تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦))

ومرة أخرى يؤكد دعاء ابراهيم (ع) صفة الامن للبيت ، ومرة أخرى يؤكد معنى الوراثة لأهل الفضل والخير. ان ابراهيم (ع) قد أفاد من عظة ربه له في الاولى ، لقد وعى منذ أن قال له ربه (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) وعى هذا الدرس ، فهو هنا في دعائه يخص الرزق بأهل الخير. انه لابراهيم (ع) الأواه الحليم القانت المستقيم ، يتأدب بالادب الذي علمه ربه فيراعيه ، في طلبه ودعائه ، ويجيء الرد من ربه عزوجل مكملا : (الذين لا يؤمنون ومصيرهم العذاب الاليم).

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩))

وبينا نحن في انتظار بقية الخبر اذ بالسياق يكشف لنا عنهما ويرينا اياهما ، كما لو كانت رؤية العين ، انهما أمامنا حاضران نكاد نسمع صوتيهما يبتهلان :

(رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) ... (وَتُبْ عَلَيْنا) وماذا في ثنايا الدعاء انه أدب النبوة ، وايمان النبوة وعقيدة اليقين والقطع ، لا الظنون والشك.

ثم هو طابع الامة المسلمة .. تضامن الاجيال في العقيدة ، ان أمر العقيدة هو شغله الشاغل وهمه الاول. (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) وكانت الاستجابة بعد قرون وقرون واذا بالرسول الامي العربي من سلالة ابراهيم الخليل يطهر بيته المقدس من رجس الأوثان ، ويجعله مصلى للقائمين والعاكفين والركع السجود.

١٠١

اذن فليخرج اليهود والنصارى عن خط ابراهيم (ع) وليخسأ من ادعى الامامة بعد حفيده محمد ص وآله وكان قد عكف على عبادة الاوثان دهرا طويلا ، لان رب ابراهيم الخليل (ع) عاهده انه (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) وأي ظلم وضلال ومنكر أشد من السجود للاوثان من دون الواحد القهار تلك العبادة الاثيمة التي عبدها من تولى الخلافة الالهية ظلما وعدوانا وكذبا وبهتانا بعد نبي الرحمة محمد ص وآله فاذا كان الدعاء بالرزق خصه خليل الرحمن بأهل الايمان والتقوى.

فالأولى أن مقام النبوة يحرم على المنافقين وعبدة الاوثان ، وأكبر برهان على أن الجماعة لم يكن تظاهرهم بالايمان الا لأجل الوصول الى الرياسة والجاه ، وتسليمهم الامر لآل ابي سفيان الذين لم يؤلوا جهدا في كيدهم للاسلام وأهله بكل أنواع الكيدة وأشكاله ، وكادوا أن يمحوا آثاره لو لا جهاد ابي عبد الله الحسين (ع) الذي كشف نفاقهم وكفرهم مع من أسس ومهد لهم حتى بنوا على ما أسسه الاولون.

(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢))

هذه هي ملة ابراهم (ع) الاسلام الخالص الصريح ، فلا يرغب عنها ولا ينصرف عنها الا من ظلم نفسه وأشقاها. (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ) ... (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ). ها هي ذي الفرصة التي من الله بها على البشرية أجمع فأرسل اليها رسولا منهم رحمة للعالمين وها هو نبي الاسلام يدعونهم للسعادة والهدى فيختارا الشقاء والضلال.

(أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣))

١٠٢

ان هذا المشهد بين يعقوب وبنيه في آخر لحظة من حياته لمشهد عظيم الدلالة ، قوي الايحاء عميق التأثير ، ميت يحتضر فما هي القضية التي تشغل باله في ساعة الاحتضار.

ما هو هذا الشاغل الذي يقلق باله في سكرات الموت ، ما هي الثروة التي يريد توريثها لفلذات قلبه ، ويحرص على تسليمها لهم قبل أن يلفظ أنفاسه الاخيرة؟

انها العقيدة الصحيحة ، هي التركة ، هي القضية الكبرى ، وهي شغله الشاغل عن كل ما يهمه في تحقيقه قبل أن يصفر القطار وينتقل من هذه الدار الى دار القرار (ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي) هذا هو الامر الذي دعاه لجمع أولاده وتوثيقه منهم على الحرس بتمسكهم على هذه الثروة التي يريد أن يخلفها لهم ويطمئن قلبه باحرازها لهم قبل موته. ويأتي الجواب من فلذة الاكباد : (نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ) الحمد لله لقد اطمئن القلب وسكن الفؤاد وهدأ البال واحرز كل ما كان يهمه من احرازه لاولاده قبل آخر لحظة من حياته. وهنا تنقطع كل حجة وتضليل عن أهل النفاق والتشكيك فالحمد لله لقد تم المراد.

