الشيعة هم أهل السنّة

الدكتور محمّد التيجاني السماوي

الشيعة هم أهل السنّة

المؤلف:

الدكتور محمّد التيجاني السماوي


المحقق: مركز الأبحاث العقائديّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-20-X
الصفحات: ٥٢٢

يقلّدونهم في أعمالهم حسب الرسائل العمليّة التي يستنبطها كلّ مرجع من الكتاب والسنّة ، ولا يجتهد إلاّ في الأُمور المستحدثة التي عرفها هذا القرن بسبب التقدّم العلمي والتكنولوجي ، كعملية زرع القلب أو أيّ عضو جسدي من شخص لآخر ، أو الحمل الاصطناعي ، أو المعاملات البنكية وغير ذلك (١).

وقد يبرز من بين المجتهدين أعلمهم فيُسمّى المرجع الأعلى للشيعة ، أو

__________________

١ ـ في كتاب ( الانتصار للصحب والآل : ١٦٨ ) للدكتور إبراهيم الرحيلي في معرض ردّه على المؤلّف ذكر أن المؤلّف في الصفحات السابقة ذكر أنّ الشيعة تقيدوا بالنصوص الشرعيّة الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، بينما هنا يقرّر أنّ الفقهاء والمجتهدين يتولّون في كلّ عصر استنباط الأحكام الشرعيّة من النصوص! وهذا تناقض ، إذ كيف يمكن القول بأنّهم تقيّدوا بالنصّ والقول بأنّهم استخدموا الاجتهاد في استنباط الأحكام؟

وفي الجواب على هذا الكلام نقول : إنّه ليس هناك تهافت في كلام المؤلّف حيث إنّ استنباط الأحكام الشرعيّة من قبل الفقهاء لا ينافي تقيّد الشيعة بالنصوص الشرعيّة الواردة عن أهل البيت عليهم‌السلام ؛ لأنّ الفقيه يستنبط الحكم الشرعي من الكتاب الكريم والأحاديث الواردة عن أهل البيت عليهم‌السلام ، ودائرة عمله تكون في حدود فهم النصّ ودراسة الظروف والملابسات والقرائن الحافة به واستخراج الحكم الشرعي منه ، فهو الذي يقوم بعرض الروايات على الكتاب الكريم ، وتنقية الصحيح من السقيم ، والموافق للكتاب من مخالفه ، حتى يستخرج الحكم الشرعي الصحيح الوارد في النصوص الشرعيّة.

وهذا خلافاً لأهل السنّة والجماعة حيث إنّهم عند فقد النصّ يرجعون إلى القياس والاستحسان وسنّة الصحابة والمصالح المرسلة ممّا لم يرد دليل شرعي يجوّز الاعتماد عليها والرجوع إليها عند فقد النصّ الشرعي. فلا يوجد تخالف في كلام المؤلّف وإنما التخالف في ذهن الرحيلي لا غير.

٢٤١

زعيم الطّائفة والحوزة العلمية ، والذي يحظى بتقدير واحترام كلّ المراجع الآخرين.

ويقلّد الشيعة على مرّ العصور الفقيه الحيّ الذي يعيش مشاكل الناس ويهتمّ بهمومهم ، فيسألونه ويجيبهم.

وبهذا بقي الشيعة في كلّ العصور يحافظون على المصدرين الأساسيين للشريعة الإسلامية من الكتاب والسنّة ، والنصوص المنقولة عبر الأئمّة الاثني عشر من العترة الطاهرة ، وجعلت علماءهم يستغنون عن القياس والقول بالرأي ؛ لأنّ الشيعة اعتنوا بتدوين السنّة النبويّة من زمن علي بن أبي طالب الذي كان يحتفظ بالصحيفة الجامعة ، التي جمعت كلّ ما يحتاجه الناس إلى يوم القيامة ، وكان الأئمّة من ولده يتوارثونها كابراً عن كابر ، ويكنزونها كما يكنز الناس الذّهب والفضّة.

وقد نقلنا قول الشهيد آية الله الصدر في رسالته العملية ، والتي ذكر فيها بأنّه لم يعتمد إلاّ على القرآن والسنّة.

وليس ذكرنا للشهيد الصدر إلاّ مثالا ، وإلاّ فإنّ كلّ مراجع الشيعة بدون استثناء يقولون نفس القول.

