تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٣

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي

تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

١

٢

لما سبق فأهل السقيفة هم أول من ارتد عن الايمان بعد موت رسول الله ص وآله مباشرة ، قبل أن يغسل ويكفن رسول الله ، ص وآله :

وأهل السقيفة هم الذين كذبوا على الله ورسوله وانكروا خلافة أمير المؤمنين (ع) وجحدوا وصيته وامامته عن الله ورسوله بكل اعلان وظهور ، ولا بد أن يشمل هذا العنوان بكامله من كلا طرفيه (الارتداد والتكذيب) اتباع أهل السقيفة ومن رضي بفعالهم من ذلك الوقت الى يوم القيامة ، فكل من أنكر ولاية علي بن ابي طالب وأبنائه المعصومين عن الله ورسوله ، واعترف بخلافة أهل السقيفة فهو من مصاديق الذين تسود وجوههم يوم القيامة وفي النار خالدون.

عن سلمان الفارسي قال : سمعت رسول الله ص وآله يقول لعلي (ع) أكثر من عشر مرات : يا علي انك والاوصياء من بعدك أعراف بين الجنة والنار لا يدخل الجنة الا من عرفكم وعرفتموه ، ولا يدخل النار الا من أنكركم وانكرتموه.

يعرفون كل بسيماهم فيعطون أوليائهم كتابهم بيمينهم فيمرّوا الى الجنة بغير حساب ويعطون أعدائهم كتابهم بشمالهم فيمرّوا الى النار بغير حساب) فهنيئا للاتباع والاصحاب.

عن الاصبغ بن نباته : قال كنت عند علي (ع) فأتاه ابن الكوا فسأله عن هذه الآية فقال (ع) نحن نقف يوم القيامة بين الجنة والنار فمن يتولانا عرفناه بسيماه فادخلناه الجنة ومن أنكر ولايتنا عرفناه بسيماه فأدخلناه النار) ولذا سمي (ع) قسيم الجنة والنار.

(وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٥١) وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ

٣

عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣))

البيان : فاذا صوت البشر عامة يتوارى كل ذلك ، لينطق رب العزة والجلالة ، وصاحب الملك والحكم (فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا ، وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ)

وهكذا تتوالى صفحات المشهد ايابا وذهابا ، لمحة في الآخرة ، ولمحة في الدنيا ، لمحة مع المعذبين بالنار ، المنسيين كما نسوا يومهم هذا ، واتبعوا أهواءهم وغرتهم زخارف الدنيا. ولمحة مع المنعمين برضوان ربهم والنعيم الخالد ، ولهم فيها ما يشتهون.

(أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ ، لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ ، لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)

(لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ).

انها خفقات عجيبة في صفحات المشهد المعروض ، لا يجليها هكذا إلّا هذا الكتاب العجيب.

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٥٤) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (٥٦) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨))

٤

البيان : هذه التسبيحات في ملكوت الله يرتادها السياق بعد قصة النشأة الانسانية ، وبعد تصوير طرفي الرحلة ، وبعد الحديث عن اتباع الشيطان والاستكبار عن اتباع رسل الله عزوجل. ان اخلاص الدين لله وتقرير عبودية البشر له ، ان هي الا فرع من اسلام الوجود كله ، ومن ثم يتخذ المنهج القرآني من هذا الوجود مجاله الاول ، لتجلية حقيقة الالوهية ، وتعبيد البشر لربهم وحده. واشعار قلوبهم وكيانهم كله حقيقة العبودية لله وحده ، وتذوقها الحقيقي في استسلام الواثق المطمئن ، الذي يستشعر ان كل ما حوله وكل من حوله من خلق الله بيده وادارته وتدبيره في كل لحظة وحركة وسكون.

ان عقيدة التوحيد الاسلامية لا تدع مجالا لأي تصور بشري عن ذات الله سبحانه ،

(وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ .. فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ)

في كل لحظة تهب ريح وفي كل وقت تحمل الريح سحابا ، وفي كل فترة ينزل من السحاب ماء ، ولكن ربط هذا كله بفعل الله وحده كما هو في الحقيقة ـ هو الجديد الذي يعرضه القرآن المجيد هذا العرض المرتسم في المشاهد المتحركة كأن العين تراه.

