاء والصحابة هم الذين سنّوا تلك البدعة ، وهدّدوا الناس بالقتل إنْ لم يدخلوا في بيعتهم!!

وإذا كانت فاطمة نفسها هُدِّدَتْ بالحرق إنْ لم يخرج المتخلّفون في بيتها للبيعة! وإذا كان علي نفسه وهو الذي نصّبه رسول الله للخلافة يسلِّطون عليه السيف ، ويقسمون باللّه ليقتلنّه إن لم يُبايع ، فلا تسأل عن بقية الصحابة المستضعفين ، أمثال عمّار وسلمان وبلال وغيرهم.

والمهم أنّ سعد بن أبي وقّاص امتنع عن بيعة عليّ ، كما امتنع عن سبّه لما أمره معاوية بذلك ، كما جاء في صحيح مسلم.

ولكن هذا لا يكفي سعداً ولا يضمن له الجنّة ؛ لأنّ مذهب الاعتزال الذي أسّسه تحت شعار : « أنا لستُ معك ولستُ ضدّك » لا يقبله الإسلام ولا يعترف به ، لأنّ الإسلام يقول : ليس بعد الحقّ إلاّ الضلال.

ولأنّ كتاب الله وسنّة رسوله قد رسما معالم الفتنة وأخبرا بها ووضعا لها حدوداً ، ليهلك مَن هلك عن بيّنة وينجوَ مَن نجا عن بيّنة.

وقد بيّن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلّ شيء بقوله في علي : « اللّهمّ والِ مَن والاه ، وعادِ مَن عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل مَن خذله ، وأدر الحقّ معه حيث دار » (١).

__________________

١ ـ الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٦٣ ، الصواعق المحرقة ١ : ١٠٦ ، السيرة الح

٣٢٥

وقد بيّن الإمام علي الأسباب والدّوافع التي منعت سعداً من الانضمام إليه ، ورفضه بيعته عندما قال في الخطبة الشقشقية : « فصغى رجلٌ منهم لضغنه ».

ويقول الشيخ محمّد عبده في شرح هذا المقطع :

« كان سعد بن أبي وقّاص في نفسه شيء من علي ( كرّم الله وجهه ) من قبل أخواله ؛ لأنّ أُمّه حمنة بنت سفيان بن أُميّة بن عبد شمس ، ولعلي في قتل صناديدهم ما هو معروف ومشهور » (١).

فالحقد الدّفين والحسد أعمى بصيرة سعد ، فلم يعد يرى لعلي ما يراه لخصومه ، فقد نُقِلَ عنه أنّه لمّا ولاّه عثمان ولاية الكوفة خطب فيهم قائلا : « أطيعوا خير الناس أمير المؤمنين عثمان ».

فسعد بن أبي وقّاص كان هواه مع عثمان في حياته وحتى بعد مقتله ، وبذلك نفهمُ اتّهامه بالمشاركة في قتل عثمان عندما كتب لعمرو بن العاص بقوله : « إنّ عثمان قُتِلَ بسيف سلّتهُ عائشة وسمّه ابن أبي طالب ».

إنّه اتّهام باطلٌ يشهد التاريخ على كذبه ، فلم يكن لعثمان في محنته أكثر نُصحاً ومواساةً من علي ، لو كان له رأيٌ يُطاع.

والذي نستخلصه من مواقف سعد المتخاذلة ، هو بالضّبط ما وصفه به الإمام علي بأنّه صاحب ضغينة ، فهو رغم معرفته بحقّ علي إلاّ أن الضغينة

__________________

لبية ٣ : ٣٨٤ وفي ملحقات إحقاق الحقّ ٦ : ٢٩٢ عن إسعاف الراغبين والعقد الفريد ، وقد تقدّم ذكر مصادر الحديث سابقاً.

١ ـ شرح نهج البلاغة للشيخ محمّد عبده ١ : ٣٤.

