الشيعة هم أهل السنّة

الدكتور محمّد التيجاني السماوي

الشيعة هم أهل السنّة

المؤلف:

الدكتور محمّد التيجاني السماوي


المحقق: مركز الأبحاث العقائديّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-20-X
الصفحات: ٥٢٢

وهذه الرسالة التي كتبها محمّد بن أبي بكر فيها حقائق دامغة لكلّ باحث عن الحقيقة ، فهي تصف معاوية بأنّه ضالّ مضلّ ، وأنّه لعين ابن لعين ، وأنّه يعمل كلّ ما في وسعه لإطفاء نور الله ، ويبذل الأموال لتحريف الدين ، ويبغي لدين الله الغوائل ، وأنّه عدوّ لله ولرسوله ، ويعمل بالباطل بإعانة عمرو بن العاص.

كما وأنّ الرسالة تكشف عن فضائل ومزايا عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام التي لم يسبقه إليها سابق ، ولا يلحقه إليها لاحق.

والحقّ أنّ لعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام من الفضائل والمزايا أكثر ممّا عدّده محمّد بن أبي بكر بكثير ، ولكنّ الذي يهمّنا في هذا الباب هو ردّ معاوية بن أبي سفيان على هذه الرسالة ، لتعرف أيّها الباحث عن الحقيقة خفايا ودسائس التاريخ ، وتكتشف من خلالها خيوط المؤامرة التي أبعدت الخلافة عن صاحبها الشرعي ، وتسبّبت في انحراف الأُمّة ، فإليك الردّ :

٤٢١
٤٢٢

ردّ معاوية على محمّد بن أبي بكر

من معاوية بن صخر إلى الزاري على أبيه محمّد بن أبي بكر.

سلام على أهل طاعة الله.

أما بعد :

فقد أتاني كتابك ، تذكر فيه ما الله أهله في عظمته وقدرته وسلطانه ، وما أصفى به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مع كلام كثير ألَّفته ووضعته لرأيك فيه تضعيف ، ولأبيك فيه تعنيف.

ذكرك فيه فضل ابن أبي طالب ، وقديم سوابقه وقرابته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونصرته له ومواساته إياه في كلّ هول وخوف ، فكان احتجاجك عليَّ وفخرك بفضل غيرك لا بفضلك ، فأحمد رباً صرف هذا الفضل عنك وجعله لغيرك.

فقد كنّا وأبوك معنا في حياة نبينا نعرف حقّ ابن أبي طالب لازماً لنا ، وفضله مبرزاً علينا ، فلمّا اختار الله لنبيّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ما عنده ، وأتمّ له ما وعده ، وأظهر دعوته ، وأفلج حجّته ، وقبضه الله إليه ـ صلوات الله عليه ـ ؛ كان أبوك وفاروقه أوّل من ابتزّه حقّه وخالفه على أمره ، على ذلك اتفقا واتسقا.

ثمّ إنّهما دعواه إلى بيعتهما فأبطأ عنهما وتلكّأ عليهما ، فهما به الهموم ، وأرادا به العظيم ، ثمّ إنّه بايعهما وسلم لهما ، وأقاما لا يشركانه في أمرهما ،

٤٢٣

ولا يطلعانه على سرّهما ، حتى قبضهما الله ، وانقضى أمرهما ، ثمّ قام ثالثهما عثمان فهدى بهديهما وسار بسيرتهما ، فعبته أنت وصاحبك حتى طمع فيه الأقاصي من أهل المعاصي ، فطلبتما له الغوائل حتى بلغتما فيه مناكما.

فخذ حذرك يا بن أبي بكر ، فسترى وبال أمرك ، وقس شبرك بفترك تقصر عن أن توازي أو تساوي من يزن الجبال حلمُهُ ، ولا تلين على قسر قناته ، ولا يدرك ذو مدى أناته.

أبوك مهَّد له مهاده ، وبنى ملكه وشاده ، فإن يك ما نحن فيه صواباً فأبوك أوله ، وإن يكن جوراً فأبوك استبدّ به ونحن شركاؤه ، فبهديه أخذنا وبفعله اقتدينا ، ولولا ما فعل أبوك من قبل ما خالفنا ابن أبي طالب ، ولسلّمنا إليه ، ولكنا رأينا أباك فعل ذلك به من قبلنا ، فاحتذينا مثاله ، واقتدينا بفعاله ، فعبْ أباك بما بدالك أو دع ، والسلام على من أناب ورجع من غوايته وتاب (١).

