الشيعة هم أهل السنّة

الدكتور محمّد التيجاني السماوي

الشيعة هم أهل السنّة

المؤلف:

الدكتور محمّد التيجاني السماوي


المحقق: مركز الأبحاث العقائديّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-20-X
الصفحات: ٥٢٢

حكّام الجور هم الذين نصَّبوا أئمة « أهلّ السنّة »

ومما يدلّنا على أنّ أئمة المذاهب الأربعة من « أهل السنّة » هم أيضاً خالفوا كتاب الله وسنّة النبيّ الذي أمرهم بالاقتداء بالعترة الطّاهرة ، فلم نجد واحداً منهم لوى عنقه ، وركب سفينتهم ، وعرف إمام زمانه.

فهذا أبو حنيفة الذي تتلمذ على الإمام الصادق ، والذي اشتهر عنه قوله : « لولا السنتان لهلك النعمان » (١) نجده قد ابتدع مذهباً يقوم على القياس والعمل بالرّأي مقابل النصوص الصريحة.

وهذا مالك الذي تلقّى هو الآخر عن الإمام الصادق ، ويُروى عنه قوله : « ما رأت عينٌ ولا سمعتْ أُذن ولا خطر على قلب بشر أفقه وأعلم من جعفر الصادق » (٢) نجده قد ابتدع مذهباً في الإسلام ، وترك إمام زمانه الذي يشهد بنفسه أنّه أعلم وأفقه البشر في عصره ، فقد نفخ في روعه الحكّام العباسيون وسمّوه « إمام دار الهجرة » فأصبح مالك بعدها صاحب الجاه والسلطان والحول والطول.

وهذا الشافعي الذي يُتّهم بأنّه كان يتشيّع لأهل البيت ، فقد قال في حقّهم تلك الأبيات المشهورة :

يا أهل بيت رسول الله حبّكم

فرض من الله في القرآن أنزله

__________________

١ ـ التحفة الاثني عشرية للدهلوي : ١٤٢ ، ومختصر التحفة للآلوسي : ٨.

٢ ـ نحوه في الأمالي للصدوق : ٦٣٦ ح٨٥٢ ، المناقب لابن شهرآشوب ٣ : ٣٧٢.

١٤١

كفاكم من عظيم الشأن أنّكم

من لم يصل عليكم لا صلاة له (١)

كما يُنسبُ إليه في مدح أهل البيت عليهم‌السلام هذه الأبيات :

ولمّا رأيت الناس قد ذهبت بهم

مذاهبهم في أبحر الغي والجهل

ركبتُ على اسم الله في سفن النجا

وهم أهل بيت المصطفى خاتم الرسل

وأمسكتُ حبل الله وهو ولاؤكم

كما قد أمرنا بالتمسّك بالحبل (٢)

ويشتهر عنه قوله :

إن كان رفضاً حبّ آل محمّد

فليشهد الثقلان أنّي رافضي (٣)

وإذا يشهد الثقلان أنّه رافضي ، فلماذا لم يرفض المذاهب التي قامت ضدّ أهل البيت ، بل ابتدع هو الآخر مذهباً يحمل اسمه ، وترك أئمة أهل البيت الذين عاصرهم؟

وهذا أحمد بن حنبل الذي ربّع الخلافة بعلي ، وألحقه بالرّاشدين بعدما كان منكوراً ، وألّف فيه كتاب الفضائل ، واشتهر عنه قوله : « ما لأحد من الصحابة من الفضائل بالأسانيد الصحاح مثلما لعلي ( رضي الله عنه ) » (٤).

إلاّ أنّه ابتدع له مذهباً في الإسلام اسمه المذهب الحنبلي ، رغم شهادة العلماء من معاصريه بأنّه ليس فقيهاً ، قال الشيخ أبو زهرة : « إنّ كثيراً من

__________________

١ ـ الصواعق المحرقة ٢ : ٤٣٥ في الآيات النازلة فيهم.

٢ ـ رشفة الصادي للحضرمي : ٥٧ ، الآية السادسة.

٣ ـ الصواعق المحرقة لابن حجر ٢ : ٣٨٨ في كرامات عليّ عليه‌السلام.

٤ ـ نحوه في المستدرك للحاكم ٣ : ١٠٧ والحديث صحيح كوثاقة رجال اسناده وفي مناقب عليّ عليه‌السلام ، فيض القدير ٤ : ٤٦٨ ، تهذيب التهذيب لابن حجر ٧ : ٢٩٨ رقم ٥٦٦.

١٤٢

الأقدمين لم يعدّوا أحمد بن حنبل من الفقهاء ، كابن قتيبة وهو قريب من عصره جدّاً ، وكذلك ابن جرير الطبري وغيرهما » (١).

وجاء ابن تيميّة فرفع لواء المذهب الحنبلي ، وأدخل عليه بعض النظريات الجديدة التي تحرّم زيارة القبور والبناء عليها ، والتوسّل بالنّبي وأهل البيت ، فكلّ ذلك عنده شركاً.

فهذه هي المذاهب الأربعة ، وهؤلاء هم أئمتها وما ينسبُ إليهم من أقوال في حقّ العترة الطاهرة من آل البيت.

__________________

١ ـ كتاب أحمد بن حنبل لأبي زهرة : ١٧٠ ، وانظر الإمام الصادق لأسد حيدر ١ : ١٦٩ وضحى الإسلام لأحمد أمين ٢ : ٢٣٥ ، وأحمد بن حنبل السيرة والمذهب لسعيد أبو حبيب : ص٥٧.

وقد ذكر هذا الأخير أسماء كثير من العلماء الذين لم يعدوا أحمد بن حنبل فقيهاً كالطحاوي ، والمقدسي ، والأصيلي ، وابن عبد البرّ ، والغزالي ، والنسفي ، والسمرقندي ، والدبوسي ، مضافاً إلى ابن قتيبة والطبري.

