الشيعة هم أهل السنّة

الدكتور محمّد التيجاني السماوي

الشيعة هم أهل السنّة

المؤلف:

الدكتور محمّد التيجاني السماوي


المحقق: مركز الأبحاث العقائديّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-20-X
الصفحات: ٥٢٢

ولم ينقل البخاري ما قاله الإمام جعفر الصادق من أنّ الصحيفة تسمّى الجامعة ؛ لأنّها جمعتْ كلّ حلال وكلّ حرام ، وفيها كلّ ما يحتاجه الناس حتى أرش الخدش ، بإملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخطّ علي بن أبي طالب ، فاختصرها بقوله مرّة : بأنّ فيها « العقل ، وفكاك الأسير ، ولا يقتل مسلم بكافر » ، ومرّة أُخرى بقوله : فنشرها عليّ فإذا فيها أسنان الإبل ، وإذا فيها المدينة حرم ... وإذا فيها ذمّة المسلمين واحدة ... وإذا فيها من والى قوماً بغير إذن مواليه ... ».

إنّه التزوير والتعتيم على الحقائق ، وإلاّ هل يعقل أنْ يكتب علي هذه الكلمات الأربعة في صحيفة ، ويعلّقها على سيفه ، وتلازمه عندما يخطب من فوق المنبر ، ويجعل منها المرجع الثاني بعد كتاب الله ، فيقول للناس : « ما كتبنا عن النبيّ إلاّ القرآن ، وما في هذه الصحيفة »؟!

وهل كان عقل أبي هريرة أكبر من عقل علي بن أبي طالب إذ كان يحفظ عن رسول الله مائة ألف حديث من غير كتابة (١)؟

__________________

١ ـ أبو هريرة من الشخصيات الروائية البارزة عند أهل السنّة ، وله من الشهرة التي جعلته كنار على منار لكثرة الروايات التي نسبها إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مع ملاحظة قصر مدّة صحبته للنبيّ عليه الصلاة والسلام ، ممّا أثار الجدل والأخذ والردّ حول هذه الشخصية ، فكثر عليه الاعتراض من قبل علماء السنّة أنفسهم قبل غيرهم ، والاعتراضات التي وجهت إليه ترجع إلى ثلاث نقاط :

١ ـ الكم الهائل من الروايات التي نقلها ونسبها إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والتي تقدّر ٨٧٤٠ رواية في الكتب التسعة ، مع قصر مدّة صحبته للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتي تقدر بسنتين وبضعة شهور.

٨١

عجيب والله أمر هؤلاء الذين يقبلون مائة ألف حديث عن أبي هريرة الذي لم يصحب النبيّ إلاّ ثلاث سنوات ، وكان يجهل القراءة والكتابة ، ويزعمون بأنّ علياً باب مدينة العلم الذي تعلّم منه الصحابة شتى العلوم والمعارف ، كان يحمل صحيفة فيها أربعة أحاديث ، ظلّت تلازمه من حياة الرسول إلى أيام خلافته ، فيصعد بها على المنبر وهي معلّقة على سيفه؟ كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلاّ كذباً.

على أنّ في ما أخرجه البخاري كفاية للباحثين والعقلاء ، وذلك عندما ذكر بأنّ فيها العقل ، فهو دليل بأنّ في الصحيفة أشياء كثيرة تخص العقل البشري والفكر الإسلامي.

ونحن لا نريد إقامة الدليل على ما في الصحيفة ، فأهل مكّة أدرى بشعابها ، وأهل البيت أدرى بما فيه ، وقد قالوا بأنّ فيها كلّ ما يحتاجه الناس من حلال وحرام حتى أرش الخدش.

__________________

٢ ـ طبيعة الروايات التي نقلها ، فإنّها تضمنت الكثير من الخرافات والاسرائيليات المأخوذة من اليهود ككعب الأحبار وغيره.

٣ ـ اعتراض الكثير من الصحابة على ما يرويه ، ممّا أدى ببعضهم إلى التحقيق معه وإظهار كذبه في بعض الموارد ؛ لأنّه كان ينسب أشياء إلى رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو لم يسمعها منه ، وعندما يحقق عليها ينسبها إلى ميت أو يرطن بالحبشية.

وكان أبو هريرة من وعّاظ السلاطين والمتمسحين بهم ، وهناك كلام كثير حول هذه الشخصية يمكن مراجعته في الأبحاث التالية :

١ ـ أبو هريرة ، السيدّ شرف الدين العاملي.

٢ ـ أكثر أبو هريرة للدكتور مصطفى بوهندي.

٣ ـ شيخ المضيرة أبو هريرة ، محمود أبو رية.