* * *

ونستنتج من هذا الردّ بأنّ معاوية لا ينكر فضائل علي بن أبي طالب ومزاياه ، ولكنّه تجرّأ عليه احتذاء بأبي بكر وعمر ، ولولاهما لما استصغر شأن عليّ عليه‌السلام ، ولا تقدّم عليه أحد من الناس ، كما يعترف معاوية بأنّ أبا بكر هو الذي مهَّد لبني أُميّة ، وهو الذي بنى ملكهم وشاده.

ونفهم من هذه الرسالة بأنّ معاوية لم يقتدِ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم يهتدِ بهديه ، عندما اعترف بأنّ عثمان هدى بهدي أبي بكر وعمر وسار بسيرتهما.

__________________

١ ـ مروج الذهب للمسعودي ٣ : ١٢ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٣ : ١٨٩ ، أنساب الأشراف : ٣٩٦.

٤٢٤

وبذلك يتبيّن لنا بوضوح بأنّهم جميعاً تركوا سنّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واقتدى بعضهم ببدعة بعض ، كما أنّ معاوية لم ينكر بأنّه من الضالين الذين يعملون بالباطل ، وأنّه لعين ابن لعين على لسان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولتعميم الفائدة لا بأس بذكر الرسالة التي ردَّ بها يزيد بن معاوية على ابن عمر ، وهي على اختصارها ترمي نفس المرمى.

فقد أخرج البلاذري في تاريخه قال :

لمّا قتل الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهما‌السلام ، كتب عبد الله بن عمر رسالة الى يزيد بن معاوية جاء فيها :

أمّا بعد ، فقد عظمت الرزّية ، وجلَّت المصيبة ، وحدث في الإسلام حدث عظيم ، ولا يوم كيوم قتل الحسين.

فكتب إليه يزيد :

أمّا بعد ، يا أحمق ، فإنّا جئنا إلى بيوت منجدة ، وفرش ممهدة ، ووسائد منضدة ، فقاتلنا عنها. فإن يكن الحقّ لنا فعن حقّنا قاتلنا ، وإن كان الحقّ لغيرنا فأبوك أوّل من سنَّ هذا ، واستأثر بالحقّ عليه أهله (١).

* * *

وفي ردّ معاوية على ابن أبي بكر ، كما في رد يزيد على ابن عمر ، نجد نفس المنطق ونفس الاحتجاج ، وهو لعمري أمر ضروري يقرّه الوجدان ، ويدركه كلّ عاقل ، ولا يحتاج في الحقيقة إلى شهادة معاوية وابنه يزيد.

فلولا استبداد أبي بكر وعمر على عليّ ، لما وقع ما وقع في الأُمّة

__________________

١ ـ بحار الأنوار ٤٥ : ٣٢٨ عن البلاذري.

٤٢٥

الإسلاميّة ، ولو تمكَّن علي من الخلافة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحكم المسلمين ، لتواصلت خلافته إلى سنة أربعين للهجرة أعني ثلاثون عاماً بعد النبيّ (١) ، وهي مدّة كافية لإرساء قواعد الإسلام بكلّ أُصوله وفروعه ، ولتمكَّن عليه‌السلام من تطبيق كتاب الله وسنّة رسوله بدون تحريف ولا تأويل.

ولو وليها بعد وفاته سيّدا شباب أهل الجنّة الإمام الحسن والإمام الحسين ، وأولادهم المعصومين بقية الأئمة عليهم‌السلام ، لتواصلت خلافة الراشدين ثلاثة قرون ، ولم يكن بعدها للكافرين والمنافقين والملحدين تأثير ولا وجود ، ولكانت الأرض غير الأرض والعباد غير العباد ، فلا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم.

يبقي هناك دائماً اعتراض من بعض « أهل السنّة والجماعة » على هذا الاحتمال وذلك من وجهين :

الأوّل : إنّهم يقولون بأنّ ما وقع هو الذي اختاره الله وأراده ، ولو أراد الله أن يقود المسلمين عليّ والأئمة من ولده عليهم‌السلام لكان ذلك ، وهم يردّدون دائماً « الخير فيما اختاره الله ».