قال ابن الأثير في حوادث سنة ٣١٠ هـ وفي هذه السنة توفي محمّد بن جرير الطبري صاحب التاريخ ببغداد .. ودفن ليلا بداره ؛ لأنّ العامة اجتمعت ومنعت من دفنه نهاراً وادعوا عليه الرفض ، ثمّ ادعوا عليه الإلحاد .. وبعض الحنابلة تعصّبوا عليه ووقعوا فيه فتبعهم غيرهم ، ولذلك سبب ، وهو أنّ الطبري جمع كتاباً ذكر فيه اختلاف الفقهاء لم يصنف مثله ولم يذكر فيه أحمد بن حنبل ، فقيل له في ذلك ، فقال : لم يكن فقيهاً وإنّما كان محدثاً ، فاشتدّ ذلك على الحنابلة.

ومنه يُعرف أن التضخيم الذي يذكر لأحمد بن حنبل ، وبيان منزلته وفقاهته وعلمه وزهده .. إلى غير ذلك ما هو إلاّ تصنيع من قبل الحنابلة أنفسهم ، وإضفاء ألقاب وأوصاف مصطنعة لا تمتّ إلى الواقع بصلة وليس لها من حقيقة الأمر شيء ، وكذلك يتضح مدى جهل عثمان الخميس في كتابه كشف الجاني : ١٧٥ ، وعدم معرفته بترجمة إمامه ورأي العلماء فيه.

١٤٣

فإمّا أنّهم يقولون ما لا يفعلون وهو مقتٌ كبيرٌ عند الله ، أو أنّهم لم يبتدعوا تلك المذاهب ، ولكن أتباعهم من أذناب الأمويّين والعبّاسيين هم الذين أسسوا تلك المذاهب بإعانة الحكّام الجائرين ثمّ نسبوها إليهم بعد وفاتهم ، وهذا ما سنعرفه إن شاء الله في الأبحاث القادمة.

أفلا تعجبون من هؤلاء الأئمة الذين عاصروا أئمّة الهدى من أهل البيت ، ثمّ تنكّبوا صراطهم المستقيم ، ولم يهتدوا بهديهم ، ولا اقتبسوا من نورهم ، ولا قدّموا حديثهم عن جدّهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل قدّموا عليهم كعب الأحبار اليهودي ، وأبا هريرة الدّوسي الذي قال في شأنه أمير المؤمنين علي عليه‌السلام : « إنّ أكذب الناس على رسول الله لأبو هريرة الدوسي » (١) كما قالت فيه عائشة

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٤ : ٦٨ ، أضواء على السنّة المحمّدية لأبي رية : ٢٠٤.

وفي شرح النهج أيضاً ٤ : ٦٨ « قال أبو جعفر : وأبو هريرة مدخول عند شيوخنا غير مرضيّ الرواية ، ضربه عمر بالدرّة وقال : قد أكثرت من الرواية ، وأحر بك أن تكون كاذباً على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » وكذلك حكى ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث : ٢٧ ، ٤٨ أنّ النظام ذكر أبا هريرة وقال : أكذبه عمر وعثمان وعليّ وعائشة ، ثمّ انبرى ابن قتيبة للدفاع عن أبي هريرة قائلا : « فلمّا أتى من الرواية عنه ( أي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) ما لم يأت بمثله من صحبه من جلّة أصحابه أو السابقين الأولين إليه ، اتهموه وأنكروا عليه وقالوا : كيف سمعت هذا وحدك؟ ومن سمعه معك؟ وكانت عائشة أشدّهم إنكاراً عليه لتطاول الأيام بها وبه ... فلمّا أخبرهم أبو هريرة بأنّه كان ألزمهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... وأنّه لم يكن ليشغله عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غرس الودي ولا الصفق بالأسواق ، يعرّض أنّهم كانوا يتصرّفون في التجارات ويلزمون الضياع في أكثر الأوقات وهو ملازم له لا يفارقه ، فعرف

١٤٤

بنت أبي بكر نفس الكلام (١).

__________________

ما لم يعرفوا وحفظ ما لم يحفظوا ، أمسكوا عنه ».

أقول : إن صحّ كلام ابن قتيبة تراجع الصحابة عن الطعن فيه فإنّما يصحّ في حقّ عمر وعثمان فقط حيث كانوا بمعزل عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكثيراً ما ألهى عمر الصفق بالأسواق عن سماع الحديث ، وأمّا في حق عليّ عليه‌السلام وعائشة فلا يقبل قوله ، كيف وقد كان الإمام عليه‌السلام ملازماً للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طيلة حياته وورث علمه وحكمته وكان هو القائم والمرشّح بعده وهو أحد الثقلين ، وكذلك عائشة فقد رويتم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ حسب زعمكم ـ « خذوا شطر دينكم عن عائشة » فإن كان هناك إمساك عن الطعن في أبي هريرة فإنّما كان من عمر وعثمان دون عليّ عليه‌السلام وعائشة.

١ ـ تأويل مختلف الحديث : ٢٧ حيث قال في حقّ أبي هريرة نقلا عن النظام : ( أكذبه عمر وعثمان وعليّ وعائشة ) ، وكانت عائشة تنكر عليه كثرة الحديث ، وقد دعته ذات يوم فقالت له : ( يا أبا هريرة ما هذه الأحاديث التي تبلغنا أنّك تحدّث بها عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هل سمعت إلاّ ما سمعنا؟ وهل رأيت إلاّ ما رأينا؟

قال : يا أُماه إنّه كان يشغلك عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المرآة والمكحلة والتصنّع لرسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... ) مستدرك الحاكم ٣ : ٥٠٩ وصححه ووافقه الذهبي.

