تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

تأثير هذا الشعور الذي كانت القيادة الاسلامية في مكة تراعيه في خطة الكف عن المقاومة فيما يبدو من خلال دراسة السيرة كحركة.

ومما يتعلق بهذا الجانب ان القيادة الاسلامية لم تشأ ان تثير حربا دموية داخل البيوت ، فاما بعد الهجرة فقد انعزلت الجماعة المسلمة كوحدة مستقلة تواجه سلطة أخرى في مكة. وعلى أية حال فقد سارت احكام القتال بعد ذلك متدرجة وفق مقتضيات الحركة الاسلامية في الجزيرة. (ثم في خارج الجزيرة).

لقد جاءت هذه العقيدة في صورتها الاخيرة التي جاء بها الاسلام لتكون قاعدة للحياة البشرية في الارض من بعدها ، ولتكون منهجا عاما للبشرية جميعا.

ومن ثم كان من حق البشرية أن تبلغ اليها الدعوة الى هذا المنهج الالهي الشامل في أي حال وفي ضمن حدود هذه المبادىء العامة كان الجهاد في الاسلام ، وكان لهذه الاهداف العليا وحدها انه الجهاد العادل لحماية العقيدة الحقة من الفتنة ، وحماية منهجها وشريعتها في الحياة واقرار رايتها في الارض بحيث يرهبها من يطمع بالاعتداء عليها ، قبل أن يبدأ بالاعتداء فيكون ذلك حياة لهما وهذا هو الجهاد الدفاعي عن النفس وعن المظلومين المضطهدين.

(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ ، وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ).

وقد كان المسلمون يعلمون انهم لا ينصرون بعددهم ـ فعددهم قليل ـ ولا ينصرون بعدتهم وعتادهم ـ فما معهم منه أقل مما مع اعدائهم ـ وانما ينصرون بايمانهم الصادق ، وطاعتهم المخلصة وعون الله تعالى.

١٤١

فاذا هم تخلوا عن توجيه الله لهم وتوجيه رسوله ص وآله ، معناها فقد تخلوا عن أسباب النصر الوحيد الذي يركنون اليه ، ومن ثم تلك الآداب مرعية حتى مع اعدائهم الذين فتنوهم ومثلوا ببعضهم أشنع التمثيل ، (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ، وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ).

واذا كان النص ـ عند نزوله ـ يواجه قوة المشركين في زمانه ، فان النصر عام الدلالة ، وسار الى يوم القيامة ، ففي كل زمان أو مكان تقوم قوة ظالمة تصد الناس عن الدين ، وتحول بينهم وبين سماع الدعوة الى الله ، وتوجد الظلمة والمضطهدون.

وهذا المبدأ العظيم الذي سنه الاسلام العادل في أوائل حياته ، ما يزال قائما حتى القيامة ، فاذا انتهى الظالمون عن ظلمهم وكفوا عن الحيلولة بين الناس وطاعة خالقهم فلا عدوان عليهم (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) هذه مزايا الاسلام مع أعدائه وفي حربه وجهاده وهذا هو التعقيب الذي ينهي آيات القتال مع الاعداء ، فيأمر بالعدل والتقوى والاحسان عند انتصاره على أعدائه.

(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٩٦)

الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (١٩٧)

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ

١٤٢

لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩)

فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٢٠٢) وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣))

البيان الصافي : أي أئتوا بالحج والعمرة تامين بشرايطهما وأركانهما ومناسكهما (لله) لوجه الله خالصا. وهو نص في وجوب العمرة ـ التي حرمها عمر بن الخطاب ردا على الله ورسوله ـ كوجوب الحج ، في الكافي عن الصادق (ع) فقال : هما مفروضان على من استطاع ، لان الله يقول : واتموا الحج والعمرة ، وعنه (ع) اذا أحرمت فعليك بتقوى الله وذكره كثيرا ، وقلة الكلام الا بخير فان من تمام الحج والعمرة أن يحفظ المرء لسانه الا من خير.

وعنه (ع) : اذا حج أحدكم فليختم حجه بزيارتنا فذلك من تمام الحج ـ يعني أئمة البقيع (ع). (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) أي منعكم خوف عدو أو مرض عن المضي وانتم حرم (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) أي فعليكم اذا أردتم التحلل من الاحرام فما استيسر من الهدى. (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ). مكانه بمكة حيث ينحر فيه. (فمن كان مريضا يحرج عليه الحلق) (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) عن الصادق (ع) اذا احصر المحرم بعث بهديه الى محل الذبح ...)

قوله : (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) عن الصادق (ع) والباقر (ع) من كان لم يبعد منزله ثمانية عشر ميلا من جميع جهات مكة ، فما دون ذلك يعد حاضر اهله بمكة فله حكم آخر.