٣٢٦

والحقد وقفا حائلا بينه وبين الحقّ ، فبقي حائراً مُتحيّراً بين ضمير يوبّخه ويوقظ فيه شعلة الإيمان ، وبين نفس مريضة أقعدتها عاداتُ الجاهلية فصغتْ لضغنها ، وتغلّبتْ نفس سعد الأمّارة بالسّوء على ضميره ، فتردّتْ به وأقعدته عن نصرة الحقّ.

والدّليل على ذلك ما أخرجه المؤرّخون عن مواقفه المحيّرة ، ذكر ابن كثير في تاريخه قال :

« دخل سعد بن أبي وقّاص على معاوية بن أبي سفيان فقال له : مالك لم تُقاتل عليّاً؟

قال سعد : إنّي مرّتْ بي ريحٌ مظلمة فقلت : أخ ، أخ وانخت راحلتي حتّى انجلتْ عنّي ، ثمّ عرفتُ الطّريق فسرتُ.

فقال معاوية : ليسَ في كتاب الله أخ ، أخ ، ولكن قال الله تعالى : ( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ) (١) ، فوالله ما كنتَ مع الباغية على العادلة ، ولا مع العادلة على الباغية.

فقال سعد : ما كنت لأقاتل رجُلا قال له رسول الله : « أنت منّي بمنزلة هارون من موسى غير أنّه لا نبيّ بعدي ».

فقال معاوية : مَن سمع هذا معك؟!

فقال : فلان وفلان وأُمّ سلمة ، فقام معاوية فسأل أُم سلمة ، فحدّثتهُ بما حدّث سعد ، فقال معاوية :

__________________

١ ـ الحجرات : ٩.

٣٢٧

« لو سمعتُ هذا قبل هذا اليوم لكنتُ خادماً لعلي حتى يموت أو أموتُ » (١).

ونقل المسعودي في تاريخه مثل هذه المحاورة بين معاوية وسعد بن أبي وقّاص ، وذكر أنّ معاوية قال لسعد بعدما حدَّث بحديث المنزلة : ما كنتَ عندي قطّ ألأمَ منك الآن ، فهلاّ نصرته؟ ولِمَ قعدت عن بيعته؟ فإنّي لو سمعتُ من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثل الذي سمعتَ فيه ، لكنت خادماً لعلي ما عشت (٢).

وما رواه سعد بن أبي وقّاص لمعاوية في فضل علي هو حديث واحدٌ من بين مئات الأحاديث التي تصبّ كلّها في مصبّ واحد ، وتهدف كلّها إلى هدف واحد ، ألا هو أنّ علي بن أبي طالب هو الشخص الوحيد الذي يمثّل الرسالة الإسلامية بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا يقدرُ عليها غيره ، وما دام الأمر كذلك فجدير بكلّ المؤمنين الصالحين أن يخدموه طيلة حياتهم.

فليس قول معاوية بأنّه لو سمع مثل هذا الحديث قبل اليوم لكان خادماً لعلي ما عاش ، إلاّ حقّاً يفتخر به كلّ مؤمن ومؤمنة.

ولكن معاوية لم يقل ذلك إلاّ استهزاءً وسخريةً من سعد بن أبي وقّاص كي يشتمه باللؤم ويهينَه ؛ لأنّه أمتنع عن سبّ علي ولعنه ولن ينفّذ رغبته في ذلك.

وإلاّ فإنّ معاوية يعرف أكثر من حديث المنزلة في فضل ابن أبي طالب ، ويعرف أيضاً بأنّه أولى الناس بعد الرسول ، وذلك ما صرّح به في الرسالة

__________________

١ ـ تاريخ ابن كثير ٨ : ٨٣.

٢ ـ مروج الذهب ٣ : ١٥ ، في ذكر معاوية وأخباره.

٣٢٨

التي بعث بها إلى محمّد بن أبي بكر ، والتي سيأتي ذكرها إن شاء الله قريباً.