ان التصور الاسلامي في هذا الجانب ينفي العفوية والمصادفة في كل ما يجري في الكون ابتداء من نشأته وبروزه الى كل حركة فيه وكل تعديل كما ينفي الجبرية ، الّا التي تصور الكون كأنه آلة قد فرغ منها صانعها الخلاق الخبير ، وأودعها القوانين التي تتحرك بها ثم تركها انه يثبت الخلق بمشيئته وقدرته ، ثم يثبت الناموس الثابت والسنة الجارية ، ولكنه يجعل معها القدر المصاحب لكل حركة من حركات الناموس. انه تصور حي ينفي عن القلب البلادة ، ويدعه أبدا في يقظة

٥

وفي رقابة ، هذا تصور يستحي القلوب ويستجيش العقول. وكذلك يربط السياق القرآني بين حقيقة الحياة الناشئة بارادة الله عزوجل وقدره في هذه الارض وبين النشأة الآخرة ، التي تتحقق كذلك بمشيئة الله وقدره عزوجل (كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ان معجزة الحياة ذات طبيعة واحدة من وراء أشكالها وصورها ، وكما يخرج الله الحياة من الموت في هذه الارض فكذلك يخرج الحياة من الموتى في البشر

(لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٢) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (٦٤))

البيان : تعرض القصة هنا باختصار ، ليست فيها التفصيلات التي ترد في مواضع أخرى من القرآن في سياق يتطلب تلك التفصيلات ، كالذي جاء في سورة هود ، وسورة نوح.

ان الهدف هنا هو تصور تلك المعالم التي تحدثنا عنها آنفا .. طبيعة العقيدة ، طريقة التبليغ وطبيعة استقبال القوم لها ، حقيقة مشاعر الرسول ص وآله تحقق النذير ، لذلك نذكر من القصة فحسب تلك الحلقات المحققة لتلك المعالم عن منهج القصص القرآني :

(فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) ، فهي كلمة لا تتبدل وهي قاعدة هذه الحقيقة التي لا توجد الا بها ، وهي عماد الحياة الانسانية ، التي لا تقوم على غيره.

ان دين الله منهج للحياة ، وقاعدته ان يكون السلطان كله في حياة الناس كلها لله. وهذا هو معنى عبادة الله وحده. ومعنى ألا يكون

٦

للناس اله غيره ، والسلطان يتمثل في الاعتقاد بربوبيته عزوجل. لهذا الوجود وانشائه وتدبيره بقدرة الله وقدره. كما يتمثل في الاعتقاد بربوبية الله لهذا الانسان في حياته العملية الواقعية ، وقيامه على شريعته. ولقد قال نوح لقومه ، وأنذرهم عاقبة التكذيب (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ). (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)

كما قال مشركوا العرب لمحمد ص وآله ، انه صبأ ورجع عن دين ابراهيم ، وهكذا يبلغ الضلال والضال ان يحسب من يدعوه الى الهدى هو الضال. بل هكذا يبلغ التبجح الوقح بعد ما تمسخ الفطرة البشرية ، هكذا تقلب الموازين وتبطل الضوابط ويحكم الهوى ويزداد في الميل والانحراف الى ما لا نهاية.

ما ذا تقول الجاهلية اليوم عن الثابتين على الدين والايمان بالخالق العظيم : انها تسميهم رجعيين ومتخلفين ، وتعد أهل الضلال والانحراف المثقفين والمتقدمين والمتحضرين. وما ذا تقول جاهلية قرن العشرين عن الفتاة المتدينة التي لم تزل على عفافها وحجابها ولم تكشف جسمها وتنبذ حياءها ، تسميها (رجعية) متخلفة جامدة.

