الشيعة هم أهل السنّة

الدكتور محمّد التيجاني السماوي

الشيعة هم أهل السنّة

المؤلف:

الدكتور محمّد التيجاني السماوي


المحقق: مركز الأبحاث العقائديّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-20-X
الصفحات: ٥٢٢

العلماء والمثقفين ، فسوف تجد فيه مكتبة تضمّ إلى جانب مؤلّفات الشيعة جانباً كبيراً من مؤلّفات « أهل السنّة والجماعة » على عكس « أهل السنّة والجماعة » فقد لا تجد عند علمائهم كتاباً شيعياً واحداً إلاّ نادراً.

ولذلك هم يجهلون حقائق الشيعة ، ولا يعرفون إلاّ الأكاذيب التي يكتبها أعداؤهم.

كما أنّ الشيعي العادي تجده في أغلب الأحيان يعرف التاريخ الإسلامي بكلّ أدواره ، وقد يحتفل بإحياء بعض ذكرياته.

أمّا العالم السُنّي تجده قليلا ما يهتم بالتاريخ ، فهو يعتبره من المآسي التي لا يريد نبشها والاطّلاع عليها ، بل يجب إهمالها وعدم النظر فيها ، لأنّها تسيء الظن بـ « السلف الصالح ».

وبما أنّه أقنع نفسه أو أوهمها بعدالة الصحابة أجمعين ونزاهتهم فلم يعد يتقبّل ما سجّله التاريخ عليهم.

لكلّ ذلك تراه لا يصمد للنقاش البنّاء الذي يقوم على الدليل والبرهان ، فتراه إمّا يتهرّب من البحث لعلمه مسبقاً بأنّه مغلوب ، وإمّا أن يتغلّب على عواطفه وميوله ويقحم نفسه في البحث ، فيصبح ثائراً على كلّ معتقداته ، ويتشيّع لأهل بيت المصطفى.

فالشيعة هم أهل السنّة النبويّة ؛ لأنّ إمامهم الأوّل بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو علي ابن أبي طالب عليه‌السلام الذي يعيش ويتنفّس بالسنّة النبويّة ، أنظر إليه وقد جاؤوه ليبايعوه بالخلافة على أن يحكم بسيرة الشيخين ، فقال : « لا أحكمُ إلاّ بكتاب الله وسنّة رسوله » ، فلا حاجة لعلي في الخلافة إن كانت على حساب السنّة النبويّة ، فهو القائل : « والله لهي [ يعني نعليه ] أحب إليّ من إمرتكم إلاّ

١٠١

أن أُقيم حقاً أو أدفع باطلاً » (١).

وقال ابنه الإمام الحسين عليه‌السلام قولته المشهورة التي بقيت ترنّ في مسمع الدهر : « إن كان دين محمّد لا يستقيم إلاّ بقتلي فيا سيوف خذيني » (٢).

ولهذا فإنّ الشيعة ينظرون إلى إخوانهم من « أهل السنّة والجماعة » بنظر العطف والحنان ، وكأنّهم يريدون لهم الهداية والنجاة ؛ لأنّ ثمن الهداية عندهم حسب ما جاءت به الروايات الصحيحة خير من الدنيا وما فيها.

فقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للإمام عليّ عندما بعثه لفتح خيبر : « قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله ، فإن قالوها فقد عُصِمَ منك دماؤهم وأموالهم وحسابهم على الله ، لئن يهدي الله بك رجلا واحداً خيرٌ لك ممّا طلعت عليه الشمس ، أو خير لك من أن يكون لك حمر النعم » (٣).

وكما كان همّ عليّ بن أبي طالب الوحيد هو هداية الناس والرجوع بهم إلى كتاب الله وسنّة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكذلك شيعتهُ اليوم همّهم أن يدفعوا عن أنفسهم كلّ التهم والأكاذيب ، وأن يعرّفوا إخوانهم من « أهل السنّة » بحقائق أهل البيت عليهم‌السلام ، وبالتّالي يهدوهم إلى سواء السبيل.

( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْء وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْم يُؤْمِنُونَ ) (٤).

__________________

١ ـ نهج البلاغة ١ : ٨٠ ، الخطبة : ٣٣.

٢ ـ أعيان الشيعة ١ : ٥٨١ ، في ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام ، واعتبره لسان حال.

٣ ـ صحيح مسلم ٧ : ١٢٢ ( كتاب فضائل الصحابة ، باب فضائل علي ( رضي الله عنه ) ) ، صحيح البخاري ٥ : ٧٧ ، ( كتاب المغازي ، باب غزوة خيبر ) ، باختلاف.

٤ ـ يوسف : ١١١.

١٠٢

التعريف بأئمّة الشيّعة

لقد انقطع الشيعة للأئمة الاثني عشر من أهل البيت عليهم‌السلام ، أوّلهم علي بن أبي طالب ، ثمّ ابنه الحسن ، ثمّ ابنه الحسين ، ثمّ التسعة المعصومون من ذرّية الحسين ومن نسله.

وقد نصّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على هؤلاء الأئمة في العديد من المرّات تصريحاً وتلميحاً ، وقد ذكرهم بأسمائهم في بعض الروايات التي أخرجها الشيعة ، والبعض من علماء « السنّة ».

وقد يعترض البعض من « أهل السنّة » على هذه الروايات مُستغرباً كيف يتكلّم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أُمور غيبيّة ما زالت في طي العدم؟ وقد جاء في القرآن قوله : ( وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ) (١).

