تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

السماحة الانسانية المستمدة من توجيه الله تعالى يقرر حق المحتاجين جميعا في أن ينالوا العون والمساعدة. ما داموا في غير حالة حرب مع الجماعة المسلمة ـ دون نظر الى عقيدتهم ـ ويقرر ان ثواب المطيع محفوظ عند الله تعالى على كل حال ما دام الانفاق ابتغاء وجه الله. وهي وثبة بالبشر لا ينهض بها الا الاسلام. (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) (وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ) هذا هو شأن المؤمن لا سواه. انه لا ينفق الا ابتغاء وجه الله ، ولا ينفق عن هوى نفس ولا لمدح المادحين.

(لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣))

البيان : لقد كان هذا الوصف الموحى ينطبق على جماعة من المهاجرين. تركوا وراءهم اموالهم واهليهم واقاموا في المدينة ووقفوا أنفسهم على الجهاد في سبيل الله تعالى.

ولكن النص عام ينطبق على سواهم في جميع الازمان. ينطبق على الكرام المعوزين الذين تكتنفهم ظروف تمنعهم من الكسب. وتمسك بهم كرامتهم ان يسألوا العون او ان يظهروا الحاجة. يحسبهم الجاهل اغنياء من تعففهم. ولكن ذا الحس المرهف والبصيرة المفتوحة يدرك ما وراء التجميل من جميل. وتبدو على سيماهم وهم يدارونها بالحياء.

انها صورة عميقة الايحاء. تلك التي يرسمها النص. وكل جملة تكاد تكون لمسة ريشة ترسم ابدع صورة للتعفف والحياء. (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ)

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤))

البيان : ويبدو التناسق في هذا الختام في عموم النصوص وشمولها. سواء في صدر الآية ام في ختامها وكأنما هي الايقاع الاخير

٢٠١

الشامل القصير. (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً) المال مضاعف لهم والبركة في اعمارهم. والجزاء في الاخرة لهم رضوان من الله عليهم (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) لا حزن ولا خوف لا في الدنيا ولا في الآخرة. انه التناسق في ختام الدستور القويم.

(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧٥))

البيان : الصدقة عطاء وسماحة. وطهارة وزكاة. والربا هو الوجه الكالح الطالح. والصدقة يطلب منها العوض من خالق البشر. والربا يؤخذ اضافة على ما اعطى من المخلوق ولم يبلغ من تفظيع امر اراد الاسلام ابطاله من امور الجاهلية ما بلغ من تفظيع الربا.

ولا بلغ من التهديد في اللفظ والمعنى ما بلغ في امر الربا ـ في هذه الآيات وغيرها ـ ولله الحكمة البالغة. فلقد كانت للربا في الجاهلية مفاسده وشروره. ولكن لم تكن بادية في مجتمع جاهلي كما بدت اليوم وتكشفت في عالمنا الحاضر.

فهذه الحملة المفزعة في هذه الآيات على أهل الجاهلية الذين لم يبلغوا عشر معشار ما بلغه اهل هذا العصر في القرن العشرين من تفش المعاملات في الربا حتى لم يلحظ به ادنى منافاة لله ورسوله ص وآله.

مع ان المجتمع الحاضر يدرك فظاعة الاستنكار من هذه الآيات على اهل الربا ما لم يدركه من نزلت عليهم هذه الآيات. ومع هذا فانك ترى ان البلايا تنصب على أهل هذا الزمان اضعاف ما اصاب العصر الجاهلية. ولا متعظ ولا معتبر. وتتلقى ـ حقا ـ حربا من الله تصب عليها. ولا تعتبر ولا تفيق.

٢٠٢

ان الله تعالى هو خالق الكون وخالق هذا الانسان وقد وهبه كل موجود. وانما استخلفه في اطار من الحدود الواضحة. استخلفه فيه على شرط ان يقوم في الخلافة وفق منهج الله تعالى وحسب شريعته الغراء السمحة. وليس هذا البشر ملاكا لما خلق لهم الا بقدر ما اباح لهم.

فمن بين بنود هذا العهد ان يقوم التكافل بين المؤمنين بالله. فيكون بعضهم اؤلياء بعض. وان ينتفعوا برزق الذي اعطاهم على اساس التكافل بين المؤمنين ـ لا على قاعدة الشيوع المطلق كما تتبناه الماركسية الشيوعية. ولا على قاعدة التكالب المطلق كما تتبناه الرأسمالية الباطلة.

عن الصادق «ع» : درهم ربا أشد عند الله من سبعين زنية كلها بذات محرم في بيت الله الحرام.