الثاني : إنّهم يقولون : لو تولّى علي الخلافة مباشرة بعد النبيّ ، وأعقبه الحسن والحسين لأصبحت الخلافة وراثية يرثها الأبناء على الأباء ، وهذا لا يقرّه الإسلام الذي ترك الأمر شورى بين الناس.

وإجابة على ذلك ولرفع الالتباس نقول :

أوّلا : ليس هناك دليل واحد على أنّ ما وقع هو الذي اختاره الله وأراده ،

__________________

١ ـ لأنّ أبا بكر وعثمان توفّوا في حياة الإمام علي ( المؤلّف ).

٤٢٦

بل الأدلّة على عكسه ثابتة في الكتاب والسنّة ، فمن الكتاب مثلا قوله تعالى : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكات مِنَ السَّماءِ وَالأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) (١).

وكذلك قوله تعالى : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأكَلُواْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ) (٢).

وكذلك قوله تعالى : ( مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِراً عَلِيماً ) (٣).

وقوله : ( إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْم حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) (٤).

وكلّ هذه الآيات البيّنات تفيد بأنّ الانحراف سواء كان على مستوى الأفراد أو الجماعات أو الأُمم ، هو من عند أنفسهم وليس من عند الله.

ومن السنّة النبويّة مثلا : قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « تركت فيكم كتاب الله وعترتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً » ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « هلم أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً » ، وقوله : « ستفترق أُمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة كلّها في النار إلاّ واحدة ». وكلّ هذه الأحاديث الشريفة تفيد بأنّ ضلالة الأُمّة كانت بسبب انحراف الأُمّة ، وعدم قبولها لما اختاره الله لها.

ثانياً : هب إنّ الخلافة الإسلامية كانت بالوراثة ، فليست هي الوراثة التي

__________________

١ ـ الأعراف : ٩٦.

٢ ـ المائدة : ٦٦.

٣ ـ النساء : ١٤٧.

٤ ـ الرعد : ١١.

٤٢٧

يفهمونها بأن يستبد الحاكم على رعيّته ، فيولي عليهم ابنه قبل وفاته ويسمّيه ولي العهد ، ولو كان الوالد والولد فاسقين ، بل هي وراثة إلهية من اختيار ربِّ العالمين الذي لا يعزب عن علمه مثقال حبّة من خردل ، والتي تخصّ نخبة صالحة اصطفاها الله وأورثها الكتاب والحكمة لتكون للناس أئمة ، فقال : ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ) (١).

مع أنّ قولهم بأنّ الإسلام لا يقرّ الوراثة وإنّما ترك الأمر شورى ، هو مغالطة لا يقرّها الواقع والتاريخ ، فقد وقعوا بالضبط في النظام الوارثي الممقوت ، ولم يتولّ على الأُمّة بعد علي عليه‌السلام إلاّ الظالمين الغاصبين الذين أورثوها لأبنائهم الفسقة رغم أنف الأُمّة.

فأيّهما الأفضل أن يتوارثها الفساق الذين يحكمون بأهوائهم ولا يخضعون إلاّ لشهواتهم؟ أو يتوارثها الأئمة الطاهرين الذين اصطفاهم الله وأذهب عنهم الرجس ، وأورثهم علم الكتاب ليحكموا بين الناس بالحق ، ويهدوهم سواء السبيل ، ويدخلوهم جنات النعيم ، من باب قول الله : ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ ) (٢)؟

وما أظنّ العاقل يختار إلاّ الثاني إن كان من المسلمين! وما دمنا الآن نقول بالأمر الواقع ولا يفيدنا التحسّر على ما فات ، فلنعد إلى الموضوع فنقول :

__________________

١ ـ الأنبياء : ٧٣.

٢ ـ النمل : ١٦.

٤٢٨

ولمّا دفع أبو بكر وعمر أمير المؤمنين عن منصبه في الخلافة وتقمصاها ، وصغَّرا بذلك شأن عليّ وفاطمة وأهل البيت عليهم‌السلام وأهانوهم ، عند ذلك سهل الأمر على معاوية ويزيد وعبد الملك بن مروان وأضرابهم أن يفعلوا ما فعلوه.

