تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

الطريق المؤدي الى محبتك والمبلغ الى رضوانك وجنتك. والمانع من أن تتبع أهوائنا فنعطب وان نأخذ بآرائنا فنهلك. وعرفنا ولاة امرك. وقيل الصراط هي جسر فوق جهنم في الآخرة الى الجنة.

(صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) عن الامام (ع) : قولوا أهدنا الصراط الذين أنعمت عليهم بالتوفيق لدينك وطاعتك. لا بالمال والصحة. فانهم قد يكونون كفارا او فساقا.

قال (ع) : وهم الذين قال الله تعالى عنهم «(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) ٤ / ٦٩ ي

(غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) قال هم اليهود والذين قال الله فيهم (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ).

و (الضَّالِّينَ) قال هم النصارى الذين قال الله فيهم : (قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً).

وعن النبي (ص) وآله : الذين أنعمت عليهم شيعة علي (ع) يعني أنعم عليهم بولاية علي بن أبي طالب وأبنائه المعصومين (ع). والمغضوب عليهم كل من جحد ولاية علي (ع).

وعن أمير المؤمنين عن رسول الله ص وآله : قال الله تعالى : قسمت فاتحة الكتاب بيني وبين عبدي. فنصفها لي. ونصفها لعبدي. فاذا قرأها بحق واخلاص قال جل جلاله : هذا عبدي قد سألني. فقد استجبت له وأعطيته ما أمل وآمنته مما منه يخاف انتهى.

(سورة البقرة. وهي مائتان وست وثمانون آية. وهي مدنية)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (الم)

قد اختلف العلماء في الحروف المفتتحة بها السور فذهب بعضهم الى انها من المتشابهات التي استأثر الله تعالى بعلمها ولا يعلم تأويلها الا هو كما عن أهل البيت (ع).

٢١

وقيل : ان المراد بها أن القرآن الذي عجزتم عن معارضته من جنس هذه الحروف التي تتحاورون بها في خطبكم وكلامكم فاذا لم تقدروا عن الاتيان بمثله. فاعلموا انه منزل من عند الله الخالق العظيم الحكيم القدير. لان العادة لم تجر بان يتفاوت الناس في القدر هذا التفاوت العظيم. وانما كررت في مواضع عديدة استظهارا في الحجة. فآتوا بمثله ان كنتم صادقين في تكذيبكم انه من عند الله العلي العظيم.

قوله : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢))

عن الامام (ع) : يعني القرآن الذي افتتح بالم ذلك الكتاب الذي أخبرت عنه الانبياء (ع) وقيل ذلك اشارة الى علي (ع) الذي بيان هذا الكتاب عنده. ولذا ورد عنه انه قال : انا كتاب الله الناطق ، والقرآن كتاب الله الصامت). وكون علي ترجمان القرآن وباب علم مدينة الرسول ص وآله فلا ريب فيه.

وعن الامام الصادق (ع) ان المتقين هم شيعة علي (ع) وهو الهادي لهم.

وروى عن النبي ص وآله انه قال : انما سمي المتقون لتركهم ما لا بأس به حذرا من الوقوع فيما فيه البأس. وقيل التقوى أن لا يراك الله حيث نهاك. ولا يفقدك حيث أمرك.

(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣))

لما وصف القرآن بانه هدى للمتقين ، بين صفة المتقين ، فقال (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) أي يصدقون بجميع ما أوجب الله تعالى أو ندب اليه أو أباحه. أو حرمه أو نهى عنه. ويصدقون بالقيامة والجنة والنار ، وكل ما اخبر به الله تعالى ولم يدركه الانسان بحواسه.

وعن النبي ص وآله : الايمان سر. واشار الى صدره ، والاسلام علانية. (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) باتمام ركوعها وسجودها. وأركانها وأجزائها كاملة.

٢٢

(وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) يتصدقون فيؤدون ما أوجب الله تعالى من الحقوق الواجبة ويقرضونه بما لم يوجب عليهم في اعانة المحتاجين والضعفاء. ويعلمون الجاهلين من علمهم.

(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤))

ثم بين تعالى صفة المتقين. فقال (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) يعني القرآن وما أنزل من قبلك يعني الكتب المتقدمة وبالآخرة يعني البعث والحساب يؤمنون.

عود على بدء

والشأن في اعجاز هذا القرآن المجيد ، هو الشأن في خلق الله جميعا ، وهو مثل صنع الله تعالى في كل شيء وصنع الناس.

ان هذه التربة الارضية مؤلفة من ذرات معلومة الصفات. فاذا أخذ الناس هذه الذرات فقصارى ما يصوغون من ذراتها لبنة أو آنية أو اسطوانة ، أو هيكل أو جهاز كائنا ما كان.