عن امير المؤمنين (ع) : لعن رسول الله ص وآله الربا وآكله وبايعه ومشتريه وكاتبه وشاهديه (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ)

عن الصادق (ع) قال : صعد رسول الله المنبر ذات يوم فحمد الله واثنى عليه وصلى على الانبياء ثم قال ايها الناس ليبلغ الشاهد منكم الغائب. ألا ومن نظر منكم معسرا ـ في دين ـ كان له على الله في كل يوم صدقة. بمثل ماله حتى يستوفيه)

ان النظام الربوي نظام معيب من الوجهة الاقتصادية البحتة ـ وقد بلغ من سوءه ان تنبه لعيوبه ـ من غير المسلمين ـ بعض اساتذة الاقتصاد الغربيين انفسهم. مع انهم نشأوا في ظله واشربت عقولهم وثقافتهم تلك السموم التي تبثها عصابات المال في كل فروع الثقافة والتصور الاخلاقي ، وفي مقدمة هؤلاء الاساتذة الذين يعيبون هذا النظام من الناحية الاقتصادية البحتة (دكتور شاخت) الالماني ومدير بنك الرابح الالماني سابقا. وقد كان مما قاله في محاضرة له بدمشق

٢٠٣

عام ١٩٥٣ م. : انه بعملية رياضية (غير متناهية) يتضح ان جميع المال في الارض صائر الى عدد قليل جدا من المرابين : ذلك ان صاحب المال المرابي يربح دائما في كل عملية. بينما المدين قد يربح وقد يخسر. ومن ثم فان المال كله في النهاية لا بد ان يصير الى الذي يربح دائما.

وليس هذا وحده هو كل ما للربا من جريرة. فان قيام النظام الاقتصادي على الاساس الربوي يجعل العلاقة بين اصحاب الاموال وبين العاملين علاقة مقامرة مستمرة والفائز بالربح المرابي دائما في كل ما يديره المرابي مع العاملين.

والحقيقة التي ينص عليها الاسلام : انه لا اسلام مع قيام نظام ربوي في المجتمع الاسلامي وكل ما يقوله اصحاب الفتاوى من رجال الدين او غيرهم فهو خداع وتدجيل.

والحقيقة الثانية : ان النظام الربوي بلاء على الانسانية ـ لا في ايمانها واخلاقها وتصورها للحياة فحسب ـ بل كذلك في صميم حياتها الاقتصادية والعملية. وانه ابشع نظام يمحق سعادة البشرية محقا ويعطل نموها الانساني المتوازن.

والحقيقة الثالثة : ان النظام الاخلاقي والنظام العملي في الاسلام مترابطان تماما. وان الانسان في كل تصرفاته مرتبط بعهد الاستخلاف وشرطه. وانه مختبر وممتحن في كل نشاط يقوم به في حياته ومحاسب عليه في آخر حياته.

والحقيقة الرابعة : ان التعامل الربوي لا يمكن الا ان يفسد ضمير الفرد وخلقه وشعوره تجاه اخيه في الجماعة. والا ان يفسد حياة الجماعة البشرية وتضامنها. بما يبثه من روح الشره والطمع والاثرة. والمال المستدان بالربا ليس همه ان ينشيء انفع ما يوصله الى الارباح حتى

٢٠٤

ولو كان من استئثار احط الغرائز واقذر الميول. وهذا المشاهد من المراقص والملاهي.

الحقيقة : ان الاسلام نظام متكامل. فهو حين يحرم التعامل الربوي يقيم نظمه كلها على اساس الاستغناء عن الحاجة اليه ويأبى ان يحتاج المسلم سواه. واخيرا فعلينا ان ننظر كيف كانت ثورة الاسلام على تلك الشناعة الربوية وعلى ان أربابها الاشرار الظالمين للاخيار. (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ .. وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)

(يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦))

البيان : الربى الذي كان رائج في الجاهلية على قسمين : ربا النسيئة ، وربا الفضل. فاما ربا النسيئة : فهو أن يبيع الرجل الآخر بسعر معروف الى أجل مسمى ، فاذا جاء الاجل ولم يكن لدى المستدين ما يوفي به دينه يعمد صاحب المال فيضيف مقدارا آخر فوق المبلغ الاول مقابل أن يمهله في تأخير دينه الى مدة معلومة فاذا أيضا جاء الاجل الثاني ولم يكن عند المديون لما يوفي دينه كذلك زاد عليه مقدارا الى وقت معلوم وهكذا حتى يتضاعف المال اضعافا لا تقدر مقاديره.

أما الربا الفضل فهو أن يقرض الرجل الآخر مبلغا من المال باضافة معلومة لمدة معلومة.