وإجابة على ذلك نقول : بأنّ هذه الآية الكريمة لا تنفي عن الرسول علمه بالغيب مطلقاً ، إنّما جاءت ردّاً على المشركين الذين طلبوا منه أنْ يُعلمهم عن قيام الساعة ، وموعد الساعة قد اختصّ الله سبحانه بعلمه.

وقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى : ( عالِمُ الغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُول ... ) (٢).

وفي هذا دلالة على أنّه سبحانه يُطلعُ على غيبه رُسلَه الذين اصطفاهم ،

__________________

١ ـ الأعراف : ١٨٨.

٢ ـ الجن : ٢٦ ـ ٢٧.

١٠٣

ومن ذلك مثلاً قول يوسف عليه‌السلام لأصحابه في السجن : ( لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ... ) (١).

وكقوله تعالى : ( فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَدُنَّا عِلْماً ) (٢). حكاية عن الخضر الذي التقى بموسى ، وعلّمه من علم الغيب ما لم يستطع عليه صبراً.

والمسلمون شيعة وسنّة لم يختلفوا في أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعلمُ الغيب ، وقد سجّلتْ سيرته الكثير من الأخبار بالغيب كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ويح عمّار تقتله الفئة الباغية » (٣).

وقوله لعلي : « أشقى الآخرين الذي يضربك على رأسك فيخضب لحيتك » (٤).

وقوله : « إنّ ابني الحسن يصلح الله به فئتين عظيمتين » (٥).

__________________

١ ـ يوسف : ٣٧.

٢ ـ الكهف : ٦٥.

٣ ـ مسند أحمد ٣ : ٩١ وصرّح محقق الكتاب العلاّمة أحمد شاكر بصحته ، صحيح البخاري ٣ : ٢٠٧ ( كتاب الجهاد والسير ، باب من قاتل لتكون كلمة اللّه هي العليا ) ، وقريب منه في صحيح مسلم ٨ : ١٨٦ ( كتاب الفتن وأشراط الساعة ، باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل ) ، المستدرك للحاكم ٢ : ١٤٩.

٤ ـ تاريخ دمشق ٤٢ : ٥٤٧ ، مسند أبي يعلى ١ : ٣٧٧ ، المعجم الكبير ٨ : ٣٨ ، باختلاف.

٥ ـ سنن أبي داود ٢ : ٤٠٥ ح٤٦٦٢ ، المعجم الكبير للطبراني ٣ : ٣٤ ، صحيح البخاري ٨ : ٩٨ ( كتاب الفتن ، باب قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للحسن بن علي : إنّ ابني هذا لسيّد ).

١٠٤

وكقوله لأبي ذرّ بأنّه سيموت وحيداً طريداً ، إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة ، ومنها حديثه المشهور الذي أخرجه البخاري ومسلم وكلّ المحدّثين والذي جاء فيه : « الأئمة من بعدي اثنا عشر كلّهم من قريش » (١)

__________________

١ ـ بهذا اللفظ في كفاية الأثر للخزاز القمي : ٢٧ ، ورد بألفاظ مختلفة في كلّ من : صحيح البخاري ٨ : ١٢٧ ( كتاب الأحكام ، باب بيعة النساء ) ، صحيح مسلم ٦ : ٣ ( كتاب الامارة ، باب الناس تبع لقريش ) ، سنن أبي داود ٢ : ٣٠٩ ح٤٢٨٠ ، سنن الترمذي ٣ : ٣٤٠ ، المستدرك ٣ : ٦١٨ ، وغيرها.

ولا يخفى أنّ الحديث لا يدلّ على لزوم تصدّي هؤلاء الاثني عشر للحكم الظاهري ، فلا يقدح فيه عدم جريان أحكام بعض الأئمة عليهم‌السلام في الظاهر ، ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مشيراً إلى الحسنين : « ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا » ، فالحديث يدلّ على أنّ أمر الناس سيكون ماضياً والإسلام سيكون عزيزاً إذا وليهم اثنا عشر خليفة ، فما دام لم يليهم هؤلاء لم يكونوا أعزّاء بل أصيبوا طيلة حياتهم ومنذ وفاة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى يومنا هذا بأنواع الفتن والمحن ، وهذا نظير قوله تعالى : ( وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لاََسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً ) فبما أنّهم لم يستقيموا لم يسقوا ، وبما أنّ المسلمين لم يتمسّكوا بهؤلاء الاثني عشر لم يكونوا أعزّاء.

ثمّ إنّ هذا الحديث من المعاجز النبويّة ومن الأُمور الغيبية التي أخبر بها نبي الرحمة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد أثبتها الرواة ورووها قبل اكتمال عدد الأئمة عليهم‌السلام فلا يحتمل فيها الوضع من قبل الشيعة ، ولا يقدح في تمسّكنا به افتراق بعض الشيعة ، فإنّ الضلال له أسباب ودوافع مختلفة منها المعاندة ، قال تعالى : ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ) ، فافتراق بعض الشيعة وانحرافهم عن الصراط المستقيم لا يدلّ على عدم صحة تمسّكنا بهذا الحديث.

ثمّ إنّه لا يقال : « إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبلغ الناس ولا يذكر الأعم وهو قوله : كلّهم من قريش ، ويريد الأخص وهو عليّ وأولاده ، فهذا خلاف البلاغة ».

