تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

والعقل والرشاد. فمن أين أتت هذه الظواهر كلها لهذا الانسان الموجود.

انه لا جدوى من الهروب ومن مواجهة هذا السؤال الذي يفرضه لسان الحال ويلح على العقل والضمير. ولا سبيل لتعليل مجيء ذلك وحصوله الا بفرض قدرة خالقة ذات طبيعة أخرى غير طبيعه الموجودات بأسرها ، لانها كلها مفتقرة الى الموجد كالانسان تماما. فمن أين جاءت هذه الحياة التي تسلك في الارض سلوكا آخر متميزا على كل من في الوجود من أحياء وأموات ، وحيوان وجماد.

فلا محيص للجواب الصحيح المعقول الذي يرضى به العقل ويقنع به الوجدان. الا التسليم والاعتراف بان ذلك جاء من عند الله الخالق لجميع المخلوقات والموجودات وهذا هو الجواب الصحيح المعقول ، وهذه الحقيقة التي تواجه بها سياق الاستغراب وتوجه الاستفهام في قوله عزوجل : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) الخ كنتم أمواتا في العدم الاول وكنتم أمواتا من هذه الموات الشائعة من حولكم في الارض فانشأ فيكم الحياة فأحياكم (فكيف يكفر بالله من تلقى الوجود والحياة منه دون سواه (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) ولعل هذه لا تقبل المراء والجدال ، فهي الحقيقة التي تواجه الاحياء في كل لحظة وتفرض نفسها عليهم قهرا وجبرا. ومن المستحيل انكارها او الشك في وقوعها وحقيقتها (ثم يحييكم) وهذه يمكن التشكيك فيها من كثير من المطموس على قلوبهم وبصائرهم. (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) وقد أبدوا استغرابهم من هذه الظاهرة باستنكارات عديدة.

فتارة قالوا (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) هذا هو الاستغراب الهائل منهم ولكن انظر الجواب ما أبسطه وأسهله الذي يستحيل انكاره من أدنى رشيد فاهم (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ)

٤١

يالها من حجة قاطعة وبرهان ساطع وجواب محكم قانع لا يقبل المراء ولا الجدال ثم يزيد تسهيل الامر على هؤلاء المنكرين لاحياء العظام وهي رميم فيقول لهم :

(أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) (بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) س ٣٦ آية ٨١

ثم تراهم يأتوا باستغراب آخر من رجوع الاموات أحياء فيقولون :

(وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) الجواب الهائل : (قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ. فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا ، قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) س ١٧ آية ٥١

أرأيت أيها الفاهم الرشيد كيف يأتي الجواب في غاية السهولة والبساطة وفي أعلا مراتب القوة والاقناع اذا سمعته اذن غير صماء. أو رأته عين غير عمياء أو وعاه قلب صحيح سليم. ولكن قد ذكر خالق الوجود بعض هؤلاء المفكرين المنحرفين المجرمين فقال عزوجل :

(أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً. أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) س ٤٤ آية ٢٥

(لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) س ٧ آية ١٧٩

صدق الله العظيم حيث يقول :

(أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ. وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ. إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ. ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ. وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) .. (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) .. (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ). (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ. يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) س ٥٠ آية ٣٠

٤٢

هكذا كما بداكم تعودون. وكما ذرأكم في الارض تحشرون. وكما انطلقتم بارادته من عالم الموت الى عالم الوجود والحياة ، ترجعون اليه ليمض فيكم حكمه ويقضي فيكم قضاءه.

وهكذا في آية واحدة قصيرة يفتح سجل الحياة كلها ويطوي ، وتعرض في ومضه صورة البشرية في قبضه الباري : ينشرها من عمود الموت أول مرة ، ثم يقبضها بيد الموت في الاولى. ثم يحييها كرة أخرى واليه مرجعها في الآخرة ، كما كانت منه نشأتها في الاولى.

(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩))

لقد أكثر المفسرون والمتكلمون هنا من الكلام عن خلق الارض والسماء. ويتحدثون عن القبلية والبعدية. ويتحدثون عن الاستواء والتسوية.

وينسون أن (قبل وبعد) اصطلاحان بشريان لا مدلول لهما بالنسبة الى الله تعالى وينسون ان الاستواء والتسوية اصطلاحان لغويان يقربان الى التصور البشري المحدود صورة غير المحدود. ولا يزيدان عن ذلك شيئا.

وما كان الجدال الكلامي ، الذي ثار بين علماء المسلمين حول هذه التعبيرات القرآنية الا آفة من آفات الفلسفة الاغريقية. والمباحث اللاهوتية عند اليهود والنصارى. عند مخالطتها للعقلية العربية الصافية ، وللعقلية الانسانية الناصعة. وما كان لنا نحن اليوم ان نقع في هذه الآفة ، فنفسد جمال العقيدة ، وجمال القرآن المجيد بقضايا علم الكلام

فلنخلص اذن الى ما وراء هذه التعبيرات من حقائق موحية عن

٤٣

خلق ما في الارض جميعا للانسان ، ودلالة هذه الحقيقة على غاية الوجود الانساني ، وعلى دوره العظيم في الارض وعلى قيمته في ميزان الله تعالى. وما وراء هذا كله من تقرير قيمة الانسان في التصور الاسلامي وفي نظام المجتمع الاسلامي. (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً).