وكذلك كذّب أبو هريرة عبد اللّه بن عمر ، فهذا طاووس يقول : ( كنت جالساً عند ابن عمر فأتاه رجل فقال : إنّ أبا هريرة يقول : إنّ الوتر ليس بحتم ، فخذوا منه أو دعوا؟ فقال ابن عمر : كذب أبو هريرة .. ) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر : ٤٦٤.

وذكر الذهبي في ترجمة أبي هريرة في السيرة ٢ : ٦٠٨ « عن مغيرة عن إبراهيم قال : كان أصحابنا يدعون من حديث أبي هريرة ... وعن الثوري .. عن إبراهيم قال : ما كانوا يأخذون من حديث أبي هريرة إلاّ ما كان حديث جنّة أو نار .. ) ، أي لأجل التساهل في أحاديث الترغيب والترهيب يأخذون بروايات أبي هريرة فيها ، وأمّا ما كان محلا لحلال ومحرماً لحرام أو غير ذلك ممّا يرتبط بصلب

١٤٥

ويُقدّمون عليهم عبد الله بن عمر الناصبي الذي اشتهر ببغضه للإمام علي وامتنع عن مبايعته ، وبايع إمام الضلالة الحجّاج بن يوسف.

ويقدّمون عليهم عمرو بن العاص وزير معاوية على الغش والنفاق.

أفلا تعجبون كيف أباح هؤلاء الأئمّة لأنفسهم حقّ التشريع في دين الله بآرائهم واجتهاداتهم ، حتى قضوا على السنّة النبويّة بما أحدثوه من قياس واستصحاب ، وسدّ باب الذرائع ، والمصالح المرسلة ، وغير ذلك من بدعهم التي ما أنزل الله بها من سلطان؟

وهلْ غفل الله ورسوله عن إكمال الدّين ، وأباح لهم أنْ يُكملوه باجتهاداتهم ، فيُحلّلوا ويحرّموا كما يحلو لهم؟!

أفلا تعجبون من المسلمين الذين يدّعون التمسّك بـ « السنّة » كيف يُقلّدون رجالا لم يعرفوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يعرفهم؟!

فهل عندهم دليل من كتاب الله ، أو من سنّة رسوله على اتّباع وتقليد أُولئك الأئمّة الأربعة أصحاب المذاهب؟!

فأنا أتحدّى الثقلين من الإنس والجنّ أن يأتوا بدليل واحد على ذلك من كتاب الله أو من سنّة رسوله ، فلا والله ، لا ولن يأتوا به ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً.

لا والله ، ليس هناك دليلٌ في كتاب الله وسنّة رسوله إلاّ على أتباع وتقليد

__________________

الشريعة فلا يعتمدون على أبي هريرة ؛ لأنّه متّهم في حديثه ، ومن السمات التي يتصف بها أبو هريرة هو التدليس ، قال الذهبي في السير ٢ : ٦٠٨ : ( قال يزيد بن هارون : سمعت شعبة يقول : كان أبو هريرة يدلّس ).

١٤٦

الأئمّة الطّاهرين من عترة النبيّ ( صلى الله عليه وعليهم ) ، أمّا هذا فهناك أدّلة كثيرة ، وحججٌ دامغة ، وحقائق ساطعة.

( فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ ) (١).

( فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) (٢).

__________________

١ ـ الحشر : ٢.

٢ ـ الحج : ٤٦.

١٤٧
١٤٨

السرّ في انتشار المذاهب السنيّة

إنّ المتتبّع في كتب التاريخ وما دوّنه الأسلاف ، يجدُ بما لا شكّ فيه بأنّ شيوع المذاهب « السنيّة » الأربعة في تلك العصور كان بإرادة السلطة الحاكمة وإدارتها ، ولذلك كثر أتباعها ، فالناس على دين ملوكهم.

كما يجد الباحث بأنّ هناك عشرات المذاهب التي انقرضت وذابتْ ؛ لأنّ الحاكم لم يكن راض عليها ، كمذهب الأوزاعي ، ومذهب حسن البصري ، وأبو عيينة ، وابن أبي ذؤيب ، وسفيان الثوري ، وابن أبي داود ، وليث بن سعد وغيرهم كثير.

وعلى سبيل المثال ، فإنّ ليث بن سعد كان صديق مالك بن أنس ، وكان أعلم منه وأفقه ، كما اعترف بذلك الشافعي (١).

ولكنّ مذهبه انقرض ، وفقهه ذاب واندرس ؛ لأنّ السلطة لم تكن عنه راضية.

وقال أحمد بن حنبل : « كان ابن أبي ذؤيب أفضل من مالك بن أنس إلاّ أنّ مالكاً أشدّ تنقية للرّجال » (٢).

وإذا راجعنا التاريخ ، فإننا نجد مالكاً صاحب المذهب قد تقرّبَ إلى

__________________

١ ـ راجع تهذيب التهذيب ٨ : ٤١٥ ، البداية والنهاية ١٠ : ١٧٨.

٢ ـ تذكرة الحفّاظ ١ : ١٩١.

١٤٩

السلطة والحكّام ، وسالمهم ومشى في ركابهم ، فأصبح بذلك الرجل المهاب والعالم المشهور ، وانتشر مذهبه بوسائل الترهيب والترغيب خصوصاً في الأندلس ، حيث عمل تلميذه يحيى بن يحيى على موالاة حاكم الأندلس ، فأصبح من المقرّبين ، وأعطاه الحاكم مسؤولية تعيين القضاة ، فكان لا يولي على القضاء إلاّ أصحابه من المالكيّة فقط (١).

__________________

١ ـ قال ابن خلكان في وفيات الأعيان ٥ : ١١٧ في ترجمة يحيى بن يحيى : » قال أبو محمّد علي بن أحمد المعروف بابن حزم الأندلسي : مذهبان انتشرا في مبدأ أمرهما بالرياسة والسلطان : مذهب أبي حنيفة ... ومذهب مالك بن أنس عندنا في بلاد الأندلس ... «.