وجاء الاسلام فحرم كلا القسمين من الربا ، وشدد في التحريم والتهديد بشكل لا يماثله شيء فقال (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ ، وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ).

وقد صدق وعد الله عزوجل ، فها نحن أولاء نرى أنه ما من مجتمع يتعامل بالربا ثم يبقى فيه بركة أو رخاء أو سعادة أو أمن أو طمأنينة ، ان

٢٠٥

الله يمحق الربا فلا يفيض على المجتمع الذي يوجد فيه هذا الدنس الا القحط والشقاء.

وما من مجتمع قام على التكامل والتعاون ـ الممثلين في الصدقات للتطوع ـ الا وسادته روح المودة والحب والرضى والسماحة ، والتطلع دائما الى فضل الله وثوابه والاطمئنان. وليس في حرمة الربا شبهة ، وليس في اعتباره حلالا ، الا الكفر والاثم والخزي والخسران في الدارين معا.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧))

البيان : العنصر البارز في الآية هو عنصر للزكاة ، عنصر البذل بلا عوض من المخلوقين بل منحصر لنيل ثواب الخالق العظيم واحراز رضاه الذي هو تمليك لخير الدنيا والآخرة معا.

ان الزكاة هي قاعدة المجتمع المتكافل المتضامن ، الذي لا يحتاج الى ضمانات النظام الربوي وليس المهم هو شكلية النظام ، انما المهم هو روحه ، فالمجتمع الذي يربيه الاسلام بتوجيهاته وتشريعاته ونظامه متناسق مع الضمائر الحية (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) في الدارين معا ، في الوقت الذي يهدد أكلة الربا بالمحق والسحق ، وبالتخبط والضلال ، وبالقلق والخوف والخسران في الدارين معا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩))

البيان : ان النص يعلق ايمان الذين آمنوا على ترك ما بقي من الربا. فهم ليسوا بمؤمنين الا أن يتقوا الله ويذروا ما بقي من الربا ،

٢٠٦

فآكلوا الربا ليس بمؤمنين وان أعلنوا وادعوا الايمان ما زالوا مصرين على أكله ولم يندموا ويتوبوا توبة نصوحا ، والنص القرآني يعلن ذلك بدون ادنى خفاء.

(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) يا للهول ، حرب من الله ورسوله ، حرب تواجهها النفس البشرية حرب رهيبة ، فأين يهرب الانسان الضعيف من الانتقام اذا كان خصمه الله تعالى ورسوله ص وآله ، تلك القوة التي لا يغلبها غالب مهما كثر وقوي.

انها الحرب المشبوبة دائما ، وقد أعلنها الله على المتعاملين بالربا ، وهي مسعرة الان تأكل الاخضر واليابس في حياة البشرية الضالة ، وهي فرحة بما تحصل من هذا الربا المحرق للاخضر واليابس.

(وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ) انها التوبة فهي التي ترجع آكل الربا الى حظيرة الاسلام بعد خروجه بأكل الربا ، وليس لآكل الربا بعد التوبة الا رأس ماله بدون أدنى زيادة عليه وجميع مازاد يجب أن يرجع الى أربابه الذين أخذ منهم بدون حق ولا طريق مشروع بنظر الاسلام.

(وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠))

البيان : انها السماحة الندية التي يحملها الاسلام للبشرية .. انها الرحمة للدائن والمدين ، ان المعسر في الاسلام لا يطارد من صاحب الدين ، على أن النصوص تجعل لهذا المدين المعسر حظا وافرا من مصارف الزكاة ، ليؤدي دينه عند عجزه ، فعلى الوالي ان يؤديه عنه من بيت المسلمين.

(وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٨١))

البيان : انه اليوم المعلوم الذي تقف الخلائق بين يدي من

٢٠٧

لا تخفى عليه خافية ، ولا تزل قدم الى النار حتى يؤخذ منها الحق : من حسناتها ان كان لديها حسنات أو يوضع عليها من سيئات صاحب الحق على الظالم ان لم يكن لديه حسنات ، وانه ليوم رهيب ، فما أجدر بالقلب المؤمن أن يخشاه وان يتقواه ، وان التقوى هي البوليس السري الذي يراقب قلب المؤمن ويحذره دائما من الانحراف ـ عن الخط المستقيم ـ الى اليمين أو اليسار اللذين هما الاطراف المهلكة لاربابها نعوذ بالله منها

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢))

البيان : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ ..) هذا هو المبدأ العام الذي يريد تقريره الاسلام فالكتابة أمر مفروض بالنص ، غير متروك للاختيار في حالة الدين الى أجل لحكمة يأتي بيانها ان شاء الله ،

(وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ) وهذا تعيين للشخص الذي يقوم بكتابة الدين. وهو مأمور بان يكتب فالتكليف هنا من الله ـ بالنسبة الى الكاتب ـ كي لا يتأخروا ولا يأبى (أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ).

(وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ ..) ان المدين ـ الذي عليه الحق ـ هو الذي يملي على الكاتب اعترافه بالدين ومقداره ، وشرط أجله ، حذرا من وقوع النزاع فيما بعد ذلك.

٢٠٨

(وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ ...) انه لا بد من شاهدين على العقد ، ولكن قد لا يوجد رجلان ، فليكن رجل وامرأتان (فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) والضلال هنا قد ينشأ من قلة خبرة المرأة وقد ينشأ من طبيعة المرأة الانفعالية ، ووجود امرأتين فيه ضمانة أن تذكر احداهما الاخرى.

(وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ ...) فتلبية الدعوة للشهادة اذن فريضة وليست تطوعا.

(وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ ...) (ذلِكُمْ أَقْسَطُ) و (وَأَقْوَمُ ..) فالشهادة على شيء مكتوب أقوم وأصح (أَلَّا تَرْتابُوا) نعم اقرب لعدم الارتياب في صحة البيانات التي تضمنها العقد.

أما التجارة الحاضرة فأبيوعها مستثناة من قيد الكتابة وتكفي شهادة الشهود فقط. وهذا الاعفاء هو رخصة لا جناح فيها ، ولا يقع ضرر على كاتب أو شهيد بسبب ادائه لواجبه في المقام (وَاتَّقُوا اللهَ ، وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ ، وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)

(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣))

البيان : وهنا يستجيش الشارع المقدس ضمائر المؤمنين للامانة والوفاء بدافع تقوى الله عزوجل ، فهذا هو الضمان الاخير لتنفيذ التشريع بكامله ، ولرد الاموال والرهائن الى أصحابها.

والمدين مؤتمن على الدين ، والدائن مؤتمن على الرهن ، وكلاهما مدعو لأداء ما أوتمن عليه.

(وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) ويعتمد التعبير هنا على القلب فينسب اليه الاثم عند الكتمان والانحراف ثم يستمر السياق في توكيد هذه

٢٠٩

الاشارة ، واستجاشة القلب للخوف ممن لا تخفى عليه خافية وهو قادر على أخذ الحق من الظالم اينما كان وكيفما كان. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ).

(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤))

(آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥))

البيان : انها الصورة الحقيقية للمؤمنين للجماعة المسلمة ، لانها تدرك حقيقة الرسول الكبيرة وتعرف أي مرتقى رفعها الله اليه عنده ، وهو يجمع بينها وبين الرسول ص وآله في صفة واحدة وايمان الرسول بما انزل اليه من ربه هو ايمان التلقي المباشر ، تلقى قلبه النقي للوحي العلي واتصاله المباشر بالحقيقة المباشرة ، الحقيقة التي تتمثل في كيانه بذاتها من غير كد ولا محاولة. وهي درجة من الايمان لا مجال لوصفها ، فلا يصفها الا من ذاقها وسعد بلذتها التي لا تحد انه الايمان الشامل الذي جاء به هذا الدين ، الايمان الذي يليق بهذه الامة الوارثة لدين الله عزوجل ، الضاربة الجذور في أعماق الزمان الى الابد ، ومنتهى الدنيا.

انه الايمان الذي يتمثل البشرية كلها منذ نشأتها الى نهايتها صفين اثنين ، صف المؤمنين وصف الكافرين ، حزب الرحمان ، وحزب الشيطان ، أهل الجنان ، وأهل النيران دون صف ثالث.

والايمان بالله العظيم في الاسلام القويم قاعدة التصور ، وقاعدة المنهج الذي يحكم الحياة كلها. وقاعدة الخلق ، وقاعدة الاقتصاد ، وقاعدة كل حركة يتحركها المؤمن هنا وهناك.

٢١٠

الايمان بالله العزيز القهار ، معناه افراده سبحانه بالالوهية والربوبية والعبادة. ومن ثم أفراده بالسيادة ، على ضمير كل مخلوق وسلوكه في كل أمر من امور حياته حتى نهاية وجوده.

اذن ليس هناك شركاء في الالوهية او الربوبية لغيره ، فلا شريك له ولا ند يزاحمه ، ولا يتدخل في شؤون الكون وما حواه سواه ، ولا يعطي ولا يمنع ولا يرفع ويوضع الا هو وحده.

