الشيعة هم أهل السنّة

الدكتور محمّد التيجاني السماوي

الشيعة هم أهل السنّة

المؤلف:

الدكتور محمّد التيجاني السماوي


المحقق: مركز الأبحاث العقائديّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-20-X
الصفحات: ٥٢٢

وقد عرفنا في فصل الأئمة الاثني عشر من هذا الكتاب (١) رأيه في الخلفاء الاثني عشر على حدّ زعمه ، فقد صحّح خلافة أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، ومعاوية ، ويزيد ، والسفّاح ، وسلام ، والمنصور ، وجابر ، والمهدي ، والأمين ، وأمير العصب ، قال : هؤلاء الاثنا عشر كلّهم من بني كعب بن لؤي ، كلّهم صالح لا يوجد مثله.

فهل ترى في هؤلاء واحداً من أئمّة الهدى من عترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والذين وصفهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّهم سفينة النجاة وأعدال القرآن؟!

ولذلك فإنّك لا ترى لهم وجوداً عند « أهل السنّة والجماعة » ، ولا يوجد في قائمة أئمّتهم وخلفائهم الذين يقتدون بهم واحد من أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام (٢).

__________________

١ ـ راجع موضوع ( الخلفاء الراشدون عند أهل السنة ).

٢ ـ قال الدكتور إبراهيم الرحيلي في كتابه الانتصار للصحب والآل : ١٧٢ بأنّ هذا الكلام ينافي ما ذكره المؤلّف في كتابه فسألوا أهل الذكر : ١٦٤ « من اتفاق المسلمين على مودّة أهل البيت عليهم‌السلام » فإذا كان المسلمون متّفقون على مودّة أهل البيت عليهم‌السلام فكيف يأتي هنا ويقول بأنّ أهل السنّة لم يقتدوا بأهل البيت ، ولا يوجود إمام من أئمة أهل البيت في قائمة أئمة أهل السنّة؟!.

والجواب : إن الدكتور الرحيلي نسي المسألة الأساسيّة التي افترق بها الشيعة عن السنّة ، وهو بذلك نسي حتّى ردّه الذي كتبه ردّاً على الدكتور التيجاني ، ولا بأس بعرضها للدكتور الرحيلي حتّى يكون على بيّنة منها لذلك نقول : إنّ المسلمين عموماً وبلا استنثاء متّفقون على وجوب مودّة أهل البيت عليهم‌السلام ؛ لأجل النصوص القرآنية والسنّة والنبويّة الصريحة الآمرة بذلك ، وهذا لم يختلف عليه المسلمون ، ومن خالف ذلك وذهب إلى بعض أهل البيت عليهم‌السلام فيعدونه ناصبياً

٣٨١

__________________

باصطلاح العلماء ، أو منافقاً بتعبير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لأنّ علي لا يحبّه إلاّ مؤمن ولا يبغضه إلاّ منافق. وعليه فالمسلمون متّفقون على وجود مودّة أهل البيت وحبّهم وعدم إيذائهم.

ولكن الخلاف وقع في وجوب الاتباع وعدمه فالشيعة ذهبوا إلى وجود اتباع أهل البيت عليهم‌السلام والأخذ عنهم والردّ إليهم ؛ لأجل حديث الثقلين المتواتر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقائل فيه : « إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي » وحدّد لنا أهل البيت بآية التطهير وحديث الكساء الذي رواه مسلم ، وعليه التزمت الشيعة بلزوم الرجوع إلى القرآن والعترة الطاهرة من أهل البيت عليهم‌السلام لفهم معالم الدين.

بينما أهل السنّة لم يلتزموا بذلك ، وتركوا أهل البيت عليهم‌السلام وقالوا : لا يجب اتباعهم ، والواجب المودّة فقط ، ورجعوا في معالم دينهم إلى أئمة المذاهب من غير أهل البيت عليهم‌السلام ، كمالك وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل والشافعي وسفيان الثوري وابن عيينة والأوزاعي وغيرهم ممّا يطول عدّه ، ولا تجد إماماً من أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام يرجعون إليه ويأخذون فقههم ودينهم منه.

قال ابن القيّم الجوزية وهو يبيّن الفقهاء الذين نشروا العلم وأخذ عنهم : « والدين والفقه والعلم انتشر في الأُمّة عن أصحاب ابن مسعود ، وأصحاب زيد بن ثابت ، وأصحاب عبد اللّه بن عمر ، وأصحاب عبد اللّه بن عباس ، فعلم الناس عامته عن أصحاب هؤلاء الأربعة.

فأمّا أهل المدينة فعلمهم عن أصحاب زيد بن ثابت وعبد اللّه بن عمر.

وأمّا أهل مكّة فعلمهم عن أصحاب عبد اللّه بن عباس.

وأمّا أهل العراق فعلمهم عن أصحاب عبد الله بن مسعود » أعلام الموقعين ١ : ٢١.

وقال ابن تيميّة : « .. فليس في الأئمة الأربعة ولا غيرهم من أئمة الفقهاء من يرجع إليه [ يعني علي بن أبي طالب ] في فقهه ... » منهاج السنّة ٧ : ٥٢٩.