وقال الذهبي في السير ١٠ : ٥٢٤ : ( كان أمير الأندلس لا يولي أحداً القضاء بمدائن أقليم الأندلس إلاّ من يشير به يحيى بن يحيى ، فكثر لذلك تلامذة يحيى ابن يحيى ، وأقبلوا على فقه مالك ونبذوا ما سواه ).

وقال الشاه ولي اللّه الدهلوي في حجّة اللّه البالغة ١ : ٢٨٣ « فأيّ مذهب كان أصحابه مشهورين وأسند إليهم القضاء والإفتاء ، واشتهرت تصانيفهم في الناس ودرّسوا درساً ظاهراً انتشر في أقطار الأرض ولم يزل ينتشر كلّ حين ، وأيّ مذهب كان أصحابه خاملين ولم يولّوا القضاء والإفتاء ولم يرغب فيهم الناس اندرس بعد حين » ، قد يقال : إنّ مالك أصابته محنة في زمن المنصور العباسي وضرب بالسياط ، فكيف تدّعون أنّ السياسة هي التي روّجت له؟ فنقول : نعم حدثت لمالك محنة بسيطة من قبل جعفر بن سليمان والي المنصور على المدينة وذلك في سنة ١٤٧ هـ كما ذكر ابن الجوزي في المنتظم ٩ : ١٦٢ ، ولكن أبو جعفر المنصور عاد واعتذر لمالك عندما جاء إلى الحجّ سنة ١٥٢.

قال الذهبي في السير ٨ : ١١٣ : ( قال أبو الوليد الباجي : روي أنّ المنصور حجّ وأقاد مالكاً من جعفر بن سليمان الذي كان ضربه ).

١٥٠

__________________

ويحدّثنا الذهبي في السير ٨ : ٦١ عن العلاقة الوطيدة بين مالك والمنصور ، حيث إنّ مالكاً جاء إلى المنصور بعد أن ورد إلى الحجّ فيقول : قال لي ( يعني المنصور ) : أنت أعقل الناس وأعلم الناس.

قلت : لا واللّه يا أمير المؤمنين.

قال : بلى ولكنّك تكتم.

ثمّ قال : واللّه لئن بقيت لأكتبن قولك كما تكتب المصاحف ، ولأبعثن به إلى الآفاق فلأحملنهم عليه ).

ويروي ابن قتيبة في كتابه الإمامة والسياسة ٢ : ٢٠١ ما يوافق رواية الذهبي إلى حد ما ، وفيها بيّن تفصيل الملاقاة بين مالك وأبو جعفر المنصور ، فيقول مالك بعد أن استأذن على المنصور عندما ورد الحجّ : ( فمشيت حتى انتهيت إلى القبّة التي هو فيها ، فإذا هو قد نزل عن مجلسه الذي يكون فيه إلى البساط الذي دونه ، وإذا هو قد لبس ثياباً قصدة ، لا تشبه ثياب مثله تواضعاً لدخولي عليه .. فلمّا دنوت منه رحّب بي وقرّب ثمّ قال : ها هنا إليّ ، فأوميت للجلوس فقال : هاهنا فلم يزل يدنيني حتى أجلسني إليه ، ولصقت ركبتي بركبته ثمّ كان أوّل ما تكلّم به أن قال : واللّه الذي لا إله إلاّ هو يا أبا عبد اللّه ما أمرت بالذي كان ، ولا علمته قبل أن يكون ، ولا رضيته إذ بلغني ( يعني الضرب ) ، قال مالك : فحمدت اللّه تعالى على كلّ حال ، وصلّيت على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ نزّهته عن الأمر بذلك ، ثمّ قال : يا أبا عبد اللّه لا يزال أهل الحرمين بخير ما كنت بين أظهرهم وإني أخالك أماناً من عذاب اللّه وسطوته ... وقد أمرت أن يؤتى بعدو اللّه من المدينة على قتب وأمرت بضيق مجلسه والمبالغة في امتهانه ، ولابدّ أن أنزل به من العقوبة أضعاف ما نال منك .. ثمّ قال لي : يا أبا عبد اللّه ضع هذا العلم ودوّنه ، ودوّن منه كتباً ، وتجنّب شدائد عبد اللّه بن عمر .. لنحمل الناس إن شاء اللّه على علمك وكتبك ، ونبّثها في الأمصار ، ونعهد اليهم أن لا يخالفوها ، ولا يقضوا بسواها فقلت : أصلح اللّه الأمير ، إنّ أهل العراق لا يرضون علمنا ، ولا يرون في عملهم رأينا.

١٥١

كذلك نجد أنّ سبب انتشار مذهب أبي حنيفة بعد موته هو أنّ أبا يوسف والشيباني (١) ، وهما من أتباع أبي حنيفة ومن أخلص تلاميذه ، كانا في نفس

__________________

قال أبو جعفر : يحملون عليه ، ونضرب عليه هاماتهم بالسيف ، ونقطع طي ظهورهم بالسياط .. ).

ونحو هذا ورد أيضاً في الديباج المذهب ١ : ٢٥.

ومات أبو جعفر المنصور ولم يكمل مالك كتاب الموطأ بعد ، وتقرّب مالك إليهم فحقّقوا ما كان في عزم أبي جعفر المنصور ، فهذا الخليفة هارون الرشيد تتوطّد العلاقة بينه وبين الإمام مالك ، فيطلب من مالك أن يجعل الموطأ مرجعاً للناس وأن يعلّقه على أستار الكعبة.

قال أبو نعيم في الحلية ٦ : ٣٦٢ ( ٨٩٤٤ ) : ( عن عبد اللّه بن عبد الحكم قال : سمعت مالك بن أنس يقول : شاورني هارون الرشيد في ثلاث ؛ أن يعلّق الموطأ في الكعبة ويحمل الناس على ما فيه ... ).