ان الجاهلية هي الجاهلية من أول الدهر الى نهايته ، فلا تتغير الا الاشكال والظروف. وينفي نوح (ع) عن نفسه الضلال ويكشف عن حقيقة دعوته ومنبعها ، فهو لم يبتدعها من أوهامه وأهوائه ، انما هو رسول من رب العالمين ، يحمل لهم رسالة الحق والعدل ومعها النصح والامانة ، ويعلم من الله ما لا يعلمون .. فكذبوه فانجيناه والذين معه في الفلك).

ولقد رأينا من عماهم عن الهدى والنصح المخلص ، وبعماهم لاقوا الهلاك والتدمير.

٧

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٦٥) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (٧٢))

البيان : انها نفس الرسالة ونفس الحوار ونفس العاقبة ، انها ألسنة الماضين ، والناموس الجاري في الباقين وهو القانون الوحيد للمعاندين المنحرفين في كل حين.

ان قوم عاد هؤلاءهم من قوم نوح (ع) وذراريه ، ومن الذين نجوا معه في السفينة وقيل أنه كان عددهم ثلاثة عشر قد صمدوا على الحق بعد انذار ألف سنة الا خمسين عاما وما من شك أن أبناء هؤلاء المؤمنين الناجين في السفينة كانوا على دين نوح (ع) وهو الاسلام ، وكانوا يعبدون الله وحده ، ما لهم من اله غيره ، وكانوا يعتقدون انه رب العالمين. كما قال لهم نبيهم (ع). ولكن لما طال عليهم الامد وتفرقوا في الارض ولعب بهم الشيطان والا هواء لعبه الغواية ، وقادهم بشهواتهم وفق الهوى الى أنكار الخالق وفعلوا الفواحش.

وقد قال لهم هود نفس المقالة التي قالها نوح الى قومه (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) وكانوا بالاحقاف وهي الكثبان المرتفعة على حدود اليمن ما بين اليمامة وحضر موت. وقد ساروا في الطريق التي سار فيها قوم نوح (ع) فلم يتذكروا ولم يتدبروا ما حلّ بمن ساروا في

٨

هذا الطريق لذلك يقول هود لهم : (أَفَلا تَتَّقُونَ) استنكارا لقلة خوفهم من الله وما نزل بغيرهم : (قالوا : (إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ) (قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ) لقد كان من هذا الاستخلاف أن يستوجب منهم الشكر والحمد لله على ما أنعم عليهم وأرسل اليهم نبيا يهديكم سواء السبيل فما كان جوابهم له الا أن قالوا : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فقال لهم :

(فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ). ان هذه الثقة هي مناط القوة التي يستشعرها صاحب الدعوة الصادقة : انه على يقين من هزال الباطل وضعفه ، كما انه على يقين من سلطان الحق الذي معه وقوته بما فيه من سلطان الله. ولم يطل الانتظار في السياق :

(فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ)

فهو المحق الكامل الذي لا يتخلف منه أحد وهو ما عبر عنه بقطع الدابر. وهو آخر واحد.

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٦) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٧٨) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩))

البيان : وهذه صفحة أخرى من صحائف قصة البشرية ، وهي

٩

تمضي في خضم التاريخ ، وها هي ذي نكسة أخرى الى الجاهلية ، ومشهد من مشاهد اللقاء بين الحق والباطل ، ومصرع جديد من مصارع المكذبين (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) ذات الكلمة الواحدة ، التي بها بدأ هذا الحق واليها يعود ، وذات المنهج الواحد في الاعتقاد. ويزيد هنا تلك المعجزة التي صاحبت دعوة صالح ، حين طلبها قومه للتصديق :

(وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ)

(وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) وقال (.. وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) انه الاشهاد على امانة التبليغ والنصح والبراءة من المصير الذي جلبوه واختاروه لانفسهم بالعتو والتكذيب (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ)

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤))

البيان : وتكشف لنا قصة قوم لوط عن لون خاص من الانحراف الفطري ، وعن قضية غير قضية الالوهية والتوحيد ، ان الاعتقاد في الله الواحد يقود الى الاسلام.