فباعد أهل السنّة أنفسهم عن أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأخذوا علومهم من غيرهم ،

٣٨٢

هذه حال عبد الله بن عمر في مخالفة الكتاب والسنّة.

أمّا جهله بهما فحدّث ولا حرج ، فمنها جهله بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رخّص للنّساء إذا كنّ محرمات أن يلبسن الخفّين ، وكان ابن عمر يفتي بحرمة ذلك (١).

ومنها أنّه كان يكري مزارعه على عهد رسول الله ، وعهد أبي بكر وعمر وعثمان ، وعهد معاوية حتى حدَّثه أحد الصحابة في آخر خلافة معاوية بأن رسول الله حرَّمه (٢).

نعم ، هذا هو فقيه « أهل السنّة والجماعة » لا يعرف حرمة كراء المزارع ، ولا شكّ بأنّه كان يفتي بجواز ذلك طوال هذه المدّة المذكورة من عهد النبيّ إلى آخر خلافة معاوية قرابة خمسين عاماً.

ومنها ما أنكرته عليه عائشة من فتواه بأن القُبلة توجب الوضوء ، أو فتواه بأن الميت يُعذَّب ببكاء الحيّ عليه ، وكذلك في أذان الصبح ، وفي قوله بأنّ الشهر تسعة وعشرون يوماً ، كما عارضته في عدّة مسائل أُخرى.

ومنها ما أخرجه الشيخان البخاري ومسلم في صحيحهما : قيل لعبد الله

__________________

بل وصل الأمر بهم إلى الرواية عن النواصب أعداء أهل البيت عليهم‌السلام ، وترك الرواية عن العترة الطاهرة ، فهذا البخاري يروي عن عمران بن حطّان الناصبي وحريز بن عثمان الرحبي الناصبي وعكرمة البربري الناصبي وغيرهم. ويترك الرواية عن صادق أهل البيت وعميد العترة الطاهرة في زمانه الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام ، بل ويطعنون فيه بطعون يتمزّق القلب عند سماعها.

١ ـ سنن أبي داود ١ : ٤١١ ، سنن البيهقي ٥ : ٥٢ ، مسند أحمد ٢ : ٢٩.

٢ ـ صحيح البخاري ٣ : ٧٢ ( كتاب الوكالة ، باب من أحيا أرضاً مواتاً ) ، صحيح مسلم ٥ : ٢١ ( كتاب المزارع ، باب كراء الأرض ).

٣٨٣

ابن عمر : إنّ أبا هريرة يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : من تبع جنازة فله قيراط من الأجر.

فقال ابن عمر : أكثر أبو هريرة علينا ، فصدّقت عائشة أبا هريرة وقالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقوله ، فقال ابن عمر : لقد فرَّطنا في قراريط كثيرة (١).

وتكفينا شهادة عمر بن الخطّاب في ابنه عبد الله عندما قال له أحد المتملّقين ، وهو على فراش الموت : استخلف عبد الله بن عمر ، فقال له : كيف استخلف عليهم من لا يعرف كيف يطلِّق زوجته؟ (٢) فهذا هو ابن عمر ولا أحد يعرفه أكثر من أبيه.

وأمّا الأحاديث المكذوبة التي خدم بها سيّده معاوية فكثيرة جداً ، ونذكر منها على سبيل المثال قوله : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يطلع عليكم رجل من أهل الجنة فطلع معاوية ، ثمّ قال من الغد : يطلع عليكم رجل من أهل الجنّة ، فطلع معاوية ، ثمّ قال من الغد مثل ذلك فطلع معاوية.

وقوله : لما نزلت آية الكرسي قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمعاوية : أكتبها ، فقال معاوية : ما لي بكتبها إن كتبتها؟ قال : لا يقرأها أحد إلاّ كُتب لك أجرها.

وقوله : أما إنّ معاوية يبعث يوم القيامة وعليه رداء من نور الإيمان (٣).

وأنا لا أدري لماذا لم يُلحق « أهل السنّة والجماعة » سيّدهم معاوية كاتب الوحي بالعشرة المبشّرين بالجنّة وسيّدهم ابن عمر يؤكّد ثلاث مرات ،

__________________

١ ـ صحيح البخاري ٢ : ٨٢ ( كتاب الجنائز ، باب فضل اتباع الجنائز ) ، صحيح مسلم ٣ : ٥١ ( كتاب الجنائز ، باب فضل الصلاة على الجنائز واتباعها ).

٢ ـ فتح الباري ٧ : ٥٤ ، نيل الأوطار ٦ : ١٦٤.

٣ ـ راجع الغدير ١٠ : ٦٩.

٣٨٤

وفي ثلاثة أيام متوالية أنّ معاوية من أهل الجنّة؟! وإذا كان الناس يبعثون يوم القيامة حفاة عراة فإنّ معاوية أفضل منهم جميعاً ، إذ يبعث وعليه رداء من نور الإيمان!! إقرأ واعجب!!

هذا هو عبد الله بن عمر ، وهذا مبلغه من العلم ، وهذا فقهه وخلافه للكتاب والسنّة النبويّة ، وهذا هو عداؤه لأمير المؤمنين ، والأئمّة الطاهرين من عترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا هو ولاؤه وتزلّفه لأعداء الله ورسوله وأعداء الإنسانية.