٨٢

ولكنّ الذي يهمنا في هذا البحث هو أنّ الصحابة كانوا يكتبون أحاديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقول أبي هريرة بأنّ عبد الله بن عمرو كان يكتب أحاديث النبيّ ، وقول علي بن أبي طالب : « ما كتبنا عن رسول الله إلاّ القرآن وما في هذه الصحيفة » كما جاء في صحيح البخاري ، هو دليل قاطع على أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ينه عن كتابة أحاديثه أبداً ، بل العكس هو الصحيح ، وأنّ الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه « لا تكتبوا عنّي ومن كتب عنّي غير القرآن فليمحه » هو حديث مكذوب ، وضعه أنصار الخلفاء لتأييد وتبرير ما فعله أبو بكر وعمر وعثمان من حرق الأحاديث النبويّة ومنع السنّة من الانتشار.

وممّا يزيدنا يقيناً بأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ينه عن كتابة الأحاديث عنه بل إنّه أمر بها ، هو ما قاله الإمام علي عليه‌السلام أقرب الناس للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما كتبنا عنه غير القرآن ، وما في هذه الصحيفة » والذي صحّحه البخاري.

وإذا أضفنا إلى هذا قول الإمام جعفر الصادق بأنّ الصحيفة الجامعة هي من إملاء رسول الله وخطّ علي ، فمعناه أنّ النبيّ أمر علياً بالكتابة.

وحتى لا يبقى عندك شكّ أيّها القارئ العزيز ، أزيدك ما يلي :

أخرج الحاكم في مستدركه ، وأبو داود في صحيحه ، والإمام أحمد في مسنده ، والدارمي في سننه ، أخرجوا كلّهم حديثاً مهماً جداً بخصوص عبد الله بن عمرو الذي ذكره أبو هريرة بأنّه كان يكتب عن النبيّ :

قال عبد الله بن عمرو : كنت أكتب كلّ شيء أسمعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنهتني قريش وقالوا : تكتب كلّ شيء سمعته من رسول الله ، وهو بشر

٨٣

يتكلم في الغضب والرضى؟

قال عبد الله : فأمسكت عن الكتابة ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأومأ إلى فيه وقال : « أكتب فو الذي نفسي بيده ما خرج منه إلاّ الحقّ » (١).

ونُلاحظ من خلال هذا الحديث بأنّ عبد الله بن عمرو كان يكتب كلّ ما يسمعه من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلم ينهه النبيّ عن ذلك وإنّما وقع النهي من قريش ، ولم يرد عبد الله التصريح بأسماء الذين نهوه عن الكتابة ؛ لأنّ في نهيهم طعن على رسول الله ، كما لا يخفى ، فأبهم القول بأنّهم قريش ، والمقصود بقريش زعماؤها من المهاجرين ، وعلى رأسهم أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعبد الرحمان بن عوف ، وأبو عبيدة ، وطلحة ، والزبير ، ومن سار على رأيهم.

كما نلاحظ بأنّ نهيهم لعبد الله كان في حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا ما يؤكد عمق المؤامرة وخطورتها.

وإلاّ لماذا يعمد هؤلاء لنهي عبد الله عن الكتابة بدون الرجوع إلى النبيّ نفسه؟

كما يفهم أيضاً من قولهم له : إنّ رسول الله بشر يتكلّم في الغضب والرضى ، أنّ عقيدتهم في النبيّ كانت هزيلة إلى درجة أنّهم يشكّون فيه بأنّه يقول باطلا ويحكم ظلماً خصوصاً في حالة الغضب ، وما قول

__________________

١ ـ مستدرك الحاكم ١ : ١٠٤ صحّحه ووافقه الذهبي في تلخيص المستدرك ، سنن أبي داود ٢ : ١٧٦ ، سنن الدارمي ١ : ١٢٥ ، مسند الإمام أحمد بن حنبل ٢ : ١٦٢ وصحّحه محقّق الكتاب العلاّمة أحمد محمّد شاكر ، المصنّف لابن أبي شيبة ٦ : ٢٢٩ ، تفسير ابن كثير ٤ : ٢٦٤ ، جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البرّ ١ : ٧١.

٨٤

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندما ذكر له عبد الله بن عمرو نهي قريش وما قالوه في شأنه فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« أكتب فو الذي نفسي بيده ما خرج منه إلاّ الحقّ » ـ إشارة إلى فمه ـ لدليل آخر على علم الرسول بشكّهم في عدالته ، وأنّهم يجوّزون عليه الخطأ وقول الباطل ، فأقسم بالله بأنّه لا يخرج من فمه إلاّ الحقّ.

وهذا هو التفسير الصحيح لما جاء في قوله سبحانه وتعالى :

( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ) (١).

وأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معصوم عن الخطأ وقول الباطل ، وبهذا فإنّنا نجزم بأنّ كلّ الأحاديث والروايات التي وضعت في زمن الأمويين ، والتي يستفاد منها بأنّه غير معصوم لا يصح شيء منها ، كما أنّ الحديث المذكور يشعرنا بأنّ تأثيرهم على عبد الله بن عمرو كان كبيراً حتى أمسك عن الكتابة ، كما صرّح هو بنفسه إذ قال : « فأمسكت عن الكتابة » وبقي على ذلك إلى أن جاءتْ مناسبة تدخّل فيها رسول الله بنفسه لإزالة الشكوك التي تثار حول عصمته وعدالته ، وكانت كثيراً ما تثار حتى بمحضره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كقولهم له صراحة : « ألست نبي الله حقاً؟ » (٢) أو : « أنت الذي تزعم أنّك نبي » (٣) ، أو « ما

__________________

١ ـ النجم : ٣ ـ ٤.

٢ ـ قاله عمر بن الخطّاب في صلح الحديبية ، أخرجه البخاري ٣ : ١٨٢ ( كتاب الصلح ، باب الشروط والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط ).

٣ ـ قالته عائشة بنت أبي بكر للنّبي كتاب إحياء العلوم للغزالي ٢ : ٦٥ ( كتاب النكاح ، الباب الثالث ).

٨٥

أُريد بهذه القسمة وجه الله » (١) ، أو كقول عائشة للنبي : « إن ربّك يسارع في هواك » (٢) ، أو قولها له : « أقصد » إلى غير ذلك من العبارات النابية التي تُعربُ عن شكّهم في عصمته واعتقادهم بأنّه يحيف ويظلم ويخطئ ويكذب والعياذ بالله.

فكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صاحب الخلق العظيم رؤوفاً رحيماً ، كثيراً ما يزيح تلك الشبهات بقوله مرّة : « ما أنا إلاّ عبد مأمور » (٣) ، ومرة يقول : « إنّي لأخشاكم لله وأتقاكم له » (٤) ، وأخرى يقول : « والذي نفسي بيده ما خرج منه إلاّ الحقّ » (٥) ، وكثيراً ما كان يقول : « رحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر » (٦).

فلم تكن هذه الكلمات النابية التي تطعن في عصمته وتشكّك في نبوته صادرة عن أُناس متروكين أو عن المنافقين ، ولكنّها مع الأسف صدرت عن عظماء الصحابة ، وعن أُمّ المؤمنين ، والذين هم عند « أهل السنّة والجماعة » قدوة وأُسوة حسنة ، فلا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم.

وممّا يزيدنا يقينا بأنّ حديث « لا تكتبوا عنّي » هو حديث موضوع لا

__________________

١ ـ قاله صحابي من الأنصار للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخرجه البخاري ٥ : ١٠٦ ( كتاب المغازي ، باب غزوة الطائف ).

٢ ـ صحيح البخاري ٦ : ٢٤ ، ١٢٨ ( كتاب التفسير ، تفسير سورة الأحزاب ).

٣ ـ المعجم الكبير ١٢ : ١١٤.

٤ ـ صحيح البخاري ٦ : ١١٦ ( كتاب النكاح ، الترغيب في النكاح ).

٥ ـ مسند أحمد ٢ : ١٦٢ وصرّح محقّق الكتاب العلاّمة أحمد محمّد شاكر بصّحته.

٦ ـ مسند أحمد ١ : ٣٨٠ ، صحيح البخاري ٤ : ٦١ ( كتاب الجهاد والسير ، باب ما كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعطي المؤلّفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ).

٨٦

أساس له من الصحة ، ولم ينطق به رسول الله إطلاقاً ؛ أنّ أبا بكر نفسه كان يكتب عن رسول الله بعض الأحاديث التي جمعها في عهد النبيّ ، ثمّ بعدما تولّى الخلافة بدا له أن يحرقها لأمر قد لا يخفى على الباحثين.

فها هي ابنته عائشة تقول : جمع أبي الحديث عن رسول الله فكانت خمسمائة حديث ، فبات يتقلّب ، فقلت : يتقلّب لشكوى أو لشيء بلغه ، فلمّا أصبح قال : أي بنية هلمّي بالأحاديث التي عندك ، فجئته بها فأحرقها (١).

وهذا عمر بن الخطّاب أيضاً في خلافته يخطب يوماً في الناس قائلا : « لا يبقين أحد عنده كتاباً إلاّ أتاني به فأرى فيه رأيي « فظنوا أنّه يريد النظر فيها ليقوّمها على أمر لا يكون فيه اختلاف ، فأتوه بكتبهم فأحرقها بالنار » (٢).

كما بعث في الأمصار يأمرهم : « من كان عنده شيء فليمحه » (٣).

فهذا أكبر دليل على أنّ الصحابة عامّة ، سواء منهم المقيمين في المدينة أو في بقية الأمصار الإسلامية الأُخرى ، كلّهم عندهم كتبٌ جمعوا فيها الأحاديث النبويّة التي كتبوها على عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأحرقت كلّها بفعل أبي بكر أوّلا ، ثمّ عمر ثانياً ، ومُحيتْ بقية الكتب التي في الأمصار بأمر عمر في خلافته (٤).

