تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

تخلخلت وفشلت وتنازعت في الامر ، وأنفسكم هي التي أخلت بشرط الله وشرط رسوله ص وآله. وأنفسكم هي التي خالجتها الاطماع والهواجس. وأنفسكم هي التي عصت أمر رسول الله ص وآله وخطته للمعركة (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فمن مقتضى قدرته أن تنفذ سنته ، وأن يحكم ناموسه ، وان تمضي الامور وفق حكمه وارادته. وهذا الذي وقع في غزوة أحد مثل لهذا نقوله عن التصور الاسلامي الشامل الكامل ، فقد عرف الله المسلمين سنته وشرطه في النصر والهزيمة ، فخالفوا هم عن سنته وشرطه.

ولكن الامر لم ينته عند هذا الحد ، فقد كان وراء المخالفة والالم تحقيق قدر الله في تمييز المؤمنين من المنافقين في الصف وتمحيص قلوب المؤمنين وتجلية ما فيها من غبش في التصور.

وعلى هذا الموقف الصلب المكشوف تستريح أقدام المسلمين وتطمئن قلوبهم بلا أرجحة ولا قلق ولا حيرة ، وهم يواجهون قدر الله عزوجل. (وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ). لم يقع مصادفة ولا جزافا ، ولم يقع عبثا ولا سدى ، فكل حركة محسوب حسابها في تصميم هذا الكون ومقدر لها علتها ونتائجها وفق السنن والقوانين الثابتة ، التي لا تنخرق ولا تتعطل ولا تحابى تحقق الحكمة الكامنة وراءها ، وتكمل (التصميم) النهائي للكون في مجموعه.

(الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨))

البيان : فالموت يصيب المجاهد والقاعد ، والشجاع والجبان ، ولا يرده حرص ولا حذر ولا يؤجله جبن ولا قعود ، والواقع هو البرهان الذي لا يقبل المراء ، وهذا الواقع هو الذي يجيبهم به القرآن المجيد ،

٢٨١

فيرد كيدهم اللئيم ، ويقر الحق في نصابه ، ويثبت قلوب المسلمين ، ويسكب عليها الطمأنينة والراحة واليقين.

(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥))

البيان : لقد شاء الله بعد أن جلا في قلوب المؤمنين حقيقة القدر والأجل ، وتحدي ما بثه المنافقون من شكوك وبلبلة وحسرات بقولهم عن القتلى : (لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا). فقال يتحداهم (قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ، شاء الله بعد ان أراح القلوب المؤمنة على صدر هذه الحقيقة الثابتة .. ان يزيد هذه القلوب طمأنينة وراحة. فكشف لها عن مصير الشهداء ، الذين قتلوا في سبيل الله ـ وليس هنالك شهداء الا الذين يقتلون في سبيل الله خالصة قلوبهم لهذا المعنى ، مجردة من كل ملابسة اخرى ـ

فاذا هؤلاء الشهداء أحياء لهم كل خصائص الاحياء ، فهم (يُرْزَقُونَ) عند ربهم ، وهم فرحون بما آتاهم الله من فضله ، وهم يستبشرون بمصائر من ورائهم من المؤمنين ، وهم يحفلون الاحداث التي تمر بمن خلفهم من اخوانهم ، فهذه خصائص الاحياء ، من متاع واستبشار ، واهتمام وتأثر ، فما المسرة على فراقهم ، وهم أحياء موصولون بالاحياء وبالاحداث ، فوق ما نالهم من فضل الله ، وفوق ما لقوا ، عنده من الرزق

٢٨٢

والمكانة ، وما هذه الفواصل التي يقيمها الناس في تصوراتهم بين الشهيد الحي ومن خلفه من اخوانه. والتي يقيمونها بين عالم الاحياء ، وعالم ما بعد الاحياء ، ولا فواصل ولا حواجز بالقياس الى المؤمنين ، الذين يتعالمون هنا وهناك.

مع ان جلاء هذه الحقيقة الكبيرة ذو قيمة ضخمة في تصور الامور ، انها تعدل ـ بل تنشىء انشاء ـ تصور المسلم للحركة الكونية التي تتنوع معها صور الحياة وأوضاعها ، وهي موصولة لا تنقطع ، فليس الموت خاتمة المطاف ، بل ليس حاجزا بين ما قبله وما بعده على الاطلاق.

انها نظرة جديدة لهذا الامر ، ذات آثار ضخمة في مشاعر المؤمنين ، واستقبالهم للحياة والموت وتصورهم لما هنا وهناك ، (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ).

والآية نص في النهي عن حسبان ان الذين قتلوا في سبيل الله ، وفارقوا هذه الحياة ، وبعدوا عن أعين الناس .. أموات .. ونص كذلك في اثبات أنهم (أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ).