فهل يتبصر « أهل السنّة والجماعة » اليوم بهذه الحقائق ، ويعلمون بأنّ السنّة المحمّدية لا توجد إلاّ عند أتباع العترة الطاهرة وهم الشيعة الإمامية؟

( لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ ) (١).

صدق الله العلي العظيم

١٢ ـ عبد الله بن الزبير :

أبوه الزبير بن العوّام الذي قُتل في حرب الجمل ، وتسمّى في السنّة النبويّة حرب الناكثين ، وأُمّه أسماء بنت أبي بكر بن أبي قحافة ، وخالته عائشة أُمّ المؤمنين بنت أبي بكر وزوج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو من أكبر المناوئين للإمام عليّ عليه‌السلام والمبغضين له.

ولعلّه كان يفتخر بخلافة جدّه أبي بكر وبخالته عائشة ، فورث منهما ذلك الحقد وشبَّ عليه ، فكان الإمام عليّ عليه‌السلام يقول للزبير : « قد كنا نعدّك من

__________________

١ ـ الحشر : ٢٠.

٣٨٥

بني عبد المطلب حتى بلغ ابنك ابن السوء ففرَّق بيننا وبينك » (١).

والمشهور في التاريخ أنّه كان في حرب الجمل من العناصر البارزة والقادة المباشرين ، حتى إنّ عائشة قدّمته ليؤم الناس في الصلاة بعدما عزلت طلحة والزبير ؛ لأنّهما اختلفا ورغب كلّ واحد منهما فيها.

ويقال أيضاً : إنّه هو الذي جاء لخالته عائشة بخمسين رجلا يشهدون زوراً بأنّ المكان ليس بـ ( ماء الحوأب ) ، فواصلت معهم طريقها (٢).

وعبد الله هو الذي عيّر أباه بالجبن واتهمه بالخوف لمّا عزم على اعتزال المعركة ، بعدما ذكَّره الإمام علي عليه‌السلام بحديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإعلامه بأنّه سيقاتل علياً وهو له ظالم ، حتّى إن أباه لمّا أكثر هو تعييره قال له : مالك أخزاك الله من ولد ما أشأمك (٣).

ويقال : إنّه ما زال يُعيّر أباه ويهيّجه حتى حمل على جيش عليّ فقُتل ، وبهذا يصدق عليه قول أبيه « ما أشأمك من ولد ».

وهذه هي الرواية التي اخترناها لأنّها أقرب للواقع ولنفسية الزبير الحاقدة وابنه عبد الله ابن السوء ، فلا يمكن للزبير أن ينسحب من المعركة بتلك السهولة ، ويترك وراءه طلحة وأصحابه ومواليه وعبيده الذين جاء بهم إلى البصرة ، ويترك أُمّ المؤمنين أُخت زوجته وقد أشرفت على الهلاك ، ولو سلَّمنا بأنّه تركهم فهم لا يتركونه ، وبالخصوص ابنه عبد الله الذي عرفنا

__________________

١ ـ أنساب الأشراف للبلاذري : ٢٥٥ ، تاريخ الطبري ٣ : ٥١٩.

٢ ـ الإمامة والسياسة ١ : ٨٢ ، المعيار والموازنة للاسكافي : ٥٦.

٣ ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢ : ١٦٦.

٣٨٦

عزمه وشدّة حزمه.

ويذكر المؤرّخون بأنّ عبد الله بن الزبير كان يشتم علياً ويلعنه ويقول : جاءكم الوغد اللئيم ، يقصد علياً عليه‌السلام!! وخطب في أهل البصرة يستنفر الناس ويحرّضهم على القتال فقال : أيّها الناس إنّ علياً قتل الخليفة بالحقّ عثمان مظلوماً ، ثمّ جهَّز الجيوش ليستولي عليكم ويأخذ مدينتكم ، فكونوا رجالا تطالبون بثأر خليفتكم ، واحفظوا حريمكم ، وقاتلوا عن نسائكم وذراريكم ، وأحسابكم وأنسابكم ، ألا وإنّ علياً لا يرى في هذا الأمر أحداً سواه ، والله لئن ظفر بكم ليهلكن دينكم ودنياكم (١).

وقد بلغ من بغضه لبني هاشم عامة ولعليّ عليه‌السلام خاصة أنّه ترك الصلاة على محمّد أربعين جمعة ويقول : إنّه لا يمنعني من ذكره إلاّ أن تشمخ رجال بآنافها (٢).

وإذا كان حقده وبغضه يصل به إلى ترك الصلاة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا لوم عليه ولا يستغرب منه أن يكذب على الناس ، ويتهم الإمام علياً عليه‌السلام ويرميه بكلّ قبيح ، وقد سمعت خطبته في أهل البصرة وقوله لهم : والله لئن ظفر بكم ليهلكن دينكم ودنياكم.

إنّه كذب مفضوح ، وبهتان عظيم من عبد الله بن الزبير الذي لا يعرف الحقّ إلى قلبه سبيلا.