وبهذا البحث الوجيز في مسألة التقليد الشرعي والمرجعية الدينية يتبيّن لنا بأنّ الشيعة الإمامية هم أهل القرآن والسنّة النبويّة المنقولة مباشرة عن علي « باب مدينة العلم » ، العالم الربّاني ، والمرشد الثاني للأُمّة بعد نبيّها ،

٢٤٢

من كان في القرآن كنفس النبيّ (١).

فمن جاء للمدينة ودخلها من بابها فقد وصل إلى المعين الصَّافي ، وأخذ بالكيل الوافي والعلاج الشَّافي ، وقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها ، لقوله تعالى : ( وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ) (٢).

ومن أتى البيوت من غير أبوابها سمّيَ سارقاً ، فلم يتمكّن من الدّخول ، ولم يعرف سنّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسيُعاقبه الله على عصيانه.

__________________

١ ـ إشارة إلى الآية : ٦١ من سورة آل عمران في قوله تعالى : ( فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ) ، فدعا علي بن أبي طالب. أخرجه مسلم في صحيحه ٧ : ٢١ ( كتاب الفضائل ، باب فضائل علي عليه‌السلام ).

٢ ـ البقرة : ١٨٩.

٢٤٣
٢٤٤

التقليد والمرجعيّة عند أهل السنّة والجماعة

وإذا بحثنا موضوع التقليد والمرجعيّة عند « أهل السنّة والجماعة » فإننا نتحيّر لإيجاد علاقة تربط هؤلاء بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكلّنا يعلم بأنّ « أهل السنّة والجماعة » يرجعون في التقليد إلى أئمة المذاهب الأربعة : أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وابن حنبل ، وكلّ هؤلاء لا يعرفون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا صاحبوه.

وفي وقت كان الشيعة يقلِّدون علي بن أبي طالب عليه‌السلام الذي لم يُفارق النبيّ طيلة حياته ، ومن بعده يقلِّدون سيّدي شباب أهل الجنة الإمام الحسن والإمام الحسين سبطي النبيّ ، والإمام علي بن الحسين زين العابدين ، وابنه الإمام الباقر ، وحفيده الإمام الصادق عليهم‌السلام ، لم يكن « لأهل السنّة والجماعة » وجود في ذلك العصر ، ولم يحدّثنا التاريخ عنهم أين كانوا ، ومن هو إمامهم الذي يقلِّدونه ويرجعون إليه في الأحكام الشرعيّة من الحلال والحرام ، من يوم وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ظهور المذاهب الأربعة؟

ويظهر بعد ذلك على مسرح الحياة أئمة المذاهب الأربعة واحداً بعد واحد ، وعلى فترات متفاوتة حسب رغبة الحكّام العباسيين ، كما قدمنّا في بحث سابق.

ثمّ يظهر بعد ذلك تكتل يجمع المذاهب الأربعة تحت شعار برَّاق يأخذ بالألباب ، ويتسمّى بـ « أهل السنّة والجماعة » ، ويلتف حوله كلّ من عادى

٢٤٥

علياً والعترة الطاهرة ، وكان من أنصار الخلفاء الثلاثة وكلّ الحكّام من بني أُميّة وبني العباس ، فاعتنق الناس تلك المذاهب طوعاً وكرهاً ؛ لأنّ الحكّام عملوا على تأييدها بوسائل الترغيب والترهيب ، والناس على دين ملوكهم.

ثمّ نجد « أهل السنّة والجماعة » وبعد موت الأئمة الأربعة ، يغلقون باب الاجتهاد في وجه علمائهم ، فلا يسمحون لهم إلاّ بالتقليد لأُولئك الأئمة الميّتين.

ولعلّ الحكّام والأمراء هم الذين أغلقوا عليهم باب الاجتهاد ، ولم يسمحوا لهم بالنقد والنظر في شؤون الدين ، خوفاً من التحرّر الفكري الذي قد يسبِّب لهم قلاقل وفتناً قد تهدّد مصالحهم وكيانهم.