(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤))

فلكل حسابه وطريقه ، ولكل عنوانه وصفته ، اولئك فئة من المتقين ، وتلك زمرة من المنافقين ، وسيجازى كلا بعمله ، وهذا هو التصور اللائق بالحق والعدل والانصاف من خالق العباد.

(وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥) قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧)

١٠٣

صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (١٣٨) قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩)

أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠))

وانما كان قول اليهود كونوا هودا تهتدوا فقط ، وقول النصارى كونوا نصارى فقط فجمع الله تعالى قوليهما ليوجه نبيه ص وآله ليقابلهم جميعا بكلمة واحدة فقط :

(قل لهم ـ يا محمد ـ : (بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ـ مثل اليهود والنصارى قل فريق جعل لله شريكا وابنا ، وهو يدعي كذبا وزورا انه يعترف بالله الذي لا اله الا هو ، واحد أحد فرد صمد (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ).

ثم أمره أن يعلن الايمان الصحيح والاسلام الحق الذي هو الاعتراف لله بالوحدانية والتصديق بجميع رسله وانبيائه وكتبه وشرايعه لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ولأمره وارادته مستسلمون ومسلمون وبقضائه وحكمه راضون مذعنون.

(فَإِنْ آمَنُوا) بمثل ما آمنتم (فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا) ... (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) انه ليس على المؤمن الصحيح الا أن يستقيم ضمن حدود الله تعالى ولا يتعداها ولا ينحرف عن خطه المستقيم ذات الشمال وذات اليمين ، فلا يميل مع الاهواء حيث مالت. وعلى المؤمن أن يعتز بالحق وان كان وحده وان كان لا يملك من متاع الدنيا شيئا. فان كفالته وحراسته من خالقه هي الغنى والقوة التي لا تفنى ولا تقهر ولا يغلب مدى الأبد.

(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١))

١٠٤

(سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢)

وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٤٣))

من السياق القرآني ومن سياق الاحداث في المدينة يتضح أن المقصود بالسفهاء هم اليهود فهم الذين أثاروا الضجة التي أثيرت بمناسبة تحويل القبلة كما أسلفنا ، وهم الذين أثاروا هذا التساؤل : (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) وهي المسجد الاقصى.

عن الامام (ع) انه قال : لما كان رسول الله ص وآله بمكة أمره الله تعالى ان يتوجه نحو بيت المقدس في صلاته ويجعل الكعبة بينه وبينها اذا أمكن واذا لم يمكن استقبل بيت المقدس ـ لان العرب في مكة كانوا يسجدون الى أصنامهم التي وضعوها في الكعبة فأراد الله عزوجل أن يصرفه عن مشابهتهم ليعلم أي ليتميز من يسجد للاصنام التي في الكعبة ممن يسجد لله عزوجل ، ثم حصل له ذلك في المدينة فان اليهود كانوا يصلون على بيت المقدس فأمره الله عزوجل أن يتحول في صلاته الى الكعبة ليتميز عن أعداء الله عزوجل فقال : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ) ـ أي لنميز ـ (مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ).

عن البراء بن عازب قال صليت مع رسول الله ص وآله نحو بيت المقدس في المدينة سبعة عشر شهرا ، ثم أمر بالتوجه الى الكعبة ، بعد أن صلى من الظهر ركعتين.

فنزل جبرائيل (ع) فأخذ بعضده وحوله الى الكعبة وأنزل عليه

١٠٥

قوله تعالى (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ).

فجاء قوم من اليهود يقولون يا محمد هذه القبلة بيت المقدس قد صليت اليها أربع عشرة سنة ، ثم تركتها الان ، أفحقا ما كنت عليه فقد تركته الى باطل ، أو كان باطلا فقد كنت عليه طول هذه المدة ، فما يؤمننا أن تكون الان على باطل.

فقال ص وآله : بل ذلك كان حقا. وهذا حق ـ فأوحى الله اليه : (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) ... ثم قال لهم رسول الله ص وآله لقد تركتم العمل يوم السبت ثم عملتم بعده في سائر الايام ، ثم تركتموه في السبت ، ثم عملتم بعده ، أفتركتم الحق الى الباطل أو تركتم الباطل الى حق ، أو الحق الى حق. قولوا كيف شئتم فهو قول محمد ص وآله ، وجوابه لكم. قالوا : بل ترك العمل في السبت حق ، والعمل بعده حق.