١٠٥

__________________

لأنّنا نقول : أولا : ذكر العام وإرادة الخاص يكون قبيحاً فيما إذا لم تكن هناك قرائن متصلة أو منفصلة تعيّن المراد.

وهذه القرائن بحمد الله موجودة سواء كانت متصلة أو منفصلة ، أما القرائن المتصلة فيدلّ على وجودها النظر في متن الحديث وما وقع والغوغاء بعد تكلّم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحيث لم يسمع الراوي تمام الحديث ، ولذا اضطرّ بالسؤال عن أبيه أو عمّه أو غيرهما ـ كما ورد في الأحاديث ـ فقد جاء في مسند أحمد ٥ : ٩٣ « ثمّ تكلم بكلمة لم أفهمها وضجّ الناس » وفي لفظ الطبراني ٢ : ١٩٦ « ثمّ لغط الناس وتكلّموا فلم أفهم قوله بعد كلّهم » وفي المعجم أيضاً ٢ : ٢٤٩ « ثمّ تكلّم بشيء لم أسمعه فزعم القوم أنّه قال : كلّهم من قريش » فهذه النصوص وغيرها ممّا تدلّ على وجود قرائن في الكلام حاول البعض إخفائها كما فعلوا فيما بعد عند مرضه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من لغطهم واختلافهم.

وفي لفظ كفاية الأثر للخزاز القمي ص١٠٦ هكذا جاء : « الأئمة بعدي اثنا عشر كلّهم من قريش ، تسعة من صلب الحسين والمهدي منهم » وهذا هو المعوّل عندنا.

وأمّا القرائن المنفصلة فهي كثيرة ، منها حديث الثقلين ، ومنها ما ورد عن عليّ عليه‌السلام كما في النهج الخطبة ١٤٢ حيث قال : « إنّ الأئمة من قريش في هذا البطن من هاشم لا تصلح على سواهم ولا يصلح الولاة من غيرهم ».

أمّا ثانياً : لو فرضنا أنّ القرائن اللفظية انعدمت لكنّ العقل هو الحاكم هنا ، وهو الذي يخصّص هذا العموم. قال الآمدي في الإحكام ٢ : ٣٣٩ : « مذهب الجمهور من العلماء جواز تخصيص العموم بالدليل العقلي ... ودليل ذلك قوله تعالى : ( اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيء ) متناول بعموم لفظه لغة كلّ شيء مع أنّ ذاته وصفاته أشياء حقيقة وليس خالقاً لها ... وكذلك قوله : ( وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ... ) فإنّ الصبي والمجنون من الناس حقيقة ، وهما غير مرادين من العموم ، بدلالة نظر العقل على امتناع تكليف من لا يفهم ». فما نحن فيه من هذا القبيل ، أي نتصرّف

١٠٦

__________________

عن عموم اللفظ في الحديث بدلالة نظر العقل على امتناع تولّي من لا أهلية له بهذا المنصب ؛ لأنّ الإمامة تلو النبوة واستمرار لها ولا ينالها إلاّ من كان بمرتبة النبيّ وبمنزلته علماً وورعاً وشجاعة وغيرها من الصفات ، فيخرج من العموم بضرورة العقل كلّ من لم يكن بمنزلة النبيّ في جميع صفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سوى نزول الوحي ، وإن كان قرشياً ، فلابدّ من أن يحمل هذا الحديث على الأئمة الاثني عشر من عترته ؛ لأنّهم كانوا أعلم أهل زمانهم وأجلّهم وأورعهم وأتقاهم وأعلاهم نسباً وأفضلهم حسباً وأكرمهم عند الله ، وكان علمهم متصلا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالوراثة واللّدنية.

ومن القرائن التي تشهد على أنّ المراد بالحديث هم أئمة أهل البيت عليهم‌السلام هو : إنّ الحديث صرّح بأنّ الدين عزيزاً ومنيعاً وأمر الناس قائماً ما وليهم هذا العدد ، وإذا رجعنا إلى خلفاء أهل السنّة نجدهم في اضطراب كامل في التوفيق بين متن الحديث ، وبين الواقع الخارجي ، حيث إنّ هناك أكثر من اثني عشر خليفة أوّلا ، وأنّ هؤلاء الخلفاء لم يكونوا عدولا وذلّ الدين في زمن بعضهم ، فلأجل ذلك اضطربوا في كيفية التوفيق بين متن الحديث وما جرى في الواقع الخارجي من تولي الخلافة الإسلامية من لا ينطبق عليه شيء من مواصفات الحديث ، قال ابن العربي في شرح سنن الترمذي : ( فعددنا بعد رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اثني عشر أميراً فوجدنا : أبا بكر وعمر ، وعثمان ، وعلياً ، والحسن ، ومعاوية ، يزيد ، معاوية بن يزيد ، مروان ، عبد الملك بن مروان ، الوليد ، سليمان ، عمر بن عبد العزيز ، يزيد بن عبد الملك ، مروان بن محمّد بن مروان ، السفاح ، فعد سبعاً وعشرين إلى عصره ـ ثمّ قال ـ : وإذا عددنا منهم اثني عشر انتهى العدد بالصورة إلى سليمان ، وإذا عددناهم بالمعنى كان معنا منهم خمسة : الخلفاء الأربعة وعمر بن العزيز ، ولم أعلم للحديث معنىً ) ٩ : ٦٨.