وأصبح « أهل السنّة والجماعة » مقيّدين لتقليد رجل ميّت لم يشاهدوه ولم يعرفوه حتى يطمئنوا لعدالته وورعه وعلمه ، وإنّما كلّ ما هنالك أنّهم أحسنوا الظنّ بأسلافهم الذين يروي كلّ فريق منهم مناقب خيالية في الإمام الذي يتبعه ، فجاء أغلبها فضائل مناميَّة لا تتعدّى أضغاث أحلام أو طيف منام ، أو ظنّاً وأوهاماً ، فكلّ حزب بما لديهم فرحون.

ولو نظر المثقّفون من « أهل السنّة والجماعة » اليوم إلى المثالب التي رواها أسلافهم أيضاً ، وتضارب الأقوال في بعضهم حتى وصل بهم الأمر إلى الحروب والتكفير في ما بينهم ، لراجعوا موقفهم من أُولئك الأئمة ولكانوا من المهتدين.

ثمّ كيف يقلّد المسلم العاقل في هذا الزمان رجلا لا يعرف من مستحدثات العصر شيئاً ، ولا يجيبه إذا سأله عن حل لبعض مشاكله ، ومن

٢٤٦

المؤكّد بأنّ مالكاً وأبا حنيفة وغيرهم سيتبرَّأون من « أهل السنّة والجماعة » يوم القيامة ويقولون : ربنا لا تؤاخذنا بما فعل هؤلاء الذين لم نعرفهم ولم يعرفونا ، وما قلنا لهم يوماً بوجوب تقليدنا.

ولا أدري ماذا سيكون جواب « أهل السنّة والجماعة » عندما يسألهم ربّ العالمين عن الثقلين؟ ثمّ يأتي عليهم بالرسول شهيداً ، وسوف لن يقدروا على دفع شهادته ، ولو تذرَّعوا بطاعة ساداتهم وكبرائهم.

وإذا سألهم : هل وجدتم في كتابي أو في سنّة رسولي عهداً أو ميثاقاً أو حجّة على اتباع المذاهب الأربعة؟

والجواب على هذا معروف ولا يتطّلب مزيداً من العلم ، فليس في كتاب الله ولا في سنّة رسوله شيء من ذلك ، وإنّما في كتاب الله وسنّة رسوله أمر صريح بالتمسّك بالعترة الطاهرة وعدم التخلّف عنهم.

ولعلّهم سيقولون : ( رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ) (١) وسيكون الردّ : كلا ، تلك كلمة أنتم قائلوها.

وسيقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا ربّ إنّ قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً ، إنّني أوصيتهم بعترتي ، وبلَّغتهم ما أمرتني به من مودّة قرابتي ، فنكثوا بيعتي ، وقطعوا رحمي ، وذبحوا ولدي ، وأباحوا حرمي ، فلا ترزقهم يا ربّ شفاعتي.

ومرّة أُخرى يتبيَّن لنا بأنّ « أهل السنّة والجماعة » لا تربطهم بالرسول صلة ولا مودّة ، فمن فارق العترة فقد فارق القرآن ومن فارق القرآن فلن تجد له من دون الله وليّاً ولا نصيراً.

__________________

١ ـ السجدة : ١٢.

٢٤٧

( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولا ) (١).

__________________

١ ـ الفرقان : ٢٧ ـ ٢٩.

٢٤٨

الخلفاء الراشدون عند الشيعة

هم الأئمة الاثنا عشر من العترة النبويّة الطاهرة ، أوَّلهم :

أمير المؤمنين ، وإمام المتقين ، وقائد الغر المحجّلين ، وسيّد المسلمين ، ويعسوب الدين ، أسد الله الغالب عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، باب مدينة العلم الذي حيَّر العقول ، وبهر النفوس ، وأنار القلوب ولولاه ـ بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لما قام للدين عمود.

والثاني هو الإمام هو أبو محمّد الحسن بن علي عليه‌السلام ، سيّد شباب أهل الجنة ، ريحانة النبيّ في هذه الأُمّة ، العابد الزاهد ، الناصح الأمين.

والثالث هو الإمام أبو عبد الله الحسين بن علي عليه‌السلام ، سيّد شباب أهل الجنة ، وريحانة النبيّ في هذه الأُمّة ، سيّد الشهداء وذبيح كربلاء الذي بذل مهجته لإصلاح أُمّة جدّه.

والرابع هو الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام وسيّد الساجدين.

والخامس هو الإمام محمّد بن علي الباقر عليه‌السلام الذي بقر علوم الأوّلين والآخرين.