فقال ص وآله : فكذلك قبلة بيت المقدس في وقته حق ، ثم قبلة الكعبة حق.

ثم قال ص وآله : يا عباد الله أنتم كالمرضى والله رب العالمين كالطبيب ، وصلاح المريض فيما يعلمه الطبيب ويدبره ، لا فيما يشتهيه المريض ويقترحه ، ألا فسلموا الله أمره تكونوا من الفائزين.

وهكذا وحد الله تعالى هذه الامة ، وحدها في الهها ورسولها ودينها وقبلتها. وحدها على اختلاف ألوانها ولغاتها وأوطانها ، ولم يرض أن تقوم وحدتها على واحدة من هذه القواعد كلها ، انها الوحدة التي تليق ببني الانسان ، فالانسان يجتمع على عقيدة القلب وقبلة العبادة ، اذا تجمع الحيوانات على المرعى والكلأ.

(قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ

١٠٦

وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤))

انهم ليعلمون ان القبلة التي أمرهم الله تعالى الى التوجه اليها عند عبادتهم لخالقهم باخلاص هي الكعبة وانما ابتدعوا التوجه في صلاتهم الى بيت المقدس والله تعالى يبرأ منهم ومن عبادتهم انها لعبادة الاهواء والاغواء والانحراف عن الحق. فهم في عناد يقودهم الهوى ، وتؤرثه المصلحة والغرض ، ومن الجهل أن يظن باليهود والنصارى ان الذي يصدهم عن الدخول في الاسلام هو عدم اتضاح الحال اليهم ، كلا ، بل هو العناد والهوى ، وحب الرياسة الباطلة التي صدت علماءهم عن جميع ذلك ، وبنفس هذا الداعي كان السبب في أهل السقيفة حينما تركوا خلافة الرحمن واتبعوا خليفة الشيطان.

(وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠))

انهم لن يقتنعوا بألف دليل ، لان الذي ينقصهم ليس هو الدليل ، انما هو التجرد من اتباع الهوى ونبذ التعصب الاعمى ، (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) (وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ).

فانت يا رسول الله على الحق ، وهم على الباطل ، وقبلتك هي قبلة الحق وقبلتهم هم ابتدعوها ، وقبلتك اختارها الله تعالى لعباده ، وانت

١٠٧

يستحيل ان تتبع منهجا غير المنهج الالهي الذي ترمز له هذه القبلة (كعبة بيت الحرام).

هذا شأن امتك يا محمد مادامت مسلمة ، فاذا لم تفعل فليست من الاسلام في شيء انما هي الدعوة الفارغة من كل حقيقة.

والعداء بين اليهود والنصارى ، والعداء بين الفرق اليهودية المختلفة ، والعداء بين الفرق النصرانية المختلفة أشد عداء مما بينك وبينهم غاية الامر يخفون ذلك.

(وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ).

ان الامر يتعلق بالاستقامة على هدى الله ، والتجرد الا من طاعة الله عزوجل والاخلاص له.

ان الطريق واضح ، والصراط مستقيم ، فاما العلم الذي جاء من عند الله ، وأما الهوى في كل ما عداه ، وليس للمسلم أن يتلقى الا من الله ، وليس له أن يدع العلم المتيقن ويتبع الهوى والتعصب وكل ما ليس من عند الله تعالى فهو الهوى والضلال والتردي في حفر المهالك.

وان (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) .. ولكنهم يكتمون الحق.

ومعرفتهم بابنائهم هي قمة اليقين ، فاذا كان أهل الكتاب على يقين بان القبلة التي اختارها الله لعباده وعبادته هي الكعبة لا غير ، ولكنهم يكتمون معرفة هذه الحقيقة ماذا ينفعهم البيان.

ورسول الله ص وآله أيضا على يقين تام في صحة ما هو عليه وبطلان ما عليه غيره ولكن يوجه الله تعالى التحذير ، والمقصود الامة المسلمة بالخصوص والناس أجمع :

١٠٨

(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) ، (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) ... (ما لك من نصير).