وليس هناك شركاء في العبادة والطاعة له ، فلا عبادة ولا طاعة الا لله الواحد الخالق. ومن ثم فالتشريع وقواعد الحق مختص به ، ونظام الاجتماع والاقتصاد لا يجوز ولا يحق لسواه. فهذا هو معنى الايمان بالله ، ومن ثم ينطلق الانسان حرا ازاء كل من عدا الله طليقا من كل قيد أو شرط ، الا من حدوده التي حددها لعباده ، وحذر من تجاوزها فقال عزوجل :

(وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ) س ٤ ١٤ ي

والايمان بملائكة الله عزوجل طرف من الايمان بالغيب الذي هو الدليل الوحيد على الايمان الصحيح ، فلذا قال عزوجل :

(ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) س ٢ ٣ ي

والايمان بالغيب يخرج الانسان من نطاق الحيوانية المضروبة على الحيوان ، ويخص به أهل الايمان أهل الفهم والوجدان ، وبذلك لا غير تعرف ميزة الانسان عن الحيوان.

فالمؤمن يلبي فطرته الانسانية ، ويتشوق الى معرفة المجاهيل التي لا تحيط بها حواسه الحيوانية.

ولكنه يدركها بآثارها وخصائصها ، فاذا لم تلب هذه الاشواق الفطرية بحقائق الغيب ـ كما منحها الله له ـ اشتطت وراء الاساطير

٢١١

والخرافات لتشبع هذه الجوعة وحينئذ يصاب كيان الانسان بالقلق والاضطراب ، الذي هو الداء العضال ، الذي لا يشفيه الا الايمان بالله عزوجل.

والايمان بكتب الله ورسله بدون تفرقة بين أحد من رسله هو المقتضي الطبيعي الذي ينبثق من الايمان بالله عزوجل في الصورة التي يرسمها الاسلام.

فالايمان بالله يقتضي الاعتقاد بصحة كل ما جاء من عند الله والتصديق بكل الرسل الذين بعثهم الله ، ومن ثم لا تقوم التفرقة بين الرسل في ضمير المسلم ، فكلهم جاء من عند الله بالدين الصحيح الذي هو الاسلام ، من أول رسول حتى انتهى الامر الى خاتم الرسل والانبياء محمد ص وآله.

ان رصيد الايمان الذي تقوم الامة المسلمة حارسة عليه في الارض ووارثة له منذ المبدىء الى المنتهى ، انه رصيد من الهدى والنور ، ومن الثقة والطمأنينة ، والرضى والسعادة ومن المعرفة واليقين. ومن المستحيل أن يخلو قلب مؤمن صحيح من هذا الرصيد حتى يجتاحه أو يدنو اليه القلق والظلام. أو تدخله الوساوس والشكوك ، أو يستبد به الاسى والشقاء. وصرخات القلوب واضطرابها من حرمانها هذا الزاد والجهاز ، والنور والاطمئنان ، في هذه العصور المظلمة ، والاحساس بما يعتري هذه القلوب قبل أن تموت نهائيا ويفقد منها الاحساس نهائيا.

والمجتمعات المحرومة من تلك النعمة مجتمعات بائسة ـ ولو غرقت في الرغد المادي ـ والمؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله يتوجهون الى ربهم بالطاعة والتسليم ، ويعلمون انهم صائرون اليه ، فيطلبون مغفرته من التقصير (غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ).

٢١٢

ويتجلى في هذه الكلمات أثر الايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ، يتجلى في السمع والطاعة ، السمع لكل ما جاءهم من عند خالقهم ورازقهم وحارسهم. والطاعة لكل ما أمر به الله.

ومع السمع والطاعة والشعور بالتقصير مهما جد العبد واجتهد في طاعة خالقه العظيم ، فالايمان ما وقر في القلب وصدقه العمل ، ودفعه اليقين الثابت الذي تزول الجبال ولا يزول.

انها الوحدة الكبرى ، طابع العقيدة الاسلامية ، ترسمه هذه الآية القصيرة : الايمان بلله وملائكته ، والايمان بجميع كتبه ورسله ، بلا تفريق بين رسل الله عزوجل ، والسمع والطاعة ، والانابة الى الله عزوجل واليقين يوم الحساب والجزاء ، رفعة المطيع الى النعيم وهبوط العاصي في نار الجحيم.

انه الاسلام الكامل ، وانها العقيدة اللائقة ، بان تكون ختام العقائد الصحيحة الحقة ، وآخر الرسالات الالهية ، انها العقيدة التي تصور موكب الايمان الواجب من مبتدأ الخليقة الى منتهاها. وخط الهداية الموصل بأيدي رسل الله جميعا ، المتدرج بالبشرية في مراقي الصعود الكاشف لها عن الناموس الواحد بقدر جهد كل انسان واجتهاده ، وتكامله الانساني.