ان كلمة لكم هنا ذات مدلول عميق ، وذات ايحاء كذلك عميق ، انها قاطعة في أن الله تعالى خلق هذا الانسان لأمر عظيم. خلقه ليكون مستخلفا في أرضه ، مالكا لما فيها ، فاعلا مؤثرا فيها.

انه الكائن الأعلى في هذا الملك العريض ، والسيد الاول في هذا الميراث الواسع ، ودوره في الارض اذن وفي أحداثها وتطوراتها هو الدور الاول.

انه سيد الارض وسيد الآلة. انه ليس عبدا للالة ، كما هو في العالم المادي اليوم ، وليس هو تابعا للتطورات التي تحدثها الآلة في علاقات البشر وأوضاعهم كما يدعي انصار المادية المطموسون ، الذين يحقرون دور الانسان ووضعه ، فيجعلونه تابعا للالة الصماء.

وهو السيد الكريم ، وكل قيمة من القيم المادية لا يجوز ان تطغى على قيمة الانسان ، ولا أن تستذله أو تخضعه أو تستعلى عليه ، وكل هدف ينطوي على تصغير قيمة الانسان مهما يحقق من مزايا مادية ، هو هدف مخالف لغاية الوجود الانساني. فكرامة الانسان أولا واستعلاء الانسان أولا ، ثم تجيء القيم المادية تابعة مسخرة للانسان لا بالعكس.

والنعمة التي يمتن الله تعالى بها على الناس هنا ـ وهو يستنكر كفرهم به ـ ليست مجرد الانعام عليهم بما في الارض جميعا. ولكنها ـ الى ذلك ـ سيادتهم على ما في الارض جميعا. ومنحهم قيمة أعلى من قيم الماديات التي تحويها الارض جميعا ، هي نعمة الاستخلاف

٤٤

والتكريم فوق نعمة الملك والانتفاع العظيم.

(ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ).

ولا مجال للخوض في معنى الاستواء الا بانه رمز السيطرة والقصد بارادة الخلق والتكوين كذلك لا مجال للخوض في معنى السماوات السبع المقصودة هنا وتحديد أشكالها وأبعادها ، اكتفاء بالقصد الكلي من هذا النص ، وهو التسوية للكون أرضه وسمائه في معرض استنكار كفر الناس بالخالق المهيمن المسيطر على الكون الذي سخر لهم الارض بما فيها ونسق السماوات بما يجعل الحياة على الارض ممكنة مريحة. (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

بما أنه الخالق لكل شيء المدبر لكل شيء ، وشمول العلم في هذا المقام كتمول التدبير حافز من حوافز الايمان بالخالق الواحد ، والتوجيه بالعبادة للمدبر الواحد ، وافراد الرازق المنعم بالعبادة اعترافا بالجميل لجلالته.

وهكذا تنتهي الجولة الاولى في هذه السورة ، وكلها تركيز على الايمان والدعوة الى اختيار موكب المؤمنين المتقين.

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠))

اذن فهي المشيئة العليا تريد أن تسلم لهذا الكائن الجديد في الوجود ، زمام هذه الارض وتطلق فيها يده وتكل اليه ابراز مشيئة الخالق في الابداع والتكوين والتحليل والتركيب والتحوير والتبديل ، وكشف ما في هذه الارض من قوى وطاقات وكنوز خامات وتسخير هذا كله ـ باذن الله عزوجل ـ في المهمة الضخمة التي وكلها الله اليه.

اذن فقد وهب هذا الكائن الجديد من الطاقات الكامنة ،

٤٥

والاستعدادات المذخورة كفاءات لما في هذه الارض من قوى وطاقات ، وكنوز وخامات ، ووهبه من القوى الخفية ما يحقق المشيئة الالهية.

اذن فهنالك وحدة تناسق بين النواميس التي تحكم الارض ـ وتحكم الكون كله ـ والنواميس التي تحكم هذا المخلوق وقواه وطاقاته ، كي لا يقع التصادم بين هذه النواميس وتلك ، وكي لا تتحطم طاقة الانسان على صخرة الكون الضخمة.

اذن فهذه منزلة عظيمة ، منزلة هذا الانسان ، في نظام الوجود على هذه الارض الفسيحة وهو التكريم الذي شاءه له خالقه الكريم.

هذا كله بعض ايحاء التعبير العلوي الجليل : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) ... حين تتملاه اليوم بالحس واليقظة ، والبصيرة المفتوحة ، ورؤية ماتم في الارض على يد هذا الكائن المستخلف في هذا الملك العريض : «(قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها ...)