وهل امتنع معاوية عن سب ولعن أمير المؤمنين عندما علم من سعد بذلك الحديث ، وأكّدته له أُمّ سلمة عندما سألها؟

كلاّ ، إنّه تمادى في غيّه أكثر ، وأخذته العزّة بالإثمّ ، فأصبح يلعن علياً وكلّ أهل بيته ، وحمل الناس على ذلك حتى شبّ عليه الصغير وهَرُمَ عليه الكبير ، وتواصل ذلك ثمانين عاماً أو أكثر.

( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (١).

صدق الله العلي العظيم

٧ ـ عبد الرحمان بن عوف

كان اسمه في الجاهلية عبد عمرو فسمّاه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبد الرحمان ، وهو من بني زهرة ، وهو ابن عمّ سعد بن أبي وقّاص.

هو من كبار الصحابة ومن المهاجرين الأوّلين ، وشهد مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المشاهد كلّها ، وهو أيضاً من الستّة الذين رشّحهم عمر بن الخطّاب للخلافة ، بل جعله رئيساً على مجلس الشورى والمقدّم عليهم جميعاً ، إذ قال : « وإذا اختلفتم فكونوا في الشقّ الذي فيه عبد الرحمان بن عوف ».

وهو أيضاً من العشرة المبشَّرين بالجنّة في اعتقاد « أهل السنّة والجماعة ».

__________________

١ ـ آل عمران : ٦١.

٣٢٩

وعبد الرحمان بن عوف كما هو مشهورٌ من التجّار الكبار في قريش ، والذي ترك ثروة ضخمة وأموالا طائلة بلغت حسب نقل المؤرخين : ألف بعير ومائة فرس وعشرة آلاف شاة ، وأرضاً كانت تزرع على عشرين ناضحاً ، وخرجت كلّ واحدة من نسائه الأربع بنصيبها من المال الذي تركه ، فكان أربعة وثمانين ألفاً (١).

وعبد الرحمان بن عوف هو صهر عثمان بن عفّان ؛ لأنّه تزوّج أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، وهي أُخت عثمان لأُمّه.

وقد عرفنا من خلال كتب التاريخ أنّه لعب دوراً كبيراً لإبعاد علي عن الخلافة بشرطه الذي اشترطه عليه في تحكيم سنّة الخليفتين أبي بكر وعمر ، لعلمه مسبقاً بأنّ عليّاً لا يقبلُ بذلك الشرط أبداً لأنّ سنّتهما مُخالفة للكتاب والسنّة النبويّة.

وهذا وحده يكفينا دليلا على تعصُّب عبد الرحمان للبدع الجاهلية ، وبُعده عن السنّة المحمّدية ، ومشاركته الفعّالة في المؤامرة الكبرى للقضاء على العترة الطّاهرة ، وإبقاء الخلافة في حوزة قريش تتحكّم فيها كيف شاءتْ.

أخرج البخاري في صحيحه من كتاب الأحكام ، باب كيف يُبايع الإمام الناس ، قال المسور : طرقني عبد الرحمان بعد هجيع من اللّيل ، فضرب الباب حتى استيقظتُ ، فقال : أراك نائماً فوالله ما اكتحلت هذه اللّيلة بكبير نوم ، انطلق فادع الزبير وسعداً فدعوتهما له فشاورهُما ، ثمّ دعاني فقال : أدع لي

__________________

١ ـ راجع الطبقات الكبرى ٣ : ١٣٦ ، مروج الذهب ٢ : ٣٥٠.

٣٣٠

عليّاً فدعوته فناجاه حتّى ابهارّ اللّيل ، ثمّ قام عليٌّ من عنده وهو على مطمع ، وقد كان عبد الرحمان يخشى من علي شيئاً ، ثمّ قال : ادع لي عثمان فدعوته فناجاه حتّى فرّق بينهما المؤذّنُ بالصبح.