ولولا أنّهما مهَّدا لمعاوية ، ومكَّنا له في البلاد حتى بقي والياً في الشام وحدها أكثر من عشرين عاماً ولم يعزل أبداً ، ونال معاوية هيبة ، وأوطأ رقاب الناس حتى دانوا له بكلّ ما يريد ، ثمّ جعل الخلافة لابنه من بعده الذي وجد ـ كما صرّح بنفسه ـ بيوتاً منجدة ، وفرشاً ممهدة ، ووسائد منضدة ، فمن الطبيعي أن يقاتل من أجلها ، وأن يقتل ريحانة النبيّ ولا يبالي ، فقد رضع بغض أهل البيت في حليب أُمّه ميسون ، وترعرع في حجر أبيه على سبهم ولعنهم ، فلا غرابة أن يصدر منه الذي صدر أو أكثر من ذلك.

وقد اعترف بعض الشعراء بهذه الحقيقة إذ يقول :

لولا حدودٌ صوارم

أمضى مضاربها الخليفة

لنشرت من أسرار آل

محمّد جملا ظريفة

وأريتكم أنّ الحسين

أُصيب يوم السقيفة

ويفهم الباحث المتتبّع بأنّ دولة بني أُميّة كلّها قامت بفضل أبي بكر وعمر ، وكذلك دولة بني العباس وغيرها من الدول ، ولذلك نجد هؤلاء قد بذلوا كلّ ما في وسعهم للتنويه بأبي بكر وعمر ، وخلق الفضائل لهم وإثبات أحقيتهم في الخلافة ، لأنّهم أدركوا بأنّ شرعيّتهم في الخلافة لا تتمّ إلاّ بتصحيح خلافتهما والقول بعدالتهما.

٤٢٩

وفي المقابل نراهم جميعاً فعلوا بأهل البيت الأفاعيل لا لشيء إلاّ لأنّهم أصحاب الخلافة الشرعية ، وهم وحدهم الذين يهددون كيانهم ودولتهم.

وهذا بديهي عند العقلاء الذين عرفوا الحقّ ، وأنت ترى إلى يومنا هذا أنّ بعض الدول الإسلاميّة يحكمها ملوك ليس لهم من الفضل أو الفضيلة شيء ، سوى أنّهم أولاد ملوك وسلاطين وأُمراء ، كما كان يزيد أميراً لأنّ والده معاوية كان ملكاً وملك الأُمّة بالقوّة والقهر.

فلا يعقل أن يحبّ ملوك السعودية وأُمراؤها أهل البيت ومن تشيّع لهم.

كما لا يعقل أن يبغض ملوك السعودية وأُمراؤهم معاوية ويزيد ، وما سنّ لهم دستور ولاية العهد غيرهما ، وبدستور معاوية ويزيد وكلّ أُمراء بني أُميّة وبني العباس يستمدّ الملوك المعاصرون شرعيّتهم وبقاءهم.

ومن هنا أيضاً جاء تقديس الخلفاء الثلاثة ، وتفضيلهم والقول بعدالتهم والدفاع عنهم ، وعدم السماح بنقدهم أو التكلّم فيهم ؛ لأنّهم أساس كلّ الحكومات التي وجدت وستوجد من يوم السقيفة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

ويفهم على هذا الأساس أيضاً لماذا اختاروا لأنفسهم اسم « أهل السنّة والجماعة » ، ولغيرهم اسم الروافض أو الزنادقة ؛ لأنّ عليّاً وأهل بيته عليهم‌السلام وشيعته رفضوا خلافتهم ولم يبايعوهم ، واحتجوا عليهم في كلّ مناسبة ، فعمل الحكّام على انتقاصهم ، وتصغير شأنهم وتحقيرهم ، وسبهم ولعنهم ، وقتلهم وتشريدهم.

وإذا لقي أهل البيت ـ الذين تعلّق أجر الرسالة في القرآن بمودّتهم ـ هذه

٤٣٠

الإهانة وهذا التقتيل ، فلا غرابة أن يلاقي شيعتهم ومن والاهم واهتدى بهديهم كلّ تنكيل وتوهين ، وتحقير وتكفير ، ويصبح المحقّ هو المنبوذ المعادي المتروك ، ويصبح المبطل هو القدوة والسيّد المحترم الذي تجب طاعته.

فالذي والى عليّاً وشايعه هو صاحب بدعة وفتنة ، والذي والى معاوية وشايعه هو صاحب سنّة وجماعة.