ويوحي قول الملائكة هذا بانه كان لديهم من شواهد الحال ، أو من تجارب سابقة في الارض أو من الهام البصيرة أو ما يكشف لهم عن شيء من فطرة هذا المخلوق ، أو من مقتضيات حياته على الارض. وما يجعلهم يعرفونه أو ما يتوقعون انه سيفسد في الارض ، وانه سيسفك الدماء). ولكن قد خفي عليهم حكمة المشيئة العليا ، في بناء هذه الارض وعمارتها ، وفي تنمية الحياة وتنويعها ، وفي تحقيق ارادة الخالق وناموس الوجود في تطويرها وترقيتها وتعديلها على يد هذا الانسان الذي جعله الله تعالى خليفته في ارضه.

وهذا الانسان هو الذي يفسد أحيانا في الارض ويسفك الدماء فيها. وعصى خالقه العظيم وأطاع عدوه الشيطان الرجيم ، فبئس البديل وبئس القرين.

(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١))

٤٦

ان الله سبحانه وتعالى قد فضل الانسان على جميع خلقه حتى على ملائكته المقربين بما منحه من قوة العقل والادراك ، والاستعداد الكامل للصعود والاعتلاء في مراتب التكامل الانساني ، بحيث يمكنه أن يرتفع ويعتلي الى ما فوق أعلى مرتبة حددت للمخلوق في حدود التكامل الانساني ، وقد خطر على بالي كلمة لبعض المستشرقين حيث يقول : (لا يجوز لله أن يرسل نبيا بعد محمد بن عبد الله ص وآله.

ثم يعلل ذلك فيقول : لان محمدا ص وآله قد وصل الى مرتبة في الكمال الانساني بحيث لم يبق فراغ بينه وبين مرتبة الالوهية حتى يرسل من هو أكمل من محمد ص وآله). وناهيك دلالة على عظمة محمد وأهل بيته المعصومين (ع) ان جبرائيل الذي هو سيد الملائكة المقربين تمنى أن يدخل معهم تحت الكساء ويكون منهم وخادما لهم (ع) وهذا هو الانسان الذي جعله الله سبحانه خليفة في أرضه وعلمه الاسماء كلها وأسجد له ملائكة المقربين وأبان فضله وعظمته لهم ليريهم حسن اختياره والحكمة البالغة فيما يفعل ويختار في مخلوقاته.

(قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢))

(قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣))

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤))

وانما اعترف الملائكة بالعجز وأقروا بالقصور لما قد بان لهم من فضل آدم (ع) ولاحت لهم الحكمة في خلقه ، فصغر حالهم عند انفسهم وقل علمهم لديهم فغرقوا في بحر العجز وفوضوا العلم والحكمة الى الله ، وانما لم يعرفوا حقائق الاشياء كلها لاختلافها وتباينها.

وانما أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم (ع) وكانوا أفضل ما خلق الله بدون استثناء صلوات الله عليهم.

٤٧

وكان سجود الملائكة اطاعة لله وتكريما وتعظيما لآدم (ع). قال علي بن الحسين (ع) عن رسول الله ص وآله انه قال : ان آدم لما رأى النور ساطعا من صلبه اذ كان الله تعالى قد نقل اشباحنا من ذروة العرش الى ظهره. فرأى النور ولم يتبين الاشباح.

فقال يا رب ما هذه الانوار فقال عزوجل : هذه انوار اشباح نقلتهم من أشرف بقاع عرشي الى ظهرك ، ولذلك أمرت الملائكة بالسجود لك اذ كنت وعاء لتلك الاشباح.

فقال آدم يا رب لو بينتها لي. فقال عزوجل : انظر يا آدم الى ذروة عرشي فنظر آدم ووقع نور اشباحنا من ظهر آدم على ذروة العرش فانطبع فيه صور وأنوار اشباحنا التي في ظهره كما ينطبع وجه الانسان في المرآة الصافية. فرأى أشباحنا فقال يا رب ما هذه الاشباح.

فقال الله عزوجل يا آدم هذه أشباح هذه أفضل من خلقت وبرأت : هذا محمد وأنا الحميد المحمود في فعالي ، شققت له اسما من اسمي. وهذا علي وأنا العلي العظيم ، شققت له اسما من اسمي. وهذه فاطمة وانا فاطر السموات والارض فاطم أعدائي من رحمتي يوم فصل قضائي وفاطم أوليائي عما يغيرهم ويشينهم ، فشققت لها اسما من اسمي. وهذا الحسن وهذا الحسين وانا المحسن المجمل شققت اسميهما من اسمي. هؤلاء هم خيار خليقتي وكرائم بريتي. بهم آخذ ، وبهم اعطي ، وبهم أعاقب وبهم أثيب. فتوسل بهم الي يا آدم اذا دهمتك داهية. فاجعلهم الي شفعائك فاني آليت على نفسي قسما حقا ألا أخيب بهم أملا ولا أرد بهم سائلا ، فلذا توسل بهم آدم حين خرج من الجنة فغفر الله له وقبل توبته.