والسادس هو الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام الذي ما رأت عين ، ولا سمعت أُذن ، ولا خطر على قلب بشر أفقه منه علماً وعملا.

والسابع هو الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه‌السلام سليل النبوّة ، ومعدن العلم.

٢٤٩

والثامن هو الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام الذي أُوتي الحكمة في حال صباه.

والتاسع هو الإمام محمّد بن علي الجواد عليه‌السلام إمام الجود والكرم والأخلاق.

والعاشر هو الإمام علي بن محمّد الهادي عليه‌السلام صاحب الفضل والهدى.

والحادي عشر هو الإمام الحسن بن علي العسكري عليه‌السلام إمام الزهد والتقوى.

الثاني عشر هو الإمام محمّد بن الحسن المهدي عليه‌السلام الذي سيملأ الأرض عدلا وقسطاً كما مُلئت ظلماً وجوراً ، ويصلّي خلفه ابن مريم عليه‌السلام ، ويتمّ الله به نوره ، ويفرح به المؤمنون.

فهؤلاء هم أئمة الشيعة وعددهم اثنا عشر إماماً ، فإذا قيل : الشيعة الإمامية ، أو الاثنا عشرية ، أو الجعفرية كانوا هم المقصودين دون سواهم ، فلم يقل أحد من الفرق الإسلامية بإمامتهم غيرهم.

وإذا تتبعنا الآيات القرآنية النازلة بخصوصهم ، والتي تبيّن فضلهم ، وشرف منزلتهم ، وطيب عنصرهم ، وطهارة نفوسهم ، وعظيم شأنهم ، كآية المودة ، وآية إذهاب الرِّجس والتطهير ، وآية المباهلة ، وآية الأبرار ، وآية الصلاة والتسليم ، وغيرها كثير.

وإذا تتبعنا الأحاديث النبويّة الشريفة الواردة في فضلهم وتقدّمهم على الأُمّة وأعلميتهم وعصمتهم ، فإنّنا سنسلم قطعاً بإمامتهم ، وأنّهم أمان الأُمّة من الضلالة ، وسبيلها الوحيد إلى الهداية.

٢٥٠

وسيتبين لنا جليّاً بأنّ الشيعة هم الفائزون ؛ لأنّهم تمسّكوا بحبل الله المتين وهو ولاؤهم ، واستمسكوا بالعروة الوثقى لا انفصام لها وهي مودّتهم ، وركبوا سفينة النجاة وآمنوا من الغرق والهلاك.

ولذلك نحكم ونجزم بمزيد اليقين والمعرفة بأنّ الشيعة الإماميّة هم أهل السنّة المحمّدية ، ( لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَة مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) (١).

صدق الله العلي العظيم

__________________

١ ـ ق : ٢٢.

٢٥١
٢٥٢

الخلفاء الراشدون عند أهل السنّة والجماعة

هم الخلفاء الأربعة الذين اعتلوا منصّة الخلافة بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأهل « السنّة والجماعة » يقولون فأفضليتهم على حسب ترتيب خلافتهم وعلى سائر الخلق بعد النبيّ ، هذا ما نسمعه اليوم ، وقد عرفنا في ما سبق من أبحاث بأنّ الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام لم يكن معدوداً عندهم من الخلفاء العاديين فضلا عن الراشدين ، وإنّما ألحقه في ركب الخلفاء الإمام أحمد بن حنبل في زمن متأخّر جداً ، وكان قبلها يُلعن على منابرهم في كلّ البلاد الإسلامية والامبراطورية الأمويّة.

ولمزيد التحقيق ، وليطمئن القارئ إلى هذه الحقيقة المؤسفة لابدّ من لفت نظره إلى ما يأتي :

قد قدّمنا أنّ عبد الله بن عمر هو من أكابر فقهاء أهل السنّة والجماعة ، وقد اعتمده مالك في موطّأه ، والبخاري ومسلم في صحيحيهما ، وباقي المحدّثين عن بكرة أبيهم.

فهذا الرجل كان من النواصب الكبار الذين عرفوا ببغضهم الصريح لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، ويحدّثنا التاريخ أنّه رفض البيعة لولي المؤمنين ، وأسرع يبايع الحجّاج اللعين عدوّ الله ورسوله (١).