والحمدُ لله الذي وهبنا من العقل ما نميّز به الحقّ من الباطل ، والنور من الظلمات ، والأبيض من الأسود ، إنّ ربّي على صراط مستقيم.

( وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاء وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاء وَمَا أَنتَ بِمُسْمِع مَنْ فِي الْقُبُورِ ) (١).

صدق الله العلي العظيم

__________________

١ ـ فاطر : ١٩ ـ ٢٢.

٤٣١
٤٣٢

الصحابة عند شيعة أهل البيت

وإذا بحثنا موضوع الصحابة بتجرّد وبدون عواطف ، نجد أنّ الشيعة أنزلوهم بمنازل القرآن والسنّة النبويّة وما أوجبه العقل ، فلم يكفّروهم بمجموعهم كما فعل الغلاة ، ولم يقولوا بعدالتهم جميعاً كما فعل « أهل السنّة والجماعة ».

يقول الإمام شرف الدين الموسوي في هذا الموضوع : « إنّ من وقف على رأينا في الصحابة علم أنّه أوسط الآراء ، إذ لم نفرّط فيه تفريط الغلاة الذين كفَّروهم جميعاً ، ولا أفرطنا إفراط الجمهور الذين وثّقوهم جميعاً ، فإنّ الكاملية ومن كان في الغلو على شاكلتهم قالوا بكفر الصحابة كافّة ، وقال « أهل السنّة » بعدالة كلّ فرد ممّن سمع النبيّ أو رآه من المسلمين مطلقاً ، واحتجوا بحديث ( كلّ من دبَّ أو درج منهم أجمعين أكتعين ).

أمّا نحن وإن كانت الصحبة بمجرّدها عندنا فضيلة جليلة ، لكنّها بما هي من حيث هي غير عاصمة ، فالصحابة كغيرهم من الرجال فيهم العدول وهم عظماؤهم وعلماؤهم ، وفيهم البغاة ، وفيهم أهل الجرائم من المنافقين ، وفيهم مجهول الحال ، فنحن نحتجّ بعدولهم ، ونتولاهم في الدنيا والآخرة.

أما البغاة على الوصي وأخي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسائر أهل الجرائم ، كابن هند ، وابن النابغة ، وابن الزرقاء ، وابن عقبة ، وابن أرطأة وأمثالهم ، فلا كرامة لهم ولا وزن لحديثهم ، ومجهول الحال نتوقّف فيه حتى نتبيّن أمره.

٤٣٣

هذا رأينا في حملة الحديث من الصحابة ، والكتاب والسنّة هما بيِّنتنا على هذا الرأي ، كما هو مفصّل في مظانّه من أُصول الفقه ، لكنّ الجمهور بالغوا في تقديس كلّ من يسمّونه صحابياً حتى خرجوا عن الاعتدال ، فاحتجّوا بالغثّ منهم والسمين ، واقتدوا بكلّ مسلم سمع من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو رآه اقتداءً أعمى ، وأنكروا على من يخالفهم في هذا الغلو ، وخرجوا في الإنكار على كلّ الحدود.

وما أشدّ إنكارهم علينا حين يروننا نردّ حديث كثير من الصحابة مصرّحين بجرحهم ، أو بكونهم مجهولي الحال ، عملا بالواجب الشرعي في تمحيص الحقائق الدينية ، والبحث عن الصحيح من الآثار النبويّة.

وبهذا ظنّوا الظنون ، فاتهمونا بما اتهمونا رجماً بالغيب ، وتهافتاً على الجهل ، ولو ثابت إليهم أحلامهم ، ورجعوا إلى قواعد العلم ؛ لعلموا أنّ أصالة العدالة في الصحابة ممّا لا دليل عليها ، ولو تدبّروا القرآن الحكيم لوجدوه مشحوناً بذكر المنافقين منهم ، وحسبك منه سورة التوبة والأحزاب ... » (١) إنتهى كلام شرف الدين.

ويقول الدكتور حامد حفني داود ، أُستاذ كرسي الأدب العربي ، ورئيس قسم اللغة العربية بجامعة عين شمس بالقاهرة : » أمّا الشيعة فيرون أنّ الصحابة كغيرهم تماماً ، لا فرق بينهم وبين من جاء بعدهم من المسلمين إلى يوم القيامة ، وذلك من حيث خضوعهم لميزان واحد هو ميزان العدالة الذي توزن به أفعال الصحابة ، كما توزن به أفعال من جاء بعدهم من الأجيال ،

__________________

١ ـ أجوبة مسائل جار الله : ١٤.