ثم هي العقيدة التي تعترف بانسانية الانسان ، وتلبي حاجات الجسد والروح معا.

(لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٨٦))

البيان : التبعة فردية ، فلا تنال نفس الا ما كسبت ، ولا تحمل الا ما اكتسبت ، فردية التبعة ورجعة كل انسان الى ربه بصحيفته الخاصة ،

٢١٣

ولا يكلف الا بما يطيق ويقدر.

ومن ثم يستأسد كل انسان في الدفع عن نفسه ، والدفاع عن حق ربه بمقدار طاقته مادام هو الذي سيلقى جزاءه مفردا وحيدا لا يحمل وزره سواه ، ولا يتحمل وزر غيره.

ومن مقتضيات الايمان الصحيح أن ينهض كل فرد في الجماعة بحق الجماعة عليه بوصفه طرفا من حق الله في نفسه ، فهو مأمور أن يتكافل مع الجماعة في ماله ونفسه ، في جهده ونصحه ، في احقاق الحق ، وازهاق الباطل مفردا ومع الجماعة المسلمة ، وله الجزاء في حال الوفاء. ولو قصر جميع الناس ، وعليه العقاب في حال الخيانة والتقصير ، ولو وفى جميع الناس.

وكأنما سمع المؤمنون هذه الحقيقة وأدركوها ، فها هو ذا ينطلق من قلوبهم دعاء خافق واجف. يذكره النص القرآني بطريقة جذابة ، فكأنما نحن امام مشهد الدعاء يوم الجزاء فزعين (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا ..) وهو دعاء يصور حال المؤمنين مع خالقهم العظيم وافتقارهم الى رحمته وجوده وكرمه ، والصاق ظهورهم الى كنف ركنه ، مع وجيب القلب ورفرفة الروح.

وهو دعاء ينبعث من صميم القلوب الحية ، ومن صميم العقيدة الصحيحة الثابتة. ان العبودية لله وحده ـ متمثلة في تلقي الشرائع والقوانين والقيم والموازين من كتاب الله واهل بيت رسول الله المعصومين (ع)

وهذه هي نقطة الانطلاق والتحرر البشري من سلطان الجبابرة والطغاة. وأخيرا يلصق المؤمنون ظهورهم الى ركن الله وهم يهمون بالجهاد في سبيله لاحقاق الحق الذي اراده الله عزوجل ، وتمكين دينه في أرضه واعلاء كلمته على الكون واهله. (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

٢١٤

سورة آل عمران (٣)

(٢٠٠) آياتها مائتا آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (١) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤) إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥))

البيان : معجزة القرآن البارزة تكمن في أنه نزل لمواجهة واقع معين ، في حياة امة معينة ، في فترة من فترات التاريخ محددة ، وخاض بهذه الامة معركة كبرى ، حولت تاريخها وتاريخ البشرية كله معها ، ولكنه ـ مع هذا ـ يعايش ويواجه ويملك القدرة الكاملة ، ان يواجه الحياة في كل عصر وزمان ، مع جيل وأجيال حتى منتهى الزمان.

وكأنما هو يتنزل اللحظة لمواجهة الامة في شؤونها الجارية ، وفي صراعها الراهن من جميع الجهات ، داخل النفس ، وفي عالم الضمير ، بنفس الحيوية ، ونفس الواقعية التي كانت له يومذاك.

ان القرآن حقيقة ذات كينونة مستمرة كهذا الكون ذاته ، الكون كتاب الله المنظور. والقرآن كتاب الله المقروء ، (١) وكلاهما شهادة ودليل على صاحبه المبدع ، كما أن كليهما الكائن ليعمل ، والكون بنواميسه مازال يتحرك ويؤدي دوره الذي قدره له خالقه وبارئه.

والقرآن كذلك أدى دوره للبشرية ـ في أول نزوله ـ وما يزال هو هو يؤدي دوره في كل جيل وعصر.

__________________

(١) وعلي بن ابي طالب ع كتاب المنطوق كما قال هو عن نفسه (ع)

٢١٥

وهذا القرآن هو خطاب الله عزوجل لهذا الانسان لا يتغير ، لان الانسان ذاته لم يتبدل مهما تكن الظروف والملابسات قد تبدلت من حوله.