ولكن الله عزوجل المبدع يجعل من تلك الذرات حياة نابضة خافقة ، تنطوي على ذلك السر الالهي المعجز.

وهكذا القرآن فهو حروف وكلمات يصوغ منها البشر كلاما وأوزانا. ويجعل منها الله تعالى قرآنا وفرقانا. والفرق بين صنع البشر وصنع الخالق العظيم من هذه الحروف والكلمات ، هو الفرق ما بين الجسد الخامد ، والروح النابضة. (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ).

ومن أين يكون ريب أو شك ، ودلالة الصدق واليقين كامنة في هذا المطلع. ظاهرة في عجزهم عن صياغة مثله. وها هو (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ).

الهدى حقيقته ، والهدى طبيعته ، والهدى كيانه ، والهدى ماهيته ، ولكن للذين اتقوا الله فنور قلوبهم فاصبحوا يرون ما لا يرى سواهم.

٢٣

ويسمعون ما لا يسمع غيرهم. فالتقوى في العقيدة والعمل الصالح هو الذي أهلهم للانتفاع بهذا الكتاب المجيد.

لا بد لمن يريد ان يجد الهدى في القرآن ان يجيء اليه بقلب سليم من الاجرام والعدوان وتطهير القلب من الهوى والشهوات التي تقذره وتمرضه ، وقد تعميه نهائيا كما قال عزوجل :

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها. أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ). س ٢٢ آية ٤٦

ان السمة الاولى للمتقين هي الوحدة الشعورية ، الوحدة التي تجمع في نفوسهم بين الايمان بالغيب ، والقيام بالفرائض ، والايمان بالرسل كافة ، واليقين بعد ذلك بالآخرة. هذا هو التكامل الذي يمتاز به المسلم بعقيدته الاسلامية عن فاقدها. وتمتاز به النفس المؤمنة بهذه العقيدة عن الخالية منها.

والايمان بالغيب هو العتبة التي يجتازها الانسان. فيجتاز بها مرتبة الحيوانات وحينئذ يشعر أن مداه أوسع في الزمان والمكان من كل ما يدركه وعيه في عمره القصير المحدود. وان وراء الكون ظاهرة وخافية. وهي أكبر من هذا الكون ، وقد استمد وجوده من وجودها وهي حقيقة الذات الالهية التي لا تدركها ولا تحيط بها العقول.

وعندئذ تصان طاقة الانسان الفكرية المحدودة المجال عن التبدد والتمزق والانشغال بما لم تخلق له وما لم توهب القدرة للاحاطة به عزوجل.

ان الطاقة الفكرية التي وهبها الخالق العظيم لهذا الانسان ، وهبها ليقوم بالخلافة في هذه الارض مدة بقائه فيها. وان تكون غايته الوحيدة تكملة انسانيته وتطهيرها من أقذار هذه الحياة لتصبح صالحة الى دخول الجنة والخلود فيها.

٢٤

لقد كان الايمان بالغيب هو مفرق الطريق في ارتقاء الانسان عن عالم البهائم السائمة ولكن جماعة الماديين في هذا الزمان كجماعة الماديين في كل زمان ، يريدون أن يعودوا بالانسان القهقرى الى عالم البهيمة الذي لا وجود فيه لغير المحسوس ويسمون هذا (تقدمية) وهو النكسة التي وقى الله المؤمنين اياها فخصهم بهذه الصفة الرائعة : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ).

فيتجهون بالعبادة لله وحده ، ويرتفعون بهذا عن عبادة العبيد وعبادة المادة والآلة ، ولا يحنون جباههم الا لخالقهم العظيم ورازقهم الكريم ، الذي أوجدهم من العدم ومنحهم ما لا يحصى من النعم. (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ).

فهم يعترفون ابتداء بان المال الذي في أيديهم هو من رزق الله عزوجل ، لا من خلق أنفسهم وقيمة هذا كله تتجلى في تطهير النفس من الشح وتزكيتها بالبر ابتغاء وجه الله لا غير.

(أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥))

أي على علم وصواب بما أمرهم ربهم. وهم الناجحون عند الامتحان وكشف الغطاء.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦))

وهنا تجد التقابل تاما بين صورة المتقين ، وصورة الكافرين ، فاذا كان الكتاب بذاته هدى للمتقين ، فان الانذار وعدمه سواء عند الكافرين.

لان النوافذ القلبية مفتوحة عند المتقين ، لانها لم تلوث بالجرائم والفواحش كما هي عند الكافرين قد سدت الجرائم نوافذ قلوبهم فلم يعد ينفعهم بيان أو انذار أو وعيد.

(خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧))

٢٥

قيل المراد بالختم العلامة الدالة على كفرهم. وقيل نكتة سوداء تحصل من فعل الجرائم. والفساد في الارض. وتشاهدها الملائكة. وكذلك الحال بالنسبة الى سمعهم وابصارهم فان الجرائم تغطي غشاء على بصيرة القلب وعلى مسامعه فلا يبقى فيه خير لان يصغي الى المواعظ والعبر مهما عرض له وعرضت عليه.