٤٣٤

وأنّ الصحبة لا تُعطي لصاحبها منقبة إلاّ إذا كان أهلا لهذه المنقبة ، وكان لديه الاستعداد للقيام برسالة صاحب الشريعة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّ منهم المعصومين كالأئمة الذين نعموا بصحبة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كعلي وابنيه عليهم‌السلام.

ومنهم العدول ، وهم الذين أحسنوا الصحبة لعلي بعد انتقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الرفيق الأعلى.

ومنهم المجتهد المصيب ، ومنهم المجتهد المخطئ ، ومنهم الفاسق ، ومنهم الزنديق وهو أقبح من الفاسق وأشدّ نكالا ، ويدخل في دائرة الزنديق المنافقون والذين يعبدون الله على حرف ، كما أنّ منهم الكفّار ، وهم الذين لم يتوبوا من نفاقهم والذين ارتدّوا بعد الإسلام.

ومعنى هذا أنّ الشيعة ـ وهم شطر عظيم من أهل القبلة ـ يضعون جميع المسلمين في ميزان واحد ، ولا يفرّقون بين صحابي وتابعي ومتأخّر ، وأنّ الصحبة في ذاتها ليست حصانة يتحصّن بها من درجة الاعتقاد.

وعلى هذا الأساس المتين أباحوا لأنفسهم ـ اجتهاداً ـ نقد الصحابة ، والبحث في درجة عدالتهم ، كما أباحوا لأنفسهم الطعن في نفر من الصحابة أخلّوا بشروط الصحبة ، وحادوا عن محبة آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

كيف لا ، وقد قال الرسول الأعظم : « إنّي تاركٌ فيكم ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا ؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ».

وعلى أساس من هذا الحديث ونحوه ، يرون أنّ كثيراً من الصحابة خالفوا هذا الحديث باضطهادهم لآل محمّد ، ولعنهم لبعض أفراد هذه العترة ،

٤٣٥

ومن ثمّ فكيف يستقيم لهؤلاء المخالفين شرف الصحبة ، وكيف يوسموا بسمة العدالة؟!

ذلك هو خلاصة رأي الشيعة في نفي صفة العدالة عن بعض الصحابة ، وتلك هي الأسباب العلميّة الواقعيّة التي بنوا عليها حججهم «.

هذا ويعترف الدكتور حامد حفني داود في موضع آخر بأنّ نقد الصحابة وتجريحهم ليس هو بدعاً من الشيعة وحدهم ، إذ يقول : » وقديماً تعرَّض لها المعتزلة فيما تعرّضوا له من مسائل العقيدة ، ولم يكتفوا في ما تعرّضوا له بعامّة الصحابة بل تعرّضوا للخلفاء أنفسهم ، وكان لهم في ذلك خصوم ومؤيّدون.

وقد كان موضوع نقد الصحابة قاصراً في القرون الأُولى على الراسخين في العلم ، وبخاصة علماء المعتزلة ، وسبقهم في هذا الاتجاه رؤوس الشيعة وزعماؤهم المتعصبين لآل محمّد.

وسبق أن أشرت في غير هذا الموضع أنّ علماء الكلام وشيوخ المعتزلة كانوا عالة على زعماء الشيعة منذ القرن الهجري الأوّل ، وعليه فقضيّة نقد الصحابة إنّما هي وليدة التشيّع لآل محمّد ، ولكنّها كانت وليدة التشيّع لا لذات التشيّع ، بل لأنّ المتشيّعين لآل محمّد عرفوا بتبحّرهم في علوم العقائد بسبب ما نهلوا من موارد أئمة آل البيت ، وهم المصدر الأصيل والمعين الفياض الذي نهلت منه الثقافات الإسلامية منذ صدر الإسلام إلى اليوم » (١).

__________________

١ ـ كتاب الصحابة في نظر الشيعة الإمامية لأسد حيدر ، تقديم الدكتور حامد حفني : ٧ وما بعدها.

٤٣٦

انتهى كلام الدكتور حامد داود.