وقد شاءت سنة الله أن يخلق البشر ذكرا وانثى ، وان يجعلهما شقين للنفس الواحدة ، تتكامل بهما ، وان يتم الامتداد في هذا الجنس عن طريق النسل ، ومن ثم ركبهما وفق هذه السنة صالحين ، للالتقاء ، صالحين للنسل عن طريق هذا الالتقاء ، مجهزين عضويا ونفسيا لهذا الالتقاء ، وجعل اللذة التي ينالانها عندئذ عميقة ، والرغبة أصيلة ، وذلك

١٠

لضمان ان يتلاقيا. فيحققا مشيئة الله في امتداد الحياة. ثم لتكون هذه الرغبة الاصيلة وتلك اللذة العميقة دافعا في مقابل المتاعب التي يلقيانها بعد ذلك في الذرية ، من حمل ووضع ورضاعة ، ومن نفقة وتربية وكفالة ، ثم لتكون حضانتهم أكثر من أطفال الحيوان ، ويحتاجون الى رعاية أطول من الجيل القديم.

هذه هي سنة الله التي يتصل ادراكها والعمل بمقتضاها بالاعتقاد في الله وحكمته ولطف تدبيره وتقديره ، ومن ثم يكون الانحراف عنها متصلا بالانحراف عن العقيدة ، وعن منهج الله عزوجل للحياة.

ويبدو انحراف هذه الفطرة واضحا في قصة لوط ، حتى أن لوطا ليجبههم بانهم أبدعوا دون خلق الله فيها ، وانهم في انحراف شنيع غير مسبوقين.

(أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً)

والاسراف الذي يدمغهم به لوط هو الاسراف في تجاوز منهج الله الممثل في الفطرة السوية. فاذا هم يريقونها في غير موضع الاخصاب ، فهو الشذوذ والانحراف والفساد الفطري.

(وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا : أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ).

فيا عجبا أو من يتطهر يخرج من القرية اخراجا ، ليبقى فيها الملوثون المدنسون المتسافلون. ولكن لما ذا العجب وما ذا تصنع الجاهلية الحديثة ـ وتسميه تقدمية وتحطيما للاغلال عن المرأة ـ أليست تطاردهم في أرزاقهم وأنفسهم وأفكارهم ولا تطيق أن تراهم يتطهرون :

١١

(فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ .. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) ، انها النجاة لمن تهددهم العصاة ، والهلاك والدمار للعصاة المهددين. وقد أمطروا مطرا مهلكا ومدمرا (فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) ولعذاب الآخرة أشد وأخزى راجع الجزء الاول منه.

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨٥) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً

وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٧)

قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (٨٩) وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (٩٢) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (٩٣))

البيان : اننا نجد شيئا من الاطالة في هذه القصة ، بالقياس الى نظائرها في هذا الموضع ، ذلك انها تتضمن غير العقيدة شيئا ، عن المعاملات ، وان كانت القصة سائرة على منهج الاستعراض.

وندرك من هذا النهي أن قوم شعيب كانوا قوما مشركين لا يعبدون الله وحده ، انما كانوا يتخذون لأنفسهم من عند أنفسهم قواعد للتعامل.

ولذا يبدأ شعيب (ع) بدعوتهم الى عبادة الله وحده ، ثم يثني على

١٢

دعواهم الى قاعدة يجب أن تنبثق عن منهج الله عزوجل ، وأحكامه الالهية لا غير ، ان الاسلام حين يدعو الناس الى انتزاع السلطان من أيدي غاصبيه من البشر ورده كله لله ، انما يدعوهم لانقاذ انسانيتهم وتحرير رقابهم من عبودية العبيد ، كما يدعوهم لانقاذ أرواحهم وأموالهم من هوى الطواغيت وشهواتهم ، انه يكلفهم أعباء المعركة مع الطاغوت لينقذهم من تضحيات اكبر وأطول ، وأذل وأحقر ، انه يدعوهم للكرامة والسلامة في آن واحد.

(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ)

والرجفة جزاء التهديد الذي قالوه : (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ)

ويطوي صفحتهم مشبعة بالتبكيت والاهمال والمفارقة والانفصال ، من رسولهم الذي كان ينصحهم (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ ... فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ).