واسناد الختم الى الله عزوجل اسنادا مجازيا ، لانه كان يمكنه أن يجبره على ترك الجريمة ولكن شاءت ارادته تعالى أن يترك لعباده الخيار بعد البيان والانذار ، حتى يستحق المطيع الثواب والنعيم الخالد. ويستحق العاصي المعاند العقاب والعذاب الدائم.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨))

كالاول والثاني واضرابهما من المنافقين الذين زادوا على الكفر الموجب للختم والغشاوة النفاق ، ولا سيما عند نصب امير المؤمنين (ع) للخلافة والامامة في غدير خم وغيره من المواقف ويدخل في ذلك كل منافق سابق ولاحق وحاضر في حينه الى يوم الدين.

وقد تعاهد المنافقون في غدير خم لئن مات محمد ص وآله لا نمكن عليا من الخلافة ولو رجعت الناس لعبادة الاصنام أو اهلك بعضهم بعضنا لأجل ذلك.

وكانوا يأتون النبي ص وآله فيظهرون رضاهم بخلافة علي بألسنتهم وقلوبهم على خلاف ذلك.

(يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩))

ان القلوب لتمرض كما يمرض الجسم ، وهؤلاء المنافقون يخادعون بما يظهرون للناس من الايمان بالله ورسوله. وفي قلوبهم الكفر والنفاق. وينسب خداعهم الى الله تعالى مجازا لان الخداع حقيقة لا يصدق الا لمن ينخدع بالظاهر ويخفى عليه الباطن. والله

٢٦

عزوجل عنده الظاهر والباطن على حد سواء لا تخفى عليه خافية ، ولذا قد نسب الله تعالى خداعهم لانفسهم وان كانوا لا يعتقدون بان الله يعلم ما يسرون.

وفي هذا النص وأمثاله نقف أمام حقيقة كبيرة ، وأمام تفضل من الله تعالى. حيث يؤكد القرآن ويقرر حقيقة الصلة بين الله والمؤمنين. فيضمهم اليه ويأخذهم في كنفه. ويجعل عدوهم عدوه. وما يوجه اليهم من المكر والخداع موجها اليه. وهذا هو منتهى التفضل العلوي الكريم. والذي يسكب في قلب المؤمن طمأنينة لا حد لها وهو يجعل قضيتهم هي قضيته. وهذا يعكس سخرية واستهزاء باعدائهم المنافقين وخداعهم الذي لا يضر الا أنفسهم ذلك الخداع الاثيم. وهذه حقيقة جديرة بان يتدبرها المؤمنون ليطمئنوا ويمضوا في طريقهم ولا يبالون بكيد المكيدين ، ولا خداع الخادعين ، ولا أذى الشريرين.

ويتدبرها أعداء المؤمنين فيفزعوا ويرتاعوا ، ويعرفوا من الذي يحاربونه. (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ).

انهم من الغفلة بحيث لا يخدعون الا انفسهم. يخدعون أنفسهم حين يظنون انهم أربحوها بهذا النفاق. وهم في الوقت ذاته يوردونها موارد التهلكة. وينتهون بها الى شر مصير.

(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠))

وانما سمى الشك في الدين مرضا لان المرض هو الخروج عن حد الاعتدال ، وكذلك القلب مالم تصبه آفة من الشك والقلق يكون سالما صحيحا. ولا شك بان امراض القلب اضر من أمراض البدن. وهذا ما يحيد بهم عن الطريق الواضح المستقيم. ويجعلهم يستحقون من الله أن يزيدهم هما وغما. فالمرض ينشىء المرض. والانحراف يبدأ

٢٧

يسيرا ثم يزداد في كل خطوة فهم صائرون في مهاوى ساحقة. (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) وسمى الغم مرضا لانه يضيق صدر صاحبه. وهو في الحقيقة اخبار عن خذلان الله اياهم. (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) لتكذيبهم في قولهم (آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ).

(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِى ٱلْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُون َ(١١) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لَّا يَشْعُرُونَ (١٢))

واذا قيل للمنافقين لا تفسدوا في الارض بارتكاب المعاصي وصد الناس عن الايمان بالله واتركوا ممالأة الكفار. فان فيه توهين للاسلام ، لم يكتفوا بان ينفوا عن انفسهم الفساد والنفاق ، حتى قالوا : (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) ، وأمثال هؤلاء كثير في كل زمان لان الموازين مختلفة في أيديهم ، ومتى اختل ميزان القيم والاخلاص والتجرد في النفس اختلت سائر الموازين والقيم. ولذا أجابهم خالقهم ب (إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ).