١٤٣

فان اهل مكة ليس لهم متعة الحاج فعمرة المتعة التي هي قبل الحج لمن بعد منزله (١٨) ميلا وما زاد (وَاتَّقُوا اللهَ) في المحافظة على هذه الاوامر والنواهي (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ) الرفث الجماع ، والفسوق الكذب والسباب ، والجدال الحلف بالله ... (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) يعني أيام التشريق ، وذكر الله فيها التكبير في أعقاب الصلوات ، من ظهر يوم النحر الى صلاة الفجر من اليوم الثالث لمن كان بمنى (فَمَنْ تَعَجَّلَ) استعجل النفر من منى. (فِي يَوْمَيْنِ) بعد يوم النحر اذا فرغ من رمي الجمار (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) (وَمَنْ تَأَخَّرَ) لليوم الثالث ، هذا لغير من اصطاد في احرامه واتقى الصيد) الصافي.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٤) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (٢٠٦) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٢٠٧))

البيان الصافي : هذه اللمسات العجيبة من الريشة المبدعة في رسم ملامح النفوس ، تشي بذاتها بان المصدر لهذا القول المعجز ليس مصدرا بشريا على الاطلاق ، فاللمسات البشرية لا تستوعب ـ في لمسات سريعة كهذه ـ أعمق خصائص النماذج الانسانية ، بهذا الوضوح وبهذا الشمول.

ان كل كلمة أشبه بخط من خطوط الريشة في رسم الملامح وتحديد السمات .. وسرعان ما ينتفض النموذج المرسوم كائنا حيا ، مميز الشخصية حتى لتكاد تشير باصبعك اليه.

هذا المخلوق الذي يتحدث فيصور لك نفسه خلاصة الخير ، ومن الاخلاص ، ومن التجرد ومن الرغبة في افاضة الخير والبر والسعادة

١٤٤

والطهارة على الناس (وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ) (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) هذا الذي يتناقض ظاهره وباطنه ، ويتنافر مظهره ومخبره يتقن الكذب والمكر. (وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ، فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ).

انها لمسة تكمل ملامح الصورة ، وتزيد في قسماتها وتمييزها بذاتها ، وتدعك تقول في غير تردد هذا هو ذا الذي عناه القرآن المجيد وأنت تراه أمامك ماثلا.

في مواجهة هذه الخصومة القسوة في الفساد يجبهه السياق باللطمة اللائقة بذاته الخبيثة. (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ) ففيها الكفاية ، جهنم التي وقودها الناس والحجارة يكبكب فيها الغاوون وجنود ابليس أجمعون جهنم التي لا تبقى ولا تنذر جهنم التي تكاد تميز من الغيظ ، ذلك النموذج من الناس يقابله نموذج آخر. (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) بشرى لها معناها لتلك النفس التي تبيع ذاتها كلها لله ، لا تبقى منها شيئا ، وصاحبها لا يرجو من وراء ذلك الا مرضاة الله عزوجل ، بيعة كاملة لا تردد فيها.

روت العامة عن جماعة من الصحابة والتابعين وعن اصحابنا : انها نزلت في أمير المؤمنين (ع) حين بات على فراش النبي ص وآله ليلة الهجرة ، حين تآمرت قريش على تبييت النبي وقتله بعد نيام الناس وعنه (ع) انه لما نام على فراش النبي ص وآله ، قام جبرائيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه وجبرائيل ينادي بخ بخ من مثلك يا علي بن ابي طالب (ع) يباهي الله الملائكة بك والله رؤوف بالعباد.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩))

١٤٥

البيان الصافي : انها دعوة للمؤمنين باسم الايمان : بهذا الوصف المحبب اليهم يدعوهم ، وبه يميزهم ويفردهم ويصلهم بالله ، يدعوهم دعوة للذين آمنوا أن يدخلوا في السلم كافة.

وأول مفاهيم هذه الدعوة أن يستسلموا الاستسلام الذي لا تبقى بعده بقية ناشزة لا تخضع لله وان ترضى بحكمه وقضائه استسلام الطاعة الواثقة المطمئنة.

وتوجيه هذه الدعوة الى الذين آمنوا اذ ذاك تشي بانه كانت هناك نفوس ما تزال يثور فيها بعض التردد في الدعوه المطلقة في السر والعلن.

والمسلم حين يستجيب هذه الاجابة يدخل في عالم كله سلم وكله سلام ، سلام النفس والضمير ، سلام مع العقل والمنطق ، سلام مع كافة الناس أبيضهم وأسودهم ، سلام مع وجود كله ، سلام في الارض والسماء ، وأول ما يفيض هذا السلام على القلب يفيض من صحة تصوره لله ربه.