وفي فيض القدير للمناوي ١ : ٢٧١ ، أنّ هارون الرشيد لما أراد الخروج إلى العراق طلب من مالك بن أنس أن يذهب معه وأن يحمل الناس على الموطأ.

بعد هذا الذي ذكرناه حول مذهب مالك بن أنس وكيفيّة انتشاره يتّضح أنّ ما ذكره عثمان الخميس في كشف الجاني : ١٧٥ ما هو إلاّ إنكار للحقائق الواضحة ، وتكذيب للأُمور الثابتة.

ويتّضح معاندة هذا الرجل وتكذيبه للحقائق جزافاً إذا رجعنا إلى كتابه كشف الجاني : ١٧٥ حيث اتّهم المؤلّف بالكذب ، ناقلا عن الذهبي في السير في ترجمة مالك حادثة ضرب والي المنصور لمالك بن أنس ، مع أنّ الذهبي وبعد صفحات من ذكره لتلك الحادثة يتعرّض لاعتذار الخليفة أبي جعفر المنصور لمالك عمّا صدر من واليه ، وهذا عين التدليس على الناس ، واقتطاع بعض النصّ الذي يوافق هواه والتمسّك به ، من دون نقل تمام النصّ.

١ ـ أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم المعروف بأبي يوسف ، من أشهر تلاميذ أبي

١٥٢

__________________

حنيفة ، وهو الذي نشر مذهب أبي حنيفة بواسطة تولّيه القضاء لثلاثة من خلفاء بني العباس المهدي وابنه ثمّ هارون الرشيد ، وهو أوّل من لقّب بقاضي القضاة في ملك هارون الرشيد ، وأخذ الرشيد يكرّمه ويجلّه ؛ لأنّه فقيه السلطة يفتيها حسبما تريد ، ويحلّل لها ما تشتهي وتحب ، فهذا هارون الرشيد تقع في نفسه جارية لعيسى صاحبه ، فيأبى عيسى أن يهبها أو يبيعها لهارون الرشيد ، لأنّه حلف بالطلاق والعتاق وصدقة جميع ماله على أن لا يبيع ولا يهب هذه الجارية ، فيبعث هارون الرشيد إلى أبي يوسف ليلا ، ليجد له حلا يلصقه بالشرع يستطيع من خلاله النوم في أحضان تلك الجارية ، ولم يتوان أبو يوسف في الافتاء على طبق هوى هارون الرشيد فيقول لهارون الرشيد : ليهب لك عيسى نصفها ويبيعك نصفها ، فلا يحنث في يمينه ؛ لأنّه لم يبع ولم يهب!!

وبعد أن تصبح الجارية ملك هارون الرشيد أمير المؤمنين!! ببركة فقيه السلطة وقاضي قضاتها أبي يوسف ، وإذا بهارون الرشيد يقول : يا يعقوب بقيت واحدة .. هي مملوكة ولابد أنّ تستبرأ ، وواللّه لئن لم أبت معها ليلتي هذه إنّي أظنّ أنّ نفسي ستخرج!! فيسرع فقيه السلطة أبو يوسف ليحلل لأمير المؤمنين هارون الرشيد تلك الجارية ، وإلاّ خرجت روح أميره ويبقى بلا أمير يثني عليه ويغدقه بالأموال الطائلة ، فيقول لهارون : يا أمير المؤمنين تعتقها وتتزوّجها ، فإنّ الحرّة لا تستبرأ!! ثمّ يسرع أبو يوسف ويزوّج تلك الجارية من هارون الرشيد حتى ينام في أحضانها بدلا من خروج روحه شبقاً بها.

وعندما يرى هارون الرشيد أنّ فقيهه أبا يوسف حلّل له تلك الجارية ، ولم يقصّر في سعيه ، فيقول لخادمه مسرور : يا مسرور أحمل إلى يعقوب مائتي ألف درهم وعشرين تختاً ثياباً.

وفي أحد الأيام تبعث زبيدة زوجة هارون الرشيد إلى أبي يوسف بكتاب تقول فيه : ما ترى في كذا ، وأحبّ الأشياء إليّ أن يكون الحقّ فيه كذا!!

فلا يألو أبو يوسف في المسارعة فيما تهوى فيفتيها بما أحبت!!

١٥٣

__________________

وفي المقابل تبعث إليه بحقّ فضة فيه حقاق فضة مطبقات ، في كلّ واحد لون من الطيب ، وفي جام دراهم وسطها جام فيه دنانير!!

وفي أحد الأيام يجد هارون الرشيد شاباً من أهله يزني بامرأة ، فيغتم لذلك ؛ لأنّه أمير المؤمنين وظل اللّه في الأرضيين فلا يستطيع أن لا يقيم الحدّ عليه ولكنّه من أهله فلا يستطيع أن يقيم الحد ، فيغتم ، ويبعث في طلب فقيه يجلي غمّه عنه ، فيؤتى بأبي يوسف ، فيسأله : ما تقول في إمام شاهد رجلا يزني هل يحدّ؟

وفي الحال يدرك أبو يوسف أنّ هارون الرشيد شاهد بعض أهله يزني ؛ لأنّه عند مجيئه لملاقاة هارون الرشيد شاهد شاباً عليه علامات الملوك محبوساً ، فلذلك يسرع أبو يوسف ليقول : لا ، ليس عليه حدّ ، فيسجد الرشيد شكراً للّه ، ويعلل ذلك لهارون الرشيد بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : » ادرؤوا الحدود بالشبهات ) ، وهذه شبهة فيدرأ بها الحدّ.

ويستغرب هارون من هذا الجواب فيقول : وأيّ شبهة مع المعاينة؟! فيتفلسف فقيه السلطة بالجواب قائلا : ليس توجب المعاينة أكثر من العلم ، والحدود لا تكون بالعلم!!