فلمّا صلّى للنّاس من الصبح ، واجتمع أُولئك الرهطُ عند المنبر ، فأرسل إلى مَن كان حاضراً من المهاجرين والأنصار ، وأرسل إلى أُمراء الأجناد وكانوا وافوا تلك الحجّة مع عمر ، فلمّا اجتمعوا تشهّد عبد الرحمان ثمّ قال : أمّا بعد يا علي إنّي قد نظرت في أمر الناس فلم أرَهم يَعدلونَ بعثمان ، فلا تجعلن على نفسك سبيلا ، ثمّ قال مخاطباً لعثمان : أُبايعك على سنّة الله ورسوله والخليفتين من بعده ، فبايعه عبد الرحمان وبايعه الناسُ المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون (١).

والباحث يفهم من هذه الرواية التي أخرجها البخاري بأنّ المؤامرة قد دُبِّرَتُ بليل ، ويفهم أيضاً الدّهاء الذي يتمتّع به عبد الرحمان بن عوف ، وأن اختيار عمر له لم يكن عفوياً.

تأمّل في قول الراوي وهو المسور : فدعوت له عليّاً فناجاه ثمّ قام عليّ من عنده وهو على مطمع.

وهذا يدلّنا على أنّ عبد الرحمان بن عوف هو الذي أطمع علياً في الخلافة ، حتّى لا ينسحبَ عليٌّ من الشورى المزيّفة ، ويتسبّب لهم في انقسام الأُمّة مرّة أُخرى ، كما وقع عقيب بيعة أبي بكر في السقيفة. ويؤكّد صحّة هذا الاحتمال قول المسور : « وقد كان عبد الرحمان يخشى من عليّ شيئاً ».

__________________

١ ـ صحيح البخاري ٨ : ١٢٣ ( كتاب الأحكام ، باب كيف يبايع الإمام الناس ).

٣٣١

من أجل ذلك لعبَ عبد الرحمان دور المُراوغ المُخادع ، فطمأن عليّاً في اللّيل وهنّأه بالخلافة ، ولمّا أصبح وحشر أُمراء الأجناد وحضر رؤوس القبائل وزعماء قريش ، عند ذلك انقلب عبد الرحمان ليفاجئ علياً بأنّ الناس لا يعدلُون بعثمان ، وأنّ عليه أن يقبل ، وإلاّ سيجعل على نفسه سبيلا ( يعني يقتلونه إنْ رفض البيعة لمن اختاروه وهو عثمان بن عفان ).

وإنّ الباحث ليفهم ذلك بوضوح خصوصاً عندما يقرأ هذه الفقرة الأخيرة من الرواية ، يقول المسور : « فلمّا اجتمعوا تشهّد عبد الرحمان ثمّ قال : أمّا بعد يا علي إنّي نظرتُ في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان ، فلا تجعل على نفسك سبيلا ».

فلماذا يوجّه عبد الرحمان خطابه إلى علي وحده من بين الحاضرين ، ولماذا لم يقل مثلا : أما بعد يا علي ويا طلحة ويا زبير؟!

من أجل ذلك فهمنا بأنّ الأمر دُبّر بليل ، وأن الجماعة كانوا متّفقين من البداية على عثمان وإبعاد علي عنها.

ولنا أنْ نجزم بأنّهم جميعاً كانوا يخشون من عليّ لو وصل إلى الخلافة أن يعود بهم إلى العدالة والمساواة ، ويحيي لهم سنّة النبيّ ، ويُميت بدعة ابن الخطّاب في المفاضلة ، خصوصاً وأنّ عمر بن الخطّاب قد أشار قبل موته إلى ذلك وحذّرهم من خطر علي عليهم ، فقال : « لو ولّوها الأجلح لحملهم على الجادة » (١) ، والجادة هي السنّة النبويّة التي لا يحبّها عمر ولا تحبّها

__________________

١ ـ الطبقات الكبرى ٣ : ٣٤٢ ، كنز العمال ١٢ : ٦٨٠ ح٣٦٠٤٤ وصحّحه عن اللالكائي في السنّة.

٣٣٢

قريش عامّةً ، ولو كانوا يحبّون سنّة النبيّ لولّوا علياً ، ولحملهم عليها ولردّهم إليها ، فهو نائبها والقائم عليها.