__________________

١ ـ الحجّاج بن يوسف الثقفي المعروف بفسقه وكفره وجرائمه واستهتاره بالدّين ،

٢٥٣

وقد كشف عبد الله بن عمر عن مكنون قلبه وأباح بخالص سرّه ، عندما حدَّث بأنّه لا يعدّ لعلي عليه‌السلام فضلا ولا فضيلة ، ولا منقبة واحدة تجعله على الأقل في المرتبة الرابعة بعد عثمان بن عفان.

وقد عرفنا بأنّه يفضّل أبا بكر وعمر وعثمان فقط ، أمّا علي عليه‌السلام فهو بالنسبة إليه من سوقة الناس إن لم يكن أقّلهم عنده ، وإليك حقيقة أُخرى أخرجها المحدِّثون والمؤرِّخون تعرب بصراحة عن نفسية ابن عمر الحاقدة والمبغضة لعلي ، ولكلّ الأئمة عليهم‌السلام من عترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الطاهرة.

قال عبد الله بن عمر ، وهو يفسّر حديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله : « الخلفاء من بعدي اثنا عشر كلّهم من قريش » ، قال عبد الله بن عمر : يكون على هذه الأُمّة اثنا عشر خليفة وهم :

أبو بكر الصديق ، عمر الفاروق ، عثمان ذو النورين ، معاوية وابنه ملكا الأرض المقدّسة ، والسفاح ، وسلام ، ومنصور ، وجابر ، والمهدي ، والأمين ، وأمير العصب ، كلّهم من بني كعب بن لؤي ، كلهم صالح لا يوجد مثله! (١).

__________________

أخرج الحاكم في المستدرك ٣ : ٥٥٦ وابن عساكر ١٢ : ١٥٩ أنّ الحجّاج كان يقول : يزعم ابن مسعود أنّه يقرأ قرآناً من عند الله ، والله ما هو إلاّ رجز من رجز الأعراب. وكان يقول : اتقوا الله ما استطعتم فليس فيها مثوبة ، واسمعوا وأطيعوا لأمير المؤمنين عبدالملك بن مروان فإنّها المثوبة.

كما أخرج ابن عقيل في كتاب النصائح الكافية : ١٠٦ أنّ الحجّاج خطب بالكوفة فذكر الذين يزورون قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمدينة قال : تبّاً لهم إنّما يطوفون بأعواد ورمّة بالية ، هلاّ طافوا بقصر أمير المؤمنين عبدالملك؟ ألا يعلمون أنّ خليفة المرء خير من رسوله.

١ ـ تاريخ دمشق ٦ : ٤٠٨ ـ ٤٠٩ ، سير أعلام النبلاء للذهبي ٤ : ٣٨.

٢٥٤

إقرأ واعجب أيّها القارئ العزيز من هذا الفقيه المعظَّم عند « أهل السنّة والجماعة » كيف يحرّف الحقائق ويقلبها ، فيجعل معاوية وابنه يزيد والسفاح من أفضل العباد ، إذ يقول صراحة : كلّهم صالح ولا يوجد مثله!

وقد أعمى بصره الحقد والجهل ، كما أعمى بصيرته الحسد والبغض (١) ، فلم يَرَ لأمير المؤمنين علي عليه‌السلام فضلا ولا فضيلة ، فيقدّم عليه معاوية الطليق وابنه يزيد الزنديق والمجرم السفاح ، وما عشت أراك الدهر عجباً!

فعبد الله بن عمر هو ابن أبيه حقاً ، والشيء من مأتاه لا يستغرب ، وكل إناء بالذي فيه ينضح ، فأبوه عمل بكل جهوده لإبعاد عليّ عليه‌السلام عن الخلافة واحتقاره وانتقاصه في أعين الناس.

وهذا ابنه الحاقد البغيض ، ورغم وصول علي عليه‌السلام إلى الخلافة بعد مقتل عثمان إذ بايعه المهاجرون والأنصار ؛ نراه امتنع عن مبايعته ، وعمل بكلّ جهوده على أطفاء نوره ، وتأليب الناس عليه لإسقاطه ، فجعل يحدِّث ويوهم المسلمين بأنّ عليّاً عليه‌السلام لا فضل له ، وهو كسائر الناس العاديين.