__________________

١ ـ تاريخ المسعودي ٥ : ١٦٣.

٢ ـ تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٦١ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٤ : ٦٢ ، مروج الذهب ٣ : ٧٩.

٣٨٧

والشاهد على ذلك أنّ عليّ بن أبي طالب ظفر بهم ، وانتصر عليهم ، وأسَرَ الأغلبية منهم ، وفيهم عبد الله بن الزبير نفسه ، ولكنّه عفا عنهم جميعاً وأطلق سراحهم ، وأكرم عائشة بأن سترها وأرجعها إلى بيتها في المدينة ، كما منع أصحابه من أخذ الغنائم وسبي النساء والأطفال ، والإجهاز على جريح ، حتى سبَّب له ذلك تمرّد بعض الجيش عليه والتشكيك في أمره.

فعلي عليه‌السلام هو محض السنّة النبويّة ، وهو العارف بكتاب الله ولا أحد يعرفه سواه ، فقد ثارت ثائرة بعض المنافقين المندسين في جيشه وألَّبوا عليه ، وقالوا : كيف يبيح لنا قتالهم ويحرّم علينا سبي نسائهم؟

واغترَّ بهذا القول كثير من المقاتلين غير أنّه ( سلام الله عليه ) احتجّ عليهم بكتاب الله وقال لهم : اقترعوا على من يأخذ منكم أُمّه عائشة! وعند ذلك أدركوا أنّه على الحقّ ، فقالوا نستغفر الله لقد أصبت وأخطأنا.

فقول عبد الله بن الزبير كذب وبهتان مبين ؛ لأنّ بغضه لعليّ عليه‌السلام أعمى بصره وبصيرته وأخرجه عن الإيمان ، ولم يتُب ابن الزبير بعد ذلك ، ولم يتّخذ من تلك الحرب دروساً ومواعظ يستفيد منها.

كلاّ إنّه قابل الحسنة بالسيئة ، وازداد حقده وبغضه لبني هاشم ، ولسيّد العترة الطاهرة ، وعمل كلّ ما في وسعه لإطفاء نورهم والقضاء عليهم.

فقد روى المؤرّخون بأنّه وبعد مقتل الإمام علي عليه‌السلام قام يدعو لنفسه بإمارة المؤمنين ، والتف حوله بعض الناس وقويت شوكته ، فعمل على سجن محمّد بن الحنفية ، ولد الإمام علي عليه‌السلام ، وكذلك الحسن بن علي ومعهم سبعة عشر رجلا من بني هاشم ، وأراد أن يحرقهم بالنار فجمع على باب الحبس

٣٨٨

حطباً كثيراً وأضرم عليهم النار ، ولولا وصول جيش المختار في الوقت المناسب فأطفأ النار واستنقذهم لبلغ فيهم ابن الزبير مراده (١).

وبعث إليه مروان بن الحكم جيشاً بقيادة الحجّاج ، فحاصره وقتله وصلبه في الحرم.

وهكذا انتهت حياة عبد الله بن الزبير ، كما انتهت حياة أبيه من قبل ، كلّ منهما أحبّ الدنيا وحرص على الإمارة ، وأراد البيعة لنفسه وقاتل من أجلها ، وهلك وأهلك ، ومات مقتولا دونها ولم يبلغ مناه.

ولعبد الله بن الزبير أراء في الفقه أيضاً ، وهي ردّ فعل منه لمخالفة فقه أهل البيت الذين يبغضهم ، ومن أشهرها قوله بحرمة زواج المتعة.

فقد قال مرّة لعبد الله بن عباس : يا أعمى البصر لئن فعلتها لأرجمنك بالحجارة.

ورد عليه ابن عباس : أنا أعمى البصر ، أما أنت فأعمى البصيرة ، وإذا أردت معرفة حليّة المتعة فاسأل عنها أُمّك! (٢)

ولا نريد الإطالة في هذا الموضوع الذي كثر فيه الكلام ، وإنّما أردنا إبراز مخالفة ابن الزبير لأهل البيت في كلّ شيء حتى في الأُمور الفقهية التي ليس له فيها قدم راسخة.

__________________

١ ـ تاريخ المسعودي ٣ : ٧٦ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٦١.

٢ ـ أعمى البصر ؛ لأنّ عبد الله بن عبّاس كفّ بصره في كبره ، وأمّا قوله : فاسأل عنها أُمّك فيقال : إنّ الزبير تزوّج أسماء بزواج متعة ، وإن عبد الله نفسه ولد من المتعة. ويقال : إن عبد الله رجع إلى أُمّه فقالت له : ألم أنهك عن ابن عباس فهو أعلم الناس بمثالب العرب ( المؤلّف ).

٣٨٩

وقد ذهب كلّ هؤلاء بخيرهم وشرّهم ، وتركوا الأُمّة المنكوبة تمخر في بحر من الدماء وتغرق في بحر الضلالة ، والأغلبية منهم لا يعرفون الحقّ من الباطل ، وقد صرَّح بذلك طلحة والزبير ، وكذلك سعد بن أبي وقاص.

ولكنّ الوحيد الذي كان على بيِّنة من ربّه ولم يشكّ في الحقّ طرفة عين ، هو عليّ بن أبي طالب ( سلام الله عليه ) الذي كان يدور الحقّ معه حيث توجّه ودار.