وما أجدرنا نحن اليوم أن نستمع الى هذا التحذير ، ولا تتبع المستشرقين ـ من اليهود والنصارى ، والشيوعيين أهل الكفر والالحاد ـ ونتلقى عنهم تاريخ حياتنا السابقة واللاحقة ، ونستمع الى ما يدسونه من شكوك في دراساتهم لقرآننا وحديث نبينا ص وآله ، وسيرة الاخيار من أولياء الله الصادقين الذين ما غيروا ولا بدلوا ولا انحرفوا عن الصراط المستقيم حتى أتاهم اليقين وانتقلوا الى روضات النعيم في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

ونحن نرسل الى أعدائنا البعثات من طلابنا يتلقون عنهم علوم الاسلام ويتخرجون من جامعاتهم المضللة ، ثم يعودون الينا مدخولي العقل والضمير فينقلون الى بقية ابنائنا ما تلقونه من التضليل والتحريف ولذا عم الداء وعسر الدواء وقل الاخيار.

ان هذا القرآن قرآنا ، قرآن الامة المسلمة ، وهو كتابها الخالد الذي يخاطبها فيه ربها بما تعلمه وما تحذره ، ويوحى اليهم الاستقامة على طريق الحق والاخلاص لله تعالى.

(وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ. وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ٦ س ١٥٢ ي

وبهذا التحديد والتحذير والتوجيه يصرف الله المسلمين عن الانشغال بما يبثه اعداء الحق والعدل من أهل الكتاب من دسائس وفتن وتأويلات وأقاويل التي يبتدعها أهل البطل والاضلال ، وأهل الكفر والالحاد ، حسدا وتعصبا بغير هدى ولا سراج منير.

(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ، وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)

١٠٩

(فَلا تَخْشَوْهُمْ .. وَاخْشَوْنِي)

فلا سلطان لهم عليكم ، ولا يملكون شيئا من احدكم ، مادمتم في طاعتي وضمن حدودي ، ومتمسكين بحبلي ومتبعين لأهل بيت نبيي الذين هم فيكم بمثابة باب حطة في بني اسرائيل من دخله كان من الآمنين ، وهم فيكم بمثابة سفينة نوح من ركبها فاز ونجا ، ومن تركها ضل وهوى وخسر الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين ، وكذلك فعلت الامة المسلمة بعد موت نبيها حينما تركوا الحق واتبعوا الباطل وتركوا الهدى واتبعوا الضلال ، وتركوا امير المؤمنين علي بن ابي طالب (ع) واتبعوا أهل الشرك والنفاق حتى تقهقروا الى الحضيض وأصبحوا اذلاء بين الاعداء تائهين بغير امام ولا دليل ولا هدى ولا سراج منير.

(وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)

ولقد كانت النعمة التي يذكرهم بها حاضرة بين أيديهم ، يدركونها في أنفسهم ويدركونها في حياتهم ، ويدركونها في مجتمعهم وموقفهم في الارض ومكانهم في الوجود.

وذلك حين ما وقف فيهم نبيهم ص وآله في غدير خم بعد رجوعه من حجة الوداع في الهجير الشديد ، وقال خطبته العصماء ، وناداهم بكل مالديه من عزم وقوة برفيع صوته :

أيها الناس : من أولى بكم من أنفسكم قالوا : الله ورسوله ، فقال ص وآله :

من كنت نبيه فهذا علي بن ابي طالب امامه ـ وكذب من ادعى الاعتراف بنبوتي وأنكر امامته ـ ومن كنت مولاه فهذا علي مولاه ، اللهم وال من ولاه وعاد من عاداه واخذل من خذله وانصر من نصره وأدر الحق معه حيث دار فاسمعوا الله واطيعوا تنالوا سعادة الدنيا

١١٠

والآخرة وتنقاد لكم جميع أهل الارض الى آخر الدهر وتنزل عليكم البركات من السماء وتخرج لكم الارض خيراتها ، وتحرزون رضا رب العالمين وعز الدنيا والآخرة وذلك هو الفوز المبين.

وبعد تمام تبليغه ما امره الله تعالى به نزل قوله عزوجل :

(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ. وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) س ٥ ٣ ي

فقال رسول الله ص وآله : الحمد لله على كمال الدين واتمام النعمة ورضا الرب فلو ثبتوا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا ، ولكن نكثوا فذلوا وهلكوا وأهلكوا :

(وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)

(كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (١٥٢))

والذي يلفت النظر هنا ، هو ان الآية تعيد بالنص الى ذهن المخاطبين دعوة نبي الله ابراهيم (ع) التي سبقت في السورة ، وهو قوله : وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة ، ليذكر المسلمون أن بعثة هذا الرسول فيهم ، هو الاستجابة لدعوة ابراهيم (ع) وفي هذا ما فيه من ايحاء عميق بان أمرهم ليس مستحدثا ، انما هو قديم ، وان قبلتهم ليست طارئة ، انما هي قبلة ابراهيم (ع) وان نعمة الله سابغة وعدها خليله منذ ذلك التاريخ البعيد.