__________________

١ ـ كنز العمّال ١٠ : ٢٨٥ ح٢٩٤٦٠ ، تذكرة الحُفّاظ للذهبي ١ : ٥.

٢ ـ الطبقات الكبرى لابن سعد ٥ : ١٨٨ ، سير أعلام النبلاء ٥ : ٥٩.

٣ ـ كتاب العلم للنسائي : ١١ ، كنز العمال ١٠ : ٢٩٢ ح٢٩٤٧٦.

٤ ـ أنظر رعاك الله إلى هذا العمل الشنيع الذي فعله الخلفاء أبو بكر وعمر اتّجاه

٨٧

وعلى هذا فلا يمكن لنا ، ولا لأيّ عاقل أن يصدّق بأنّ رسول الله نهاهم عن كتابة الحديث ، بعدما عرفنا بأنّ أكثر الصحابة كانت عندهم كتب للأحاديث ، وخصوصاً الصحيفة التي كانت تلازم الإمام علي وطولها سبعون ذراعاً ، ويُسميّها الجامعة ؛ لأنّها جمعتْ كلّ شيء.

وبما أنّ السلطة الحاكمة والسياسة السائدة اقتضت مصالحها محو السنّة وحرقها وعدم التحدّث بها ، فإنّ الصحابة المؤيّدين لتلك الخلافة امتثلوا الأوامر ونفّذوها ، فلم يبقَ لهم ولا لأتباعهم من التابعين سوى الاجتهاد بالرأي ، أو الاقتداء بسنّة أبي بكر ، وسنّة عمر ، وسنّة عثمان ، وسنّة معاوية ، وسنّة يزيد ، وسنّة مروان بن الحكم ، وعبد الملك بن مروان ، والوليد بن عبد الملك ، وسنّة سليمان بن عبد الملك ، إلى أن جاء عمر بن عبد العزيز فطلب من أبي بكر الحزمي أن يكتب له ما كان من حديث رسول الله أو سنّته أو حديث عمر بن الخطّاب (١).

وهكذا يتبيّن لنا أنّه حتى في الظروف التي سمحتْ بتدوين السنّة ، وبعد

__________________

السنّة النبويّة ، والخسارة العُظمى التي لا تُقدّر والتي تسبّبا فيها للأمّة الإسلامية التي كانت في أشدّ الحاجة للأحاديث النبويّة لفهم القرآن وفهم أحكام الله تعالى ، وإنّها لعمري أحاديث صحيحة لأنّهم كتبوها عنه مباشرة وبدون واسطة ، أمّا الأحاديث التي جُمعَتْ فيما بعد أغلبها أحاديث موضوعة ؛ لأنّ الفتنة وقعت ، وقتل المسلمون بعضهم ، وكتبت بأمر الحكّام الجائرين ( المؤلّف ).

١ ـ مقدّمة الموطأ لمالك ١ : ٢٦ ، تحقيق : محمّد فؤاد عبدالباقي ، سنن الدارمي ١ : ١٢٦ ، وفي تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٤١ ، وكنز العمال ١ : ٣٣٢ عن حاطب بن خليفة البرجمي قال : ( شهدت عمر بن عبد العزيز يخطب وهو خليفة ، فقال في خطبته : ألا وإنّ ما سنّ رسول اللّه وصاحباه فهو دين نأخذ به وننتهي إليه ... ).

٨٨

مرور مائة سنة على طمسها ومنعها ، نرى الحاكم الأموي المعتدل والذي ألحقه « أهل السنّة » بالخلفاء الراشدين ، يأمرُ بجمع سنّة رسول الله وسنّة عمر بن الخطّاب ، وكأنّ عمر بن الخطّاب شريك محمّد في رسالته ونبوّته!!

ولماذا لم يطلب عمر بن عبد العزيز من أئمّة أهل البيت الذين عاصرهم أن يعطوه نسخة من الصحيفة الجامعة؟! ولماذا لم يكلّفهم هم بجمع الأحاديث النبويّة ، فهم أعلم بحديث جدّهم من غيرهم؟!

فالمحقّقون والباحثون يعرفون سرّ ذلك.

وهل يحصل الاطمئنان إلى تلك الأحاديث التي جمعها « أهل السنّة والجماعة » من بني أُميّة وأعوانهم الذين يمثّلون خلافة قريش ، وقد عرفنا حقيقة قريش وعقيدتها في رسول الله وسنّته المطهّرة؟

ويبقى واضحاً بعد هذا بأنّ السلطة الحاكمة وعلى مرّ عصور الخلافة عملت بالاجتهاد والقياس ومشاورة بعضهم.

وبما أنّ السلطة قد أقصت الإمام علياً عن مسرح الحياة وأهملته ، فلم يكن لها عليه من سلطان لحرق ما كتبه في عهد الرسالة بإملاء النبيّ نفسه.