ومع اننا في هذه الحياة الفانية ـ لا نعرف نوع الحياة التي يحياها الشهداء ـ الا ما يبلغنا من وصفها في الاحاديث الصحاح ، الا ان هذا النص الصادق من العليم الخبير. كفيل وحده بان يغير مفاهيمنا للموت والحياة ، وبينهما من انفصال والتئام ، وكفيل وحده بان يعلمنا ان الامور في حقيقتها بالاستناد الى الظواهر التي تدركها ، لا ننتهي الى ادراك حقيقي لها وانه أولى لنا ان ننتظر البيان في شأنها ممن يملك البيان على واقعه وهو علام الغيوب.

فهؤلاء ناس منا يقتلون وتفارقهم الحياة التي نعرف ظواهرها ، ويفارقون الحياة كما تبدو لنا من ظاهرها ، ولكن لانهم (قُتِلُوا فِي

٢٨٣

سَبِيلِ اللهِ) وتجردوا من الاعراض البدنية ، فقد اتصلوا بأرواحهم بالله ـ بقوالب أخرى ـ فهم يأكلون ويشربون كما كانوا في الدنيا هذه (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) انهم لم ينفصلوا من اخوانهم الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ : إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً ...)

هذه الصورة الرائعة الهائلة كانت اعلانا قويا عند ميلاد هذه الحقيقة الكبيرة وكان هذا بعض ما تشير اليه الخطة النبوية الحكيمة (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ).

ثم تكون العاقبة كما هو المنتظر من وعد الله للمتوكلين عليه المكتفين به المتجردين له (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ) (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ).

بهذا يسجل الله لهم في كتابه الخالد ، وفي كلامه الذي تتجاوب به جوانب الكون وما حواه. (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) ان الشيطان هو الذي يضخم من شأن أوليائه ويوقع في قلوبهم الرعب والخوف ، والشيطان ماكر خداع غادر ، ينشر الخوف في صدور أوليائه.

ويعرف المؤمنون هذه الحقيقة فلا ينخدعوا ولا يدنوا منهم تخوف الشيطان لعلمهم بمكره. ويعلمون يقينا ان القوة التي تخاف وترجا هي قوة الخالق العظيم لا غير وسواه أموات. لا يخشى منهم الا من جهل خالقهم (فَلا تَخافُوهُمْ ، وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) صدق الله العظيم.

(وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨)

٢٨٤

ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩))

البيان : فهناك دائما تلك الشبهات الكاذبة ، هي التي تحيك في بعض الصدور أو الامنية العاتبة ، التي تهمس في بعض القلوب امام المعارك ، التي تنشب بين الحق والباطل ، ثم يعود فيها الحق بمثل اصابة أحد التي انتكب فيها المسلمون ، نكبة هائلة.

هناك دائما تقع الشبهة الكاذبة ، أو الامنية العاتبة : لماذا يا رب يصاب الحق وينجو الباطل لماذا يبتلى أهل الحق ، وينجو أهل الباطل ، ولماذا لا ينتصر الحق كلما التقى مع الباطل.

أليس هو الحق الذي ينبغي ان ينتصر. وفيم تكون للباطل هذه الصولة. وفيم يعود الباطل من صدامه مع الحق بهذه النتيجة. وفيها فتنة للقلوب وهزة للضمائر. ولقد وقع بالفعل يوم معركة أحد. فقال المسلمون ـ في دهشة واستغراب : (أَنَّى هذا).

ان ذهاب الباطل ناجيا في معركة من المعارك. وبقاءه متخشيا فترة من الزمان. ليس معناه ان الله تاركه. أو أنه من القوة بحيث لا يغلب.

كلا. انما هي حكمة وتدبير. هنا وهناك. يملي للباطل ليمضي الى نهاية الطريق. وليرتكب أبشع الآثام. وليحمل الأوزار. ولينال أشد العذاب باستحقاق. وليميز الخبيث من الطيب عند ما يبتلى الحق.

وليعظم الأجر لمن يمضي مع الابتلاء ويثبت عندما تزل أقدام أهل الباطل وتنهزم أو تميل مع الباطل المنتصر. وبذلك يحصل الكسب للحق. والخسران للباطل.

(وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) .. (يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ

٢٨٥

لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ) انه سبحانه يوآسي النبي ص وآله. ويدفع عنه الحزن الذي يساور خاطره ، وهو يرى المنافقين يسارعون بالكفر ، ويمضون بعنف مع اهل الباطل لانه قد انتصر في وقت ما. وكأن الحزن يساور قلب النبي ص وآله حسرة على هؤلاء العباد ، الذين يراهم مشمرين ساعين الى النار ، وهو لا يملك لهم ردا ، وهم لا يسمعون له انذارا ، (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ ...)