انه من ملة ، وهم من ملة ، فهو من أمة وهم من أمة ، فهو من حزب الله وهم من حزب الشيطان.

فالايمان بالله عزوجل وتقديم طاعته على ما في الحياة هو الوصل والفصل لا غير.

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩٥)

وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (٩٩))

١٣

البيان : ان السياق القرآني هنا لا يروي حادثة ـ كما سبق ـ وانما يكشف عن سنة ولا يعرض سيرة قوم ، انما يعلن عن خطوات قدر. ومن ثم يتكشف أن هناك ناموسا تجري عليه الامور ، وتتم وفقه الاحداث ، ويتحرك به تاريخ الانسان في هذه الارض :

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ).

فليس للعبث ـ تعالى الله عن ذلك علوا ـ وانما يأخذ الله عباده بالشدة في أنفسهم وأرزاقهم ، لان من طبيعة الابتلاء بالشدة أن يوقظ الفطرة التي ما يزال فيها خير يرجى لذلك اقتضت مشيئة الله أن يأخذ أهل كل قرية ، فيرسل اليها نبيا فتكذبه ، والبأساء والضراء ، خير مهذب وخير مفجر لينابيع الخير المستكنة في الضمائر الحية.

وعند التكذيب والعناد بعد قيام الحجة ، تجيء العاقبة وفق السنة الجارية : (فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) جزاء بما نسوا واغتروا وعاندوا وكذبوا واتبعوا أهواءهم (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا).

فذلك الطرف الآخر لسنة الله عزوجل الجارية ، فلو بدلوا التكذيب بالتصديق. والعصيان بالطاعة والاذعان لفتح الله عليهم بركات من السماء والارض بدون حساب.

ان العقيدة الايمانية في الله وتقواه ليست مسألة منعزلة عن واقع الحياة وعن تاريخ الانسان ، ان الايمان بالله وتقواه ، ليؤهلان لفيض من بركات السماء والارض وعدا من الله حقا ، ومن أوفى بعهده من الله العادل الحكيم.

والايمان بالله عزوجل قوة دافعة دافقة تجمع جوانب الكينونة

١٤

البشرية كلها وتتجه بها الى جهة واحدة ، وتطلقها تستمد من قوة الله ، وتعمل لتحقيق مشيئته ، في خلافة أرضه وعمارتها بطاعته ، وفي دفع الفتن والفساد عنها ، وفي ترقية الحياة ونمائها ، وهذه أيضا من مؤهلات النجاح في الحياة الواقعية.

والايمان بالله يحرر من العبودية للهوى ومن العبودية للمخلوق مهما كان وتقوى الله يقظة واعية تصون من الاندفاع والتهور والغرور ، وتوجه الجهد البشري في حذر ، فلا يتعدى ولا يتهور ، ولا يتجاوز حدود الله وقانونه.

وحين تسير الحياة متناسقة بين الدافع الى الخير والزاجر عن الشر تسير سيرة صالحة وتستحق مدد الله بعد رضاه ، وتحفها البركة ويعمها الخير والفلاح.

ان البركات الحاصلة مع الايمان الصحيح والعمل الصالح بركات في جميع الاشياء في النفوس والابدان والاموال ، بركات تنمي الحياة ، وترفعها في آن واحد ودوامها لا ينقطع حتى يتغير ايمان الانسان (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ).

(أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (١٠٢))

ان سنة الله عزوجل لا تتخلف ، ومشيئته لا تتوقف ، فما الذي يؤمنهم ان يأخذهم الله بذنوبهم كما أخذ من قبلهم. وان يطبع على قلوبهم فلا يهتدون بعد ذلك. بل لا يسمعون الى دلائل الهدى ، ثم ينالهم جزاء الضلال في الدنيا والآخرة.

١٥

وما يريد الله للناس بهذا التحذير في القرآن أن يعيشوا فزعين قلقين ، وانما يريد الله منهم اليقظة والحساسية والتقوى ومراقبة للنفس ، والعظة بتجارب البشر ورؤية محركات التاريخ الانساني ، وادامة الاتصال بالله ، وعدم الاغترار بطراوة العيش ورخائه.