وقد خدم عبد الله بن عمر الدولة الأموية ، وتوّج معاوية وابنه يزيد بتاج الخلافة كذباً وافتراء على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واعترف بخلافة السفاح والمنصور ، وكلّ فسّاق بني أُميّة ، وقدَّمهم على سيّد المسلمين ، وولي المؤمنين بنصّ القرآن والسنّة ، ولم يعترف بخلافته رغم وقوعها ، إنّ هذا لشيء عجيب!

__________________

١ ـ إقرأ ولا تنسَ قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي أخرجه مسلم بأنّ حبّ علي بن أبي طالب إيمانٌ وبغضه نفاقٌ ، وأنّ المنافقين كانوا لا يُعرفون زمن النبيّ إلاّ ببغضهم لعلي.

٢٥٥

ولنا مع ابن عمر لقاء آخر في بحث لاحق لنكشف الستار عنه أكثر ، مع أنّ فيما قدّمناه كفاية لإسقاطه من الاعتبار ، وتجريده من العدالة ، وعدّه في زمرة النواصب الذين أسَّسوا مذهب « أهل السنّة والجماعة » ، وأصبح عندهم من أكبر الفقهاء والمحدِّثين.

وأنت إذا جبتَ الأرض شرقاً وغرباً ، وصلَّيت في مساجد « أهل السنّة والجماعة » قاطبة ، وتحدّثت مع علمائهم ، فسوف يملأ سمعك قول أئمتهم في كلّ مناسبة : « عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما » (١).

__________________

١ ـ هذا الكلام الذي ذكره المؤلّف حول عبد اللّه بن عمر ، وانتقاده للرواية التي نقلت عنه في تفسير الخلفاء الاثني عشر بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإن كان في الرواية كلام ، لكنّ المؤلّف يريد أن يبيّن هذا الشيء ، وهو أنّ عبد اللّه بن عمر كان من المنحرفين عن علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، ولم يكن يرى له فضل ولا فضيلة ، بغضاً وحنقاً منه على أمير المؤمنين عليه‌السلام.

٢٥٦

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يقبل تشريع « أهل السنّة والجماعة »

عرفنا ممّا سبق بأنّ الشيعة اقتداءً بأئمة أهل البيت عليهم‌السلام لم يعملوا بالرأي ولا بالقياس بل حرَّموهما ، وذلك لأنّ النصوص النبويّة كانت هي القاضية والحاكمة عندهم ، وقد توارثوها كابراً عن كابر ، وقد جاء ذكر الصحيفة الجامعة وطولها سبعون ذراعاً ، وفيها كلّ ما يحتاجه المسلمون إلى قيام الساعة.

كما عرفنا أيضاً بأنّ « أهل السنّة والجماعة » اضطروا للعمل بالرأي وبالقياس ، وذلك لعدم وجود النصوص النبويّة عندهم وافتقارهم إليها ؛ لأنّ كبراءهم وساداتهم رفضوها وأحرقوها ، ومنعوا من تدوينها وكتابتها.

وقد عمد أنصار الاجتهاد والقول بالرأي إلى وضع حديث على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتأييد مذهبهم ، وتلبيس الحقّ بالباطل ، فقالوا بأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث معاذ بن جبل إلى اليمن وسأله : « كيف تقضي إذا عرض لك القضاء »؟ فقال معاذ : أقضي بكتاب الله ، فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إن لم تجد في كتاب الله »؟ قال : أقضي بسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : « إن لم تجد في سنّة رسوله »؟ فقال معاذ عند ذلك : إن لم أجد أجتهد برأيي.

فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ذلك : الحمدُ لله الذي وفَّق رسول رسول الله لما يرضي الله ورسوله (١).

__________________

١ ـ المصنّف لابن أبي شيبة ٧ : ١٣ ح٥٩ ، مسند أحمد ٥ : ٢٤٢.

٢٥٧

وهذا الحديث باطل ولا يمكن أن يصدر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكيف يقول النبيّ لمعاذ : إن لم تجد في كتاب الله وسنّة رسوله؟ والله يقول لرسوله : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيء ) (١) ، ويقول : ( مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيء ) (٢) وكذلك قوله : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (٣).

وقال أيضاً لرسوله : ( إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ ) (٤).