فهنيئاً لمن اتبعه واقتدى به ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له : « أنت يا عليّ وشيعتك هم الفائزون يوم القيامة » (١).

( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (٢).

صدق الله العلي العظيم

__________________

١ ـ الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور لجلال الدّين السيوطي ٦ : ٣٧٩ في سورة البيّنة باختلاف.

٢ ـ يونس : ٣٥.

٣٩٠

السنّة النبويّة لا تخالف القرآن عند الشيعة

بعد البحث والتنقيب في عقيدة الطرفين من الشيعة و « أهل السنّة والجماعة » وجدنا بأنّ الشيعة يرجعون في كلّ أحكامهم الفقهيّة إلى كتاب الله والسنّة النبويّة لا غير.

ثمّ هم يرتّبون القرآن في المرتبة الأُولى ، والسنّة النبويّة في المرتبة الثانية ، ونعني بذلك أنّهم يخضعون السنّة للمراقبة ويعرضونها على كتاب الله العزيز ، فما وافق منها كتاب الله قبلوه وعملوا به ، وما خالف كتاب الله تركوه ولم يقيموا له وزناً (١).

والشيعة يرجعون في ذلك إلى ما قرَّره أئمة أهل البيت عليهم‌السلام رواية عن جدهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي قال : « إذا جاءكم حديث عنّي فاعرضوه على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله فاعملوا به ، وما خالف كتاب الله فاضربوا به عرض الجدار » (٢).

وقد قال الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام عدّة مرّات : « ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف » (٣).

__________________

١ ـ هذا هو لعمري المنطق السليم الذي يقطعُ الطّريق على كلّ المحدّثين الذين اشتهروا بتدليس الحديث ونسبته للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو منه بريء ( المؤلّف ).

٢ ـ تفسير أبي الفتوح ٣ : ٣٩٢ باختلاف يسير.

٣ ـ الكافي ١ : ٦٩ ح٤.

٣٩١

وقال في أصول الكافي بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطب الناس بمنى فقال : « أيّها الناس ، ما جاءكم عنّي يوافق كتاب الله فأنا قلته ، وما جاءكم عنّي يخالف كتاب الله فلم أقله » (١).

وعلى هذا الأساس المتين بنى الشيعة الإماميّة فقههم وعقائدهم ، فمهما بلغ الحديث من صحّة الإسناد ، فلابدّ أن يزنوه بهذا الميزان ، ويعرضوه على الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

والشيعة الإماميّة هي الفرقة الوحيدة بين الفرق الإسلامية الأُخرى التي اشترطت هذا الشرط ، وبالخصوص في باب تتعارض فيه الروايات والأخبار.

قال الشيخ المفيد في كتابه المسمّى بـ « تصحيح الاعتقاد » : « وكتاب الله تعالى مقدَّم على الأحاديث والروايات ، وإليه يتقاضى في صحيح الأخبار وسقيمها ، فما قضى به فهو الحقّ دون سواه » (٢).

وبناءً على هذا الشرط ، وهو عرض الحديث على كتاب الله تعالى ، تميّز الشيعة عن « أهل السنّة والجماعة » في كثير من الأحكام الفقهية ، وكذلك في كثير من العقائد.

والباحث يجد في كلّ أحكام الشيعة وعقائدهم مصداقاً في كتاب الله ، خلافاً لما هو عند « أهل السنّة والجماعة » فالمتتبع قد يجد عندهم عقائد وأحكاماً تخالف صريح القرآن الكريم ، ستعرف ذلك وسنوافيك ببعض

__________________

١ ـ الكافي ١ : ٦٩ ح٥.

٢ ـ تصحيح الاعتقاد : ٤٤.

٣٩٢

الأدلّة على ذلك قريباً إن شاء الله.

وبناءً على ذلك يفهم المتتبع أيضاً بأنّ الشيعة لم يصحِّحوا أيّ كتاب من كتب الحديث عندهم ، أو يعطوه قدسية تجعله بمثابة القرآن ، كما هو الحال عند « أهل السنّة والجماعة » الذين يصحّحون كلّ الأحاديث التي رواها البخاري ومسلم ، رغم أنّ فيهما مئات الأحاديث التي تتناقض مع كتاب الله.

ويكفيك أن تعرف بأنّ كتاب الكافي عند الشيعة رغم جلالة قدر مؤلّفه محمّد بن يعقوب الكليني وتبحّره في علم الحديث ، إلاّ أن علماء الشيعة لم يدّعوا يوماً بأنّ ما جمعه كلّه صحيح (١) ، بل هناك من علمائهم من طرح أكثر من نصفه وقال بعدم صحتها ، بل إنّ مؤلّف ( الكافي ) لا يقول بصحّة كلّ الأحاديث التي جمعها في الكتاب (٢).

__________________

١ ـ سوى شرذمة من الإخباريين المتعبدين بحرفية النصوص من غير فحص وتدقيق.