وهؤلاء هم المهازيل الذين يميلون مع كل ريح ويتبعون كل ناعق. انما يريد الله سبحانه ان يجعل قضية العقيدة قضيته هو. وان يجعل المعركة مع المشركين معركته هو ، ويريد دفع عبء هذه العقيدة عن عاتق النبي ص وآله ، وعاتق المسلمين ، والذين يسارعون في الكفر انما يحاربون الله ، وهم أضعف من أن يضروا الله عزوجل ، (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

أجل كان الايمان مبذولا لهم ، فباعوه واشتروا به الكفر ، على علم وعن بينة جلية ، اولئك هم المنافقون الذين تركوا نبيكم مسجى على فراشه ـ بلا غسل ولا دفن ـ واسرعوا الى رياستهم الباطلة الغاشمة فامضوا عقدها واحكموا رباطها بالباطل. (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) ، وهكذا ينكشف ان الابتلاء من الله نعمة لا تصيب الا من يريد له الخير ، فاذا أصابت أولياء الله عزوجل ، فانما تصيبهم لخير يريده الله لهم ولا ينالونه الا بذلك.

وهكذا تستقر قلوب أهل الايمان وتطمئن نفوسهم ويفرحون بالارباح الهائلة بتلك المصيبة ، ولقد شاءت حكمة الله البالغة وبره بالمؤمنين أن يميزهم ـ يوم أحد ، ويوم السقيفة الخبيثة ـ عن المنافقين

٢٨٦

الذين اندسوا في الصفوف تحت تأثير الملابسات والاغراض التي قصدوها.

ولم يكن دخولهم في الاسلام من حب الاسلام في شيء ، (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ).

ويقطع النص القرآني بانه ليس من شأن الله عزوجل ، وليس من مقتضى الالوهية ، وليس من فعل سنته ، أن يدع الصف المسلم مختلطا غير مميز ، يتوارى المنافقون فيه وراء دعوى الايمان ومظهر الاسلام ، بينما قلوبهم خاوية من بشاشة الايمان ، ومن روح الاسلام.

ولذلك فقد فضحهم رسول الله ص وآله ، يوم قال لهم أئتوني بقلم وبياض لأكتب لكم كتابا لن تضلوا بعدي أبدا. فقال ابن الخطاب ـ بكل وقاحة ـ ان النبي ليهجر حسبنا كتاب الله والنبي ص وآله في ساعاته الاخيرة يريد أن يؤمنهم من الضلال بعده فأبوا ذلك أشد الاباء وواجهوه بتلك الكلمة النكراء ، واختلف الناس وتم ترك كتابة الكتاب.

وقد فضحهم النبي ص وآله ولعنهم على رؤوس الاشهاد ليعلن للمسلمين أن هؤلاء ليسوا من الاسلام في شيء ، وذلك لما جهز جيش اسامة بن زيد بن حارثة. وضم اليه جميع المهاجرين والانصار ، وعقد له الراية بيده الشريفة ، وجعل يقول له : سر على اسم الله واياك والتباطؤ ، ولما رآهم متباطئين جعل يقول بكل اعلان : (لعن الله من تخلف عن جيش اسامة) ، وهم يسمعون بآذانهم ولكن حبهم للرياسة منعهم من طاعة النبي ص وآله. وأراد ص وآله أن يظهر للناس أجمع أن هؤلاء أقل قدرا من قائدهم اسامة الذي هو في أدنى مرتبة في المجتمع ، ولم يتجاوز العشرين وجيشه من الشيوخ والكهول وهو أفضل منهم وهم

٢٨٧

أقل قدرا وشأنا منه ، فكيف يصلحوا لان يمثلوا رسول الانسانية بعد موته. وقد أجرى هذا ليظهر الخبيث من الطيب حتى لا يكون لأحد من اتباع هؤلاء معذرة عند الله.

فعن طريق الابتلاء يتم شأن الله عزوجل ويميز الخبيث من الطيب ، ويمحص القلوب ويطهر النفوس ويظهر الحق لمن يريده ، ويفضح الباطل لمن يكرهه ، والمرجع اليه عزوجل.

وحقيقة الايمان لا يتم تمامها في قلب حتى يتعرض لمجاهدة الناس ولمجاهدة نفسه اولا. وحينئذ تتفتح له آفاق الايمان الصحيح وتتبين له حقائق الناس كما هي ولم تكن لنتبين؟؟؟ له أبدا بغير هذه الوسيلة ويبلغ هو بنفسه مرتبة الكمال الانساني.