وبقي علي بن أبي طالب يحتفظ بتلك الصحيفة التي جمع فيها كلّ ما يحتاجه الناس حتّى أرش الخدش ، ولمّا تولّى الخلافة كان يُعلّقها على سيفه ، ويصعد على المنبر ليخطُب في الناس ويُعرّفهم بأهمّيتها.

وقد تواترت الأخبار عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام بأنّهم توارثوا تلك الصحيفة أباً عن جدّ وكابراً عن كابر ، وكانوا يفتون بها في المسائل التي يحتاجها معاصروهم ممّن اقتدوا بهديهم.

٨٩

ولذلك كان الإمام جعفر الصادق ، والإمام الرضا ، وغيرهم من الأئمة يردّدون دائماً نفس الكلام بخصوصها ويقولون :

« إنّنا لا نفتي الناس بآرائنا ، إنّا لو كنّا نفتي الناس برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين ، ولكنّها آثار من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أصل علم نتوارثها كابر عن كابر ، نكتنزها كما يكتنز الناس ذهبهم وفضّتهم » (١).

وقال جعفر الصادق مرّة أُخرى :

« حديثي حديث أبي ، وحديث أبي حديث جدّي ، وحديث جدّي حديث الحسين ، وحديث الحسين حديث الحسن ، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين ، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله ، وحديث رسول الله هو قول الله ( عزّ وجلّ ) » (٢).

وبكلّ هذا يُصبحُ حديث الثقلين المتواتر (٣) : « تركتُ فيكم الثقلين كتاب

__________________

١ ـ بصائر الدرجات : ٣١٩ ، بحار الأنوار ٢ : ١٧٢ ح٣.

٢ ـ أصول الكافي ١ : ٥٣ ح١٤ ، بحار الأنوار ٢ : ١٧٩ عن منية المريد : ٣٧٣.

٣ ـ قال ابن حجر في الصواعق ٢ : ٤٤٠ « ثمّ اعلم أنّ لحديث التمسك بذلك طرقاً كثيرة وردت عن نيف وعشرين صحابياً ... وفي بعض تلك الطرق أنّه قال ذلك بحجّة الوداع بعرفة ، وفي أُخرى أنّه قاله بالمدينة في مرضه وقد امتلأت الحجرة بأصحابه ، وفي أُخرى أنّه قال ذلك بغدير خم ، وفي أخرى أنّه قال لما قام خطيباً بعد انصرافه من الطائف ... ولا تنافي إذ لا مانع من أنّه كرّر عليهم ذلك في تلك المواطن وغيرها اهتماماً بشأن الكتاب العزيز والعترة الطاهرة ».

وجاء في نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار ٢ : ٢٢٦ انّ حديث الثقلين روي عن (٣٤) صحابياً.

وبما أنّ حديث الثقلين له هذه الطرق المتعدّدة فيكون متواتراً ، لصدق ضابط

٩٠

الله وعترتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً « (١) ، هو الحقّ الذي

__________________

التواتر عليه ، وهو أن ينقله من يحصل العلم بصدقهم ، أو أن ينقله كثير بحيث يمتنع تواطئهم على الكذب ، وهذا صادق على حديث الثقلين ؛ لأنّ له أكثر من ٣٤ طريقاً ، بل نجدهم حكموا بتواتر كثير من الأخبار التي لم تصل عدد رواتها إلى نصف هذا المقدار ، ومن شاء فليرجع لكتاب ( النظم المتناثر من الحديث المتواتر ) للكتاني ، ويرى ذلك بنفسه.

وقد ذكرنا سابقاً أنّ حديث الثقلين له طرق متعدّدة ، وألفاظ متقاربة ؛ لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكره في مناسبات متعدّدة ، وقد رواه مسلم في صحيحه أيضاً ، وعليه فما ذكره في كشف الجاني : ١٧٠ من أنّ حديث الثقلين غير متواتر ناشئ من عدم معرفة أقسام الحديث ومعرفة المتواتر من الآحاد ، وما ذكره أيضاً حول رواية مسلم لحديث الثقلين بلفظ يختلف عمّا ذكره المؤلّف ما هو إلاّ تغطية وهروب من الإشكال الذي عجز أهل السنّة عن حلّه : وهو لماذا خالفتم وصية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالكتاب والعترة ، فتركتم أهل البيت وتمسكتم بالسنّة الأموية المعادية للقرآن والعترة الطاهرة؟!

وفي الواقع إنّ حديث الثقلين كان وما زال يسبب أزمة كبيرة للمذهب السنّي الذي خالفه بكلّ صراحة وجرأة ، وما زال علماء المذهب السنّي عاجزين عن الإجابة عن ذلك ، وما زال أبناء المذهب السنّي يكتشفون الحقيقة في أحقّية أهل البيت بواسطة حديث الثقلين ، فما يذكره عثمان الخميس وغيره ما هو إلاّ اعتراف بالفشل وعدم إيجاد الجواب المقنع لمخالفة حديث الثقلين.