٢ ـ ولذا لما شكى إليه بعض إخوانه ـ في رسالة كتبها ـ أشكل عليه من الحقائق لاختلاف الأخبار ، وطلب منه تدوين كتاب يجمع فيه جميع فنون علم الدين بالآثار الصحيحة ، لم يقل في جوابه بأنّي دوّنت لك ذلك وكلّ ما أوردته صحيح لا مرية فيه ، بل ذكر له بأنّ الأئمة عليهم‌السلام وضعوا قواعد لحلّ اختلاف الأخبار كالعرض على القرآن ، وأنّه سيعمل على هذا المنهاج ، لكن مع هذا لم يدّع توفيقه مائة بالمائة لتدوين الآثار الصحيحة فقط ، ولذا اعترف بالتقصير وقال له : « وقد يسّر الله تأليف ما سألت وأرجو أن يكون بحيث توخّيت ، فمهما كان من تقصير فلم تقصر نيتنا في إهداء النصيحة ... » ، مضافاً إلى أنّ الشيخ الكليني في كتابه ( الكافي ) عقد باباً بعنوان ( الأخبار المتعارضة ) أو ( الأخبار المختلفة ) وبيّن فيه أن الأئمة عليهم‌السلام أمروا بالرجوع في هذه الحالة إلى القرآن أو المشهور أو غير ذلك.

٣٩٣

ولعلّ كلّ ذلك ناتج عن سيرة الخلفاء عند كلّ فرقة منهم ، فـ « أهل السنّة والجماعة » اقتدوا بأئمة يجهلون أحكام القرآن والسنّة ، أو يعرفونها ولكنّهم اجتهدوا بآرائهم ، وخالفوا تلك النصوص لعدّة أسباب أوضحنا البعض منها في أبحاث سابقة.

أمّا الشيعة فإنّهم اقتدوا بأئمة العترة الطاهرة الذين هم عدل القرآن وترجمانه ، لا يخالفونه ولا يختلفون فيه.

( أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَة مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَاماً وَرَحْمَةً أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَة مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ ) (١).

صدق الله العلي العظيم

__________________

وهذا دليل على أنّه لا يشهد بصحة كتابه ولا يؤمن به ، إذ لو كان كلّ ما في الكتاب صحيحاً فلا معنى لعقد باب التعارض والاختلاف بين الأخبار ، فهذا شاهد آخر على عدم اعتقاد المؤلّف بصحة جميع ما في الكتاب.

ثمّ لو سلّمنا جدلا بأنّ الكليني اعترف بصحّة جميع ما أورده في الكافي ، لكن يبقى شيء واحد وهو أنّ اصطلاح الصحيح يختلف عند المتقدّمين والمتأخّرين من علمائنا ، فعند المتقدّمين هو كلّ حديث حصل الوثوق بصدوره عن المعصوم وإن لم يكن الراوي عدلا إمامياً ، فلذا نرى الكليني كثيراً ما يروي عن الفطحية والزيدية والواقفية ، وأمّا الصحيح عند المتأخّرين ما رواه العدل الإمامي عن العدل الإمامي.

١ ـ هود : ١٧.

٣٩٤

السنّة والقرآن عند « أهل السنّة والجماعة »

بعد ما عرفنا بأنّ الشيعة الإمامية يقدِّمون القرآن على السنّة ، ويجعلونه القاضي عليها والمهيمن ، فـ « أهل السنّة والجماعة » على العكس تماماً يقدِّمون السنّة على القرآن ، ويجعلونها قاضية ومهيمنة عليه.

ونستنتح من هذا بأنّهم سمّوا أنفسهم بـ « أهل السنّة » من أجل هذا المبدأ الذي ارتأوه ، وإلاّ لماذا لم يقولوا بأنّهم أهل القرآن والسنّة ، وخصوصاً أنّهم يروون في كتبهم بأنّ النبيّ قال : « تركت فيكم كتاب الله وسنّتي »؟

ولأنّهم أهملوا القرآن وجعلوه في المرتبة الثانية ، وتمسكوا بالسنّة المزعومة وجعلوها في المرتبة الأُولي ، فهمنا من ذلك السبب الرئيسي لقولهم بأنّ السنّة قاضية على القرآن.

وهذا منهم أمر عجيب ، وأعتقد بأنّهم اضطروا إلى ذلك اضطراراً عندما وجدوا أنفسهم يقومون بأعمال مخالفة لما جاء في القرآن ، وقد ألفوها بعدما فرضها عليهم الحكَّام الذين أطاعوهم ، ولتبرير تلك الأعمال وضعوا لها أحاديث نسبوها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذباً ، ولما كانت تلك الأحاديث تتعارض مع أحكام القرآن ، قالوا بأن السنّة قاضية على القرآن ، أو أنّها تنسخ القرآن.

وأضرب لذلك مثلا واضحاً يفعله المسلم مرّات عديدة في كلّ يوم ، ألا وهو الوضوء قبل الصلاة ، فقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا

٣٩٥

بِرُؤُوسِكُم وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ ) (١).

ومهما قيل ، وبقطع النظر عن قراءة النصب والجر ، وقد قدمنا بأنّ الفخر الرازي ـ وهو من أشهر علماء « أهل السنّة والجماعة » في اللغة العربية ـ قال بوجوب المسح في القراءتين (٢).