اذن فما يتلو عليكم ـ هذا الرسول ـ هو الحق ، وهو تفضل يرتعش القلب الحي ازاءه حين يتعمق حقيقته ، فمن هم هؤلاء الناس حتى يخاطبهم الله سبحانه وتعالى بكلماته ويمنحهم هذه الرعاية ، ويزكيهم ، ولو لا الله عزوجل مازكى منهم من أحد ، ولا تطهر ولا ارتفع

١١١

لما طهرت أرواحهم من لوث الشرك ودنس الجاهلية ، ورجس التصورات التي تثقل الروح الانساني ..

ويعلمهم الكتاب والحكمة (وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) وكان ذلك حقا في واقع الجماعة فقد التقط الاسلام اهل الجاهلية ، وهي لا تعلم شيئا مما يميز بني البشر.

وكان مسجد رسول الله ص وآله ، هو الجامعة الكبرى التي تخرج منها ذلك الجيل الذي قاد البشرية تلك القيادة الحكيمة الراشدة ، القيادة التي لم تكن تعرف لها البشرية نظيرا من قبل ولا من بعد في تاريخ البشرية الطويل.

وما يزال هذا المنهج الذي خرج ذلك الجيل وتلك القيادة على استعداد تام لتخريج أجيال وقيادات على مدار الزمان ، لو رجعت الامة المسلمة الى هذا المعين ولو آمنت حقا بهذا الغرآن المجيد وتمسكت بعدله الحق المبين كما أوصاها نبيها ص وآله بقوله : (اني مخلف فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر. كتاب الله وعترتي أهل بيتي وانهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض ، وانكم لن تضلوا ما أن تمسكتم بهما وانكم قادمون علي واني سائلكم عنهما فلا تتقدموهما فتهلكوا ، ولا ولا تتأخروا عنهما فتهلكوا).

(فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ، وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ).

يا للتفضل الجليل الودود ، الله جل جلاله ، يجعل ذكره لهؤلاء العبيد مكافئا لذكرهم له في عالمهم الصغير ... ان العبيد حين يذكرون مولاهم يذكرونه في هذه الارض الصغيرة. والله تعالى حين يذكرهم في هذا الكون الذي لا تعرف له حدود ، وهو الله العلي العظيم وهم العبيد.

١١٢

يا ابن آدم بمشيئتي كنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء ، وبارادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد ، وبفضل نعمتي عليك قويت على معصيتي ، وبعصمتي وعفوي وعافيتي أديت فرائضي ، وأنا أولى باحسانك منك ، وانت أولى بذنبك مني.

فالخير مني اليك بما أوليت يدا ، وللشر اليك بما جنيت جزاء ، وبسوء ظنك بي قنطت من رحمتي ، فالحمد والحجة عليك بالبيان ، ولي السبيل عليك بالعصيان ، ولك الجزاء الحسنى عندي بالاحسان ، لم أدع تحذيرك ، ولم آخذك عند غرتك ، ولم أكلفك فوق طاقتك ولم أحملك من الامانة الا ما أقدرتك ، رضيت منك لنفسي ما رضيت به لنفسك ، ولن أعذبك الا بما عملت.

يا عبادي كلكم ضال الا من هديت ، فسلوني الهدى أهدكم ، وكلكم فقير الا من أغنيت ، فسلوني الرزق أرزقكم ، وكلكم مذنب الا من عافيت فسلوني المغفرة أغفر لكم ، ومن علمي اني ذو قدرة على المغفرة فمن استغفرني وأناب الي غفرت له. الحديث القدسي.

وتذكر هذه الحقيقة واجب على الامة المسلمة ليذكرها الله فلا ينساها ، ومن نسيه الله فهو مغمور ضائع لا ذكر له في الخير والسعادة ، ولا ذكر له في الملأ الاعلى ، ومن ذكر الله ذكره ، ورفع من وجوده ، وذكره في الكون العريض.

ولقد ذكر المسلمون الله فذكرهم ورفع ذكرهم ومكنهم من القيادة الراشدة ، ثم نسوه فنسيهم فاذا هم همل ضائع ، وذيل تافه ذليل ، والوسيلة قائمة ، والله تعالى حي قيوم يدعوهم في قرآنه المجيد : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) ، و (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) ، (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) و (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ).