١ ـ راجع مصادر الحديث بألفاظه المختلفة : مسند أحمد ٣ : ١٤ ومواضع أُخر ، المستدرك للحاكم ٣ : ١٠٩ وصحّحه ، مسند ابن الجعد : ٣٩٧ ، كتاب السنّة لابن أبي عاصم : ٦٣٠ ح١٥٥٤ ، السنن الكبرى للنسائي ٥ : ٤٥ ، مسند أبي يعلى ٢ : ٣٠٣ ح١٠٢٧ ، تفسير ابن كثير ٤ : ١٢٢ وصحّحه ، الطبقات لابن سعد ٢ : ١٩٤ ، السيرة النبويّة لابن كثير ٤ : ٤١٦ وقال : « قال شيخنا أبو عبد الله الذهبي : وهذا حديث صحيح » وغيرها من المصادر.

٩١

ليس بعده إلاّ الضلال ، وتصبحُ السنّة النبويّة الصحيحة ليس لها من حافظ وراع وقيّم غير الأئمة الأطهار من آل بيت المصطفى المختار.

كما يُستنتجُ من هذا أنّ شيعة أهل البيت الذين تمسّكوا بالعترة هم أهل السنّة النبويّة ، وأن « أهل السنّة والجماعة » مدّعون ما ليس لهم ، ولا تقُوم دعواهم على حجّة ولا دليل.

والحمدُ لله الذي هدانا لهذا.

٩٢

الشيعة في نظر « أهل السنّة »

إذا استثْنينا بعض العلماء المعاصرين الذين أنصفوا في كتاباتهم عن الشيعة بما تفرضه عليهم الأخلاق الإسلامية ، فإنّ الأغلبية الساحقة منهم قديماً وحديثاً لا زالوا يكتبون عن الشيعة بعقلية الأمويين الحاقدين ، فتراهم في كلّ واد يهيمون ويقولون ما لا يفقَهون ، ويسبّون ويشتمون ، ويتقوّلون افتراء وبهتاناً على شيعة آل البيت ما هم منه براء ، ويكفّرونهم وينبذونهم بالألقاب ، اقتداءً بسلفهم الصالح معاوية وأضرابه ، الذين استولوا على الخلافة الإسلامية بالقوة والقهر ، والمكر والدّهاء ، والخيانة والنفاق.

فمرّة يكتبون بأنّ الشيعة هي فرقة من تأسيس عبد الله بن سبأ اليهودي ، ومرّة يكتبون بأنّهم من أصل المجوس ، وأنّهم روافض قبّحهم الله ، وأنّهم أخطر على الإسلام من اليهود والنصارى ، ومرّة يكتبون بأنّهم منافقون لأنّهم يعملون بالتّقية ، وأنّهم إباحيون يبيحون نكاح المحارم ، ويحلّلون المتعة وهي زنا ، والبعض يكتب بأنّ لهم قرآناً غير قرآننا ، وأنّهم يعبدون علياً والأئمة من بنيه ، ويبغضون محمّداً وجبريل ، وأنّهم وأنّهم ...

ولا يمرُّ عامٌ إلاّ ويطلع علينا كتاب أو مجموعة كتب من أُولئك العلماء الذين يتزعّمون « أهل السنّة والجماعة » بزعمهم ، وكلّه تكفير واستهانة بالشيعة.

وليس لهم في ذلك مبرر ولا دافع إلاّ إرضاء أسيادهم الذين لهم مصلحة

٩٣

في تمزيق الأُمّة وتفريقها والعمل على إبادتها ، كما ليس لهم فيما يكتبون من حجّة ولا دليل ، سوى التعصّب الأعمى ، والحقد الدّفين ، والجهل المقيت ، وتقليد السلف بدون تمحيص ولا بحث ولا بيّنة ، فهم كالببّغاء يعيدون ما يسمعون ، ويستنسخون ما كتبه النواصب من أذناب الأمويين ، والذين لا يزالون يعيشون على مدح وتمجيد يزيد بن معاوية (١).

فلا نستغربُ من أُولئك الممجدّين ليزيد بن معاوية أن يسبّوا ويكفّروا أعداء يزيد هذا.

وإذا كان سلفهم الصالح ، يزيد وأبوه معاوية يغدقون على أتباعهم ومن تشيّع لهم الذهب والفضة ، ويشترون بها ضمائرهم في الماضي ، فإنّ ملايين الدولارات ، والقصور الفخمة في لندن وباريس والتي ملئتْ بزرق العين ، من الشقراوات ، والخمر المصفّى ؛ لقادرة على شراء ضمائرهم ودينهم وأوطانهم في الحاضر.