وهكذا يعطل حدّ اللّه لارضاء السلطان ، ويسرع هارون الجواري لأنّ يسجد شكراً للّه مرّة أُخرى ويملأ كيس أبي يوسف بالنقود!!

ثمّ يقول أبو يوسف : « فما خرجت حتى جاءتني هدية الفتى وهدية أُمّه وجماعته ، وصار ذلك أصلا للنعمة ، ولزمت الدار ، فكان هذا الخادم يستفتيني وهذا يشاورني ، ولم يزل حالي يقوى عند الرشيد حتى قلّدني القضاء ».

وبتقليده القضاء لهارون الجواري استطاع أن ينشر فقه أبي حنيفة ويفرض مذهبه بين الناس ، ولولاه لاندرس ذكر أبي حنيفة وما عرفه أحد.

وأما حاله من حيث الرواية والعلم فهذا ابن معين يقول فيه : لم يكن يعرف الحديث.

ويقول عبد اللّه بن إدريس : كان أبو حنيفة ضالا مضلا ، وأبو يوسف فاسقاً من

١٥٤

__________________

الفاسقين.

ويقول عبد اللّه بن أحمد : سألت أبي عن أسد بن عمرو وأبي يوسف ، فقال : أصحاب أبي حنيفة لا ينبغي أن يروى عنهم.

راجع لجميع ما ذكرناه : وفيات الأعيان لابن خلكان ٥ : ٣٢٣ ـ ٣٣٣ ، الضعفاء للعقيلي ٤ : ١٥٤٤ ، ٢٠٧٥ ، مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه أبي يوسف ومحمّد بن الحسن ، الذهبي : ٣٧ وما بعدها.

والشيباني : محمّد بن الحسن بن فرقد الشيباني ، ولد بالشام وقدم مع أبيه إلى العراق ، ونشأ في الكوفة وحضر عند أبي حنيفة ، ثمّ لازم أبا يوسف ، وتوسّط أبو يوسف في توليه القضاء ، ومعاونته في نشر مذهب أبي حنيفة في الرقة ، يقول الذهبي : « كان سبب مخالطة محمّد بن الحسن السلطان أن أبا يوسف القاضي شوور في رجل يولي قضاء الرقة ، فقال لهم : ما أعرف لكم رجلا يصلح غير محمّد بن الحسن ، فإن شئتم فاطلبوه من الكوفة قال : فأشخصوه. فلمّا قدم جاء إلى أبي يوسف فقال : لماذا أشخصت؟ قال : شاوروني في قاضي الرقة فأشرت بك وأردت بذلك معنى أن اللّه قد بث علمنا هذا بالكوفة والبصرة وجميع المشرق ، فأحببت أن تكون بهذه الناحية ليبث اللّه علمنا بك ، وبما بعدها من الشامات ». مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه أبي يوسف ومحمّد بن الحسن ، الذهبي : ٥٦.

وقد صنّف الشيباني كتابه السير الكبير وأرسله إلى هارون الرشيد. يقول السرخسي : ( أمر محمّد ( رحمه الله ) أن يكتب هذا الكتاب في ستين دفتراً ، وأن يحمل على عجلة إلى باب الخليفة!! فقيل للخليفة : قد صنّف محمّد كتاباً يحمل على العجلة إلى الباب ، فأعجبه ذلك وعدّه من مفاخر أيامه ، فلمّا نظر فيه ازداد اعجاباً به ، ثمّ بعث أولاده إلى مجلس محمّد ( رحمه الله ) ليسمعوا منه هذا الكتاب ) السير الكبير ١ : ٣.

فأبو يوسف والشيباني هما اللذان نشرا مذهب أبي حنيفة بمباركة الملك العباسي

١٥٥

الوقت من أقرب المقرّبين لهارون « الرشيد » الخليفة العباسي ، وقد كان لهما الدّور الكبير في تثبيت ملكه وتأييده ومناصرته ، فلم يسمح هارون « الجواري والمجون » لأحد أن يتولّى القضاء والفتيَا إلاّ بعد موافقتهما.

فلم يُنصّبا قاضياً إلاّ إذا كان على مذهب أبي حنيفة ، فصار أبو حنيفة أعظم العلماء ، ومذهبه أعظم المذاهب الفقهية المتّبعة ، رغم أنّ علماء عصره ومن بعدهم كفّروه وأعتبروه زنديقاً ، ومن هؤلاء الإمام أحمد بن حنبل ، والإمام أبو الحسن الأشعري (١).

__________________

هارون الرشيد ، وصار أصحاب حظوة عنده لتلبيتهما رغبات الخليفة ولو على حساب شرع اللّه سبحانه وتعالى.

١ ـ لقد كثر طعن العلماء على أبي حنيفة ممّن عاصره أو تأخّر عنه ، فقد جاء في الضعفاء للعقيلي ٤ : ٢٨٠ وما بعدها : « عن عون قال : ما ولد في الإسلام مولود أشأم من أبي حنيفة ، وقال سلمة بن حكيم لما مات أبو حنيفة : الحمدُ لله إن كان لينقض الإسلام عروة عروة ، وقال مالك بن أنس : إنّ أبا حنيفة كاد الدين ومن كاد الدين فليس له دين. قال أبو سلمة الخزاعي : سمعت حمّاد بن سلمة وسمعت شعبة يلعن أبا حنيفة. وقال معاذ بن معاذ العنبري : استتيب أبو حنيفة من الكفر مرّتين ».

وروى الخطيب البغدادي أكثر من هذا فقال في تاريخه ١٣ : ٣٧٨ وما بعدها : « قيل لشريك : استتيب أبو حنيفة؟ قال : قد علم ذلك العواتق في خدورهن. قال شريك بن عبدالله قاضي الكوفة : إنّ أبا حنيفة استتيب من الزندقة مرّتين. وقال عبدالله بن أحمد بن حنبل : قلت لأبي : كان أبو حنيفة استتيب؟ قال : نعم. وقال أحمد : ما قول أبي حنيفة والبعر عندي إلاّ سواء ، وقال أيضاً : كان أبو حنيفة يكذب.