١١٣

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣))

يتكرر ذكر الصبر في القرآن المجيد كثيرا ، ذلك أن الله سبحانه يعلم ضخامة الجهد الذي تقتضيه الاستقامة على الطريق بين شتى النوازع والدوافع ، والذي يقتضيه القيام على دعوة الله في الارض بين شتى الصراعات والعقبات ، والذي يتطلب أن تبقى النفس مشدودة مشدودة الاعصاب ، مجندة القوى ، يقظة للمداخل والمخارج ، ولا بد من الصبر في هذا كله ..

نعم لا بد من الصبر على اداء الطاعات ، والصبر على ترك المعاصي ، والصبر على جهاد المعاندين لأوامر الله ونواهيه ، والصبر على جهاد النفس الذي هو أشق الجهاد ولذا سماه رسول الله ص وآله (بالجهاد الاكبر) وحين يشتد البلاء وتكثر الاعداء ويشق الجهاد ، قد يضعف الصبر اذا لم يكن هناك زاد ومدد ، ومن ثم يقرن الله عزوجل الصلاة بالصبر ، فهي المعين الذي لا ينضب ، والزاد الذي لا ينفذ ، والزاد الذي يزود القلب فيمتد حبل الصبر ولا ينقطع ثم يضيف الى الصبر الرضى والبشاشة والطمأنينة ، والثقة ، واليقين.

لا بد للانسان الفاني الضعيف المحدود أن يتصل بالقوة الكبرى ، ليستمد منها العون حين يتجاوز الجهد قواه المحدودة ، حينما تواجهه قوى الشر الباطنة والظاهرة ، حينما يثقل عليه جهد الاستقامة على الطريق بين دفع الشهوات واغراء المطامع ، وحينما تثقل عليه مجاهدة الطغيان والفساد وهي عنيفة ، حينما يطول به الطريق الشاق في عمره المحدود.

ثم ينظر فاذا هو لم يبلغ شيئا وقد أوشك المغيب ولا شعاع في الافق ولا معلم في الطريق هنا تبدو قيمة الصلاة ، انها الصلة المباشرة

١١٤

بين الانسان الفاني والقوة الباقية ، انها الموعد المختار لالتقاء النقطة والقطرة المنعزلة بالنبع الفياض الذي الذي لا يغيض ، انها مفتاح الكنوز التي تفيض انها الانطلاقة من حدود الواقع الارضي الصغير الى مجال الواقع الكوني الكبير ، انها الروح والندى والظلال والهواء في الحر الهاجر ، انها اللمسة الحانية للقلب المتعب المكدود.

ومن هنا كان رسول الله ص وآله اذا دهمته شدة قال : (قوموا بنا الى الصلاة) بهذا أمرني ربي ، وكان يقول : (ارحنا يا بلال) ليسرع في الاذان للصلاة.

ان هذا المنهج الاسلامي منهج عبادة ، والعبادة ذات أسرار ، ومن اسرارها انها زاد الطريق وانها مدد الروح ، وانها جلأ القلب لتذوق هذا التكليف في حلاوته ان الله عزوجل انتدب رسوله العظيم لهذا المنصب الثقيل فقال له :

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) ... (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً).

انها العبادة التي تفتح القلب وتوثق الصلة وتيسر الامر وتشرق بالنور وتفيض بالعزاء والسلوى ومن ثم يوجه الله تعالى المؤمنين وهم على أبواب المشقات العظام الى الصبر والى الصلاة.

ثم يجيء التعقيب بعد التوجيه فيقول عزوجل : (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ). معهم يؤيدهم ويثيبهم ويقويهم ويؤنسهم ، ولا يدعهم يقطعون الطريق وحدهم ، وهو معهم أينما كانوا :

(ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا) س ٥٨ ٧

(وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (١٥٤))

ان هنالك قتلى سيخرون شهداء في معركة الحق ، شهداء في

١١٥

سبيل الله ، لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الباطل سفلى. يقتلون كراما أزكياء ، وهم ليسوا أمواتا انهم أحياء عند ربهم أحياء ومن ثم لا يغسلون كما يغسل الموتى ، ويكفنون بثيابهم ، وهم أطهار بما فيهم من حياة ولذا ترى أهليهم وذويهم يفتخرون بهذه القتلة المثالية ، فلا يبكون عليهم ولا يندبون بل يقولون يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزا عظيما.