وقال جلال الدين السيوطي : ( وقد وجد من الاثني عشر : الخلفاء الأربعة ، والحسن ، ومعاوية ، وابن الزبير وعمر بن عبد العزيز ، هؤلاء ثمانية ، ويحتمل أن

١٠٧

وفي بعض الروايات « كلّهم من بني هاشم » (١).

وقد أثبتنا في الأبحاث السابقة من كتاب « مع الصادقين » وكتاب « فاسألوا أهل الذكر » بأنّ علماء السنّة أنفسهم أشاروا في صحاحهم ومسانيدهم إلى تلك الأحاديث الدّالة على إمامة الأئمة الاثني عشر وصحّحوها.

__________________

يضم اليهم المهتدي من العباسيين .. وبقي المنتظران أحدهما المهدي ، لأنه من آل بيت محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ). تاريخ الخلفاء : ١٢.

وقال ابن حجر في فتح الباري ١٣ : ١٨٢ : « قال ابن بطال عن الملهب : لم ألق أحداً يقطع في هذا الحديث يعني بشيء معيّن ؛ فقوم قالوا : يكونون بتوالي امارتهم ، وقوم قالوا : يكونون في زمن واحد كلّهم يدّعي الإمارة ، قال : والذي يغلب على الظنّ أنّه عليه الصلاة والسلام أخبر بأعاجيب تكون بعده من الفتن حتى يفترق الناس في وقت واحد .. أنّه أراد أنّهم يكونون في زمن واحد ).

ثمّ قال في ١٣ : ١٨٤ : ( وقيل : إنّ المراد وجود اثني عشر خليفة في جميع مدّة الإسلام إلى يوم القيامة يعملون بالحقّ وإن تتوالى أيامهم ... ).

فالملاحظ من الكلام في تفسير معنى الحديث الاضطراب والتفاوت الشاسع بين التمحلات والتأويلات المذكورة ، نتيجة المفارقة الكبيرة بين متن الحديث المتضمن لعزة الدين ومنعته وقوته في زمن هؤلاء الخلفاء ، وبين ما وقع خارجاً حيث كان المستولي على الخلافة الإسلامية في أغلب الأحيان متهتك بالدين ، ومذل للمؤمنين وللنفس المحترمة وغيرها كمعاوية ويزيد ومروان الذي بوجودهم وقع الدين في ذلّة ، والمسلمين في تقهقر عقدي وشرعي فكيف يكون من هذا حاله مصداقاً للحديث « الأئمة الاثني عشر »؟!!

ومن هذا التوضيح المقتضب يتضح أنّ ما ذكره عثمان الخميس في كتاب كشف الجاني : ١٩٧ ناشئ من النصب الذي يحمله على أهل البيت عليهم‌السلام ، والنفس الأموية المشربة بدماء آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

١ ـ ينابيع المودة ٢ : ٣١٥ ح٩٠٨ عن مودّة القربى.

١٠٨

وإذا سأل سائل : لماذا تركوهم واقتدوا بغيرهم من ائمة المذاهب الأربعة ، إذا كانوا يعترفون بتلك الأحاديث ويُصحّحونها؟!

والجواب هو : إنّ « السلف الصالح » كلّهم من أنصار الخلفاء الثلاثة الذين ولّدتهم السقيفة ، أبو بكر وعمر وعثمان ، فكان نفورهم من أهل البيت وعداؤهم للإمام علي وأولاده لابدّ منه ، فعملوا كما قدّمنا على محق السنّة النبويّة وإبدالها باجتهاداتهم.

وسبب ذلك انقسام الأُمّة إلى فرقتين بعد وفاة الرسول مباشرة ، فكان « السلف الصالح » ومن تبعهم ورأى رأيهم يمثّلون « أهل السنّة والجماعة » ، وهم الأغلبية الساحقة في الأُمّة ، وكان الأقلية القليلة علي وشيعته الذين تخلّفوا عن البيعة ولم يقبلوا بها ، فأصبحوا من المنبوذين والمغضوب عليهم ، وأطلَقوا عليهم اسم الروافض.

وبما أنّ « أهل السنّة والجماعة » هم الذين تحكّموا بمصير الأُمّة عبر القرون ، فحكّام بني أُميّة كلّهم ، وحكّام بني العباس كلّهم هم أنصار وأتباع مدرسة الخلافة التي أسسها أبو بكر وعمر وعثمان ومعاوية (١) ويزيد.

ولمّا فشل أمر الخلافة وذهبت هيبتُها ، وأصبحت في أيدي المماليك والأعاجم ، وسُمح بتدوين السنّة النبويّة ، عند ذلك ظهرتْ تلكم الأحاديث التي عمل الأولون على طمسها وكتمانها ، ولم يقدروا فيما بعد على محوها

__________________

١ ـ لقد أغفلنا ذكر خلافة علي بن أبي طالب قصداً ، لأنّ « أهل السنّة والجماعة » لم يكونوا يعترفون بها ـ كما قدّمنا ـ إلاّ في زمن أحمد بن حنبل. راجع فصل « أهل السنّة لا يعرفون السنّة النبويّة » في صفحات سابقة من هذا الكتاب ( المؤلّف ).

١٠٩

وتكذيبها ، وبقيت تلك الأحاديث من الألغاز المحيرة عندهم ؛ لأنّها تخالف الأمر الواقع الذي آمنوا به.