وحقيقة الايمان لا يتم تمامها في جماعة ، حتى تتعرض للتجربة والامتحان والابتلاء ، وحتى يتعرض كل فرد فيها حقيقة طاقته وطاقة غيره ، بما يظهر له عند الامتحان والابتلاء.

وهذا ما أراده الله عزوجل أن يعلمه للجماعة المسلمة ، وهو يربيها بالاحداث ، كما جرى في كثير من غزواته ، وعند ختام حياة رسوله ص وآله كما ذكرنا ذلك مجملا.

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠) لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (١٨٤))

٢٨٨

البيان : لقد نزل هذا التحذير والتهديد ، مع فضح تعللات اليهود في عدم الايمان بمحمد ص وآله وردا على ما بدا من سوء أدبهم مع ربهم ، ومن كذب علمائهم ، الذين يضلاون جهالهم.

وان كان مدلول الآيات عام يشمل اليهود ويشمل سواهم في كل عصر وجيل ، ممن يبخل بما آتاه الله من فضله ، ويحسب أن هذا البخل فيه ربح له والله يخبره بان فيه خسران الدنيا والآخرة ، وله في الدنيا العناء والشقاء ، وفي الاخرة العقاب والعذاب الذي لا يطاق ، (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) فصبروا على ما كذبوا حتى أتاهم نصر الله عزوجل.

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦))

البيان : انه لا بد من استقرار هذه الحقيقة في نفس كل مؤمن ، وهي ان حقيقة الحياة في هذه الارض موقوتة ومحدودة بأجل مقدر ، وتنتهي بموت الصالحين ، والاخيار والاشرار ، بموت المجاهد وبموت المختبىء ، الكل يموت (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) هذا ظاهر اللفظ.

اما في الحقيقة والواقع ان الانسان لا يموت ولا يقدر الموت ان يميته ، وانما الذي يموت ويفنى هو بدن الانسان وجسمه ، والانسان نفسه حين موت جسمه ينتقل فورا اما الى الجنة او الى النار وذلك في عالم البرزخ الذي هو مقر الانسان من حين موت جسمه الى أن يبعث الله تعالى الاجسام مرة أخرى وترجع المخلوقات بأرواحها الى أبدانها التي فارقتها عند الموت.

٢٨٩

وحينئذ يجرى الحساب والتمحيص وينتهي الامر الى فريق في الجنة ، وفريق في السعير ، كما هو منطوق في الآية الكريمة

(يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) ٤٢ س ٧ ي

(فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) ، هذه هي القيمة الحقيقية بين البشر لا غير وهي قيمة الافتراق ، وهذا هو المصير الذي يفترق فيه فلان عن فلان ، هي القيمة الباقية ، التي تستحق السعي والكد ، والسهر والاجتهاد ، وهذا هو المصير المخوف الذي يستحق أن يحسب له ألف حساب. ولفظ (زحزح) بذاته يصور معناه بجرسه ، ويرسم هيأته بصورته وكأنما للنار جاذبية ، تشد اليها من يقترب منها ، فهو في حاجة الى من يزحزحه قليلا قليلا ، ليخلصه من جاذبيتها الملتهبة ، فمن توفق للابتعاد عنها والنجاة من جاذبيتها فقد فاز (وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ، والامر متوقف على معرفة المزحزح عن هذه المهلكة العظمى والمصيبة الكبرى ، فالويل فقط لمن لم يزحزح وجذبته مهاوي النيران الخالدة.

أما المزحزح لغير المسلمين ، فهو الاسلام لان الله تعالى يقول بكل صراحة :

(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) ٣ س ٨٩ ي

وأما المزحزح لغير اتباع علي ابن ابي طالب (ع) : فهي ولاية علي وأبنائه المعصومين (ع) لان نبي الاسلام ص وآله قال باتفاق جميع علماء الاسلام بدون مخالف على ما عهدناه :

(علي مع الحق والقرآن. والحق والقرآن مع علي لن يفترقا حتى يردا علي الحوض) وكما قال ص وآله : (اهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تركها هوى)

٢٩٠

وأما المزحزح لاتباع علي (ع) وشيعته ، فهو التقوى لا غير فكل من لم يحرز التقوى قبل فناء جسمه وموت بدنه فقد هوى وجذبته الجحيم الى حفرها المظلمة ونارها الملتهبة. لان الله عزوجل يقول بكل صراح :

(إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) ٥ س ٢٧ ي

(فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) اذن فمن القبيح أن يخدع العاقل نفسه وعمله وعقيدته ، تحكم عليه بانه من أهل النار ، لان المزحزح لديه مفقود من الثلاثة ، فصورة جاذبية النار ـ لمن فقد المزحزح ـ صورة قوية ، ومشهد حي ، فيه حركة وشد وجذب ، وهو كذلك في حقيقته ، وفي طبيعته ، فللنار جاذبية ، الى أين الى اسباب الجاذبية ، وهي المعصية ، والمزحزح هو الجاذب الانسان عن المعصية ، وكم الانسان في حاجة دائمة الى اليقظة الدائمة من الانفلات مع جاذبية المعاصي ، والى الانقياد مع جاذبيته للطاعة.