وكما قدّمنا في بحث طلحة والزبير وسعد بأنّهم زرعوا الشوك وحصدوا الخسران والندامة.

فلننظر إلى عبد الرحمان بن عوف وما آل إليه تدبيره ، يقول المؤرخون بأنّ عبد الرحمان بن عوف ندم أشدّ الندم لمّا رأى عثمان خالفَ سنّة الشيخين ، وأعطى المناصب والولايات إلى أقاربه وحاباهم بالأموال الطّائلة ، فدخل عليه وعاتبهُ وقال : إنّما قدّمتُك (١) على أن تسير فينا بسيرة أبي بكر وعمر ، فخالفتهما وحابيتَ أهل بيتك وأوطأتهم رقاب المسلمين.

فقال عثمان : إنّ عمر كان يقطع قرابته في الله وأنا أصل قرابتي في الله ، قال عبد الرحمان : لله عليَّ أن لا أكلّمك أبداً ، فلم يكلمه حتّى ماتَ وهو هاجر لعثمان ، ودخل عليه عثمان عائداً له في مرضه ، فتحوّل عنه إلى الحائط ولم يكلّمه (٢).

وبهذا يكون الله سبحانه قد استجاب دعاء الإمام علي في عبد الرحمان ، كما استجابه في طلحة والزبير فقتلا من يومهما.

يقول ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح النهج : إن علياً غضب يوم الشورى ، وعرف ما دبّره عبد الرحمان بن عوف فقال له :

__________________

١ ـ قوله إنّما قدّمتك يدلّ على الاستبداد برأيه ولم يكن عن مشورة ولا عن اختيار النّاس له كما يزعمون.

٢ ـ تاريخ أبي الفداء ١ : ٣٣٢ ، في مقتل عمر ، العقد الفريد لابن عبد ربه المالكي ٥ : ٥٥ ما نقم الناس على عثمان.

٣٣٣

« والله ما فعلتها إلاّ لأنّك رجوتَ منه ما رجَا صاحبكما من صاحبه ، دقَّ الله بينكما عطر منشم » (١).

ويقصد الإمام علي بأنّ عبد الرحمان طمع أن يستخلفه عثمان من بعده كما فعل أبو بكر بعمر ، وقد قال له علي : « أحلب حلباً لك شطره واشدد له اليوم ليردّه عليك غداً » (٢).

أما عطر منشم الذي دعا به علي عليهما فهو مَثلٌ سائر يقال : أشأم من عطر منشم ، وهو يدلّ على النفور والمقاتلة.

واستجاب الله دعاء الإمام ، فلم تمض سنوات قليلة حتّى ضرب الله بينهم العداوة والبغضاء ، وإذا بعبد الرحمان يُعادي صهره ، ولا يكلّمه حتّى الموت ، ولا يأذن له بالصّلاة على جنازته.

ويتجلّى لنا أيضاً من هذا البحث الوجيز أنّ عبد الرحمان بن عوف هو رأس من رؤوس قريش الذين عملوا على طمس السنّة النبويّة وإبدالها ببدع الخليفتين.

كما يتجلّى لنا بأنّ الإمام علياً عليه‌السلام هو الوحيد الذي ضحّى بالخلافة وما فيها ، من أجل الحفاظ على السنّة المحمّدية التي جاء بها أخوه وابن عمّه محمّد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين.

وأنتَ أيّها القارئ الكريم لا شكّ بأنّك عرفت « أهل السنّة والجماعة » على حقيقتهم ، كما عرفت بنفسك من هم أهل السنّة ، فالمؤمن غرّ كريم ،

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١ : ١٨٨.

٢ ـ المصدر السابق ٦ : ١١ ، الإمامة والسياسة ١ : ٢٩.

٣٣٤

ولكنّه لا يُلدغ من جحر مرّتين.