ولقد سجد الملائكة امتثالا لأمر خالقهم العظيم ، الا الشيطان الرجيم أبى واستكبر.

٤٨

وهنا تتبدى خلقية الشر مجسمة. في عصيان الخالق العظيم. والاستكبار عن معرفة الفضل لأهله. وتبدو العزة بالاثم. والاستغلاق عن الرشد والصلاح.

ويوحي السياق ان ابليس لم يكن من جنس الملائكة. وانما كان معهم. والاستثناء هنا لا يدل على انه من جنسهم. فكونه معهم يجيز هذا الاستثناء كما تقول :

جاء بنو فلان الا احمد. وان كان ليس منهم بل لانه معهم. وابليس من الجن بنص القرآن. والله خلق الجان من مارج من نار وهذا يقطع بانه ليس من الملائكة. والان قد انكشف ميدان المعركة الخالدة. المعركة بين خليقة الشر في ابليس. وخليقة الخير من اطاع الله واذعن لارادته. المعركة الخالدة في ضمير الانسان. المعركة التي ينتصر فيها الخير بمقدار ما يستعصم الانسان بطاعة خالقه والاذعان لارادته ويتسافل فيه الشر بمقدار عصيانه لربه واتباع هواه وشهواته.

عن الامام (ع) : ان ابليس قال رب اعفني من السجود لآدم وانا اعبدك عبادة لم يعبدها ملك مقرب ولا نبي مرسل. فقال الخالق عزوجل : لا حاجة لي في عبادتك. وانما عبادتي من حيث اريد لا من حيث يريد غيري.

(وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥))

ـ ابيحت لهما كل ثمار الجنة الا شجرة واحدة. قيل انها شجرة العنب ، وربما كانت ترمز للمحظور الذي لا بد منه في حياة الارض. فبغير محظور لا تثبت الارادة. ولا يتميز الانسان المريد من الحيوان المسوق. ولا يمتحن صبر الانسان على الوفاء بالعهد والتقيد بالشرط. فالارادة هي مفرق الطريق .. والذين يعيشون بلا

٤٩

ارادة ، هم من عالم البهائم. ولو كانت ابدانهم خلاف البهائم ولو صعدوا للقمر والمريخ وصاروا علماء مجتهدين. واؤلهم شارب الدخان الخبيث.

(فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣٦))

ـ وبالتعبير المصور : (أزلهما) انه لفظ يرسم صورة الحركة التي يعبر عنها. وانك لتكاد تلمح الشيطان وهو يزحزحهما عن الجنة ويدفع باقدامهما فتزل وتهوى. عندئذ تمت التجربة. ونسي آدم عهده وضعف امام الغواية. وعندئذ حقت كلمة الله فصرح قضاؤه.

(وَقُلْنَا : اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ)

وكان هذا ايذانا بانطلاق المعركة في مجالها المقدر لها. بين الشيطان والانسان الى آخر الزمان. ونهض آدم من عثرته بما ركب في فطرته ودرك خطأه بمخالفته لخالقه فجعل يتوسل اليه.

(فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧))

ـ عن الامام (ع) انه لما زلت من آدم الخطيئة وجعل يعتذر الى ربه عزوجل قال يا رب تب علي واقبل معذرتي واعدني الى مرتبتي وارفع لديك درجتي فلقد تبين نقص الخطيئة وذلها في سائر اعضائي. فقال الله عزوجل له : يا آدم اما تذكر امري اياك بان تدعوني عند الشدائد والدواهي والنوازل بأحب خلقي الي محمد وآله الطيبين الطاهرين (ع) فأجيبك.

وعندها قال آدم : يا رب بلى قد ذكرت الآن ما أوصيتني به. فقال الله عزوجل : بمحمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين (ع) خصوصا فأدعني اجبك الى ملتمسك ، فقال آدم يا رب وآلهي قد بلغ عندي في محلهم انك بالتوسل بهم تقبل توبتي وتغفر خطيئتي وانا الذي أسجدت له ملائكتك وابحته جنتك وزوجته حوا امتك واخدمته

٥٠

كرام ملائكتك. فقال الله عزوجل : يا آدم انما امرت الملائكة بتعظيمك بالسجود لك اذ كنت وعاء لهذه الانوار. ولو كنت سألتني بهم قبل خطيئتك ان اعصمك من ابليس لعصمتك ... فالآن بهم فادعني لأجيبك فعند ذلك قال آدم : اللهم اني اسألك واتوسل اليك بجاه محمد وعلي وفاحمة والحسن والحسين والطيبين من ذرية الحسين الا ما تفضلت علي بقبول توبتي وغفران زلتي واعادتي من كرامتك الى مرتبتي.