وحاول بعضهم التوفيق بين تلك الأحاديث وما هم عليه من العقيدة ، فتظاهروا بمحبّة أهل البيت ومودّتهم ، فتراهم كلّما ذكروا الإمام علياً يقولون رضي الله عنه وكرّم الله وجهه ، حتى يتبين للناس بأنّهم ليسوا بأعداء لأهل البيت النبوي.

فلا يمكن لأيّ واحد من المسلمين حتى المنافقين منهم أنْ يظهِرَ عداءهُ لأهل البيت النبوي ؛ لأنّ أعداء أهل البيت هم أعداء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك يخرجهم من الإسلام كما لا يخفى.

والمفهوم من كلّ هذا بأنّهم في الحقيقة أعداء أهل البيت النبوي ، ونقصد بهؤلاء « السلف الصالح » الذين تسمّوا أو سمّاهم أنصارهم بـ « أهل السنّة والجماعة » ، والدليل أنّك تجدهم كلّهم يُقلدون المذاهب الأربعة الذين أوجدتهم السلطة الحاكمة ـ كما سنبيّنه عمّا قريب ـ وليس عندهم في أحكام الدين شيء يرجعون فيه لفقه أهل البيت ، أو لأحد الأئمة الاثني عشر.

والحقيقة تفرضُ بأنّ الشيعة الإمامية هم أهل السنّة المحمّدية ؛ لأنّهم تقيّدوا في كلّ أحكامهم الفقهية بأئمة أهل البيت ، الذين توارثوا السنّة الصحيحة عن جدهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم يدخلوا فيها الآراء والاجتهادات وأقوال العلماء.

وبقيَ الشيعة على مرّ العصور يتعبّدون بالنصوص ، ويرفضون الاجتهاد

١١٠

في مقابل النصّ ، كما يؤمنون بخلافة علي وبنيه ؛ لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصّ على ذلك ، فهم يسمّونهم خلفاء الرسول ، ولو لم يصل منهم إلى الخلافة الفعلية إلاّ علي ، ويرفضون ولا يعترفون بالحكّام الذين تداولوا الخلافة من أولها إلى آخرها ؛ لأنّ أساسها كان فلتةً وقى الله شرّها ، ولأنّها قامت رفضاً وردّاً على الله ورسوله ، وكلّ الذين جاؤوا بعدها هم عيال عليها ، فلم يقم خليفة إلاّ بتعيين السابق له ، أو بالقتال والتغلّب والقهر (١).

ولذلك اضطرّ « أهل السنّة والجماعة » للقول بإمامة البرّ والفاجر ، لأنّهم قبِلوا بخلافة كلّ الحكّام حتى الفاسقين منهم.

وامتاز الشيعة الإمامية بالقول بوجوب عصمة الإمام ، فلا تصحّ الإمامة الكبرى وقيادة الأُمّة إلاّ للإمام المعصوم ، وليس في هذه الأُمّة بشر معصوم إلاّ الذين أذهب الله عنهم الرِّجس وطهرهم تطهيراً.

__________________

١ ـ يُستثنى من ذلك فقط خلافة علي بن أبي طالب ، فهو الوحيد الذي لم يتعيّن من قِبَل الذي سبقه ، ولم يتسلّط عليها بالقهر والقوّة ، بل بايعه المسلمون بكل حرّية وطواعية ، بل ودعوه إليها بإصرار ( المؤلّف ).

١١١
١١٢

التعريف بأئمّة « أهل السنّة والجماعة »

وقد انقطع « أهل السنّة والجماعة » إلى الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المعروفة ، وهم : أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل.

وهؤلاء الأئمة الأربعة لم يكونوا من صحابة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا من التابعين ، فلا يعرفهم رسول الله ولا يعرفونه ، ولم يرَهم ولم يرونه ، فأكبرهم سناً أبو حنيفة بينه وبين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكثر من مائة عام ؛ لأنّ مولده كان في سنة ثمانين للهجرة ووفاتة سنة خمسين ومائة ، أمّا أصغرهم أحمد بن حنبل ، فكان مولده سنة خمس وستين ومائة وكانت وفاته سنة إحدى وأربعين ومائتين ، هذا بالنسبة لفروع الدين.

أمّا بالنسبة لأُصول الدين فـ « أهل السنّة والجماعة » يرجعون للإمام أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري ، الذي وُلد سنة سبعين ومائتين وتوفّي سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة.

فهؤلاء هم أئمة « أهل السنّة والجماعة » ، والذين ينقطعون إليهم في أُصول الدين وفروعه.

فهل ترى فيهم واحداً من أئمة أهل البيت ، أو من أصحاب الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، أو تكلّم رسول الله عن واحد منهم ، وأرشد الأُمّة إليه؟؟

كلاّ لا يوجد شيء من ذلك ، ودونه خرط القتاد.

وإذا كان « أهل السنّة والجماعة » يدعون التمسّك بالسنّة النبويّة ، فلماذا

١١٣

تأخّرت تلك المذاهب إلى ذلك العهد؟ وأين كان « أهل السنّة والجماعة » قبل وجود تلك المذاهب؟ وبماذا كانوا يتعبّدون؟ وإلى من كانوا يرجعون؟

ثمّ كيف ينقطعون إلى رجال لم يعاصروا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا عرفوه ، وإنّما ولدوا بعدما وقعت الفتنة ، وبعدما تحارب الصحابة وقتل بعضهم بعضاً ، وكفّر بعضهم بعضاً (١) ، وبعدما تصرف الخلفاء في القرآن والسنّة ، واجتهدوا فيهما بآرائهم.