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣))

واذا قيل للمنافقين صدقوا بمحمد ص وآله وما أنزل عليه من ربه كما آمن غيركم. قالوا نصدق كما صدق الجهال فكذبهم الله تعالى وحكم عليهم بانهم هم الجهال في الحقيقة. وواضح أن الدعوة التي كانت موجهة اليهم هي أن يؤمنوا الايمان الخالص المستقيم المتجرد من الاهواء. وان يفتحوا صدورهم لرسول الله ص وآله. وواضح أنهم كانوا يأنفون من هذا التصديق والاستسلام ويرونه خاصا بفقراء الناس غير لائق بهم ذلك. فجاءهم الرد الحاسم (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ).

ومتى أحس السفيه بسفهه. ومتى استشعر المنحرف انه يسلك غير المسلك الصحيح.

٢٨

(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤))

فانهم كانوا يظهرون الايمان لسلمان وابي ذر والمقداد وعمار. والمكر السيء براعة عندهم وهو في حقيقته ضعف وخسة. فالقوي هو الذي لا يخادع ولا يمالىء ولا يغامز في الخفاء وهؤلاء المنافقون الذين كانوا يجبنون عن المواجهة ويتظاهرون بالايمان عند لقاء المؤمنين ليتقوا الأذى ، وليتخذوا هذا الستار وسيلة لدفع الأذى عنهم من أهل الحق والعدل. وكانوا أداة لتمزيق الصف الاسلامي. وما يكاد القرآن يحكي فعلتهم وقولتهم حتى يصب عليهم من التهديد ما يهد الرواسي (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) الخ. واليد الجبارة تتلقفهم في نهاية مصيرهم ، كالفئران التي يتلقفها الفخ ويقبض على خناقها.

والكلمة الاخيرة التي تصور حقيقة حالهم ومدى خسرانهم ما قاله عزوجل :

(اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦))

كانوا يملكون الهدى لو أرادوا. وكان الهدى مبذولا وكان في متناول أيديهم ولكنهم باعوه وبدلوه بالضلالة. فما كان اخسر من صفقتهم وأقبح من تجارتهم باختيارهم. فقد بدلوا الخالق بالمخلوق ، والجنة بالنار ، والنعيم بالعذاب فبئس ما اختاروا.

(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧))

انهم لم يعرضوا عن الهدى ابتداء ولم يصموا آذانهم عن السماع وعيونهم عن الرؤية ، وقلوبهم عن الادراك كما صنع الذين كفروا ، ولكنهم استحبوا العمى على الهدى ، بعد ما استوضحوه

٢٩

وتبينوه. لقد استوقدوا النار فلما أضاءت لهم لم ينتفعوا بنورها ولم ينتفعوا بمنافعها بل أهملوها حتى انطفأت وأصبحوا في الظلام الحالك ، فقد عطلوا حواسهم من الانتفاع بما منحهم الخالق الكريم من نعمه وأظهر لهم من أدلته وبراهينه ليستدلوا بها على خالقهم ويسعدوا في طاعته ويعيشوا عيشة السعداء ويموتوا ميتة الشهداء فيفوزوا بسعادة الدنيا والآخرة ولكن اعرضوا عن جميع ذلك فخسروا السعادة والراحة في الدنيا والآخرة.

(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨))

وانما شبههم الله بالصم لأنهم لم يحسنوا الاصغاء الى أدلة الله تعالى فكأنهم صم. واذا لم يقروا بالله وبرسوله. فكأنهم بكم واذا لم ينظروا في ملكوت السموات والارض فكأنهم عمي ولم تصل اليهم منفعة هذه الاعضاء فكأنهم ليس لهم هذه الاعضاء والحواس.

وهذا يدل على أن معنى الختم والطبع ليس على وجه الحيلولة بينهم وبين الايمان لانه جعل الفهم بالكفر واستثقالهم للحق بمنزلة الصم والبكم والعمى مع صحة حواسهم. وكذلك قوله : طبع الله على قلوبهم وأضلهم وأصمهم وأعمى أبصارهم وأزاغ قلوبهم فان جميع ذلك أخبار عما أحدثوه عند امتحان الله اياهم وأمرهم بالطاعة والايمان فأبوا وامتنعوا عن الاذعان. لا انه فعل بهم ما منعهم به عن الايمان وهذا كما قيل : (حبك للشيء يعميك ويصمك) وقال تعالى (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ).

(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩))

ان هؤلاء من المنافقين فيما هم فيه من الكفر والنفاق كانوا يخافون ان يعثر النبي ص وآله على كفرهم ونفاقهم فيقتلهم

٣٠

ويستأصلهم. فاذا سمعوا لعنا أو وعيدا لمن نكث البيعة ، جعلوا أصابعهم في آذانهم فتتغير ألوانهم فيعرفهم المؤمنون انهم المعنيون بذلك.