(ولتبلون في أموالكم وأنفسكم) ، انها سنة العقائد الفاسدة ، في نصب العداء للمتقين اذن لا بد من ابتلاء ، ولا بد من أذى في الاموال والانفس ، ولا بد من صبر ومقاومة واعتزام ، (انه الطريق الى الجنة : وقد حفت الجنة بالمكاره ، بينما حفت النار بالشهوات) (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) : ويبقى هذا التوجيه القرآني رصيدا للجماعة المسلمة ، كلما همت أن تتحرك بهذه العقيدة الحقة ، وان تحاول تحقيق منهج الله في أرضه.

يبقى هذا التوجيه القرآني يجلو لابصارها طبيعة هذه الدعوة ، ويبث في قلبها الطمأنينة ، لكل ما تلقاه من وعد الله ، وتناوشها الذئاب بالأذى ، وحين تعوي حولها بالدعاية والفتنة. ومن ثم تستبشر

٢٩١

بالابتلاء ، لانها تستيقن انها ماضية في الطريق التي وصفها الله عزوجل لها من قبل ، وتستيقن ان الصبر والتقوى هما زاد الطريق ، ويبطل كيد المكيدين ، وتمضي في طريقها الموعود ، الى الامل المنشود ، في صبر وفي تقوى ، وفي عزم أكيد والله ولي المتقين.

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧))

البيان : لقد تضمن سياق السورة الكثير من أفاعيل أهل الكتاب وأقاويلهم ـ وبخاصة ـ اليهود وأبرز هذه الافاعيل والاقاويل كتمانهم للحق فيما يعلمونه من صفات النبي ص وآله ، ولبسهم ذلك بالباطل لاحداث البلبلة في مفهوم الدين ، وفي صحة الاسلام وفي عدم تصديقهم له ، وعدم ايمانهم بما نزل عليه من ربه.

وكانت التوراة بين ايديهم ويعلمون كيف تأمر بتصديقه واتباع دينه ، وانه نبي حق وصدق ، وهذه الآية تكشف خيانتهم للعهد وكتمانهم للحق الواضح لديهم واخفائهم ما هو لديهم من الادلة على صدق النبي ص وآله ووجوب اتباعه ، ويخبرهم بان الله قد أخذ عليهم العهد بالايمان والتصديق لكل ما جاء به محمد ص وآله من عند ربه وهو موافق لما لديهم من الادلة والعلامات. (فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً). وانهم فعلوا هذه الفعلة الفاضحة ابتغاء ثمن قليل تقاضوه على الكتمان للحق والبيان ، فما أخذوه فهو قليل مقابل ما فاتهم وما خسروه من كتمان واستحقاقهم الخلود في جهنم وبئس المصير.

(لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨))

٢٩٢

البيان : انه نموذج من نماذج البشرية يقتات الجبن والادعاء ، هؤلاء الناس يؤكد الله للرسول ص وآله انهم لا نجاة لهم من العذاب ، وان الذي ينتظرهم عذاب أليم لا مفر لهم منه ولا معين.

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩))

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤))

البيان : ان التعبير يرسم هنا صورة حية من الاستقبال السليم للمؤثرات الكونية في الادراك السليم وصورة حية من الاستجابة السليمة لهذه المؤثرات المعروضة للانظار والافكار في صميم الكون بالليل والنهار.

والقرآن المجيد يوجه القلوب والانظار توجيها مكررا مؤكدا الى هذا الكتاب المفتوح الذي لا تفتأ صفحاته تقلب ، فتتبدى في كل صفحة آية موحية ، تستجيش في الفطرة السليمة احساسا بالحق المستقر في صفحات هذا الكتاب (وفي تصميم) هذا البناء ، ورغبة في الاستجابة ، لخالق هذا الخلق ، ومودعه هذا الحق ، مع الحب له والخشية منه في ذات الأوان ، وأولو الالباب ، هم أولو الادراك الصحيح ، يفتحون بصائرهم لاستقبال آيات الله الكونية ، ولا يقيمون الحواجز ، ولا يغلقون المنافذ بينهم وبين هذه الآيات ، ويتوجهون الى الله بقلوبهم قياما وقعودا وعلى جنوبهم ، فتتفتح بصائرهم ، وتشف مداركهم وتتصل بحقيقة الكون التي أودعها الخالق العظيم اياه ، وتدرك غاية وجوده

٢٩٣

وعلة شأنه وقوام فطرته بالالهام ، الذي يصل بين القلب البشري ونواميس هذا الوجود.