فقال الله عزوجل : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

ـ عن نهج البلاغة انه قال (ع) لقائل قال في حضرته استغفر الله :

«اتدري ما الاستغفار. ان الاستغفار درجة العليين وهو اسم واقع على ستة معان :

الاول ـ : الندم على ما مضى.

الثاني ـ : العزم على ترك العود اليه ابدا.

الثالث ـ : ان تؤدي الى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله عزوجل املس ليس عليك تبعة.

الرابع ـ : ان تعمد الى كل فريضة عليك ضيعتها فتوديها حقها.

الخامس ـ : ان تعمد الى اللحم الذي نبت على المعصية فتذيبه بالاحزان حتى ينبت لحم جديد.

السادس ـ : ان تذيق الجسم ألم الطاعة كما اذقته حلاوة المعصية فعندها تقول استغفر الله.

(قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨))

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩))

٥١

لقد انتقلت المعركة الخالدة الى ميدانها الاصيل ، وانطلقت من عقالها ما تهدأ لحظة وما تفتر. وعرف الانسان في فجر البشرية كيف ينتصر اذا شاء الانتصار. وكيف ينتكس ويخسر اذا اختار لنفسه النكسة والخسران.

ـ وبعد فلا بد من عودة الى مطلع القصة. قصة البشرية الاولى. لقوله تعالى (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) اذن فآدم مخلوق لهذه الارض منذ اللحظة الاولى ففيم اذن كانت تلك الشجرة المحرمة. وفيم اذن كان بلاء آدم. وفيم اذن كان هبوطه الى الارض. وهو مخلوق لهذه الارض منذ اللحظة الاولى.

لعل هذه التجربة ان تكون تربية لهذا الخليفة واعدادا وايقاظا للقوى المذخورة في كيانه. وتدريبا له على تلقي الغواية. وتذوق العافية بعد البلاء. وتجرع الندامة بعد الخطيئة. ومعرفة العدو من الصديق. والالتجاء بعد ذلك الى الملاذ الامين.

ان قصة الشجرة المحرمة. ووسوسة الشيطان باللذة ونسيان العهد بالمعصية والصحوة من بعد الغفلة. والندم وطلب المغفرة. كلها تجربة للبشرية المتجددة المكرورة.

لقد اقتضت رحمة الله بهذا المخلوق ان يهبط الى مقر خلافته مزودا بهذه التجربة التي سيتعرض لمثلها كثيرا. واستعدادا للمعركة الدائبة. وموعظة وتحذيرا لقوم يعقلون وبعد هذا فلا بد ما يفرض السؤال : فأين كان هذا الميدان. وما هي الجنة التي عاش فيها آدم وزوجته حينا من الزمن. ومن هم الملائكة. ومن هو ابليس. وكيف قال عزوجل لهم. وكيف اجابوه. ولا بد من الجواب على جميع ذلك بما يلي :

ان هذا وامثاله في القرآن قد يكون من الامور الغيبية. التي

٥٢

استأثر الله تعالى بعلمه وحكمته فلا جدوى للبشر في معرفة كنهها. وقد يكون قد اختص بمعرفتها ولاة امره وحججه على خلقه محمد واهل بيته (ع) الذين هم خزان علمه.

وليس من مستلزمات خلافتنا في أرض الله تعالى ان نطلع على هذا الغيب بقدر ما سخر الله لهذا الانسان من النواميس الكونية. وعرفه باسرارها. وبقدر ما حجب عنه اسرار الغيب فيما لا جدوى له في معرفته.

وما يزال الانسان مثلا على الرغم من كل ما فتح له من الاسرار الكونية يجهل ما وراء اللحظة الحاضرة من حياته. ولا يملك بأي اداة من ادوات المعرفة المتاحة له ان يعرف ماذا سيحدث له بعد لحظة. وهل النفس الذي خرج من فمه عائد اليه ام هو آخر انفاسه. وهذا مثل من الغيب المحجوب عن البشر لأنه يدخل في مقتضيات الخلافة. بل ربما كان معوقا لو كشف للانسان عنه. وهنالك الوان من مثل هذه الاسرار المحجوبة عن الانسان في طي الغيب الذي لا يعلمه الا الله.

ومن ثم لم يعد للعقل البشري ان يخوض فيه. لانه لا يملك الوسيلة للوصول الى شيء من أمره. وكل جهد يبذل في هذه المحاولة هو جهد ضائع وذاهب سدى. بلا ثمرة ولا جدوى. واذا كان العقل البشري لم يوهب الوسيلة للاطلاع على هذا الغيب المحجوب. فليس سبيله اذن ان يتبجح فينكر ما حجب عنه بدون دليل ولا برهان الا لمجرد عجزه عن الاهتداء اليه. فالانكار حكم يحتاج الى المعرفة واثباته بالادلة الصحيحة. والمفروض ان المعرفة هنا ليست من سنخ طبيعة العقل. وليست في طوق وسائله. ولا هي ضرورية له في وظيفته.