والمنهج القرآني ـ مع ذلك ـ انما يعالج أطوار النفوس والقلوب المتقلبة وأطوار الامم والجماعات المتنوعة ، فيعطيها جرعة من الامن والثقة والطمأنينة الى جوار الله تعالى حين تخشى قوى الارض وملابسات الحياة ، ويعطيها جرعة من الخوف والحذر والترقب لبأس الله ، حين تركن الى قوى الارض ومغريات الحياة ، وربك أعلم بمن خلق وهو اللطيف الخبير.

(تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها) .. (وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ)

والعهد الذي يشار اليه هنا قد يكون هو عهد الله على فطرة البشر الذي ورد ذكره سابقا. وقد يكون هو عهد الايمان الذي أعطاه اسلافهم الذين آمنوا بالرسل ثم انحرف الخلائف كما يقع في كل جاهلية وفترة ، اذ تظل الاجيال تنحرف شيئا فشيئا حتى تخرج من عهد الايمان وترتد الى الجاهلية السابقة.

وأيا كان فالعهد قد تبين أن أهل هذه القرى لا عهد لاكثرهم يستمسكون به ويبنون عليه انما هو الهوى المتقلب ، والطبيعة التي لا تصبر على تكاليف العهد ولا تستقيم.

(وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ ، وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ)

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ

١٦

مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٠٥) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (١٠٧) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨)

قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ (١١٠) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢))

البيان : بعد تلك القرى وما حل بها وبالمكذبين من أهلها ، كانت بعثة موسى (ع) ، والسياق يعرض القصة من حلقة مواجهة فرعون وملئه بالرسالة ، ثم يعجل بالكشف عن خلاصة استقبالهم لها كما يعجل بالاشارة الى العاقبة التي انتهوا اليها ..

انه مشهد اللقاء الاول بين الحق والباطل ، وبين الايمان والكفر (إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ). مشهد اللقاء الاول بين الدعوة الى (رَبِّ الْعالَمِينَ) وبين طاغوت المخلوقات المتجبرة الطاغية.

ولقد واجه موسى (ع) فرعون وملأه بهذه الحقيقة الواحدة التي واجه بها كل نبي قبله طاغوت زمانه ، وهو يعلم انها تعني الثورة على ملأه ودولته ونظام حكمه. ان ربوبية الله للعالمين تعني ـ اول ما تعني ـ ابطال شرعية كل حكم يزاول السلطان على الناس بغير شريعة الله عزوجل وأمره ، وتنحية كل طاغوت تعبيد الناس له ـ من دون الله ـ (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) هذه هي البينة على صحة دعواه ، ولكن هل يستسلم الطاغوت للحق حينما تبين له ، وهل ترضى بذلك جلاوزته المستفيدين من هذه الحياة بواسطة طغيانه فقالوا : ان هذا لساحر عليم ، وتأتي صرخة الحق ممن يكتم ايمانه : (أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) مؤمن آل فرعون).

واضطر فرعون مع جلاوزته الى الاذعان لهذا الرأي السديد

١٧

فالسحرة موفورة في بلاد فرعون فأرسل اليهم فان كان ساحرا انكشف أمره وافتضح وان كان صادقا فهو الحق.

(وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (١١٣) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (١٢٢))

(قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (١٢٦))