والقرآن يخاطبه في أصل فطرته ـ التي فطره خالقه عليها ـ وفي أصل حقيقته التي لا تبديل فيها ولا تغيير ، ويملك أن يوجه حياته في القرن العشرين ، كما كان يملك توجيهه في السادس ، عند نزوله على أهل ذلك العصر ، بدون فارق الا من حيث تطور الاجيال والافكار.

واذا كان من المضحك أن يقول قائل عن الشمس مثلا : هذا نجم قديم (رجعي) يحسن أن يستبدل به نجم جديد (تقدمي أو ان هذا (الانسان) مخلوق قديم (رجعي) يحسن أن يستبدل به كائن آخر (تقدمي) لعمارة الارض ، فاذا كان هذا القول عن هذه الاشياء الثابتة بالتبديل مضحك وتافه ، فأولى أن يكون هذا هو الشأن في القرآن المجيد خطاب الله الاخير للانسان في كل جيل. ومن ثم يتجلى ان هذا القرآن هو قرآن هذه الدعوة في أي مكان وفي أي زمان ، وهو دستور هذه الامم جمعاء في كل جيل ومن أي قبيل ، وهو حاد الطريق وهادي الى سواء السبيل على توالي القرون وممر الاجيال ، والعصور ، لانه خطاب الله الاخير لهذا الانسان في جميع العصور.

(الم)

البيان : هذه الاحرف المقطعة : ألف. لام. ميم. نختار في بيانها ـ على سبيل الترجيح ـ ما أخترنا في مثلها في أول سورة البقرة ، (انها اما اشارة للتنبيه الى هذا الكتاب مؤلف من جنس هذه الاحرف. وهي في متناول المخاطبين به من العرب. ولكنه ـ مع هذا ـ هو ذلك الكتاب المعجز الذي لا يملكون ان يصوغوا من تلك الحروف آية واحدة من مثله ولو اجتمع الانس والجن.

٢١٦

واما أن المراد من هذه الاحرف معاني مجملة خفية لا يعرفها الا الراسخون في العلم محمد وأهل بيته المعصومون ، لانهم هم تراجمة القرآن وسفراء الرحمن في كل زمان. (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)

هذا التوحيد الخالص الناصع هو مفرق الطريق بين عقيدة المسلم وسائر العقائد سواء منها عقائد الملحدين والمشركين ، وعقائد أهل الكتاب المنحرفين ، من يهود ونصارى على اختلاف نحلهم.

ولقد حكى القرآن المجيد عن اليهود انهم يقولون : عزيز بن الله ، كما حكى عن النصارى انهم يقولون : ان الله ثالث ثلاثة ، وقولهم : ان الله هو المسيح بن مريم ، واتخاذ المسيح وامه الهين.

ومن ثم كان التميز والتفرد لطبيعة الحياة الاسلامية ـ لا لطبيعة الاعتقاد وحده ـ بكل مقوماتها ، انما تنبثق من حقيقة هذا التصور الاسلامي عن التوحيد الخالص الجازم ، التوحيد الذي لا يستقيم عقيدة في الضمير ما لم تتبعه آثاره العملية في الحياة ، من تلقى الشريعة والتوحيد من الله ورسوله وأهل بيته المعصومين (ع).

وهذه الآية تقرر أيضا وحدة الدين ووحدة الحق الذي تتضمنه الكتب المنزلة من عند الله. فهذا الكتاب نزله ـ عليك ـ (بِالْحَقِّ) (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) من التوراة والانجيل ، وكلها تستهدف غاية واحدة ، (هُدىً لِلنَّاسِ) وهذا الكتاب الجديد هو (فرقان) بين الحق الذي تضمنته الكتب المنزلة ، والانحرافات والشبهات التي لحقت بها بفعل الاهواء والاغراض الخاصة.

ثم يؤكد القرآن العلم المطلق لله. الذي لا يخفي عليه شيء. فلن يفلت (شَيْءٌ) من علم الله. وكما لا يمكن التفلت في العلم. لا يمكن التفلت في الجزاء ـ يوم ترجع المخلوقات الى خالقها وتوفى كل نفس

٢١٧

ما كسبت وهم لا يظلمون ـ ان خيرا فخيرا. وان شرا فشر (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها)

(هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦))

البيان : وفي هذه اللمسة تجلية لشبهات النصارى في عيسى (ع) ونشأته ومولده. فالله هو الذي صور عيسى .. (كَيْفَ يَشاءُ) لا ان عيسى هو الرب. او هو الابن. أو هو الافنوم اللاهوتي الناسوتي الى آخر ما انتهت اليه التصورات المنحرفة المجانبة لفكرة التوحيد الناصعة القريبة للادراك باطلة.