ان المشهد الذي تغمره الحركة من الصيب الهاطل الى الظلمات والرعد والبرق الى الحائرين الفزعين فيه الى الخطوات المروعة الوجه التي تحصل حينما يخيم الظلمات انها حركة التيه والاضطراب والقلق والارجحة التي يعيشها اولئك المنافقون عند لقائهم للمؤمنين وعودتهم الى شياطينهم. فهو مشهد حسي يرمز لحالة نفسية ويجسم صورة شعرية ، وهو طرف من طريقة القرآن العجيبة في تجسيم أحوال اولئك المنافقين. كأنه مشهد محسوس (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ).

(يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠))

فهؤلاء المنافقون يكاد ما في القرآن المجيد من الآيات المحكمة الدالة على صدق النبي ص وآله التي يشاهدونها والحجج النيرة يخطف قلوبهم من شدة ازعاجها الى النظر في أمور دينهم كما أن البرق يكاد يخطف أبصار أولئك المنافقين.

فكلما دعوا الى غنيمة أسرعوا لأخذها. واذا دعوا الى الجهاد وقفوا متحيرين كما يقف الانسان في الظلمات لعدم رؤيته للطريق ويمشي حين أضاءت البرق ورؤيته الطريق.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١))

هذا الخطاب متوجه الى جميع الناس مؤمنهم وكافرهم. أعبدوا ربكم أي أطيعوه فيما أمركم بفعله أو نهاكم عن فعله. وأراد تذكيرهم بعناية ربهم حيث أوجدهم وآباءهم من العدم ووهبهم العقل والجوارح ليستعينوا بها على طاعة خالقهم في تكملة انسانيتهم التي خلقهم وخلق

٣١

لهم الكون وما حواه ليستعينوا به على تحصيل هذا الكمال الانساني. فكما ان الله تعالى تفرد بخلقهم وهدايتهم وخلق اسباب التكامل لهم ، وجب أن يتفرد بالعبادة والطاعة منهم اليه. واذا فعلوا ذلك تكاملوا وأصبحوا من المتقين الذين نالوا راحة الدنيا وسعادة الآخرة. وذلك هو الفوز العظيم.

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢))

أي جعل الارض ملائمة لطبائعكم موافقة لاجسادكم. صالحة لحرثكم وغرسكم ودفن موتاكم. ولم يجعلها شديدة الحر او البرد فتهلك أبدانكم. ولم يجعلها صخرا أو سبخة لا تصلح لزرعكم. وقد عدد لهم صنوف نعمه ليستولوا بذلك على شدة اهتمام هذا الخالق العظيم براحة خلقه وسعادتهم. وفيها تنديد على من يعبد سواء حيث لم يكن له نعمة عليه ولا يقدر على نفعه فضلا عن خلقه ووجوده من العدم وتسخير الكون وما حواه لخدمته. ولو لا هذا التوافق لما قامت حياتهم على هذا الكوكب في مثل هذا اليسر والاطمئنان. ولو فقد عنصر من عناصر الحياة لفقدت حياتهم نهائيا. ولو قل أو زاد لأصابهم البلاء والعناء.

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣))

بعد أن احتج عزوجل على من يعبد سواه بفساد عمله وخطأه. وبرهن على وجوب عبادته وطاعته دون سواه. ثنى على برهان صدق رسوله وصحة نبوته وانه لا يأتي بشيء الا من عند خالقه. وان لم يقنعكم هذا فأتوا من عندكم بمثل ما أتى حيث نسبتم أن ما يأتيكم به من الآيات هي من عنده فأنتم بلغاء العالم ولا ترون من يحسن الكلام مثلكم وهذا الرجل منكم ونشأ بين ظهرانيكم ولم يفارقكم ابدا وقد مضى عليه

٣٢

أربعون سنة معكم وانتم تعلمون انه لم يقرأ ولم يكتب ولا رافق معلما طيلة حياته. وقد فاجأكم بهذا القرآن ويقول لكم هذا من عند خالقكم وله حق الطاعة والعبادة عليكم لا أحجاركم واصنامكم التي نحتموها بأيديكم وعكفتم على عبادتها. وهي أحق وأولى أن تعبدكم لفضلكم عليها. فان استعملتم عقولكم تحقق لكم صحة ما أقول وصدق اخباري عن خالقكم. وان أبيتم الا العناد والاعراض أو اتهمتموني في صحة ما أدعوكم اليه فآتوا بسورة واحدة من شكل ما اتيتكم به وانتم ارباب الفن والبلاغة والكلام.

ثم زاد في تحديه لهم فقال لهم اجمعوا واستعينوا بكل من ظننتم عونه لكم على معارضته.