وقال ابن حزم أيضاً : سواء قُرئ بخفض اللام أو بفتحها هي على كلّ حال عطف على الرؤوس ، إمّا على اللفظ وإمّا على الوضع ، ولا يجوز غير ذلك (٣).

ولكن الفخر الرازي بعد اعترافه بأنّ القرآن نزل بوجوب المسح في القراءتين ، نراه يتعصَّب لمذهبه السنّي ، فقال : ولكنّ السنّة جاءت بالمسح ناسخة للقرآن (٤).

وهذا المثل من السنّة المزعومة القاضية على القرآن أو الناسخة له ، يوجد له أمثلة كثيرة عند « أهل السنّة والجماعة » فكم من حديث موضوع يُبطلون به حكماً من أحكام الله بدعوى أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نسخه.

ونحن لو تمعنَّا قي آية الوضوء التي نزلت في سورة المائدة ، وإجماع المسلمين على أنّ سورة المائدة هي آخر ما نزل من القرآن ، ويقال : إنّها نزلت قبيل وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشهرين فقط ، فكيف ومتى نسخ النبيّ حكم

__________________

١ ـ المائدة : ٦.

٢ ـ التفسير الكبير للفخر الرازي ٤ : ٣٥٠ ، سورة المائدة : ٦.

٣ ـ المحلّى لابن حزم ٢ : ٥٦.

٤ ـ التفسير الكبير للفخر الرازي ٤ : ٣٠٦ باختلاف.

٣٩٦

الوضوء يا ترى؟! وقد قضى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثة وعشرين سنة وهو يتوضّأ بالمسح ويفعل ذلك مرّات في كلّ يوم ، فهل يعقل أنّه وقبل شهرين من وفاته عندما نزل عليه قوله سبحانه : ( وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) عمد إلى غسل رجليه معارضة لكتاب الله؟! إنّه كلام لا يصدّق.

ثمّ كيف يُصدّق الناس هذا النبيّ الذي يدعوهم لكتاب الله والعمل به قائلا لهم : إنّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ، ثمّ يعمل هو بعكسه؟! فهل هذا معقول أو يقبله العقلاء؟ أم سيقول له المعارضون والمشركون والمنافقون : إذا كنت أنت تعمل بخلافه ، فكيف تأمرنا نحن باتباعه؟! وسوف يجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ذلك نفسه محرجاً ولا يقدر على دفع حجّتهم ، ولذلك نحن لا نصدّق بهذا الادعاء الذي يرفضه النقل والعقل ، وكلّ من له دراية بالكتاب والسنّة لا يصدّقه.

ولكن « أهل السنّة والجماعة » ـ والذين هم في الحقيقة حكّام بني أُميّة ومن جرى وراءهم ، كما عرفنا بذلك في أبحاث سابقة ـ عمدوا لوضع الأحاديث على لسان النبيّ ليصححوا بذلك آراء واجتهادات أئمة الضلالة ، ويكسبوها شرعيّة دينية أولا ، وليعللوا اجتهادات هؤلاء في مقابل النصوص ، بأنّ النبيّ نفسه قد اجتهد مقابل النصوص القرآنية ونسخ منها ما شاء ، فيصبح بذلك أهل البدع يستمدّون شرعيّة مخالفتهم للنصوص اقتداء بالرسول كذباً وبهتاناً.

وقد قدّمنا في بحث سابق بالأدلّة والحجج القويّة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما قال يوماً برأي ولا بقياس ، وإنّما كان ينتظر نزول الوحي لقوله تعالى :

٣٩٧

( لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ ) (١).

أليس هو القائل مبلّغاً عن ربّه : ( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَات قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآن غَيْرِ هَـذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْم عَظِيم ) (٢).

أوَلم يهدِّده ربّه بأشدّ التهديد لو حاول أن يتقوَّل على الله كلمة واحدة ، فقال جلّ وعلا : ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لاََخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُمْ مِنْ أَحَد عَنْهُ حَاجِزِينَ ) (٣).

فهذا هو القرآن ، وهذا هو النبيّ الذي كان خلقه القرآن ، ولكن « أهل السنّة والجماعة » (٤) ، ولشدّة عداوتهم لعليّ بن أبي طالب وأهل البيت عليهم‌السلام ، كانوا يخالفونهم في كلّ شيء ، حتى أصبح شعارهم هو مخالفة عليّ وشيعته في كلّ شيء ، حتى لو كانت سنّة نبوية ثابتة عندهم (٥).

ولمّا كان المشهور عن الإمام عليّ عليه‌السلام الجهر بالبسملة حتى في الصلاة السريّة من أجل إحياء السنّة النبويّة ، فقد عمل بعضهم على القول بكراهتها في الصلاة ، وكذلك بالنسبة للقبض والسدل ، ودعاء القنوت ، وغير ذلك من

__________________

١ ـ صحيح البخاري ٨ : ١٤٨ ( كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة ، باب ما كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسأل ممّا لم ينزل عليه الوحي فيقول لا أدري ). النساء : ١٠٥.

٢ ـ يونس : ١٥.

٣ ـ الحاقة : ٤٤ ـ ٤٧.