وقال سفيان الثوري : أبو حنيفة ضالّ مضلّ. وكان حمّاد بن سلمة يكني أبا حنيفة

١٥٦

كما أنّ المذهب الشافعي انتشر وقويَ بعدما كاد يندرس ، وذلك عندما أيّدته السلطة الغاشمة ، وبعدما كانت مصر كلّها شيعة فاطمية ، انقلبتْ إلى شافعية في عهد صلاح الدّين الأيوبي الذي قتل الشيعة وذبحهم ذبح النعاج.

__________________

أبا جيفة. وقال أبو بكر بن أبي داود السجستاني لأصحابه : ما تقولون في مسألة اتفق عليها مالك وأصحابه ، والشافعي وأصحابه ، والأوزاعي وأصحابه ، والحسن ابن صالح وأصحابه ، وسفيان الثوري وأصحابه ، وأحمد بن حنبل وأصحابه ، فقالوا له : يا أبا بكر لا تكون مسألة أصح من هذه ، فقال هؤلاء كلّهم اتفقوا على تضليل أبي حنيفة ».

وقال ابن الجوزي في المنتظم في تواريخ الملوك والأُمم ٥ : ١٨٧ في أحداث سنة ١٥٠ هـ عند ذكره ولادة أبي حنيفة وترجمته قال : ( .. فاتفق الكلّ على الطعن فيه ، ثمّ انقسموا : فقوم طعنوا فيه لما يرجع إلى العقائد والكلام في الأصول ، وقوم طعنوا فيه في روايته وقلة حفظه وضبطه.

وقوم طعنوا فيه لقوله بالرأي فيما يخالف الأحاديث الصحاح.

فأمّا القسم الأوّل : .. بأنّ أبا حنيفة قال : لو أنّ رجلا عبد هذا البغل يتقرّب به إلى اللّه لم أرَ بذلك بأساً ..

وعن أبي إسحاق الفزاري يقول : سمعت أبا حنيفة يقول : إيمان أبي بكر الصديق وإيمان إبليس واحد ؛ قال إبليس : يا ربِّ ، وقال أبو بكر : يا ربِّ .. وعن يوسف بن أسباط يقول : قال أبو حنيفة : لو أدركني رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأدركته لأخذ بكثير من قولي .. ) إلى غير ذلك ما سطره في أبي حنيفة.

وقال ابن عدي في الكامل ٧ : ١٠ : ( .. سمعت ابن أبي داود يقول : الوقيعة في أبي حنيفة جماعة من العلماء ؛ لأنّ إمام البصرة أيوب السختياني وقد تكلّم فيه ، وإمام الكوفة الثوري وقد تكلّم فيه ، وإمام الحجاز مالك وقد تكلّم فيه ، وإمام مصر الليث بن سعد وقد تكلّم فيه ، وإمام الشام الأوزاعي وقد تكلّم فيه ، وإمام خراسان عبد اللّه بن المبارك وقد تكلّم فيه ، فالوقيعة فيه إجماع من العلماء في جميع الآفاق ).

١٥٧

كما أنّ المذهب الحنبلي ما كان ليعرف لولا تأييد السلطات العباسية في عصر المعتصم (١) ، عندما تراجع ابن حنبل عن قوله بخلق القرآن ، ولمع نجمه في عهد المتوكّل « الناصبي ».

وقوي وانتشر عندما أيدتْ السلطات الاستعماريّة الشيخ محمّد بن عبد الوهاب في القرن الماضي ، وتعامل هذا الأخير مع آل سعود ، فأيّدوه فوراً وناصروه ، وعملوا على نشر مذهبه في الحجاز والجزيرة العربية.

وأصبح المذهب الحنبلي يعود إلى ثلاثة أئمة : أوّلهم أحمد بن حنبل الذي لم يكن يدّعي بأنّه فقيهاً ، وإنّما كان من أهل الحديث ، ثمّ ابن تيميّة الذي لقّبوه بشيخ الإسلام ومجدّد « السنّة » ، والذي كفّره علماء عصره (٢) ؛

__________________

١ ـ لا شكّ إنّ اتّخاذ مذهب أحمد كمذهب في عداد المذاهب الثلاثة الأُخر جاء متأخّراً عنه بكثير ، ولكن هذا لا يعني أنّ أحمد بن حنبل لم يكن صاحب مذهب خاصّ في العقيدة والحديث وغيرهما ، بل كان له مذهباً ومنهجاً خاصاً انتشر في زمن العباسيين بعد تأييد المتوكّل له ودعمه إيّاه.

٢ ـ جاء في كتاب تهنئة الصديق للسقّاف : ٤٦ : « كان الشيخ زين الدين ابن رجب الحنبلي ممّن يعتقد كفر ابن تيميّة ، وله عليه الردّ ، وكان يقول بأعلى صوته في بعض مجالسه : معذور السبكي يعني في تكفيره » ونقل عن ابن حجر الهيتمي في الفتاوى الحديثية : ١١٤ « ابن تيميّة عبد خذله الله وأضلّه وأعماه وأذلّه ، وبذلك صرّح الأئمة الذين بيّنوا فساد أحواله وكذب أقواله ومن أراد ذلك فعليه بمطالعة كلام الإمام المجتهد المتفق على إمامته وجلالته وبلوغه مرتبة الاجتهاد أبي الحسن السبكي وولده التاج والشيخ الإمام العزّ بن جماعة وأهل عصرهم وغيرهم من الشافعية والمالكية والحنفية ... ».