ويبدأ هذا التحدي بلفتة لها قيمتها في هذا المجال. فيصف الرسول ص وآله بالعبودية لله قبل كل شيء فيقول عزوجل : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا).

ولهذا الوصف في الموضع دلالات منوعة ومتكاملة ، فهو لا يفخم النبي ولا يعظمه كما هي عادة ارباب المناصب والرياسة. ومن جهة اخرى أرى يعلمنا أن مقام العبودية لله عزوجل هي أسمى وأعلا مقام يحرزه الانسان في هذه الحياة وينبغي أن يكون هدفه الوحيد في جده واجتهاده ، حتى يصل اليه وينال مرتبته العالية الشامخة التي هي مرتبة سيد الانبياء والمرسلين ، وأعلا درجة الابرار والصديقين.

أما التحدي اللاذع فمنظور فيه الى نهاية الاعجاز. حيث يقول للجبابرة المعاندة : هذا الكتاب مصوغ من تلك الحروف التي في أيديكم فان كنتم في ريب من صحة دعوى عبدنا فدونكم فآتوا بسورة من مثله. وادعوا من استطعتم من شهدائكم واعوانكم واصنامكم لمعاونتكم.

٣٣

وهذا التحدي اللاذع لم يزل قائم يصرخ في أسماع الغافلين والمعاندين والمنحرفين من وقت خروجه الى عالم الوجود الى عصرنا الحاضر القرن العشرين عصر غزو الفضاء والسماء ولم يزل هذا التحدي حجة قائمة ، وبرهانا ساطعا على انه من صنع الخالق العظيم دون سواه.

(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤))

والتحدي هنا عجيب. والجزم بعدم امكان الرد عليه من الموجه لهم سلفا أعجب وأغرب ولو كان في طاقة البشر تكذيبه حتى عصرنا لبادروا وما توانوا عنه لحظة.

وما من شك أن تقرير القرآن المجيد أنهم لن يفعلوا ، وتحقق هذا كما قرره هو بذاته معجزة لا سبيل الى المماراة فيها. وقد كان المجال أمامهم وأمام الاجيال اللاحقة بعدهم مفتوحا. فلو أنهم جربوا تجريب على معارضته لبان وظهر. ولكن شيء من ذلك لم يقع. ولن يقع حتى منتهى الابد. لان قائله خالق البشر ومن يعلم من أوجد وما سيوجد. والخطاب للناس جميعا. وقد نفى حصول المعارضة له بلن التي هي لنفي المؤبد. على أن كل من له أدنى دراية وتذوق بأساليب المنطق والبيان مهما كان لا يخالجه شك في أن ما جاء به القرآن المجيد هو صنع خالق البشر وفوق ما يقدر عليه البشر. والمراء في هذا لا ينشأ الا عن جهالة او مكابرة او لغرض دعاه للعناد.

ومن ثم كان هذا التهديد المخيف للمكذبين والمعاندين للحق المبين لاذعا هائلا فلذا استحق قوله عزوجل (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ).

ففي هذا الجمع بين المعرضين عن الايمان بالاسلام وبين الحجارة صورة مخزية مرعبة كأنه يقول لهم عزوجل : ايها الناس المعاندون لاتباع

٣٤

الحق المبين أنتم والحجارة سيان على أن ذكر الحجارة هنا يوحي سخرية أخرى كأنه يقول لهم أنتم لستكونون طعام النار التي تأكل الحجارة.

(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥))

وفي مقابل ذلك المشهد المفزع والتهديد المرعب ، يعرض مشهد النعيم الهائل الذي ينتظر المؤمنين ويبشرهم بنعيم لا يزول ولذة تستحقر عندها جميع اللذائذ من أنهار وأثمار وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون جزاء بما كانوا يفعلون ولخالقهم مظعنون مطيعون.

وهذا التشابه في الاشكال والتنوع في الملذات ، سمة واضحة في صنعة الخالق العظيم تجعل الوجود أكبر في حقيقته مما يراه العباد. ويدركه الانسان المحدود في كل أفعاله.

ولنأخذ الانسان نفسه نموذجا كاشفا لهذه الحقيقة الكبيرة ... الناس كلهم ناس من ناحية قاعدة التكوين : رأس وجسم وأطراف. لحم ودم وعظام وأعصاب ، عينان واذنان وفم ولسان ، خلايا حية من نوع واحد ، وتركيب متشابه في الشكل والمادة.

ولكن أين غاية المدى في السمات واين غاية المدى في الطباع والاستعدادات ، قد يبلغ الفارق بين انسان وانسان أبعد مما بين السماء والارض.

وهكذا يبدو التنوع في صنعة الخالق العظيم والمدبر الحكيم ، التنوع الهائل في الانواع والاجناس في الاشكال والسمات ، في المزايا والصفات. وكله مردود الى خلية واحدة.