٨ ـ عائشة بنت أبي بكر ( أُمّ المؤمنين ) :

هي زوج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأُمّ المؤمنين ، تزوّجها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في السنة الثانية أو الثالثة للهجرة ، وتوفّي عنها وهي ابنة ثماني عشرة سنة على أشهر الأقوال المرويّة.

وتجدر الإشارة بأنّ كلّ امرأة تزوّجها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحمل هذا اللّقب ، فيقال أُمّ المؤمنين خديجة ، أُمّ المؤمنين حفصة ، وأُمّ المؤمنين مارية ... إلخ.

أقول هذا لأنّي فوجئت خلال حديثي مع كثير من الناس بأنّهم لم يفهموا معنى الأُمومة التي لُقّبَ بها أزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وبما أنّ حديث « أهل السنّة » كلّه عن عائشة إذا تحدّثوا عن أزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأغلب الأحاديث النبويّة ينقلونها عن عائشة ، ونصف الدين يأخذونه عن الحميراء عائشة ؛ فكأنّهم فهموا من كلمة « أُمّ المؤمنين » أنّها فضيلة تخصّها من بين سائر أزواجه عليه الصلاة والسلام وعلى آله.

والحال أنّ الله حرّم على المؤمنين الزواج بنساء النبيّ بعد وفاته بقوله تعالى : ( وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماًً ) (١) وقال أيضاً : ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ... ) (٢).

وقد سبق أن أشرنا بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تأذّى من قول طلحة لمّا سمعه يقول :

__________________

١ ـ الأحزاب : ٥٣.

٢ ـ الأحزاب : ٦.

٣٣٥

إذا مات محمّد تزوّجت عائشة بنت عمّي.

فأراد الله سبحانه أنْ يقول للمؤمنين بأنّ نساء النبيّ حرامٌ عليكم نكاحهنّ كحرمة أُمّهاتكم.

مع العلم بأنّ عائشة كانت عقيماً فلم تحمل ولم تخلّف ، وكانت من أكبر الشخصيات التي عرفها تاريخ المسلمين ، إذ إنّها لعبتْ أكبر الأدوار في تقريب البعض من الخلافة وإبعاد البعض عنها ، وعملت على تزكية قوم وإقصاء آخرين.

وشاركت في الحروب ، وقادت المعارك والرجال ، وكانت تبعث بالرسائل لرؤساء القبائل ، وتأمر وتنهى ، وتعزل أُمراء الجيوش وتؤمّر آخرين ، وكانت قطب الرحى في معركة الجَمَل ، وعمل طلحة والزبير تحت قيادتها.

ونحن لا نريدُ الإطالة في سرد أدوار حياتها ، فقد وافَيْنا البحث عنها في كتاب « فاسألوا أهل الذكر » فعلى الباحثين مراجعته إن أرادوا معرفة ذلك.

ولكنّ الذي يهمّنا في هذا البحث هو اجتهادها وتغييرها لسنّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولابدّ من إبراز بعض الأمثلة لكي نفهم من خلال سلسلة هؤلاء « العظماء » الذين هم مفخرة « أهل السنّة والجماعة » ، والذين يقتدون بهم ويقدّمونهم على الأئمّة الطاهرين من عترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وليس ذلك في الحقيقة إلاّ نزعة قبليّة عملتْ على محق السنّة النبويّة ، وطمس معالمها وإطفاء نورها ، لولا وقوف علي والأئمة من ولده لما وجدنا اليوم من سنّة النبيّ شيئاً يُذكر.

وكما عرفنا بأنّ عائشة لم تمتثل لسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم تقم لها وزناً ،

٣٣٦

وقد سمعتْ من زوجها أحاديث كثيرة في حقّ علي إلاّ أنّها أنكرتها وعملتْ بعكسها.

وعصتْ أمر الله وأمر رسوله لها بالذّات ، وخرجت فقادتْ حرب الجمل المشؤومة التي انتهكت فيها المحارم ، وقتلت الأبرياء ، وخانت العهد في الكتاب الذي كتبتهُ مع عثمان بن حنيف ، وعندما جاؤوها بالرّجال مكتّفين أمرتْ بضرب أعناقهم صبراً ، وكأنّها لم تسمع قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « سباب المسلم فسوق وقتاله كفر » (١).