انه آله واحد يتجه اليه المسلمون أجمع باتجاه واحد ، انه آله قوي قادر ، غني جواد ، فاذا اتجه المسلم اليه ، فقد اتجه الى القوة الحقة التي لا تغلب والغني الجواد الذي لا يفتقر ولا يبخل.

فهو آله عادل حكيم ، شفوق رؤوف ، لا يظلم أحدا مثقال ذرة ، وان تك حسنة يضاعفها. وهكذا يمضي المسلم مع صفات خالقه العظيم فيجد في كل صفة ما يؤنس قلبه وما تطمئن به روحه وضميره ، وما يضمن له الحماية والوقاية ، والكفاية والسعادة ، والعزة والمنعة والشرف والكرامة.

كذلك يفيض السلام على قلب المسلم من صحة تصور العلاقة بين

١٤٦

العبد وربه وبين الخالق والكون ، وبين الكون والانسان ، فالله عزوجل هو خالق الكون بالحق وخلق كل شيء فيه بقدر وحكمة ، وهذا الانسان مخلوق بقصد وتصميم ، غير متروك سدى ومهيأ له كل الظروف الكونية المناسبة لوجوده وخلافته في هذه الحياة الوقتية تعينه على التكامل الانساني ليصبح صالحا أن يسكن الجنات النعيم بجوار الابرار والصديقين. خلقه بحكمته وخلق لأجله الاشياء كلها ، وخلقه لطاعته ليسعد بذلك حيا في هذه الحياة الوقتية ، وحيا بعد هذه الحياة ، في الحياة الابدية دار الخلود والنعيم. والاعتقاد بالحياة الآخرة ـ بعد هذه الحياة ـ يؤدي دوره الاساسي في افاضة السلام على روح المؤمن وعالمه ، ونفي القلق والسخط والقنوط.

ان العقيدة بالنعيم الخالد الذي لا يزول ترفع عن المؤمن الصراع المحموم الذي تداس فيه القيم ، وتداس فيه الحرمات بلا تحرج ولا حياء ، فهناك الآخرة التي فيها عطاء وغناء وفيها عوض عما يفوت في هذه الحياة.

ومعرفة المؤمن بان هناك غاية لوجود الانسان في هذه الحياة هي العمل الصالح وطاعة الله العظيم التي ترفعه عن مستوى الحيوانات الى درجة الملائكة المقربين وفوق ذلك بدرجات ، انها درجة الخلافة الالهية والسفارة الربانية ، والوزارة النبوية ،.

شعور المؤمن بانه يمضي مع ارادة الله ، في طاعة الله ، لتحقيق ما يرضي الله ، هو المضي في الطريق المؤنس ، بلا حيرة ولا قلق ، ملؤها العون والمدد ، ملؤها الامن والاطمئنان ، ومن ثم يحس المؤمن بالسلام في روحه حتى وهو يقاتل اعداء الله والحق ، فهو انما يقاتل لله ، وفي سبيل الله ، ولاعلاء كلمة الله ، ولا يقصد في قتاله جاها او مغتنما ، أو حياة او شيء يخشى فواته بقتل نفسه.

١٤٧

كذلك يمضي على سنة الله ، مع الكون كله ، فلا صدام ولا خصام ولا تبديل للجهد ، وقوة الكون كله تتجمع الى قوته ، وتهتدي بنوره وتنجه الى الله ربه وهو معه أينما كان. والتكاليف التي يفرضها الاسلام على المسلم كلها تقوية لفطرته ، وتصحيحا لأفكاره فلا تهمل طاقة من طاقاته ، ولا تنسى حاجة واحدة من حاجاته .. ومن ثم فلا يحتار ولا يقلق في مواجهة تكاليفه ، يحمل منها ما يطيق حمله ، ويمضي في الطريق الى خالقه ومولاه في راحة واطمئنان وروح وريحان ورضى ورضوان ، مطمئن بانه وصله كلما يحتاج اليه.

والمجتمع الذي ينشئه هذا المنهج الرباني في ظل النظام العدل المبين ينبثق من هذه العقيدة الجميلة ، والضمانات التي تحيط بها النفس والعرض والمال كلها موفورة مضمونة.

هذا هو المجتمع الاسلامي الذي تربطه آصرة واحدة ـ آصرة العقيدة ـ حيث يذوب فيها جميع الاجناس والاوطان ، واللغات والالوان ، وسائر هذه الأصر العريضة ، التي لا علاقة لها الا في جوهر الانسان وقصده وغايته ، وهدفه ومراده الذي هو رضا الله والجنة.