والسياق القرآني هنا يصور خطوات الحركة النفسية التي ينشئها استقبال مشهد السموات والارض واختلاف الليل والنهار في مشاعر أولي الالباب تصويرا دقيقا ، وهو في الوقت تصوير ايحائي.

وانه يقرن ابتداء بين القلب الى ذكر الله وعبادته (قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) ويجعله جانبا من مشهد الذكر .. فيوحي بهذا الجمع بين الحركتين بحقيقتين هامتين.

الحقيقة الاولى : ان الفكر في الخلق ، والتدبر في كتاب الكون المفتوح وتتبع يد الله المبدعة وهي تحرك هذا الكون ، وتقلب صفحات هذا الكتاب ، هو عبادة لله عزوجل من صميم العبادة.

والحقيقة الثانية : ان آيات الله في الكون ، لا تتجلى على حقيقتها الموحية ، الا للقلوب الذاكرة العابدة ، وان هؤلاء الذين يذكرون الله قياما وقعودا ـ وهم يفكرون في خلق الله ـ هم الذين تتفتح لبصائرهم الحقائق الكبرى المنطوية في خلق الله عزوجل.

فاما الذين يكتفون بظاهر من الحياة ويدمرون أنفسهم بما يصلون اليه من هذه الاسرار ويحولون حياتهم الى جحيم نكد والى قلق خانق ، فهم ينتهون الى غضب الله وعذابه في نهاية المطاف. (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ) ، ولكن ليكون حقا ، الحق قوامه ، والحق قانونه ، والحق أصيل فيه ، ان لهذا الكون حقيقة ، فهو ليس (عدما) كما تقوله الافاكون السفسطائيون ، بل هو يسير وفق ناموس ، فليس متروكا للفوضى ، بل في غايته الحق لا يتلبس الباطل فيه (فَقِنا عَذابَ النَّارِ ..) ، فما العلاقة الوجدانية بين ادراك ما في خلق السموات والارض ، من حق

٢٩٤

وبين هذه الارتعاشة ، المنطلقة بالدعاء الخائف الواجف من النار.

ان ادراك الحق الذي في تصميم هذا الكون وفي ظواهره ، معناه ـ عند اولي الالباب ـ ان هناك تقديرا وتدبيرا ، وان هناك حكمة وغاية ، في هذا الكوكب ، ولا بد اذن من حساب ولا بد اذن من جزاء على ما يقوم الناس من أعمال لتحقق فيها الحق والعدل في الجزاء.

والدعاء في مجموعه يمثل الاستجابة الصادقة العميقة ، لايحاء هذا الكون وايقاع الحق الكامن فيه في القلوب السليمة المفتوحة.

وذلك من بدائع التناسق الفني في التعبير القرآني ، وهناك ظاهرة فنية أخرى عند مشهد الفكر والتدبر في خلق السموات والارض ، يناسبه دعاء خاشع عميق النبرات ، (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ) انه ليس مجرد الخشوع والارتجاف انما هو (العمل) العمل الايجابي الذي ينشأ عن هذا التلقي ، وعن هذه الاستجابة.

(فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥))

البيان : هذا هو الطريق ... طريق هذا المنهج الرباني ، الذي قدر الله عزوجل ، أن يكون تحققه في واقع الحياة بالجهد البشري ، وعن طريق هذا الجهد ، وبالقدر الذي يبذله المؤمنون المجاهدون في سبيل الله ابتغاء وجه الله ، يكون الثواب والجزاء في دار الخلود هذه هي طريقة هذا المنهج الالهي في تربية الجماعة المسلمة في هذه الحياة لنيل سعادة الابد.

(لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ

٢٩٥

تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨))

البيان : متاع قليل ينتهي ويذهب سريعا ويعقبه بلاء لا يزول وعذاب خالد ، فما قيمة هذا المتاع المشوه بذاته فكيف اذا كان يعقبه عما قليل عذاب لا يطاق ولا يحد بحدود. (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ) (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) نعيم لا مثيل له في الدنيا أصلا وما يشك أحد يضع ذلك النصيب في كفة ، وهذا النصيب في كفة ، ثم يختار العذاب على النعيم ومع هذا يحتمل ان يكون لديه أدنى رشد أو تمييز او فهم او وعي ، كلا هذا لا يكون أبدا.