البيان : انهم أصحاب السحرة وهي من خصائصهم. وهم أعلم أهل زمانهم بمهنة السحر. وقد أكد لهم فرعون ان لهم الجائزة الكبرى والمقام الرفيع ان انتم غلبتم موسى وربه. وفرح السحرة بوعد فرعون لهم وبادروا التحدي لموسى (ع) : هل تلقي سحرك ام نحن نبدأ بالقاء سحرنا. وأجابهم موسى بل انتم ألقوا وألقيت الحبال والعصي وتراء للناس انها تسعى على وجه الأرض أفاعي وحيات هائلة ترعب قلوب الجاهلين واذا النداء من رب السماء يا موسى الق عصاك فالقاها فاذا هي تلقف جميع ما صنعوا لأنها مظاهر كاذبة. ولما رأى السحرة ما فعلت عصا موسى تحقق لديهم ان هذا يستحيل أن يكون من جنس السحر الذي يسعتمله الناس. وأيقنوا انها قدرة آلهية. ومعجزة ربانية وان موسى رسول حق من عند رب العالمين فآمنوا وسجدوا لله رب العالمين. ولم يبالوا بكل ما سيواجههم به فرعون من عذاب ونكال لأنه تحقق لديهم ان الله قادر ان ينجيهم من فرعون ان

١٨

أراد ذلك وان أراد لهم وقوع التنكيل من فرعون فهو لهم تطهير وارتفاع درجات في دار الخلود والموت لا بد منه ان عاجلا وان آجلا فالاسراع بالايمان هو الصواب.

(وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ قالُوا : آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ).

انها صولة الحق في الضمائر الحية. وانه نور الحق في المشاعر اليقظة. وانها لمسة الحق للقلوب المهيأة لتلقي الحق والنور واليقين ولا تبالي بكل ما سيجري ويصير من بلاء وعناء وجاء تهديد فرعون لهم : (إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ .. وإِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ).

ولكن السحرة يعلمون يقينا ان وسمة فرعون لهم كذب ومكر. وفرعون نفسه يعرف ذلك لأنه هو الذي ربى موسى في بيته وتحت رعايته. وكيف يكون قد علمهم ومتى هو تعلم السحر حتى يستطيع ان يعلم غيره. ولكنها الخدعة التي يخدع بها اتباعه الرعاع.

ويصدر الجواب من السحرة مقابل تهديد فرعون لهم (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ). هذا كل ما يطلبون ويرغبون بعد أن اتضح لهم الحق المبين ليكونوا أول المؤمنين برب العالمين.

ويقف الطغيان عاجزا امام الايمان. انه موقف من المواقف الحاسمة في تاريخ البشرية انه موقف حاسم في تاريخ الابد. لقد انتصر الحق مع ضعفه على الباطل العاتي.

ولكن حاشا ان يقال للحق انه ضعف وعونه رب العالمين الذي اذا قال للشيء (كُنْ فَيَكُونُ). انه موقف حاسم في تاريخ البشرية ـ لو كانوا يعقلون ـ باعلان افلاس المادية بكل أنواعها. ويذهب التهديد ويتلاشى الوعيد. ويمضي الايمان في طريقه لا يتلفت ولا يتردد ولا

١٩

يحيد. انه مشهد بالغ الروعة. نعترف اننا نعجز عن القول فيه فندعه كما صوره القرآن المجيد.

(وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (١٢٧) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٢٩)

وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣١))

البيان : ان فرعون لم يكن يدعي الالوهية بمعنى أنه هو خالق هذا الكون ومدبره أو أنه هو سلطان في عالم الاسباب الكونية ، انما كان يدعي الالوهية على شعبه المستذل بمعنى أنه هو حاكم هذا الشعب بشريعته وقانونه ، وانه بارادته وأمره تمضي الشؤون وتقضى الامور بارادته وأمره ـ وهذه هي الربوبية بمعناها اللغوي التي يدعيها البشر ـ كذلك لم يكن الناس في مصر يعبدون فرعون بمعنى تقديم الشعائر التعبدية له. فقد كانت لهم الهتهم ، وكان فرعون له الهة يعبدها ، وهذا ظاهر من قول ملأه :

(وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) وكما يثبت المعروف من تاريخ مصر الفرعونية ، انما هم كانوا يعبدونه بمعنى أنهم خاضعون لما يريده بهم ولا يعصون له أمرا ، ولا ينقضون له شرعا.

وهذا المعنى اللغوي والاصطلاحي للعبادة ، فأيما انسان تلقى التشريع من بشر وأطاعه فقد عبده ، وهذا معنى قوله عزوجل : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ).

٢٠