فمنذا يشك في وجود الله عزوجل وهذه اثار صنعه. ومنذا يفكر

٣٥

في الاذعان لسواه وهذه اثار حكمته. ومنذا الذي يفكر في مخالفته وعصيانه ، وهو يرى ويسمع ويحس ويلمس اثار قدرته وعظمته. ومنذا الذي يرنو اليه الخوف والجزع من كل ما في الوجود بعد احراز رضاه. ودخوله في حصنه ومناعته ، وهو يرى وينظر ويحس ويبصر اثار عنايته في مخلوقاته قبل أن يعرفوه. ووابل نعمه وعطاياه قبل أن يعبدوه ، وبدون أن يسألوه. فالويل لمن يدعي أنه عرفه وهو يرجو سواه والخيبة لمن يدعي أنه أحرز رضاه وهو يخشى سواه. رحماك يا رب لا تؤخذنا بما فعل السفهاء منا انك رؤوف رحيم وعادل حكيم فنعم المولى ونعم النصير.

(إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦))

ان هذه الآيات تشير بان المنافقين الذين ضرب الله لهم الامثال : مثل الذي استوقد نارا .. ومثل كصيب من السماء ... قد اتخذوا من ورودها منفذا للتشكيك في صدق الوحي بهذا القرآن ، بحجة أن ضرب الامثال هكذا بما فيها من تصغير لهم وسخرية بهم وتحد لهم لا تصدر عن الله عزوجل ، وان الله لا يذكر هذه الاشياء الصغيرة :

(كالذبابة ، والعنكبوت ، والذرة ، فجاءت هذه الآيات دفعا لهذا الدس ، وبيانا لحكمة الله تعالى في ضرب الامثال ، وتحذيرا لغير المؤمنين من عاقبة الاستدراج بها وتطمينا للمؤمنين وتقوية لايمانهم وتثبيتا لعزائمهم وعدم التفاتهم لمقال أعدائهم.

فكأن الله عزوجل يقول لهؤلاء السفهاء : فالله هو الذي خلق الصغير الصغير والكبير الكبير لغرض وحكمة قد تخفى على الكثيرين

٣٦

من عقول هذا البشر المحدود. فخالق البعوضة هو خالق الفيل ، وله الاعجاز والحجة البالغة في الكبير والصغير. لان العبرة في المثل ليس هو الكبر والصغر. وانما هي أدوات للتنوير والتفكير ، وليس في ضرب الأمثال ما يعاب ، وما من شأنه الاستحياء من ذكره ـ والله جلت آلاؤه له حكمته ـ في كل ما يفعل ويصنع. وانما غايته اختبار القلوب واستنارة النفوس.

(الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧))

فأي عهد من عهود الله هو الذي ينقضون. وأي أمر مما أمر الله به أن يوصل هو الذي يقطعون ، وأي لون من الفساد في الارض هو الذي يفسدون.

لقد جاء السياق هنا بعمومه واطلاقه ، وهذه الصورة هي المطلوبة في هذا المقام فكل عهد بين الله وبين عباده من خالفه يكون قد نقضه. ومنها العهد الذي أخذه على عباده في عالم الذر كما في قوله عزوجل :

(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ : أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا : بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) س ٧ آية ١٧٢

والى هذا يشير قول النبي ص وآله (كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهوداه أو ينصراه أو يمجساه).

ومن العهود التي نقضت ، العهد الذي أخذه رسول الله على المسلمين في غدير خم لأمير المؤمنين (ع) وذلك عند رجوعه من حجة الوداع وكانوا يزيدون عن مائة ألف من جميع أقطار العالم وقد ألزمه الله تعالى في تبليغ هذا وأخذ على جميع المسلمين أبيضهم وأسودهم عربيهم وعجميهم ذكرهم وانثاهم فأنزل عليه قوله تعالى :

٣٧

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ. وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ)

س ٥ آية ٦٧ فأوقفهم في حر الهجير في ذلك المكان وخطبم خطبة بالغة وأخذ عليهم العهد والميثاق وأمرهم بان يبايعوا عليا (ع) فبايعوه بأجمعهم حتى نساء النبي ص وآله وأول من تقدم الى مبايعته الشيخان ابو بكر وعمر ابن الخطاب وباقي الاصحاب.

وجعل يقول عمر : بخ بخ لك يا علي لقد أصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة. وبعد اتمام البيعة نزل قوله عزوجل في نفس الموقف :

(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) س ٥ آية ٣

فقال رسول الله ص وآله : الحمد لله على اكمال الدين واتمام النعمة بولاية ابن عمي علي بن أبي طالب (ع) وعندها قام حسان بن ثابت وأنشد هذه الابيات :

يناديهم يوم الغدير نبيهم

بخم واسمع بالرسول مناديا

وقال فمن مولاكم ووليكم

فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا

آلهك مولانا وانت ولينا

ولن تجد منا لك اليوم عاصيا

فقال له قم يا علي فانني

رضيتك من بعدي اماما وهاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليه

فكونوا له انصار صدق مواليا

هنالك دعا اللم وال وليه

وكن للذي عاد عليا معاديا

وقد ذكرنا هذه القصة في كتابنا ماذا في التاريخ الجزء الاول صفحة (٣٦٤) فراجع تمامها.