ان الاستسلام للوهم والخرافة شديد الضرر وبالغ الخطورة. ولكن أضر منه وأخطر التنكر للمجهول كله وانكاره واستبعاد الغيب

٥٣

لمجرد عدم القدرة على الاحاطة به ... انها تكون نكسة الى عالم الحيوان الذي يعيش في المحسوس وحده. ولا ينفذ من أسواره الى الوجود الطليق.

فلندع هذا الغيب اذن لصاحبه وأهله. وحسبنا ما يقص لنا عنه بالقدر الذي يصلح لنا في حياتنا ويصلح سرائرنا ومعاشنا. ولنأخذ من القصة ما تشير اليه من حقائق كونية وانسانية. ومن تصور للوجود وارتباطه. ومن ايحاء طبيعة الانسان وقيمه وموازينه. فذلك وحده انفع للبشرية واهدى.

ان ابرز ايحاءات قصة آدم (ع) ـ كما وردت في هذا الموضع. هو القيمة الكبرى التي يعطيها التصور الاسلامي للانسان ولدوره في الارض. ولمكانه في نظام الوجود. وللقيم التي يوزن بها. ثم لحقيقة ارتباطه بعهد الله عزوجل. وحقيقة هذا العهد الذي قامت خلافته على اساسه.

وتتبدى تلك القيمة الكبرى التي يعطيها التصور الاسلامي للانسان في الاعلان العلوي الجليل في الملأ الأعلى الكريم. انه مخلوق ليكون خليفة في الارض كما تتبدى في أمر الملائكة بالسجود له. وفي طرد ابليس الذي استكبر وابى الاذعان لأمر خالقه فلعن وطرد.

ومن هذه النظرة للانسان تنبثق جملة اعتبارات ذات قيمة كبيرة في عالم التصور وفي عالم الواقع على السواء.

ـ وأول اعتبار من هذه الاعتبارات. هو ان الانسان سيد هذه الارض. ومن أجله خلق كل شيء فيها ـ كما تقدم ذلك نصا ـ فهو اذن أعز واكرم وأغلى من كل شيء مادي. ومن كل قيمة مادية في هذه الارض جميعا. ولا يجوز اذن ان يستبعد او يستذل لقاء توفير قيمة مادية او شيء مادي. ولا يجوز ان يعتدي على اي مقوم من مقومات انسانيته الكريمة. ولا ان تهدر اية قيمة له لقاء تحقيق اي

٥٤

كسب مادي. أو انتاج اي شيء مادي. او تكثير اي عنصر مادي. فهذه الماديات كلها مخلوقة ـ او مصوغة ـ لأجله. من اجل تحقيق انسانيته. من أجل تقرير وجوده الانساني. فلا يجوز اذن ان يكون نمنها هو سلب قيمة من قيمه الانسانية. او نقص مقوم من مقومات كرامته.

والاعتبار الثاني هو ان دور الانسان في الارض هو الدور الاول. فهو الذي يغير ويبدل في أشكالها. وهو الذي يقود اتجاهاتها ورحلاتها وليست وسائل الانتاج. ولا توزيع الانتاج هي التي تقود الانسان وراءها ذليلا سلبيا كما تصوره المذاهب المادية. التي تحقر من دور الانسان وتصغره بقدر ما تعظم آلاتها وتكبرها في جميع ادوارها.

ـ ان النظرة القرآنية تجعل هذا الانسان بخلافته للارض عاملا مهما في نظام الكون. ملحوظا في هذا النظام. فخلافته في الارض تتعلق بارتباطات شتى مع السماوات ومع الرياح ومع الامطار. ومع الشموس والكواكب. وكلها ملحوظة في تصميمها وهندستها وامكان قيام حياة الانسان على الارض وامكان قيام هذا الانسان خليفة لها. فأين هذا الامكان الملحوظ من ذلك الدور الذليل الصغير الذي تخصصه له المذاهب المادية. ولا تسمح ان يتعداه وما من شك ان كلا من نظرة الاسلام هذه. ونظرة المادية للانسان تؤثر في طبيعة النظام الذي تقيمه هذه وتلك للانسان. وطبيعة احترام المقومات الانسانية او اهدارها. وطبيعة تكريم هذا الانسان او تحقيره. وليس ما نراه في العالم المادي من اهدار كل حريات الانسان وحراماته ومقوماته في سبيل توفير الانتاج المادي وتكثيره. الا اثرا من آثار تلك النظرة الى حقيقة الانسان. وحقيقة دوره في هذه الارض.

كذلك ينشأ عن نظرة الاسلام الرفيعة الى حقيقة الانسان ووظيفته.