ان الله سبحانه في موضع التربية ، وفي مجال اقرار القيم الاساسية في التصور الاسلامي لا يعد المؤمنين بالنصر ، ولا يعدهم بقهر الاعداء ، ولا يعدهم بالتمكين في الارض.

انه يعدهم شيئا واحدا ـ هو أعلا وأسمى من كل ذلك ـ هو (ما عِنْدَ اللهِ) فهذا هو الاصل في هذه الدعوة ، وهذه هي نقطة الانطلاق عند المؤمنين الاحرار أصحاب العقائد الصحيحة ، والقلوب النيرة ، هذه العقيدة : عطاء ووفاء ، واداء فقط ، وبلا مقابل من أعراض هذه الدنيا الزائلة ، والجيفة النتنة.

واذا وقع النصر والتمكين ، فهذا ليس داخل في البيعة التي أعطاها المؤمنون لله ورسوله في جهادهم في سبيله وكفاحهم لاعدائه ، ولذا يقول مولانا امير المؤمنين (ع) :

(كنا نقتل آباءنا واخواننا وما يزيدنا ذلك الا ايمانا وتسليما)

وهكذا ربى الخالق العظيم ، الجماعة المسلمة التي قدر أن يضع في يدها مقاليد الارض وزمام القيادة العليا ، واستحقوا أن يكونوا خلفاءه وسفراءه في أرضه وأوتادا لبلاده. وسلمهم الامانة الكبرى بعد

٢٩٦

أن تجردوا من كل أطماع هذه الحياة ، الزائلة الزائفة. وقد سلمهم المنهج الالهي ، والعقيدة التي يموتون عليها ويستشهدون من أجلها واين هذا من أهل عصرنا الحاضر الذين يضحون بكل مقدساتهم لأجل لقمة أو جلسة عند أعداء الدين وأعداء الانسانية في هذه الحياة ، ومع هذا يتظاهرون بأنهم علماء دين وأهل مرجعية واجتهاد واعمالهم أعمال الهمج الرعاع الدين يميلون مع كل ريح.

(وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩))

البيان : قيل أن هذه الآية قد نزلت في النجاشي ملك الحبشة فانه آمن على يد جعفر بن ابي طالب (ع) حين هاجر مع المسلمين الهجرة الاولى الى الحبشة ، وقد آمن ايمانا صادقا ، وعرض ذلك على أهل مملكته فانكروا عليه وكادوا أن يقتلوه ، فقال لهم اردت اختباركم فهدأوا فارسل الى النبي ص وآله قبل الهجرة وعرفه أمره وايمانه وأعلمه انه مستعد ليأتيه وحده فأمره النبي ص وآله بالبقاء على ملكه وكتمان ايمانه حتى يظهر أمره ، فمات النجاشي بعد موقعة بدر الكبرى بقليل ، فترحم عليه النبي ص وآله ونزلت هذه الآية فيه.

وهذه سمة هذه العقيدة التي تنظر الى منهج الله في وحدته وكليته الشاملة ويبرز من سمات المؤمنين من أهل الكتاب : سمة الخشوع لله وسمة عدم شرائهم بآياته ثمنا قليلا ، ليميزهم بهذا من صفوف أهل الكتاب ، وسمتهم الاصيلة ، التي هي التبجح وقلة الحياء من الله ثم التزوير والكتمان لآيات الله لقاء أعراض رخيصة في هذه الحياة الفانية.

٢٩٧

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠))

البيان : انه النداء العلوي للذين آمنوا ، نداؤهم بالصفة التي تربطهم بمصدر النداء ، والتي تلقى عليهم هذه الاعباء ، والتي تؤهلهم للنداء وتؤهلهم للخلافة في أرضه كما تكرمهم في السماء.

وسياق السورة حافل بذكر الصبر وبذكر التقوى ، والصبر هو زاد الطريق الى سعادة الدنيا والآخرة ، والمرابطة الاقامة في مواقع الجهاد ، وفي سد الثغور لهجوم الاعداء.

ان هذه الدعوة تواجه الناس بمنهج حياة واقعي ، منهج يتحكم في ضمائرهم ، كما تتحكم في أموالهم ، كما تتحكم في نظام حياتهم ومعايشهم.

والتقوى تصاحب هذا كله ، فهي الحارس اليقظ في الضمير يحرسه ان يغفل ، ويحرسه من أن يضعف أمام الشدائد ، ويحرسه من أن يحيد عن الطريق التي رسمها له رب العالمين ، ولا يدرك الحاجة الى الحارس اليقظ الا من مارس الشدائد في طريق الحق والعدل ، (والله يوفي الصابرين أجرهم بغير حساب)

سوة النساء (٤)

مدنية آياتها (١٧٦)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١))

البيان : انه الخطاب للناس اجمع بصفتهم هذه لردهم جميعا الى ربهم الذي خلقهم من تراب ، ان هذه الحقيقة تجلو للقلب والعين مجالا فسيحا لتأملات شتى.