ولو كان هؤلاء يتبعون السنّة النبويّة ـ كما يزعمون ـ لتعلّموا من أخلاقه العالية صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم احترام الغير ولو خالفهم في العقيدة.

ألم تقل السنّة النبويّة : « المسلم للمسلم كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضاً » (٢) ، و « المسلم للمسلم كالجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له

__________________

١ ـ فقد نشرت وزارة المعارف للمملكة العربية السعودية كتاباً بعنوان : « حقائق عن أمير المؤمنين يزيد بن معاوية ». وهذا الكتاب انتخبته وزارة المعارف للتدريس في مدارسها الرسمية ( المؤلّف ).

٢ ـ صحيح البخاري ١ : ١٢٣ ( كتاب الصلاة ، باب الحلف والجلوس في المسجد ) ، باختلاف.

٩٤

سائر الجسد بالسهر والحمّى » (١) ، ألم يصرّح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ « سباب المسلم فسوق وقتاله كفرٌ » (٢).

فلو كان هؤلاء الكتّاب المدّعون أنّهم من « أهل السنّة والجماعة » يعرفون السنّة النبويّة ، لما سمحتْ لهم نفوسهم بتكفير من يشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله ، ويقيم الصلاة ، ويؤتي الزكاة ، ويصوم رمضان ، ويحجّ البيت الحرام ، ويأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر.

وبما أنّهم أتباع السنّة الأموية والقريشية ، فهم يتكلّمون ويكتبون بالعقلية الجاهلية ، والأفكار القبليّة ، والنعرات العنصرية ، فالشيء من مأتاه لايستغربُ ، وكلّ إناء بالذّي فيه ينضح.

ألم يقل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما جاء في الذكر الحكيم : ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلَمَة سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ) (٣)؟

فإن كانوا من أهل السنّة حقّاً ، فلينادوا إخوانهم من الشيعة إلى كلمة سواء بينهم.

وإذا كان الإسلام ينادي أعداءه من اليهود والنصارى إلى كلمة سواء للتفاهم والتآخي ، فكيف بمن يعبدون إلهاً واحداً ، ونبيّهم واحدٌ ، وكتابهم واحدٌ ، وقبلتهم واحدة ، ومصيرهم واحدٌ؟!

__________________

١ ـ صحيح البخاري ٧ : ٧٧ ( كتاب الآداب ، باب الساعي على المساكين ) ، باختلاف.

٢ ـ صحيح البخاري ١ : ١٧ ( كتاب الإيمان ، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله ).

٣ ـ آل عمران : ٦٤.

٩٥

فلماذا لا ينادي علماء « أهل السنّة » إخوانهم من علماء الشيعة ، ويجلسون معهم حول طاولة البحث ، ويجادلونهم بالتي هي أحسن ، ويصلحون عقائدهم إن كانت فاسدة كما يزعمون؟

لماذا لا يعقدون مؤتمراً إسلامياً يجمع علماء الفريقين ، وتطرحُ فيه كلّ المسائل الخلافية على مسمع ومرأى من كلّ المسلمين ، حتّى يعرفوا وجه الصواب من الكذب والبهتان؟

وخصوصاً وأن « أهل السنّة والجماعة » يمثّلون ثلاثة أرباع المسلمين في العالم ، ولهم من الإمكانات المادّية والنفوذ لدى الحكومات ما يجعل ذلك عندهم سهلا ميسوراً إذ يملكون الأقمار الصناعية؟!

ولأنّ « أهل السنّة والجماعة » لا يعملون لمثل هذا أبداً ، ولا يريدون المواجهة العلمية التي ينادي بها كتاب الله المجيد بقوله :

( قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) (١).

( هَلْ عِندَكُمْ مَنْ عِلْم فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ ) (٢).

ولذلك تراهم دائماً يلجأون إلى السبّ والشتم والتكفير والبهت والافتراء ، وهم يعرفون بأنّ الحجّة والدليل مع خصومهم الشيعة.

وأعتقد بأنّهم يخافون أن يتشيّع أكثر المسلمين إذا كشفت الحقائق ، كما وقع بالفعل لبعض العلماء الأزهريين في مصر الذين سمحوا لأنفسهم

__________________

١ ـ البقرة : ١١١.

٢ ـ الأنعام : ١٤٨.

٩٦

بالبحث عن الحقّ ، فأدركوه واستبصروا ونبذوا ما كانوا عليه من عقيدة « السلف الصالح ».

فالعلماء من « أهل السنّة والجماعة » يُدركون هذا الخطر الذي يهدّد كيانهم بالذّوبان ، فإذا أعيتهم الحيلة وصل الأمر بالبعض منهم أن حرّم على أتباعه ومقلّديه أن يجلسوا مع الشيعة أو يجادلوهم ، أو يتزوّجوا منهم أو يزوّجوهم ، أو يأكلوا من ذبائحهم.