ودعنا من الحروب والفِتن التي أشعلت نارها أُمّ المؤمنين ، وأهلكت بها الحرث والنسلَ ، وهيا بنا إلى تأوّلها هي الأُخرى والقول برأيها في دين الله ، وإذا كان مجرّد الصحابي له رأي وقوله حجّة ، فكيف بمن يؤخذ نصف الدّين عنها؟!

أخرج البخاري في صحيحه من أبواب صلاة التطوع عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ( رضي الله عنها ) قالت : الصلاة أوّل ما فرضتْ ركعتان ، فأُقرّتْ صلاة السفر وأُتمّتْ صلاة الحضر ، قال الزهري : فقلتُ لعروة : ما بالُ عائشة تتمّ؟

قال : تأوّلتْ ما تأوّل عثمان (٢).

أفلا تعجب كيف تترك أُمّ المؤمنين زوجة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سنّة رسول الله التي

__________________

١ ـ صحيح البخاري ٨ : ٩١ ( كتاب الفتن ، باب ظهور الفتن ). وصحيح مسلم ١ : ٥٨ ( كتاب الإيمان ، باب لا ترجعوا بعدي كفاراً ).

٢ ـ صحيح البخاري ٢ : ٣٦ ( كتاب الكسوف ، باب صلاة التطوع ) ، صحيح مسلم ٢ : ١٤٣ ( كتاب صلاة المسافر ).

٣٣٧

روتها بنفسها وصحّحتها ، ثمّ تتبع بدعة عثمان بن عفّان ، والتي كانت تحرّض على قتله بدعوى أنّه غيّر سنّة النبيّ وأبلاها قبل أن يُبلى قميصه؟!

نعم ، ذلك ما وقع في عهد عثمان ، ولكنّها غيّرت رأيها في عهد معاوية بن أبي سفيان ، وما أسرع أن تغيّر أُمّ المؤمينن رأيها ، فقد حرّضتْ على قتل عثمان ، ولكنّها لمّا عرفتْ بأنّهم قتلوه وبايعوا عليّاً ، غيّرت رأيها وبكتْ على عثمان بكاءً شديداً ، وخرجتْ للطلب بدمه هي أيضاً.

والمفهوم من الرواية أنّها أتمّت صلاة السفر ، وجعلتها أربع ركعات بدلا من ركعتين في زمن معاوية الذي كان حريصاً على إحياء بدع ابن عمّه ووليّ نعمته عثمان بن عفان.

والناس على دين ملوكهم ، وكانت عائشة من أُولئك الناس الذين صالحوا معاوية بعد العداء ، فهو الذي قتل أخاها محمّد بن أبي بكر ، ومثّل به أشنع مثلة.

ومع ذلك فإنّ المصالح الدنيوية المشتركة تجمع الأعداء وتوحّد الأضداد ، لذلك تقرّب إليها معاوية وتقرّبتْ إليه ، وأصبح يبعث لها بالهدايا والعطايا والأموال الطائلة.

يقول المؤرّخون : إنّ معاوية لمّا قدم المدينة دخل على عائشة لزيارتها ، فلمّا قعد قالتْ له : يا معاوية أَأَمنتَ أنّ أُخبّئ لك من يقتلُك بأخي محمّد بن أبي بكر؟

فقال معاوية : إنّما دخلتُ بيت الأمان.

فقالت : أما خشيتَ الله في قتل حجر بن عدي وأصحابه؟

٣٣٨

فقال : إنّما قتلهم من شهد عليهم (١).

وروي أيضاً أنّ معاوية كان يبعث لها بالهدايا والثياب وأشياء توضع في أسطوانها ، وبعث لها مرّة بمائة ألف دفعة واحدة (٢).