__________________

١ ـ كما حكموا بارتداد مالك بن نويرة فقتلوه ، مع أنّ أبا قتادة وعمر بن الخطّاب كانا من المعترضين ، وكما كفّرت عائشة عثمان حيث قالت : « اقتلوا نعثلا فقد كفر » ( تاريخ الطبري ٣ : ٤٧٧ ، السيرة الحلبية ٣ : ٤٠٢ ، الفتوح لابن الأعثم الكوفي ١ : ٧٩ ) وفي شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٣ : ٥٠ عن عمّار قال : « ثلاثة يشهدون على عثمان بالكفر وأنا الرابع ... » ، وقال الذهبي في مقدّمة رسالته ( في الرواة الثقات المتكلّم فيهم بما لا يوجب ردهم ص ٣ ـ ٢١ ) : « وما زال يمرّ بالرجل الثبت وفيه مقال من لا يعبأ به ، ولو فتحنا هذا الباب على نفوسنا لدخل فيه عدّة من الصحابة والتابعين والأئمة ، فبعض الصحابة كفّر بعضهم بتأويل ما .. » نقلا عن كتاب فتح الملك العلي بصحة حديث باب مدينة العلم علي لأحمد بن الصديق الغماري ص١٤٧.

وقال ابن تيميّة : « وأمّا علي فأبغضه وسبّه أو كفرّه الخوارج وكثير من بني أُميّة وشيعتهم الذين قاتلوه وسبّوه ..

وأمّا شيعة علي الذين شايعوه بعد التحكيم ، وشيعة معاوية التي شايعته بعد التحكيم ، فكان بينهما من التقابل ، وتلاعن بعضهم البعض وتكافر بعضهم ما كان .. » مجموعة الفتاوى ٤ : ٢٦٧.

ومن الواضح أنّ شيعة علي أغلبها من الصحابة الأنصار ، وشيعة معاوية من الصحابة الطلقاء ، وهؤلاء ـ كما صرح ابن تيميّة ـ وقع بينهما التقاتل وتكفير بعضهم البعض.

فما ذكره صاحب كتاب كشف الجاني : ١٧٠ من تكذيب المؤلّف بتكفير الصحابة

١١٤

وبعدما استولى يزيد بن معاوية على الخلافة استباح لجيشه مدينة الرسول المنورة ، يفعل فيها ما يشاء ، فعاث جيشه فيها فساداً ، وقتل خيار الصحابة الذين لم يبايعوه ، واستبيحتْ الفروج ، وانتهكت المحارم ، وحبلت النساء من سفاح.

فكيف يركن العاقل إلى أُولئك الأئمة الذين هم من تلك الطبقة البشرية التي تدنست بأوحال الفتنة وتغذّت بألبانها المتلونة ، وشبّتْ وترعرعت على أساليبها الماكرة الخداعة ، وقلدتها أوسمة العلم المزيفة ، فلم يبرز للوجود منهم إلاّ الذين رضيت عنهم الدولة ورضوا عنها (١)؟!!

كيف يترك ـ من يدّعي التمسك بالسنة ـ الإمام علي باب مدينة العلم ، والإمام الحسن ، والإمام الحسين سيدا شباب أهل الجنّة ، والأئمة الطاهرين من عترة النبيّ الذين ورثوا علوم جدهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويتبع أئمة لا علم لهم بالسنة النبويّة ، بل هم صنيعة السياسة الأموية؟!

كيف يدعي « أهل السنّة والجماعة » بأنّهم أتباع السنّة النبويّة وهم يهملون القيّمين عليها؟ بل كيف يتركون وصايا النبيّ وأوامره بالتمسك بالعترة الطاهرة ، ثمّ يدّعون أنّهم أهل السنّة؟!

وهل يشكّ مسلم عرف التاريخ الإسلامي ، وعرف القرآن والسنّة بأن « أهل السنّة والجماعة » هم أتباع الأمويين والعباسيين؟

__________________

بعضهم البعض عار على الصحّة ، وناشيء من الجهل وقلّة الاطّلاع والتسرّع في تكذيب الآخرين.

١ ـ سيأتي في الأبحاث القادمة بأنّ الحكّام الأمويين والعبّاسيين هم الذين أوجدوا تلك المذاهب وفرضوها ( المؤلّف ).

١١٥

وهل يشك مسلم عرف القرآن والسنّة ، وعرف التاريخ الإسلامي بأنّ الشيعة الذين يقلّدون عترة النبيّ ويوالونهم هم أتباع السنّة النبويّة ، وليس لأحد غيرهم أن يدّعيها؟

أرأيت أيّها القارئ العزيز كيف تقلب السياسة الأُمور ، وتجعل من الباطل حقّاً ومن الحقّ باطلا! فإذا بالموالين للنبي وعترته تُسمّيهم بالروافض وبأهل البدع ، وإذا بأهل البدع الذين نبذوا سنّة النبيّ وعترته ، واتبعوا اجتهاد الحكّام الجائرين تسميهم « أهل السنّة والجماعة »! إنّه حقّاً أمر عجيب!

أمّا أنا فأعتقد جزماً بأنّ قريش هي وراء هذه التسمية ، وهو سرّ من أسرارها ، ولغز من ألغازها.