اما الذين يقتلون في سبيل المال والجاه ، أما الذين يقتلون في سبيل الهوى والتعصب ، اما الذين يقتلون في سبيل شهوات الدنيا فمصيرهم الى الجحيم الى جهنم وبئس المصير فقد خسروا الدنيا والآخرة.

عن يونس بن ظبيان عن الصادق (ع) فقال له : ما يقول الناس في أرواح المؤمنين ، قال يقولون في حواصل طيور خضر في قناديل تحت العرش فقال (ع) : سبحان الله المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير ، يا يونس اذا كان ذاك أتاه محمد وعلي وفاطمة ، والحسن والحسين (ع) والملائكة المقربون فاذا قبضه الله تعالى صير تلك الروح في قالب كقالبه في الدنيا ، فيأكلون ويشربون فاذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا وهم في جنة البرزخ الى يوم يبعثون فتنقل أرواحهم الى أجسامهم الاولى ويدخلون جنة الخلد ونعيم لا يبلى.

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦))

لا بد من تربية النفوس بالبلاء ، والتمحيص ومن امتحان التصميم على معركة الحق بالمخاوف والتدريب على الشدائد ، بالجوع ونقص الاموال والانفس والثمرات.

١١٦

لا بد من هذا الابتلاء ، ليؤدي المؤمنون ، تكاليف العقيدة ، كي تعز نفوسهم بمقدار ما أدوا في سبيلها من تكاليف ، والعقائد الرخيصة التي لا يؤدي أصحابها تكاليفها لا يعز عليهم التخلي عنها عند أدنى الصدمات والنوائب.

فالتكاليف هي الثمن النفسي الذي تعز به العقيدة في نفوس أهلها ، قبل أن تعز في نفوس الآخرين ، وكلما تألموا في سبيلها وكلما بذلوا من أجلها ، كانت عليهم أعز وعندهم أغلى وأثمن.

كذلك لن يدرك الآخرون قيمتها الا حين يرون ابتلاء أهلها بها وصبرهم على بلائها. انهم عندئذ سيقولون في أنفسهم : لو لم يكن ما عند هؤلاء من العقيدة خيرا مما يبتلون به واكبر ما قبلوا هذا الابتلاء ، ولا صبروا عليه ، وعندئذ ينقلب المعارضون للعقيدة باحثين عنها ، مقدرين لها ، مندفعين اليها ، وعندئذ يجيء نصر الله والفتح ويدخل الناس في دين الله أفواجا.

ومن جملة فوائد الابتلاء صلابة عود أصحاب العقيدة والقوى ، فالشدائد تستجيش مكنون القوى ومذخور الطاقة ، وتفتح في القلب منافذ ومسارب ما كان ليعلمها المؤمن في نفسه الا تحت مطارق الشدائد ، والقيم والموازين ما كانت لتصح وتستقيم الا في جو المحنة والاختبار.

وأهم من هذا كله ، أوان القاعدة لهذا كله .. الالتجاء الى الله وحده حين تهتز الاسناد كلها ويخلو القلب الى الله وحده ، وتنقطع

١١٧

لدى الانسان جميع الاسباب والوسائل الا الى الله تعالى وتتفتح البصيرة حينئذ وينجلي الافق على مد البصيرة ، لا شيء الا الله ، ولا قوة الا قوته .. ولا حول الا حوله ، ولا ارادة الا ارادته فلا ملجأ الا اليه ، وعندئذ تلتقي الروح بالحقيقة الواحدة. والنص القرآني هنا يصل بالنفس الى هذه النقطة ويرفعها في معارج الكمال الانساني.

(وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا : إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ)

انا لله كلنا كل ما فينا ، وكل كياننا وما نملكه وما يرجع الينا من مال وأولاد وأنفس وثمرات كله لله وهؤلاء هم الذين يعلي المنعم الجليل مكانهم عنده جزاء لصبرهم الجميل وعقيدتهم المتينة.

(أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).

صلوات من ربهم يرفعهم بها عن مصاف سواهم ، ويشركهم بها في نصيب الانبياء والصديقين ، والملائكة المقربين ، وهو مقام شامخ رفيع ، وشهادة من الله بانهم هم المهتدون.