٥٥

اعلاء القيم الأدبية من وزنه وتقديره واعلاء قيمة الفضائل الخلقية التي خلق لأجلها. وتكبير قيم الايمان والصلاح والاخلاص في حياته وطاعته لخالقه.

فهذه هي القيم التي يقوم عليها عهد استخلافه. (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) وهذه القيم هي أعلى واكرم من جميع القيم المادية ـ هذا مع ان من مفهوم الخلافة تحقيق هذه القيم المادية. ولكن بحيث لا تصبح هي الأصل ولا تطغى على تلك القيم العليا.

ولهذا وزنه في توجيه القلب البشري الى الطهارة والارتفاع والنظافة في حياته. بخلاف ما توحيه المذاهب المادية من استهزاء بكل القيم الروحية واهدار لكل القيم الادبية. في سبيل الاهتمام المجرد بالانتاج والسلع ومطالب البطون كالحيوان.

وفي التصور الاسلامي اعلاء من شأن الارادة في الانسان. فهي مناط العهد مع الله. وهي مناط التكليف والجزاء. انه يملك الارتفاع على مقام الملائكة بحفظ عهده مع ربه عن طريق تحكيم ارادته. وعدم الخضوع لشهواته. والاستعلاء عن الغواية التي توجه اليه.

بينما يملك ان يشقي نفسه ويهبط من عليائه. بتغليب الشهوة على الارادة والغواية على الهداية. ونسيان العهد الذي يرفعه الى مولاه. وفي هذا مظهر من مظاهر التكريم لا شك فيه. يضاف الى عناصر التكريم الاخرى. كما ان فيه تذكيرا دائما بمفرق الطريق بين السعادة والشقاوة. والرفعة والهبوط ومقام الانسان المريد ودرك الحيوان المسوق.

وفي احداث المعركة التي تصورها القصة بين الانسان والشيطان تذكر دائم بطبيعة المعركة انها بين عهد الله وغواية الشيطان. بين الايمان والكفر. بين الحق والباطل. بين الهدى والضلال. والانسان هو نفسه

٥٦

ميدان المعركة. وهو نفسه الكاسب او الخاسر فيها. وفي هذا ايحاء دائم له باليقظة. وتوجيه دائم له بانه جندي في ميدان الكفاح. وانه هو صاحب الغنيمة او السلب في هذا الميدان الفسيح.

واخيرا تجيء فكرة الاسلام عن الخطيئة والتوبة. ان الخطيئة فردية والتوبة فردية في تصور واضح بسيط لا تعقيد فيه ولا غموض يعتريه. وليس هنالك تكفير لاهوتي. كالذي تقوله الكنيسة : ان عيسى (ع) (ابن الله بزعمهم ـ قام به بصلبه تخليصا لبني آدم من خطيئة آدم. وليس هنالك خطيئة مفروضة على الانسان قبل ولادته. كما تقول نظرية الكنيسة.

كلا. ان خطيئة آدم كانت خطيئة شخصية. والخلاص منها كان بتوبته الى ربه تعالى والمباشر لها هو بسره وعلانيته. والخطيئة من كل انسان كذلك شخصية كما يقول عزوجل.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) س ٥ آية ١٠٥

(إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

والخلاص من كل خطيئة منوط بتوبة المخطىء لا غير. والطريق مفتوح لكل من اراد الانابة والرجوع الى مولاه الغفور الرحيم الذي يحب التوابين ويحب المتطهرين وها هو يقول بكل صراحة :

(قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) س ٣٩ آية ٥٤

تعبير مريح صريح. يحمل كل انسان وزره. ويفتح له باب الرجوع والتوبة ما دام في الحياة الدنيا فاذا جاء الموت انقطع الامل واوصد الباب وخاب المفرطون قال تعالى :

(فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) س ٤٠ آية ٨٥

٥٧

والكفر بمعناه العام يشمل كل من لم يتب من خطيئته كبيرة كانت ام صغيرة.

ـ هذا طرف من ايحاءات قصة آدم (ع) في هذا الموضع. وهو ثروة من الحقائق والعبر لمن اراد الاعتبار. وهو ثروة من التوجيهات الكريمة. والاسس التي يقوم عليها تصور اجتماعي. واوضاع اجتماعية يحكمها الخير والخلق والفضيلة.

ومن هذا الطرف نستطيع ان ندرك اهمية القصص القرآنية في تركيز قواعد التصور الاسلامي. وايضاح القيم التي يرتكز عليها. وهي القيم التى تليق بعالم صادر عن الله الحكيم العظيم. فالانسان من الله ومتجه لله. وصائر لله تعالى في نهاية المطاف. وعقد استخلافه له قائم على ان يتلقى الهدى من الله. وان يتقيد بمنهجه واحكامه ما دام في هذه الحياة.

ومفرق الطريق فيه اما ان يسمع الانسان ويطيع لما يتلقاه من الله. فيسعد بكفالته وشفايته وحراسته من كل ما يخافه ويخشاه.