هذا هو المجتمع الذي يسمع الله تعالى يقول له : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)

والذي يسمع رسول الله ص وآله يقول : (مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم مثل الجسد اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر أعضاء الجسد بالسهر والحمى).

وهو المجتمع الذي يكفل لكل قادر عملا ورزقا ، ولكل عاجز ضمانة للعيش الكريم.

وهو المجتمع الذي تكفل فيه حريات الناس وكراماتهم وحرماتهم وصيانة أعراضهم وأموالهم ودمائهم.

١٤٨

وهو المجتمع الذي تكون قيادته العليا مختارة من قبل خالق البشر لا يختار لخلافته في أرضه الا الامام المعصوم عن كل خطأ ونقص والذي هو في منتهى العلم والعدل والرأفة بالعباد. وقد اختار لذلك نبيه ص وآله اثني عشر اماما أولهم علي (ع) وآخرهم المهدي (ع).

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠))

البيان الصافي : وهو سؤال استنكاري عن علة انتظار المترددين الذين لا يدخلون في السلم في حزب الله تعالى ، ماذا ينتظرون ، انه سيأتي اليهم العذاب العاجل فيسحقهم جميعا أو يأتيهم الموت الذي لا بد منه فينقلهم الى مهاوي النيران ومقر الشيطان ، وتأتيهم ملائكة العذاب فيقولون : (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ..)

وفجأة بينما نحن امام السؤال الاستنكاري الذي يحمل طابع التهديد ـ اذ نجد ان اليوم قد جاء ، وان كل شيء قد انتهى ، وان القوم أمام المفاجأة التي كان يلوح لهم بها الدمار المهلك.

(قضي الأمر وطوى الزمان ، وافلتت الفرصة ، والى الله ترجع الامور)

(سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢١١))

البيان الصافي : والسؤال هنا قد لا يكون متصورا على حقيقته ، انما هو اسلوب من أساليب البيان للتذكير ، بكثرة الآيات التي آتاها الله بني اسرائيل ... (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ ...)

ونعمة الله تعالى هنا هي نعمة الايمان ، نعمة السلم والاطمئنان ، نعمة الرحمة والرضوان ، وما بدلت البشرية هذه النعمة الا انصبت عليهم المصائب والنكبات وعمهم الذل والخذلان. وشملهم الخوف والجزع ، وطاردتهم الاعداء من مكان الى مكان.

١٤٩

وان هو الا عذاب الله وعقابه ، لانهم غيروا وبدلوا نعمة الله كفرا وطغيانا وعنادا وعصيانا ، ولو انهم دخلوا في حزب الله وأصبحوا من أوليائه لأصبحوا في أمان لا خوف عليهم ولا هم يحزنون).

(زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢١٢))

البيان ـ لقد زينت للذين كفروا هذه الحياة الدنيا الخداعة الغرارة لأهل الكفر والضلال بشهواتها وملذاتها الفانية البالية ، والآتية الوقتية ، المشوبة بالبلاء والشقاء لأهلها بقدر ما نالوا منها ، واكثرهم ثروة وجاها أكثرهم بلاء وعناء ، وخزيا وشقاء في الدنيا والآخرة ، ومع هذا كله فان هؤلاء الغارقين في وحل الارض ، ينظرون للذين آمنوا فيرونهم معرضين عما يتكالبون ويتعاركون عليه من حطام هذه الجيف الدنيوية ، فيهزأون منهم ويسخرون.

(اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ).

ولكن هذا الميزان الذي يزن الكافرون به القيم ليس هو الميزان الصحيح ، انه ميزان الارض والطين ، ميزان الكفر والضلال ، انه ميزان الهوى والشهوات.

اما ميزان الحق والعدل فهو في يد الخالق العظيم ، العلي القدير ، وهو يعرف حقيقة قيمة اهل الايمان ووزنهم الروحي الانساني ، فانه يزنهم بميزان الفضيلة والكمال والشرف والعفة. فأهل الايمان يلحظون قيمتهم الحقيقية في هذا الميزان ، العدل المستقيم لا غير وسواه فهو تافه. وعلى أهل الايمان أن يمضوا في طريقهم ولا يحفلون بما يقوله السفهاء ويفعله الحمقاء فان أهل الكفر غدا مستقرهم في قعر النيران ، وأهل الايمان فوقهم في أعلى الجنان.

وستظل الحياة أبدا تعرف هذين النموذجين من البشر .. تعرف

١٥٠

المؤمنين الذين يتلقون قيمهم وموازينهم وتصوراتهم من يد الله تعالى وميزانه العدل المستقيم ، فيرفعهم هذا التلقي من حضيض الحيوانات الى الملأ الاعلى الى منازل الملائكة المقربين والانبياء والمرسلين (ع). وسيظل المؤمنون ينظرون من عل اؤلئك الهابطين ، مهما أوتوا من المتاع والاعراض التافهة.

(كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣))

البيان : ثم بين سبحانه أحوال من تقدم من الكفر في كل فترة بين النبي والنبي الآخر فان الناس ينحرفون بعد موت نبيهم ويزداد انحرافهم حتى لا يبقى لديهم من الكتاب واحكام الدين الا الرسم والاسم ، فيرسل الله لهم رسولا فمنهم من يؤمن به ويصدقه ومنهم من يكذبه ويحاربه ، ومنهم من يتبعه لأجل الدنيا فبمجرد ما يموت يظهر ما أضمره من النفاق ويصبح يطلب الدنيا باسم الدين. وهناك يقع الضلال بين من ينظر الى ما يظهر من الايمان وبين من ينظر الى الافعال والاعمال التي هي تحطم الدين والايمان وهنا ايضا يقع الاختلاف بين اتباع كل نبي بعد موته كما جرى بالفعل بين اتباع موسى (ع) حيث انحرف اليهود عن خط موسى (ع) ولم يبق لديهم من دين الله واحكامه الا الرسم والاسم. وكذلك الحال جرى بين اتباع عيسى بن مريم (ع) تماما. وكذلك الامر جرى بعد موت محمد ص وآله فان الناس انقلبوا على أعقابهم وعبدوا العجل واتبعوا السامري ، وهارون يناديهم ـ يعني علي بن ابي طالب (ع) يوم السقيفة ـ يا قوم اثبتوا على الحق ولا تتبعوا الهوى.

١٥١

(وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَرُونُ مِن قَبْلُ يَقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِى وَأَطِيعُوا أَمْرِى) طه آية ٩٠

وقد اخبر الله تعالى وحذرهم من هذا الانقلاب مسبقا فلم ينفعهم الحذر فقال عزوجل :

(وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ).

ونبيهم ص وآله أخبرهم بما سيجري بعده من الانقلاب والاختلاف ونصب لهم علما لن يضلوا لو اهتدوا به واتبعوه فقال ص وآله لهم سلفا :

(اني تارك فيكم الثقلين ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي ابدا كتاب الله وعترتي اهل بيتي فانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفونني فيهما)

(انا مدينة العلم وعلي بابها ولا تؤتى المدينة الا من الباب).

(يا علي انت مني بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبي بعدي)

(أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هوى).

(علي مع الحق والقرآن. والحق والقرآن مع علي لن يفترقا) غاية المرام ص؟؟؟

ولكن الاهواء لعبت بأهلها وأخرجتهم من الهدى الى الضلال ، ومن الايمان الى الطغيان ، ومن الجنة الى النار ، كدأب ما فعلته الامم السابقة طبق النعل بالفعل تماما.

(وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ).

وهنا تتبين تلك الحقيقة الكبرى .. إن من طبيعة الناس ان يختلفوا لان هذا الاختلاف أصل من أصول خلقتهم ، يحقق حكمة عليا من استخلاف هذا الكائن في الارض .. ان هذه الخلافة تحتاج الى وظائف متنوعة ، واستعدادات شتى من ألوان متعددة ، كي تتكامل جميعا.

١٥٢

ولا بد أن نقف عند قوله تعالى (بِالْحَقِّ) .. فهو القول الفصل بان الحق هو ما جاء به الكتاب ، وان هذا الحق قد أنزل ليكون هو الحكم العدل والقول الفصل ، لا حق غيره ، ولا حكم معه ، ولا قول بعده ،

وهو كتاب واحد في حقيقته ، جاء به الرسل جميعا ، فهو كتاب واحد في أصله وهي ملة واحدة في عمومها ، وهو تصور واحد في قاعدته ، اله واحد ، ورب واحد ، ومعبود واحد.

وهذا الذي يقرره القرآن في أمر الكتاب هو النظرية الاسلامية الصحيحة في خط سير الاديان والعقائد من كل نبي جاء بهذا الدين الواحد في أصله ، يقوم على القاعدة الاصيلة ، قاعدة التوحيد المطلق ، ثم يقع الانحراف عقب كل رسالة تبعا للاهواء والاغراض والغايات الخاصة .. وتتراكم الخرافات والاساطير ، حتى يبعد الناس نهائيا عن ذلك الاصل الكبير والحق المبين.

وبعد ذلك تجيء رسالة جديدة بالنسبة لما هو موجود من الانحراف والاضاليل والاباطيل ، فتجدد العقيدة الاصلية وتنفي ما علق بها من الانحرافات.