ان الله تعالى يضع جميع ما يرغب به الراغبون في كفة ، ويضع في الكفة الاخرى أمرا واحدا هو صلوات من ربهم ورحمة واولئك هم المهتدون ، انه لا يعدهم بالنصر ولا يعدهم بالتمكين في الارض والفوز والنصر على الاعداء ، ولا يعدهم بالغنائم ، بل وعدهم شيئا أعظم وأعلا وأثمن وأغلى ، هي صلوات من ربهم ، ورحمة ومن ثم هو رضا الخالق العظيم عليهم وبركاته ، هذا هو الهدف الوحيد لمن عرف الله كما ينبغي أن يعرف ، وهذه هي الغاية ، وهذه هي الثمرة الحلوة التي تهفو اليها أفئدة الابرار وحدها.

فاما ما يلحق ذلك وما يترتب عليه بدون قصد من النصر والتمكين في الارض فليس لهم به قصد. انما هو لدعوة الله التي يحملونها.

١١٨

ان الذي لهم في صلوات الله ورحمته وشهادته جزاء ، التضحية بالاموال والانفس والثمرات وجزاء الخوف والجوع والشدة ، وجزاء على القتل والشهادة ، ان الكفة ترجع برضا الله فقط فهو ارجح من التمكين وارجح من شفاء غيظ الصدور.

هذه هي الغاية الوحيدة التي دعت علي بن ابي طالب وابناءه المعصومين ان يضحوا ويسترخصوا كل شيء في الحصول عليه : هو رضا الله لا غير.

وهو الذي دعا عليا للسكوت عن أهل السقيفة حينما أحرقوا بابه وكسروا ضلع الزهراء واسقطوا جنينها وهو ينظر بصبر تعجز عن حمله الجبال الراسيات.

وهذا هو الهدف الوحيد الذي دعا الحسين الشهيد أن يبذل في سبيل احرازه النفس والاولاد والاخوان والاصحاب ، وسبي العيال وحرق الخيام ونهب الاموال وكل شيء ما عدا رضا الله والعقيدة الثابتة ولقد نجح في ثورته ونال بغيته واحرز رضا خالقه وفضح أعداءه وأعداء الانسانية ، أهل الكفر والنفاق ق ومن ساعدهم وأسس لهم وأعانهم على ذلك.

(وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).

(إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨))

لقد ذكر أن الصفا والمروة جبلان بمكة وهما من أعلام مناسك الحج. عن الصادق (ع) انه سئل عن السعي بين الصفا والمروة فريضة أم سنة فقال (ع) : فريضة. وعنه (ع) : ان آدم نزل على الصفا ، ونزلت حواء على المروة ، فسمى الصفا باسم آدم المصطفى وسميت المروة باسم المرأة ، وقد أقر الاسلام معظم شعائر الحج التي كان العرب يؤدونها ،

١١٩

ونفى كل ما يمت الى الاوثان ، وربط الشعائر التي أقرها الاسلام بوصفها شعائر الله وشعائر ابراهيم الخليل (ع) وسيأتي مزيد بيان عن فريضة الحج ان شاء الله تعالى.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١))

لقد كان أهل الكتاب يعرفون مما بين ايديهم من الكتاب مدى ما في رسالة محمد ص وآله من حق ومدى ما في الاوامر التي يبلغها من صدق. ومع هذا كانوا يكتمون هذا الذي بينه الله لهم في الكتاب ، فهم وأمثالهم في كل زمان ممن يكتمون الحق الذي أنزله الله مداهنة للزعماء والاغنياء أرباب الجاه والمال ، فانهم كانوا يسكتون عن بيان الحق وهم يعرفونه ، ويكتمون العلامات والصفات التي وردت في كتبهم في صفات محمد ص وآله ووجوب تصديقه واعتناق دينه فلا يبرزونها بل يكتمون ويسكتون عنها ويخفونها ليخفوا الحقيقة التي تحملها هذه الآيات عندهم لغرض من أغراض الدنيا لنيل مال أو جاه : (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ).

واللعن هو الطرد وشدة الغضب والخزي ، الا الذين تابوا واصلحوا وبينوا ما كتموا وما أخفوا ببيانه ، وهنا تظهر عظمة الاسلام انه لا يسد الباب أمام النادمين المنيبين فيقبل توبتهم ، فاما الذين يصرون على عصيانهم ولا يسارعون الى التوبة والندامة فسوف يصلون نارا وعذابا

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) اولئك اغلقوا على أنفسهم باب الرحمة والمغفرة والعفو فلا يتلقاهم صدر فيه حنان ، ولا عين فيها قبول ، ولا لسان فيه تحية. انهم ملعونون مطرودون.

١٢٠