أو ان يسمع الانسان ويطيع لما يمليه عليه عدوه الشيطان الغوي فيهوي في حفر المهالك والشقاء في الحياة ومصيره الى جهنم وبئس المصير عند الموت.

وليس هناك طريق ثالث. اما الله. واما الشيطان. اما الهدى واما الضلال. اما الحق واما الباطل. اما السعادة والجنان. واما الشقاء والنيران. وهذه هي الحقيقة التي يعبر عنها القرآن كله. في كامل رحلته مع هذا الانسان ويحذره من الانزلاق

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠))

ـ لما عم الله تعالى جميع الخلق بالحجج الواضحة على توحيده عزوجل. ذكرهم بما انعم به على بني اسرائيل ـ وهم ابناء النبي يعقوب

٥٨

(ع) وهو يسمى اسرائيل ـ وتنسب اليه كما تنسب الى آدم (ع) فيقول يا بني آدم. وهذا انتساب على القواعد الكلامية.

وقد خص في هذه الآية بني اسرائيل ـ يعني اليهود والنصارى ـ لانهم عندهم بعض ما انزل على موسى وعيسى (ع) من التوراة والانجيل اللذين فيهما صفات محمد وآله. والأمر من الله ورسله باتباعه والايمان برسالته والتصديق بأهل بيته المعصومين «ع) لانهم بمثابة الانبياء في تبليغهم كلام الله تعالى بعد نبيهم وانقطاع النبوة بعده وانحصار التبليغ وحفظ الشرعية الآلهية بهم دون سواهم لانهم هم الحجج على الخلق بعد انقطاع الرسل واستمرار شرعية الاسلام الى آخر الزمان.

واراد بتلك النعم التي انعم بها على اسلافهم من كثرة ارسال الانبياء اليهم ويشمل الحاضرين من اليهود والنصارى حيث ارسل اليهم خاتم الانبياء محمد ص وآله بعد ان تغيرت عقائدهم وبدلت شرائعهم واصبحوا كعبدة الاصنام ليسوا على شيء من الحق والصواب لتغييرهم وتبديلهم ما كان عليه اجدادهم الاقدمون الذين آمنوا بما انزل الله والتزموا بالثبات على الخط المستقيم.

ولذا قال عزوجل لهم (أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) قيل ان هذا العهد هو ان الله تعالى عهد الى اليهود والنصارى في التوراة والانجيل انه باعث نبيا اسمه محمد فمن تبعه كان له اجران أجر بتصديق موسى وعيسى (ع) واجر آخر باتباعهم لمحمد ص وآله والايمان بنبوته وعترته (ع).

ـ وعلى كل حال. فان المستعرض لتاريخ بني اسرائيل ليأخذه العجب من فيض الآلأ التي افاضها الله تعالى عليهم. ومن العناد والجحود المتكرر منهم الذي قابلوا به هذا المنعم المتفضل عليهم وهنا بذكرهم بنعمته التي انعمها عليهم سابقا ولا حقا. والبيان يأتي اجمالا وتفصيلا. فما

٥٩

الاسلام الذي جاء به محمد ص وآله سوى الذي جاء به الرسل والانبياء من قبل. وانما اختص بتوسيع نظامه واحكامه واستمرار معجزته الخالدة لانها الحجة من الله على عباده مدى الأبد ، والاسلام هو امتداد لرسالة الله وعهده منذ بدء الخليقة الى فنائها. والاسلام هو الذي يأخذ بيد البشرية ويوحد بين اجناسها والوانها ولغاتها. ويضيف اليهم ما اراده الله من الخير والصلاح للبشرية في مستقبلها الطويل. ويجمع بذلك البشرية كلهم اخوة متعارفين يلتقون على حب الله وطاعته ودينه ونظامه. ولا يبقى امامهم مجال ليتفرقوا شيعا واحزابا واعداء واضدادا.

وينهي الله تعالى بني اسرائيل ان يكون عنادهم وعدم ايمانهم بالاسلام وحبهم للدنيا وشهواتها الخبيثة هي التي دعتهم لعدم التصديق بالرسول الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم بالتوراة والانجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث كما ذكر ذلك كله في القرآن الكريم حيث يقول :

(يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ. فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) س ٥ آية ١٩

(وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١))

ـ فما اقبح بالعاقل حينما يخير بين طاعة الخالق والمخلوق فيختار المخلوق على الخالق ويخير بين الجنة والنار فيختار النار على الجنان والسعادة والعز ويختار الخذلان والشقاء ومصدر هذا العناد والانكار. هو رؤساؤهم من العلماء والزعماء الذين هم مصدر كل داء وبلاء. بل هم علماء الدين دون سواهم الذين اختاروا الدنيا على الدين وباعوا ما يبقى بما يفنى. كما قال عزوجل عن هؤلاء وامثالهم في كل عصر وزمان :

٦٠