ويُفهم من موقفهم هذا بأنّهم أبعد ما يكونون عن السنّة النبويّة ، وهم أقرب ما يكونون من سنّة بني أُميّة الذين عملوا بكلّ جهودهم على إضلال الأُمّة المحمّدية بأيّ ثمن ؛ لأنّ قلوبهم لم تخشع لذكر الله وما نزل من الحقّ ، ودخلوا في الإسلام وهم كارهون.

وهذا ما عبّر عنه إمامهم معاوية بن أبي سفيان الذي قتل خيار الصحابة من أجل الوصول إلى الحكم فقط ، فقد قال في أول خطبة له :

« إنّي لم أقاتلكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتحجّوا ، وإنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم ، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون » (١).

وصدق الله إذ يقول : ( إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ) (٢).

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٦ : ١٤.

٢ ـ النمل : ٣٤.

٩٧
٩٨

« أهل السنّة والجماعة » في نظر الشيعة

إذا استثنينا بعض المتعصبين من عوام الشيعة الذين ينظرون إلى « أهل السنّة والجماعة » بأنّهم كلّهم من النواصب (١) ، فإنّ الأغلبية الساحقة من علمائهم قديماً وحديثاً لا زالوا يعتقدون بأنّ إخوانهم من « أهل السنّة والجماعة » هم ضحايا الدّس والمكر الأموي ؛ لأنّهم أحسنوا الظنّ « بالسّلف الصالح » واقتدوا بهم بدون بحث ولا تمحيص ، فأضلوهم عن الصراط المستقيم ، وأبعدوهم عن الثقلين ( كتاب الله والعترة الطاهرة ) الذين يعصمان المتمسّك بهما من الضلالة ويضمنان له الهداية.

فتراهم كثيراً ما يكتبون للدّفاع عن أنفسهم وللتعريف بمعتقداتهم ، داعين للإنصاف ولتوحيد الكلمة مع إخوانهم من « أهل السنّة والجماعة ».

وقد جاب بعض علماء الشيعة في الأقطار والأمصار باحثين عن الأساليب الكفيلة لتأسيس دور وجمعيات إسلامية للتقريب بين المذاهب ومحاولة جمع الشمل.

ويمّم آخرون منهم وجهتهم صوب الأزهر الشريف منارة العلم والمعرفة عند « أهل السنّة » ، وتقابلوا مع علمائه وجادلوهم بالتي هي أحسن ، وعملوا على إزالة الأحقاد ، كما فعل الإمام شرف الدين الموسوي عند لقائه بالإمام

__________________

١ ـ النواصب جمع ناصبي : وهم الذين ناصبوا العداء لأهل البيت النبوي وحاربوهم وقتلوهم وتتبّعوهم أمواتاً فنبشوا قبورهم ( المؤلّف ).

٩٩

سليم الدين البشري ، وكان من نتيجة ذلك اللقاء والمراسلات ولادة الكتاب القيم المسمّى بـ « المراجعات » ، والذي كان له الدور الكبير في تقريب وجهات النظر عند المسلمين.

كما أنّ جهود أُولئك العلماء من الشيعة كُلّلتْ بالنجاح في مصر ، فأصدر الإمام محمود شلتوت مفتي الديار المصرية في ذلك الوقت فتواه الجريئة في جواز التعبّد بالمذهب الشيعي الجعفري ، وأصبح الفقه الشيعي الجعفري من المواد التي تدرس بالأزهر الشريف.

هذا ، ودأب الشيعة وعلماؤهم بالخصوص على التعريف بأئمة أهل البيت الطّاهرين ، وبالمذهب الجعفري الذي يُمثّل الإسلام بكلّ معانيه ، وكتبوا في ذلك المجلّدات والمقالات ، وعقدوا لذلك الندوات ، وخصوصاً بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران عُقدتْ مؤتمرات عديدة في طهران باسم الوحدة الإسلامية ، وباسم التقريب بين المذاهب ، وكلّها دعوات صادقة لنبذ العداء والأحقاد ، ولبثّ روح الإخوة الإسلامية ، واحترام المسلمين بعضهم لبعض.

وفي كلّ عام يدعو مؤتمر الوحدة الإسلامية علماء ومفكّرين من الشيعة والسنّة ، فيعيشون أُسبوعاً كاملا تحت ظلّ الإخوّة الصادقة ، فيأكلون ويشربون ، ويصلّون ويدعون ، ويتبادلون الآراء والأفكار ، ويعطون ويأخذون.

ولو لم يكن لتلك المؤتمرات دورٌ إلاّ تأليف القلوب ، وتقريب المسلمين بعضهم من بعض ليتعارفوا ، وتزول الأحقاد لكان فيها الخير الكثير والفضل العميم ، ولسوف تؤتى أُكلها بعد حين ، إن شاء الله ربّ العالمين.

وأنتَ إذا دخلت إلى أيّ بيت من بيوت الشيعة العاديين فضلا عن بيوت

١٠٠