٤ ـ ونقصد بهم الأوائل الذين عادوا علياً وأولاده من بعده والذين أسّسوا مذهب « أهل السنّة والجماعة » ( المؤلّف ).

٥ ـ قد فصّلنا في ذلك وأخرجنا تصريحاتهم من كتبهم وأقوال أئمّتهم في كتاب « مع الصادقين » فليراجع ( المؤلّف ).

٣٩٨

الأُمور التي تخصّ الصلاة اليومية.

ولذلك كان أنس بن مالك يبكي ويقول : والله ما أجد شيئاً ممّا أدركت عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قالوا : وهذه الصلاة؟ قال : لقد غيرتم فيها ما غيرتم (١).

والغريب أنّ « أهل السنّة والجماعة » يسكتون عن هذه الاختلافات ؛ لأنّ مذاهبهم الأربعة يختلفون فيما بينهم ، فلا يرون بذلك بأساً ، بل يقولون بأنّ اختلافهم رحمة.

ولكنّهم يشنِّعون على الشيعة إذا خالفوهم في أية مسألة ، فتصبح تلك الرحمة نقمة ، ولا يقبلون إلاّ آراء أئمتهم ، مع أنّ أئمتهم لا يساوون أئمة العترة الطاهرة في علم ، ولا في عمل ، ولا في فضل ، ولا في شرف.

وكما ذكرنا في « غسل الرجلين » ورغم أنّ كتبهم تشهد بأنّ المسح هو الذي نزل به القرآن ، وهو أيضاً سنّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) ، ولكنّهم لا يقبلون من الشيعة شيئاً من ذلك ، ويتهمونهم بتأويل القرآن والخروج عن الدين!!

والمثل الثاني الذي لابدّ من ذكره أيضاً ، هو نكاح المتعة الذي نزل به القرآن وأقرّته السنّة النبويّة ، ولكنّهم لتبرير اجتهاد عمر بن الخطّاب الذي حرَّمه ، اختلقوا حديثاً مكذوباً نسبوه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأخذوا يشنِّعون على الشيعة لإباحتهم هذا النكاح ، استناداً لما رواه الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، أضف إلى ذلك أنّ صحاحهم تشهد بأنّ الصحابة فعلوه في عهد رسول الله ،

__________________

١ ـ صحيح البخاري ١ : ١٣٤ ( كتاب الصلاة ، أبواب سترة المصلي ) ، ولفظه : أليس ضيّعتم ما ضيّعتم فيها؟

٢ ـ الطّبقات الكبرى لابن سعد ٦ : ٢٧٤ ، عن ابراهيم النخعي ، وانظر المعجم الكبير للطبراني ١٠ : ٧١ ح٩٩٨٢.

٣٩٩

وعهد أبي بكر ، وشطر من عهد عمر قبل أن يحرمه ، ويشهدون أيضاً بأنّ الصحابة اختلفوا فيه بين محلِّل ومحرِّم.

والأمثلة في هذه المواضيع ـ التي ينسخون فيها النصّ القرآني بحديث مكذوب ـ كثيرة جدّاً ، وقد ضربنا منها مثلين ، والقصد هو رفع الستار عن مذهب « أهل السنّة والجماعة » ، وإطلاع القارئ بأنّهم يقدِّمون الحديث على القرآن ، ويقولون صراحة بأنّ السنّة قاضية على القرآن.

فهذا الإمام الفقيه عبد الله بن مسلم بن قتيبة محدّث وفقيه « أهل السنّة والجماعة » متوفّى سنة ٢٧٦ هجرية يقول بصراحة : « السنّة قاضية على الكتاب ، وليس الكتاب بقاض على السنّة » (١).

كما ذكر صاحب كتاب مقالات الإسلاميين الإمام الأشعري ، وهو إمام « أهل السنّة والجماعة » في الأصول (٢) : « إن السنّة تنسخ القرآن وتقضي عليه ، وأن القرآن لا ينسخ السنّة ولا يقضي عليها » (٣).

وذكر ابن عبد البر بأنّ الإمام الأوزاعي ، وهو من كبار أئمة « أهل السنّة والجماعة » ، قال : « إنّ القرآن أحوج إلى السنّة من السنّة إلى القرآن ... » (٤).

__________________

١ ـ سنن الدارمي ١ : ١٤٥.

٢ ـ كيف لا يكون إمامهم وهو الذي أطاح بالمعتزلة ألدّ أعداء أهل السنّة ، وفي ذلك يقول ابن الصيرفي من كبار الأئمة الشافعية : « كانت المعتزلة قد رفعوا رؤوسهم حتى أظهر الله الأشعري فحجرهم في أقماع السمسم » ( تاريخ الإسلام للذهبي ٢٤ : ١٥٥ ).

٣ ـ مقالات الإسلاميين : ٤٧٩ ، وقد ذكر اختلاف أهل السنّة في نسخ القرآن بالسنّة إلى ثلاثة أقوال ، أحدها ما ذكره المؤلّف في المتن.

٤ ـ جامع بيان العلم : ٤٢٩ ( باب ٦٥ ، موضع السنّة من الكتاب ).

٤٠٠