وقد عرفنا في ما سبق بأنّ قريشاً هي التي نهت عبد الله بن عمرو عن كتابة السنّة النبويّة بدعوى أنّ النبيّ غير معصوم.

فقريش هي في الحقيقة أشخاص معيّنون ، لهم نفوذ وعصبية وقوّة معنوية في أوساط القبائل العربية ، وقد يُسميهم بعض المؤرّخين بـ « دهاة العرب » ؛ لما اشتهروا به من المكر والدهاء والتفوّق في إدارة الأُمور ، ويسمّيهم البعض بـ « أهل الحلّ والعقد ».

ومن هؤلاء أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وأبو سفيان ، ومعاوية ابنه ، وعمرو ابن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، ومروان بن الحكم ، وطلحة بن عبد الله ، وعبد الرحمان بن عوف ، وأبو عبيدة عامر بن الجراح وغيرهم (١).

__________________

١ ـ لقد استثنينا من هؤلاء الإمام علياً عليه‌السلام لأنه يُفرِّقُ بين دهاء الحكمة وحُسن التدبير وبين دهاء الخداع والغش والنفاق ، وقد قال غير مرّة : « لولا الغشّ والنفاقُ لكنتْ أدهى العرب » كما جاء في القرآن قوله : ( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) فمكر الله هو الحكمة وحسن التدبير ، أمّا مكر المشركين فهو غش ونفاق وخداع وزور وبهتان ( المؤلّف ).

١١٦

وقد يجتمع هؤلاء للتشاور وتقرير أمر يتفقون عليه ، فيبرمون أمرهم ويفشونه في الناس ليصبح فيما بعد أمراً واقعاً وحقيقة متّبعة ، دون أن يعرف سائر الناس سرّ ذلك.

ومن هذا المكر الذي مكروه قولهم بأنّ محمّداً غير معصوم ، وهو كسائر البشر يجوز عليه الخطأ ، فينتقصونه ويجادلونه في الحقّ وهم يعلمون.

ومنها : شتمهم لعلي بن أبي طالب ، ولعنهم إيّاه باسم أبي تراب ، وتصويره للناس بأنّه عدوّ لله ولرسوله.

ومنها : شتمهم ولعنهم للصحابي الجليل عمّار بن ياسر تحت اسم مستعار فسموه عبد الله بن سبأ أو ابن السوداء ؛ لأنّ عمّاراً كان ضدّ الخلفاء ، وكان يدعو الناس لإمامة علي بن أبي طالب (١).

ومنها : تسمية الشيعة الذين والوا عليّاً بـ ( الروافض ) كي يموّهوا على الناس بأنّ هؤلاء رفضوا محمّداً واتبعوا عليّاً.

__________________

١ ـ يراجع في ذلك كتاب « الصلة بين التصوّف والتشيّع » للدكتور مصطفى كامل الشيبي المصري ، والذي بيّن فيه بعشرة أدلّة قوية بأنّ عبد الله بن سبأ اليهودي أو ابن السوداء ليس إلاّ سيّدنا عمّار بن ياسر ( رضوان الله تعالى عليه ) ( المؤلّف ).

وفي تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٧١ إنّ عثمان قال لعمّار : « ويلي على ابن السوداء ».

وفي العقد الفريد لابن عبد البر ٤ : ٣١٨ : « فقال معاوية لعمرو بن العاص : يا عمرو ، هذا المرقال واللّه لئن زحف بالراية زحفاً ، إنّه ليوم أهل الشام الأطول ، ولكن أرى ابن السوداء ـ يعني عمّاراً ـ وفيه عجلة في الحرب ، وأرجو أن تقدمه إلى الهلكة ». ومثله في جواهر المطالب لابن الدمشقي الشافعي : ١٤٠.

١١٧

ومنها : تسمية أنفسهم بـ « أهل السنّة والجماعة » حتى يُموّهوا على المؤمنين المخلصين بأنّهم يتمسّكون بسنّة النبيّ مقابل الروافض الذين يرفضونها.

وفي الحقيقة هم يقصدون بـ « السنّة » البدعة المشؤومة التي ابتدعوها في سبّ ولعن أمير المؤمنين وأهل بيت النبيّ على المنابر في كلّ مسجد من مساجد المسلمين ، وفي كلّ البلدان والمدن والقرى ، فدامت تلك البدعة ثمانين عاماً ، حتى كان خطيبهم إذا نزل للصلاة قبل أن يلعن علي بن أبي طالب صاح به من في المسجد : « تركت السنّة ، تركت السنّة »!!

ولما أراد الخليفة عمر بن عبد العزيز إبدال هذه السنّة بقوله تعالى :

( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي القُرْبى ... ) (١) تآمروا عليه وقتلوه ؛ لأنّه أمات سنّتهم ، وسفّه بذلك أقوال أسلافه الذين أوصلوه للخلافة ، فقتلوه بالسمّ وهو ابن ثمانية وثلاثين سنة ، ولم تطل خلافته غير سنتين ، وذهب ضحية الإصلاح ؛ لأنّ بني عمومته الأمويين لم يقبلوا أن يُميتَ سنّتهم ، ويرفع بذلك شأن أبي تراب والأئمة من ولده.