وهذا الثبات في أصل التصور الايماني ، وهو الذي يتفق مع وظيفة الكتاب الذي أنزله الله بالحق الحكيم بين فيما اختلفوا فيه ، في كل زمان ومع كل رسول منذ وجد الانسان حتى فنائه.

واقامة ذلك الميزان الالهي الثابت تقتضي علما غير محدود ، علم ما كان وما هو كائن وما سيكون علمه كله لا مقيدا بقيود الزمان التي تفصل الوجود الواحد الى ماضي وحاضر ومستقبل. وهذا العلم الكلي الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة الا احصاها ، قد انحصر بعد النبي ص وآله في مدينة النبي ص وآله التي جعل عليا (ع) بوابها ، فقال ص وآله

١٥٣

(انا مدينة العلم وعلي بابها. وهل تدخل المدينة الا من الباب).

وقال (ع) علمني رسول الله ص وآله الف باب من العلم فانفتح لي من كل باب الف باب).

ولذا قال عمر بن الخطاب : (لو لا علي لهلك عمر. لا أبقاني الله بعدك يا ابا الحسن).

أما العقل البشري فبحسبه أن يواجه الاحوال المتطورة ، والظروف المتغيرة ، والحاجات المتجددة على أن يكون هناك الميزان الثابت ، وبهذا وحده تستقيم الحياة ويطمئن الناس الى الذي يسوسهم في النهاية الى الله عزوجل واحراز رضاه وسعادة الدارين معه.

ان الكتاب لم ينزل بالحق ليمحو فوارق الاستعدادات والمواهب والوسائل ، انما جاء ليحتكم الناس اليه ، واليه وحده حين يختلفون.

ومن شأن هذه الحقيقة أن تنشأ حقيقة اخرى تقوم على اساسها نظرة الاسلام التاريخية. ان الاسلام يضع (الكتاب) الذي أنزله الله (بِالْحَقِّ) ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه. فاما اتفقت البشرية مع هذه القاعدة فهو الحق ، واما خرجت عنها وقامت على قواعد اخرى فهو الباطل ، ولو ارتضاه الناس جميعا في فترة من فترات التاريخ ، فليس الذي يقرره الناس هو الحق ، ولا تجعله أصلا من أصول الدين ، والواقع الحق لا تبطله قلة الاتباع.

وهذه الحقيقة ذات أهمية كبرى في عزل أصول الدين عما يدخله عليها الناس ، وفي التاريخ الاسلامي مثلا وقع انحراف وظل ينمو وينمو ، فلا يقال : ان هذا الانحراف متى وقع وقامت عليه حياة الناس فهو اذن الصورة الواقعية للاسلام. كلا ، ان الاسلام يظل بريئا من كل هذا الواقع التاريخي المنحرف عن الحق والعدل ، ولا بد أن يظل ما وقع خطأ وانحرافا مهما طال أمده وكثر اتباعه. (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ

١٥٤

أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ).

فالبغي ، بغي الحسد لأهل الحق والعدل ، وبغي الطمع والحرص من أهل الهوى والضلال. (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) فصمدوا مع امام الحق علي بن ابي طالب (ع) حين انقلب الناس على اعقابهم وعبدوا العجل واتبعوا السامري وتركوا امامهم الذي اختاره الله عزوجل وهو هذا الصراط المستقيم الذي يكشف عنه ذلك الكتاب حيث يقول عزوجل :

(وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)

وعلي بن ابي طالب هو المعصوم الصادق الذي هو من أهل بيت النبي الذين طهرهم الله تطهيرا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) س ٩ ١٢٠ ي

هذا هو المنهج الذي يقوم على الحق ويستقيم على الحق ، ولا تتقاذفه الاهواء والشهوات مهما كثرت ولا تتلاعب به الرغبات والنزوات مهما عظمت وعلت.

والله تعالى هو الذي يختار من عباده قادة لهذه الصراط المستقيم بما يشاء ممن يعلم منهم الاستعداد للهدى والتقوى ، والاستقامة على الصراط المستقيم كما قال عزوجل :

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) ص ٣٣ ٣٦ ي

فعلي (ع) هو وابناؤه المعصومون هم أئمة الحق الذين دخلوا في السلم كافة ، واولئك هم الاعلون ، ولو حسب الذين لا يزينون بميزان الله انهم محرومون ، ولو سخروا منهم كما يسخر الكافرون من الذين آمنوا من قبل. (سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

١٥٥

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ (٢١٤))

البيان : هكذا خاطب الله الجماعة المسلمة ، وهكذا وجهها الى تجارب الجماعات المؤمنة قبلها ، وانها لتجربة عميقة جليلة مرهوبة .. سؤالهم (مَتى نَصْرُ اللهِ) ليصور مدى المحنة التي ينبعث منها ذلك السؤال المكروب ، وعندما تثبت القلوب على مثل هذه المحنة المزلزلة ، عندما تثبت القلوب يجيء النصر من الله (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ).