فكيف يقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد هذا لمعاذ : إن لم تجد في كتاب الله ولا في سنّة رسوله؟! وهل هذا إلاّ اعتراف بأن كتاب الله وسنّة رسوله ناقصان ، ولم يبيِّنا كلّ الأحكام القضائية!

ولقائل أن يقول : ربما كان هذا الحديث لمعاذ بن جبل في بداية الدعوة ، ولم يكمل بعد نزول القرآن.

قلنا : لا يصحُّ ذلك.

أولا : لقول معاذ : أحكم بكتاب الله ، فدلّ على أنّ كتاب الله كاملٌ عندهم.

وإذا أضفنا إليه قوله : أقضي بسنّة رسوله ، علمنا بما لا شكّ فيه بأنّ الحديث وضع في زمن متأخّر جدّاً عندما كثر القول بالاجتهاد مقابل النصوص ؛ لأنّ مصطلح كتاب الله وسنّة رسوله كان يستعمل دائماً فيما بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

١ ـ النحل : ٨٩.

٢ ـ الأنعام : ٣٨.

٣ ـ الحشر : ٧.

٤ ـ النساء : ١٠٥.

٢٥٨

ولا يصح ثانياً : لأنّه يصبح حجّة لكلّ من جهل أحكام الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يقضي برأيه بما شاء ، ولا يكلّف نفسه معرفة النصوص.

ولا يصح ثالثاً : لقول الله سبحانه : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) ، ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) ، ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) (١).

ولا يصح رابعاً : لأنّ الذي يجهل الأحكام لا يحقّ له القضاء ولا الافتاء حتى يعرف حكم الله ورسوله في ذلك.

وإذا كان النبيّ نفسه هو رسول الله ، وقد أعطاه الله سبحانه حقّ التشريع للأُمة ، فقال : ( مَا كَانَ لِمُؤْمِن وَلا مُؤْمِنَة إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (٢) ، ومع ذلك فإنّه لم يعمل طيلة حياته ، ولم يحكم في قضية واحدة برأي ولا بقياس ولا باجتهاد ، بل كان دائماً يتبع النصوص الإلهية التي ينزل بها جبريل عليه‌السلام كلّما دعت الحاجة لذلك ، والروايات التي تخالف هذا الواقع كلّها موضوعة.

ولمزيد الاطمئنان بما قدّمناه ، إليك الدليل من صحاح « أهل السنّة » ، أخرج البخاري في صحيحه قوله :

ما كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يُسأل ممّا لم ينزل عليه الوحي فيقول : لا أدري أو لم يجب حتى ينزل عليه الوحي ، ولم يقل برأي ولا قياس ، لقوله تعالى : ( بِمَا

__________________

١ ـ المائدة : ٤٤ ـ ٤٥ ـ ٤٧.

٢ ـ الأحزاب : ٣٦.

٢٥٩

أَرَاكَ اللّهُ ) (١) (٢).

نعمّ هذا هو ربّ العالمين وأحكم الحاكمين يقول لرسول الله : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ ... ) (٣).

نعم ، هذا هو القرآن يقول لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ ... ) (٤).

وإذا كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يعمل برأي ولا بقياس بشهادتهم في صحاحهم ، فكيف تسنّى لهم أن يعملوا بذلك؟! وكيف يخالفون أحكام الله وسنّة رسوله ثمّ يقولون بأنّهم « أهل السنّة » ، إنّه حقّاً أمر عجيب وغريب؟!

تنبيه لابدّ منه

إذا تكلّمنا في الفصول القادمة عن « أهل السنّة والجماعة » ، فإنّنا لا نقصد بهم المسلمين المعاصرين ، فقد لاحظنا في عديد الفقرات بأنّ هؤلاء أبرياء ، وليس لهم في ما اقترفه السلف من ذنب ولا إثمّ ، وقلنا بأنّهم ضحايا الدس والتَّعتيم التاريخي الذي صاغه الأمويون والعباسيون وأذنابهم لمحق السنّة النبويّة وإرجاع الأمر إلى الجاهلية.

ولقد كنّا منهم نسير في ركبهم ونهتدي بهديهم ، فمن الله علينا وهدانا إلى

__________________

١ ـ النساء : ١٠٥.

٢ ـ صحيح البخاري ٨ : ١٤٨ من ( كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة ).

٣ ـ المائدة : ٤٨.

٤ ـ النساء : ١٠٥.

٢٦٠