كما بعث لها مرّة أُخرى وهي بمكّة طوقاً قيمته مائة ألف ، كما قضى معاوية كلّ ديون عائشة التي بلغتْ ثمانية عشر ألف دينار ، وكلّ ما كانت تعطيه للنّاس (٣).

وقد قدّمنا في كتاب « فاسألوا أهل الذكر » أنها أعتقت في يوم واحد أربعين رقبة تكفيراً عن نذرها (٤).

كما أنّ الولاة والأمراء من بني أُميّة كانوا يوصلونها ، ويبعثون لها بالهدايا والأموال أيضاً (٥).

وإذا بحثنا عن هذا التقارب بين عائشة ومعاوية قلنا : متى كان البعد والعداء حتّى نقول بالتّقارب ، فأبو بكر هو الذي شارك معاوية في الحكم وولاّه على الشام بعد موت أخيه ، ومعاوية يشعر دائماً بفضل أبي بكر عليه ، فلولاه لم يكن معاوية يحلم يوماً بالوصول إلى الخلافة.

ثمّ إنّ معاوية يلتقي مع الجماعة في مؤامراتهم الكبرى لمحق السنّة والقضاء على العترة ، وقد تقاسموا تلك المهمّة فأحرقوا السنّة وتركوا له

__________________

١ ـ تاريخ الطبري ٤ : ٢٠٨ ، ونحوه البداية والنهاية ٨ : ٦٠.

٢ ـ تاريخ ابن كثير ٨ : ١٤٥.

٣ ـ تاريخ ابن كثير ٨ : ١٤٥.

٤ ـ صحيح البخاري ٧ : ٩٠ من ( كتاب الآداب ، باب الهجرة ).

٥ ـ مسند الإمام أحمد بن حنبل ٦ : ٧٧.

٣٣٩

القضاء على العترة ، فأتمّ معاوية ما أوكل إليه حتّى أجبر الناس على لعن العترة ، وبمؤامرته خرج الخوارج على الإمام علي ، وبمؤامرته قُتِل علي ، وبمؤامرته قتل الحسن بن علي وقد دَسّ له السمّ ، وقضى يزيد ابنه من بعده على بقية العترة.

فليس بين معاوية وعائشة عداء ، حتى قولها : ( أأمنتَ أن أُخبئ لك من يقتلك بأخي محمّد بن أبي بكر ) لم يكن إلاّ مداعبة ، وإلاّ فإنّها لا تحبّ ابن الخثعمية محمّد بن أبي بكر ، والذي كان يحارب ضدّها مع علي ويستحلّ قَتْلها.

ثمّ هي تلتقي مع معاوية في بغض أبي تراب إلى أبعد الحدود ، وبحقد يفوق التصوّر والخيال.

ولا أدري أيّهما المتفوّق في ذلك ، أهو الذي حاربه وسبّه ولعنه وعمل على إطفاء نوره ، أم هي التي عملت على إبعاده عن الخلافة ، وحاربتْه وعملتْ على محو اسمه ، فكانت لا تذكر اسمه ، ولمّا بلغها خبر قتله سَجدتْ شكراً لله؟ (١)

__________________

١ ـ ورد في مقاتل الطالبيين لأبي الفرج : ٥٥ : « لمّا أن جاء عائشة قتل عليّ سجدت » ، وأخرج الإمام أحمد في مسنده عن ابن عباس ٦ : ٢٢٨ : ( ولكن عائشة لا تطيب له نفساً ) بعدما ذكرت مرض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخروجه متوكّئاً على شخصين أحدهما الفضل وقد ذكرته عائشة والآخر لم تذكره ، فقال ابن عباس بأن الشخص الآخر هو علي بن أبي طالب ، لكن عائشة لا تحبّ ذكره ؛ لأنّها لا تطيب له نفساً. والحديث صحيح الإسناد ، وخرجّه الشيخ الألباني في إرواء الغليل ١ : ١٧٧ معلّقاً عليه بقوله : ( وسنده صحيح ).

٣٤٠