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧))

البيان : ان الله سبحانه وتعالى انزل قرآنه المعجز على قسمين قسم محكم. بمعنى ان ما يفهمه كل عربي من ظاهره هو المراد لله تعالى وذلك الحجة على العالم والجاهل والبدوي والحضري وهو الذي لا يختلف فيه اثنان ابدا. وبمجرد ما يقع الخلاف في البيان وفهم المعنى من الآية فمعناه ليس بالمحكم بل هو من المتشابه. فميزان المحكم الاتفاق من جميع الفئات المسلم وغير المسلم بدون استثناء. وكل ما وقع في بيانه ومعناه الخلاف فهو ليس من المحكم. فلا بد من الرجوع في بيانه الى اهل العلم حسب درجاتهم وتحصيلهم وصفاء سريرتهم واعلاهم اهل البيت (ع)

والقسم الثاني من المتشابه هو الذي يختص بيانه بالنبي ص وآله واهل بيته المعصومين الذين علمهم من الله. وقولهم وفعلهم حجة على جميع العباد وكل قول او فعل خالفهم فهو بطل وضلال لا يجوز الاخذ به من اي شخص كان ومن اي مورد ورد.

٢١٨

عن الصادق (ع) : انه قال : نحن الراسخون في العلم. ونحن نعلم تأويل القرآن ومعناه بكامله) ولذا ورد عن رسول الله ص وآله : (علي مع الحق والقرآن. والقرآن والحق مع علي لن يفترقا) أبدا.

وقال علي (ع) : انا كتاب الله الناطق. والقرآن كتاب الله الصامت وانا أفيد لكم من القرآن.

ولهذا نزل قوله عزوجل يوم الغدير بعد اعلان ولاية علي وخلافته واخذ البيعة من كافة الناس :

(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ. وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي. وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) س ٥ ٣ ي

فعند ذاك قال النبي ص وآله : الحمد لله على اكمال الدين واتمام النعمة ورضا الرب بولاية اخي وابن عمي علي بن ابي طالب (ع) :

فرسول الله ص وآله أفضل الراسخين في العلم قد علمه الله عزوجل جميع ما انزل عليه من التنزيل والتأويل. وما كان الله لينزل عليه شيئا لم يعلمه تأويله. وأوصياؤه من بعده يعلمون كل علم رسول الله ص وآله. بدون أدنى نقصان ولذا قال ص وآله :

(انا مدينة العلم وعلي بابها. فمن أراد العلم فليدخل من الباب)

ولذا قال عزوجل : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها. وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها. وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) س ٢ ١٨٩ ي

وقال امير المؤمنين (ع) : ان الراسخين في العلم الذين اغناهم الله عن الاقتحام في في السداد المضروبة دون الغيوب ...

وعن الامام الرضا (ع) : من رد متشابه القرآن الى محكمه هدى الى صراط مستقيم. ثم قال : ان في اخبارنا متشابهات كمتشابه القرآن ومحكما كمحكم القرآن. فردوا متشابهه الى محكمه ولا تتبعوا متشابهها دون محكمها فتضلوا)

٢١٩

(رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩))

البيان : هذا بعض ما يقوله الراسخون بالعلم مع ربهم. وهو الحال اللائق بالايمان الثابت المنبثق من الاطمئنان لقول الله تعالى ووعده الذي لا خلف فيه.

والقلب المؤمن يدرك قيمة الاهتداء بعد الضلال. وقيمة الاستقامة على الصراط المستقيم. بعد الحيرة وقيمة التحرر من عبودية المخلوق بعبودية الخالق العظيم. ويدرك ان الله منحه الايمان ليكون له سلاحا على الاعداء. وزادا ليوم الميعاد. وهو الوفي بوعده. ومتى استشعر القلب المؤمن وقعة المشيئة على هذا النحو هدأ واطمأن وأيقن واستراح.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣))

البيان : ان هذه الآيات واردة في صدد خطاب بني اسرائيل.

وتهديدهم بمصير الكفار قبلهم وبعدهم الى النار. وفيها لفتة لطيفة عميقة الدلالة كذلك. فهو يذكرهم فيها بمصير آل فرعون وقد اهلكهم الله وانجى بني اسرائيل. ولكن هذا لا ينجيهم من الهلاك والعذاب اذا هم ضلوا وكفروا. ولا يعصمهم عاصم اذا هم انحرفوا كما لم ينج فرعون واصحابه حين ادركه الغرق فقال :

(آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) س ١٠ ٩١ ي

كذلك يذكرهم مصارع قريش يوم بدر. وانهم ان عاندوا سيصيبهم

٢٢٠