ومن الارحام التي قطعها الناس بعد رسول الله ص وآله ما أمر الله تعالى به في حفظ أهل المودة والقربى كما ذكر ذلك الله عزوجل :

(قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) سورة الشورى آية ٢٣

٣٨

ومن الفساد الذي أحدثوه بعد رسول الله ص وآله تغيير أحكام الله عمدا وعلنا مثل ما اختلقه ابو بكر من حديثه (نحن معاشر الانبياء لا نورث) حتى منع الزهراء ارثها ونحلتها من فدك.

ومثل قول عمر على رؤوس الاشهاد ثلاث كنا على عهد رسول الله حلالا وأنا أحرمهن وأعاقب من فعلهن (متعة الحج. ومتعة النساء. وحي على خير العمل) في الاذان. وقد نفذ تحريمهن واستمر ذلك حتى عصرنا الحاضر وهنا العجائب.

(وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)

والفساد في الارض ألوان شتى ، تتبع كلها الفسوق عن كلمة الله ، ونقض عهد الله ، وقطع ما أمر الله به أن يوصل. ورأس الفساد في الارض هو الانحراف عن منهج الله عزوجل الذي اختاره ليحكم فيه بين عباده ، فيصونهم ويصلح شأنهم. وهذا مفرق الطريق الذي تقهقر فيه الناس وانتهوا الى الفساد حتما. فما يمكن أن يصلح أمر العباد في الارض الا بالرجوع الى منهج الله وأحكامه وتطبيقه كاملا.

واذا انقطعت العروة بين الناس وربهم على هذا النحو ، فهو الفساد الشامل للنفوس والاحوال وهو الملك للحرث والنسل. وانه الهدم والشر والفساد حصيلة الفسوق عن طريق الله والخروج عن حدوده التي حددها لعباده. فقال عزوجل :

(وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ) س ٤ آية ١٣

وبذلك استحق كل من غير وبدل وخان العهد وقطع الرحم أن يضلهم الله تعالى ويهدي عباده الثابتين المخلصين الذين ما غيروا ولا بدلوا تبديلا.

(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨))

٣٩

وعند هذا البيان فيما سبق الكاشف لآثار الكفر والنفاق في الارض كلها يتوجه الخالق العظيم الى هذه الامم الشاردة ، والمنحرفة عن الصراط المستقيم الى مهاوي البلاء والدمار. ومهاوي الفساد والضلال ومهاوي العذاب والنيران يتوجه اليهم باستنكار كفرهم بالله الذي أوجدهم من العدم ومنحهم ما لا يحصى من النعم ولم يزالوا لعونه من المحتاجين. والى عنايته من الفقراء والمساكين ، والى تدبيره من المضطرين.

والكفر بالله تعالى في مواجهة هذه الدلائل كفر قبيح بشع ، مجرد من كل حجة أو سند والقرآن المجيد ، يواجه البشر المنحرفين عن فطرتهم بما لا بد لهم من مواجهته والاعتراف به والتسليم بمقتضياته.

يواجه القرآن هؤلاء الذين اعمت الجرائم بصائرهم بموكب حياتهم وأطوار وجودهم بما لا شك فيه أنهم كانوا أمواتا وفي عالم العدم فأوجدهم وأحياهم وكانوا في حالة الموات في طفولتهم فنقلهم منها الى حالة حياة ولا مفر من اعترافهم بهذه الحقيقة التي لا تفسير لها الا بالقدرة الالهية التي أوجدتهم وأوجدت فيهم الحياة وتعاهدتهم في جميع أطوار نشأتهم حتى وصلوا الى مرتبة النضوج والكمال والفهم والرشاد.

فمن الذي انشأ لهم هذه الحياة ، ومن الذي وهبهم الحواس والعقل والادراك.

ان طبيعة الوجود من العدم ظاهرة خاصة يشاركهم فيها الجماد ، وطبيعة الحياة ظاهرة أخرى يشاركهم فيها الحيوان ، وظاهر العقل والادراك ظاهرة يختص بها الانسان دون سواه ناهيك عن ظاهرة التربية والتطور الجسمي من عهد الولادة الى سن الرجولية ، وناهيك عن العناية التي تعهد الانسان في بطن امه وأخرجته سالما وهيأت له جميع أسباب الحياة والراحة وكل ما يحتاج اليه حتى وصل الى درجة النضوج

٤٠