وأنا أعتقد بأنّ الباحث عن الحقيقة لابدّ له من فتح باب النقد والتجريح ، وإلاّ سيبقى محجوباً عنها ، بالضبط « كأهل السنّة والجماعة » الذين بالغوا في القول بعدالة الصحابة وعدم البحث في أحوالهم ، فبقوا بعيدين عن الحقّ إلى يومنا هذا.

٤٣٧
٤٣٨

الصحابة عند « أهل السنّة والجماعة »

أمّا « أهل السنّة والجماعة » فقد بالغوا في تنزيه الصحابة ، والقول بعدالتهم جميعاً بدون استثناء ، وخرجوا بذلك على حدود العقل والنقل عندما أنكروا على من ينتقد أحداً منهم ، أو يقول بعدم عدالته فضلا عن تفسيقهم ، وإليك طرفاً من أقوالهم لتعرف بُعدهم عن مفاهيم القرآن ، وما ثبت في السنّة النبويّة الصحيحة ، وما أثبته العقل والوجدان :

هذا الإمام النووي يقول في شرح صحيح مسلم : « إنّ الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كلهم هم صفوة الناس وسادات الأُمّة ، وأفضل ممّن بعدهم ، وكلّهم عدول قدوة لا نخالة فيهم ، وإنّما جاء التخليط ممّن بعدهم ، وفيمن بعدهم كانت النخالة » (١).

وهذا يحيى بن معين يقول : « كلّ من شتم عثمان أو طلحة أو أحداً من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دجّال لا يكتَب عنه ، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين » (٢).

وهذا الذهبي يقول : « من الكبائر سبُّ أحد من الصحابة ، فمن طعن فيهم أو سبّهم ، فقد خرج من الدين ومرق من ملّة المسلمين » (٣).

__________________

١ ـ شرح النووي على مسلم ١٢ : ٢١٦.

٢ ـ تهذيب التهذيب ١ : ٤٤٧ ، تاريخ بغداد ٧ : ١٤٥.

٣ ـ الكبائر للذهبي : ٢٣٦ ـ ٢٣٧ ( الكبيرة السبعون في سب الصحابة ).

٤٣٩

وسُئل القاضي أبو يعلى عمّن شتم أبا بكر؟ فقال : كافر ، قيل : فيصلّى عليه؟ قال : لا ، فقيل : كيف يصنع به وهو يشهد أن لا إله إلاّ الله؟ قال : لا تمسّوه بأيديكم ، ادفعوه بالخشب حتى تواروه في حفرته (١).

ويقول الإمام أحمد بن حنبل : « خير الأُمّة بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبو بكر ، وعمر بعد أبي بكر ، وعثمان بعد عمر ، وعليّ بعد عثمان ، وهم خلفاء راشدون مهديّون ، ثمّ أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد هؤلاء الأربعة خير الناس ، لا يجوز لأحد أن يذكر شيئاً من مساويهم ، ولا يطعن على أحد منهم بعيب ولا نقص ، فمن فعل ذلك فقد وجب تأديبه وعقوبته ليس له أن يعفو عنه ، بل يعاقبه ويستتيبه ، فإن تاب قُبل منه ، وإن ثبت أعاد عليه العقوبة وخلَّده في الحبس حتى يموت أو يُراجع » (٢).

وقال الشيخ علاء الدين الطرابلسي الحنفي : « من شتم أحداً من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا بكر أو عمر أو عثمان أو علياً أو معاوية أو عمرو بن العاص ، فإن قال : كانوا على ضلال وكفر قُتل ، وإن شتمهم بغير هذا من مشاتمة الناس نكّل نكالا شديداً (٣).

وينقل الدكتور حامد حفني داود أقوال « أهل السنّة والجماعة » باختصار ، فيقول : « يرى أهل السنّة أنّ الصحابة كلّهم عدول ، وأنّهم جميعاً مشتركون في العدالة وإن اختلفوا في درجاتها ، وأنّ من كفَّر صحابياً فهو كافر ، ومن

__________________

١ ـ الصارم المسلول : ٥٧٠.

٢ ـ راجع الغدير ١٠ : ٢٦٨.

٣ ـ معين الحكّام فيما يتردّد بين الخصمين من الأحكام : ٢٢٨ ، عنه الغدير ١٠ : ٢٩٨.

٤٤٠