وذكر ابن حجر العسقلاني في فتح الباري ٣ : ٥٣ ( كتاب فضل الصلاة في مسجد

١٥٨

لأنّه حكم على كلّ المسلمين بالشّرك لأنّهم يتبركون ويتوسّلون بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ جاء في القرن الماضي محمّد بن عبد الوهاب صنيعة الاستعمار البريطاني في الشرق الأوسط ، فعمل هو الآخر على تجديد المذهب الحنبلي بما أخذه من فتاوى ابن تيميّة (١) ، وأصبح أحمد بن حنبل في خبر كان ، إذ إنّ المذهب عندهم اليوم يسمى المذهب الوهابي (٢).

__________________

مكة والمدينة ) : « قال الكرماني : وقع في هذه المسألة ( أي شدّ الرحال ) في عصرنا في البلاد الشامية مناظرات كثيرة وصنّف فيها رسائل من الطرفين. قلت : يشير إلى ما ردّ به الشيخ تقي الدين السبكي وغيره على الشيخ تقي الدين ابن تيميّة ، وما انتصر به الحافظ شمس الدين ابن عبدالهادي وغيره لابن تيميّة وهي مشهورة في بلادنا ، والحاصل أنّهم ألزموا ابن تيميّة بتحريم شدّ الرحال إلى زيارة قبر سيّدنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ... وهي من أبشع المسائل المنقولة عن ابن تيميّة ».

١ ـ ذكر محمّد أبو زهرة في تاريخ المذاهب الإسلامية : ١٩٠ عندما يتكلم عن السلفية : « أُولئك ظهروا في القرن الرابع الهجري وكانوا من الحنابلة ، وزعموا أنّ جملة آرائهم تنتهي إلى الإمام أحمد بن حنبل الذي أحيا عقيدة السلف وحارب دونها ، ثمّ تجدّد ظهورهم في القرن السابع الهجري ، أحياه شيخ الإسلام ابن تيميّة وشدّد في الدعوة إليه ... ثمّ ظهرت تلك الآراء في الجزيرة العربية في القرن الثاني عشر الهجري أحياها محمّد بن عبدالوهاب وما زال الوهابيون ينادون بها. وقد تعرّض هؤلاء الحنابلة للكلام في التوحيد ... وتكلّموا في آيات التأويل والتشبيه .. ونسبوا كلامهم إلى الإمام أحمد بن حنبل وناقشهم في هذه النسبة بعض فضلاء الحنابلة ».

٢ ـ علّق عثمان الخميس في كتابه كشف الجاني : ١٠٢ على هذه العبارة قائلا : « كذب والله ، فمن ذا الذي يسمّي المذهب الحنبلي بالمذهب الوهابي ».

أقول : لا أحد يسمّي المذهب الحنبلي بالمذهب الوهابي إذ إنّ بينهما عموم

١٥٩

__________________

وخصوص من وجه ، والتيجاني لا يقصد ما فهمه عثمان الخميس ، بل غرضه بيان استغلال الوهابية للمذهب الحنبلي والتحرّك تحت غطائه ، ثمّ خروجهم عنه في كثير من القضايا ، سواء في الأُصول أو في الفروع ، وهذا هو الذي دعا بعض علماء الحنابلة للردّ عليهم ، كالشيخ سليمان بن عبد الوهاب الحنبلي ، أخو محمّد ابن عبد الوهاب حيث ردّ عليهم في كتابه ( الصواعق الإلهية في الردّ على الوهابية ) ، وأطلق عليهم اسم الوهابية ؛ لأنّهم خالفوا كلام اللّه ورسوله وأهل العلم من الأُمّة ، ومنهم أحمد بن حنبل ، فمحمّد بن عبد الوهاب اصطنع مذهباً خاصاً به ، ثمّ نسبه إلى أحمد بن حنبل ، مع أنّ أحمد بن حنبل بريء ممّا ينسبونه إليه.

وكذلك ألّف ابن الجوزي الحنبلي كتاب ( دفع شبهة التشبيه بأكف التنزيه ) ، ليبرّئ أحمد بن حنبل ممّا نسبوه إليه من التشبيه ، وقال فيه : ( اعلم وفقك اللّه تعالى إنّني لمّا تتبّعت مذهب الإمام أحمد رحمه اللّه تعالى رأيت الرجل كبير القدر في العلوم ، وقد بالغ النظر في علوم الفقه ومذاهب القدماء ، حتى لا تأتي مسألة إلاّ وله فيها نصّ أو تنبيه ، لكنّه على طريق السلف لم يصنّف إلاّ المنقول ، فرأيت مذهبه خالياً من التصانيف التي كثر جنسها عند الخصوم .. وما رأيت لهم تعليقة في الخلاف ، إلاّ أنّ القاضي أبا يعلي قال : كنت أقول : ما لأهل المذاهب يذكرون الخلاف مع خصومهم ، ولا يذكرون أحمد ، ثمّ عذرتهم ؛ إذ ليس لنا تعليقة في الفقه ، فصنّف لهم تعليقة .. وانتدب للتصنيف ثلاثة .. فصنّفوا كتاباً شانوا بها المذهب ، ورأيتهم قد نزلوا إلى مرتبة العوام ، فحملوا الصفات على مقتضى الحسن ، فسمعوا أنّ اللّه سبحانه وتعالى خلق آدم عليه الصلاة والسلام على صورته فأثبتوا له صورة ، ووجهاً زائداً على الذات ، وعينين وفماً وأضراساً وأضواء لوجهه هي السبحات ويدين وأصابع ، وكفاً وخنصراً وابهاماً ، وصدراً وفخذاً وساقين ورجلين .. وكلامهم صريح في التشبيه ، وقد تبعهم خلق من العوام ، وقد نصحت التابع والمتبوع فقلت لهم : يا أصحابنا أنتم أصحاب نقل ، وأتباع إمامكم الأكبر أحمد بن حنبل ـ رحمه اللّه تعالى ـ يقول وهو تحت

١٦٠