ان الناس جاءوا الى هذا العالم بعد ان لم يكونوا فيه ، فمن الذي جاء بهم ، انهم لم يجيئوا اليه بارادتهم ، فقد كانوا ـ اذن ـ غير

٢٩٨

ارادتهم ، هي التي جاءت بهم الى هنا ، ارادة اخرى ـ غير ارادتهم ـ هي التي قررت أن تخلقهم ، وهي التي رسمت لهم الطريق التي أتوا منها.

وهي التي اختارت لهم خط الحياة التي وجدوا عليها ، وهي التي منحتهم وجودهم في هذه الحياة ، وارادة أخرى هي التي منحتهم خصائص وجودهم بغير ارادة منهم ولا اختيار لهم بذلك ، منحتهم استعداداتهم ومواهبم ، ومنحتهم القدرة على التعامل مع هذا الكون الذي جيء بهم اليه من حيث لا يشعرون ، وبدون اختيار.

ولو نذكر الناس هذه الحقيقة البديهية التي يغفلون عنها لتابوا وأنابوا الى رشدهم من أول الطريق. ان هذه الارادة التي جاءت بهم الى هذا العالم وخطت لهم طريق الحياة فيه ، ومنحتهم القدرة على التعامل معه ، لهي وحدها التي تملك لهم كل ما يحتاجون اليه وهي التي تختص باصلاحهم عند العطب والفساد ، اذا رجعوا اليه وأطاعوها كما تريد.

وانها لهي القادرة ان ترسم لها الطريق لو ساروا عليها لأمنوا جميع المخاوف ، هي التي يمكنها ان تضع لهم منهاج الحياة والسلوك الى كل خير وسعادة وراحة وكرامة ، وهي التي يجب عليهم أن يلتجأوا اليه ويسيروا وفق اوامرها ومناهيها حتى يسعدوا (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ) عن جميع المخلوقات.

ولو تذكر الناس هذه الحقيقة ، لتضاءلت في حسهم كل الفروق الطارئة في الحياة التي نشأت من انحرافهم عن منهج خالقهم ، ففرقت بينهم ومزقت شملهم وحقيقتهم الواحدة ، ولو ثبتوا عليها لما استطاعت الاهواء ان تطغى على مودة الرحم وحقها في الرعاية ، وصلة النفس

٢٩٩

وحقها بالمودة ، وحقها في تقوى خالقها ، ولو لوحظت هذه الحقيقة لكانت هي الكفيل في استبعاد الصراع العنصري الذي ذاقت منه البشرية ما ذاقت وما تزال تتجرع منه الغصص والويلات والشتات في الجاهلية الاولى ، وفي جاهلية القرن العشرين قرن القنابل والصواريخ.

واستقرار هذه الحقيقة كان كفيلا لاستبعاد الطبقي السائد في وثنية الهند ، والصراع الطبقي الذي تسيل فيه الدماء البريئة ، في الدول الشيوعية الالحادية التي لا تشعر ولا تحس الا بفرجها وبطنها ، ناسية النفس الواحدة التي انبثق منها الجميع.

والحقيقة الاخرى التي تضمنها الاشارة الى انه من النفس الواحدة (خَلَقَ مِنْها زَوْجَها) كانت كفيلة ـ لو أدركتها البشرية ـ ان توفر عليها تلك الاخطاء الاليمة ، التي تردت فيها. وهي تتصور في المرأة شتى التصورات السخيفة ، وتراها منبع الرجس والنجاسة كما في الجاهلية الاولى ، ولقد خطبت البشرية ايضا في تيه افراط حين جردت المرأة من حجابها وخصائص انوثيتها ، وأخرجتها الى الشوارع والحانات عارية أو شبه عارية. ونسيت انها انسان خلقت لانسان ، وانهما ليسا فردين متماثلين ، انما هما زوجان متكاملين والمنهج الرباني القويم يرد البشرية الى هذه الحقيقة البسيطة بعد ذلك الضلال البعيد.

كذلك توحي الآية بان قاعدة الحياة البشرية هي الاسرة ، فقد شاء الله أن تبدأ هذه النبتة في الارض بأسرة واحدة ، ثم يثنى بوشيجة الرحم ، فتقوم الاسرة الاولى من ذكر وانثى.

وفي ختام آية الافتتاح التي توحي بكل هذه الحشود من الخواطر يرد (النَّاسُ) الى تقوى الله عزوجل ، الذي يسأل بعضهم بعضا به (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً).

٣٠٠