ان نصر الله مدخر للذين يثبتون حتى النهاية ، الذين يثبتون على البأساء والضراء الذين يصمدون للزلزلة عند ملاقات الابطال في ساحة الجهاد ، عندما ينهزم المنافقون هاربين. بهذا يدخل المؤمنون الجنة مستحقين لها ، جديرين بها ، بعد الجهاد والامتحان والصبر والثبات والتجرد لله وحده والشعور به وحده ، ان الصراع والصبر عليه يهب النفوس قوة ، ويرفعها على ذواتها ، ويطهرها من موبقة الاثم ، وهذا الانطلاق كسب للبشرية كلها الرفعة والكمال ، وكسب للارواح التي تصل بخالقها عن طريق الاستعلاء.

هذا هو الطريق كما يصفه الله للجماعة المسلمة الاولى ، وللجماعة المسلمة في كل جيل. هذا هو الطريق : ايمان وجهاد ، ومحنة وابتلاء ، وصبر وثبات ، وتوجه الى الله وحده ثم يجيء النعيم الخالد الذي لا يفنى ولا يزول ولا مثيل له في هذه الحياة.

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥))

البيان : يسأل هنا بعض المسلمين عن نوع ما ينفقون ، فجاءهم الجواب يبين لهم صفة من يستحق الانفاق ومن هو اولى من غيره ، وكل

١٥٦

ما تنفقون الى أهله هو خير لكم ولهم.

ولما كان الفضل السابق على الاولاد من الاباء وجب ان يكون أول ما يشمل العطاء من الخير لهؤلاء الآباء ، قبل كل من سواهم لان لهم الفضل السابق والاقربون أولى بالمعروف.

ولقد علم الله تعالى ان الانسان يحب ـ اول من يحب ـ افراد اسرته الاقربين .. عياله .. ووالديه ، فسار به خطوة في الانفاق وراء ذاته الى هؤلاء الذين يحبهم ليعطيهم من ماله وهو راض فيرضي ميله الفطري الذي لا ضير منه ، بل فيه حكمة وخير ، وفي الوقت ذاته يعول ويكفل ناسا هم أقرباؤه الادنون ، وهم فريق من الامة ، ان لم يعطوا احتاجوا وأخذهم من القريب اكرم لهم من أخذهم من البعيد ، وفيه اشاعة للحب والسلام في المحضن الاول وتوثيق لروابط الاسرة ، التي شاء الله تعالى أن تكون اللبنة الاولى في بناء الانسانية الكبيرة.

ثم يربط هذا كله بالافق الاعلى ، فيستجيش في القلب صلته بالله عزوجل فيما يعطي وفيما يفعل ، وفيما يضمر ويقصد من نيته وشعوره (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ).

بهذا يصل القلوب الى الافق الاعلى والى درجة الصفاء والتجرد والاخلاص لله عزوجل ، وهذا هو المنهج التربوي الذي يضعه العليم الخبير لعباده المطيعين ، ويقيم عليه النظام الذي يأخذ بيد الانسان ويبدأ من حيث هو ، ثم ينتهي به الى آماد وآفاق لا تصل اليها البشرية قط في هذا الطريق.

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢١٦))

البيان : ان القتال في سبيل الله فريضة شاقة ، ولكنها فريصة

١٥٧

واجبة الاداء لان فيها خيرا كثيرا للفرد المسلم وللجماعة المسلمة ، وللبشرية جمعاء ، ولكل حق وخير وصلاح.

والاسلام يحسب حساب الفطرة ، فلا ينكر مشقة هذه الفريضة ، ولا يهون من أمرها فالاسلام لا يماري في الفطرة ولا يصادمها ... ولكنه يعالج الامر من جانب آخر ويسلط عليه نورا جديدا ويعلمه ان من وراء المشقة حكمة بالغة وربح هائل ، لا يراه النظر الانساني القصير.

عندئذ يفتح للنفس البشرية نافذة جديدة تطل منها على الامر ويكشف لها عن نافذة تهب منها ريح ملؤها رضا الله والجنة ، والعز الابد والسعادة الخالدة ، واختيار الله لعبده خير من اختيار المرء لنفسه ، فلعل وراء المكروه خيرا كثيرا ، فالله تعالى هو الاعلم بما يصلح عبيده.