وبعد سقوط الدولة الأموية جاء العبّاسيون ، فنكّلوا بدورهم بأئمة أهل البيت وشيعتهم ، إلى أن جاء دور الخليفة جعفر بن المعتصم الملقّب « بالمتوكّل » فكان من أشدّ الناس عداوةً لعلي وأولاده (٢) ، ووصل به البغض

__________________

١ ـ النحل : ٩٠.

٢ ـ قال الذهبي في سير أعلام النبلاء ١٢ : ١٨ : ( وكان في المتوكّل نصب نسأل اللّه العافية ).

١١٨

والحقد إلى نبش قبر الحسين في كربلاء ومنع الناس من زيارته (١) ، وكان لايعطي عطاءً ولا يبذل مالا إلاّ لمن شتم عليّاً وولده.

وقصّة المتوكّل مع ابن السكّيت العالم النحوي المشهور معروفة ، وقد قتله شرّ قتلة ، فاستخرج لسانه من قفاه عندما اكتشف بأنّه يتشيّع لعلي وأهل

__________________

وقال ابن كثير في البداية والنهاية ١١ : ٩٦ : ( وكان شديد التحامل على عليّ وولده ).

وقال الشيخ محمّد الخضري في كتابه الدولة العباسية : ٢٢٣ : ( امتاز المتوكّل عن سائر أهل بيته بكراهة علي بن أبي طالب وأهل بيته ، وهذا ما يعرف في العقائد بالنصب ، وهو ضدّ التشيّع ، وكان يقصد من يبلغه عنه أنّه يتولى عليّاً وأهله بأخذ المال والدم ، وكان ينادمه ويجالسه جماعة اشتهروا بالنصب وبغض علي ).

وقال ابن الأثير في الكامل ٧ : ٥٥ : ( وكان المتوكّل شديد البغض لعلي بن أبي طالب عليه‌السلام ولأهل بيته ، وكان يقصد من يبلغه عنه أنّه يتولى عليّاً وأهله بأخذ المال والدم ... ).

١ ـ وإذا كان الخليفة يصل إلى هذه الدّرجة من الخسّة والانحطاط ، فينبش قبور الأئمة من أهل البيت ، وبالخصوص قبر سيّد شباب أهل الجنّة ، فلا تسأل بعدها عمّا فعلوه في الشيعة الذين كانوا يتبرّكون بزيارة قبره ، فقد وصل شيعة أهل البيت إلى أقصى المعاناة والمحن حتى يتمنّى المسلم أن يتّهموه بأنّه يهودي ولا يتّهموه بالتشيّع ، فلا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم ( المؤلّف ).

قال الذهبي في سير أعلام النبلاء ١٢ : ٣٥ : ( في سنة ستّ وثلاثين هدم المتوكّل قبر الحسين فقال البسامي أبياتاً منها :

أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا

في قتله فتتبّعوه رميماً

وكان المتوكّل في نصب وانحراف ، فهدم هذا المكان وما حوله من الدور ، وأمر أن يزرع ، ومنع الناس من اتيانه ) ، وارجع أيضاً إلى : الكامل لابن الأثير ٧ : ٥٥ ، البداية والنهاية لابن كثير ١١ : ٩٦ ، تاريخ الطبري ٩ : ١٨٥ حوادث سنة ٢٣٦ ، تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٤٧ ، تاريخ أبي الفداء ١ : ٣٥١.

١١٩

بيته في حين أنّه كان أستاذاً لولديه (١).

وبلغ حقد المتوكّل ونصبه أن أمر بقتل كلّ مولود يُسمّيه أبواه باسم علي ؛ لأنّه أبغض الأسماء إليه ، حتى إنّ علي بن الجهم الشاعر لمّا تقابل مع المتوكّل قال له : يا أمير المؤمنين إن أهلي عقوني ، قال المتوكّل : لماذا؟ قال : لأنّهم سمّوني علياً ، وأنا أكره هذا الاسم وأكره من يتسمّى به ، فضحك المتوكّل وأمر له بجائزة (٢).

وكان يقيمُ في مجلسه رجلا يتشبّه بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، فيضحك الناس عليه ويقولون : قد أقبل الأصلع البطين ، فيسخر منه أهل المجلس ويتسلّى بذلك الخليفة (٣).

ولا يفوتنا هنا أن نلاحظ بأنّ المتوكّل هذا ، والذي دلّ بغضهُ لعليّ على نفاقه وفسقه ، يُحبُه أهل الحديث وقد لقبوه بـ « محيي السنّة ».

وبما أنّ أهل الحديث هم أنفسهم « أهل السنّة والجماعة » فثبت بالدليل الذي لا ريب فيه أن « السنّة » المقصودة عندهم هي بغض علي بن أبي طالب

__________________

١ ـ وفيات الأعيان لابن خلّكان ٥ : ٣٣٩ ، النجوم الزاهرة ٢ : ٣١٨ ، سير أعلام النبلاء ، الذهبي ١٢ : ١٨.

٢ ـ ورد في لسان الميزان ٤ : ٢١٠ في ترجمة (٥٥٨) علي بن الجهم السلمي : « وأما علي بن الجهم بن بدر بن محمّد بن مسعود بن أسد بن ادينه الساجي الشاعر في أيام المتوكّل فكان مشهوراً بالنصب ، كثير الحطّ على علي وأهل بيته ، وقيل : إنّه كان يلعن أباه لم سماه علياً .. ».

٣ ـ تاريخ أبي الفداء ١ : ٣٥١ ، الكامل لابن الأثير ٧ : ٥٥.

١٢٠