وعندما تنسم النفس تلك النسمة وتنفتح لها منافذ الرجاء ويستروح القلب برودة السعادة ينشرح ويستضيء ويتسع ، ويحس بالعطف الالهي الذي يعرف مواضع الارباح لعبده المطيع.

وهكذا يربي الاسلام الفطرة فلا تمل التكليف مهما كان شاقا لانه من أيقن بالخلف جاد بالعطية ، ويتضح لها أن اليسر بعد العسر ، والراحة الكبرى بعد العناء الشديد.

انه منهج في التربية عجيب ، منهج عميق عميق ، منهج ينعش مسار النفس الانسانية بالحق والصدق ، وما فيه الخير كل الخير ، وهو الحق كل الحق ، لانه يحرز لصاحبه رضا الله والجنة.

ان هذه اللمسة الربانية للقلب البشري لتفتح امامه عالما آخر غير عالم الفناء والبلاء الذي تبصره عيناه ... انه الدخول في السلم من بابه الواسع ، فما تستشعر النفس حقيقة الاستسلام الا تستيقن ان الخير كله فيما اختاره الله تعالى لها ، فالسلم حقيقة هو سلم الروح التي عنه

١٥٨

تعرج الى أعالي الكمال الانساني ، وبه يستضيء الضمير الروحاني في ساحة القتال.

وان هذا الايحاء الذي يحمله ذلك النص القرآني ، لا يقف عند حد القتال ، بل ينطلق في حياة المؤمن الى الاستسلام لعلام الغيوب ويترك الاختيار الى من بيده أزمة الامور.

ان الانسان لا يعلم شيئا مما ينفعه أو يضره ، والله وحده يعلم ذلك ، فماذا على الانسان الا أن يستسلم لخالقه فيما يختاره له ، هذا هو المنهج التربوي الذي يأخذ القرآن به النفس البشرية ، لتؤمن وتسلم وتستسلم في أمر الغيب المخبوء بعد أن تعمل ما امرها به خالقها بدون تفريط.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢١٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨))

البيان قد ورد في هذه القضية ، انها نزلت في سرية عبد الله بن جحش ابن عمة رسول الله ص وآله ، وكان رسول الله ص وآله قد أرسله مع ثمانية من المهاجرين ليس فيهم أحد من الانصار ـ وكتاب مغلق وأمره الا يفتحه حتى يمضي ليلتين ، فلما فتحه وجد فيه : (اذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل بطن نخلة ـ بين مكة والطائف ـ ترصد بها قريشا وتعلم لنا من اخبارهم ، ولا تكرهن احدا على المسير معك من أصحابك ـ وكان هذا قبل غزوة بدر الكبرى. فلما نظر عبد الله في الكتاب قال : سمعا وطاعة.

١٥٩

ثم قال لاصحابه قد أمرني رسول الله ص وآله أن أمضي الى بطن نخلة أرصد بها قريشا حتى آتيه منها بخبر ، وقد نهى ان استكره أحدا منكم ، فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق. ومن كره ذلك فليرجع ، فأنا ماض لأمر رسول الله ص وآله ، فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف أحد منهم فسلك الطريق على الحجاز حتى اذا كان ببعض الطريق ضل بعير لسعد بن ابي وقاص وعتبة بن غزوان ، فتخلفا عن رهط عبد الله بن جحش ليبحثا عن البعير ومضى الستة الباقون ، حتى اذا كانت السرية ببطن نخلة مرت عير لقريش تحمل تجارة فيها عمرو بن الحضرمي وثلاثة آخرون.

فقتلت السرية عمرا بن الحضرمي وأسرت اثنين وفر الرابع وغنمت العير ، وكانت تحسب انها في اليوم الاخير من جمادي الآخرة ، فاذا هي في اليوم الاول من رجب ـ وقد دخلت الاشهر الحرم ـ التي تعظمها العرب ، وقد عظمها الاسلام وأقر حرمتها.

فلما قدمت السرية بالعير والاسيرين على رسول الله ص وآله قال : ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام ، فوقف العير والاسيرين وابى أن يأخذ من ذلك شيئا ، فلما قال رسول الله ص وآله ، سقط في أيدي القوم وظنوا أنهم قد هلكوا ، وعنفهم اخوانهم من المسلمين فيما صنعوا.

وقالت قريش : قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام ، وسفكوا فيه الدم ، وأخذوا فيه الاموال وأسروا فيه الرجال ، وقالت اليهود تفاءلوا بذلك على محمد عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله.

وانطلقت الدعاية المضللة على هذا النحو بشتى الاساليب الماكرة التي تروج في البيئة العربية. حتى نزلت هذه النصوص القرآنية فقطعت كل قول ، فقبض رسول الله ص وآله الاسيرين والغنيمة.

١٦٠