تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

عن ابن مسعود قال قرأت هذه الآية على النبي ص وآله ، ففاضت عيناه بالدموع ، قلت : فاذا كان الشاهد تفيض عيناه لهول هذه المقالة وعظم هذه الحالة ، فماذا لعمري ينبغي أن يصنع المشهود عليه ، وهو يساق الى الحساب الى النار وبئس القرار.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (٤٣))

البيان : انها حلقة في سلسلة التربية الربانية للجماعة المسلمة ـ التي التقطها المنهج الاسلامي من الجاهلية ـ وكانت الخمر احدى تقاليد المجتمع الجاهلي الاصيلة الشاملة ، واحدى الظواهر المميزة لهذا المجتمع ، كما أنها تكاد تكون ظاهرة مميزة لكل جاهلية في كل زمان ومكان. وفي عصرنا قام شرب الدخان مكان الخمر ولعل الدخان أقبح.

أما الاسلام فقضى على هذه الظاهرة العميقة في المجتمع الجاهلي ، ببضع آيات من القرآن المجيد ، وهذا هو الفرق في علاج النفس البشرية ، وفي علاج المجتمع الانساني ، بين منهج الله ومناهج الجاهلية.

لقد بلغ من شيوع تجارة الخمر ، أن أصبحت كلمة التجارة مرادفة لبيع الخمر ، يقول الشاعر لبيد :

قد بت سامرها وغاية تاجر

وافيت اذ رفعت وعز مدامها

وقال آخر :

شربت الاثم حتى زال عقلي

كذاك الاثم يفعل بالعقول

يقول عمر بن الخطاب في قصة اسلامه : كنت صاحب خمر في الجاهلية مولعا في شربها. وظل عمر مداوما على شرب الخمر في

٣٢١

الاسلام حتى نزلت آية : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ).

ان الخمر ـ كالميسر وكبقية الملاهي ، كالجنون بما يسمونه (الالعاب الرياضية).

ان هذه كلها ليست الا تعبيرا عن الخواء الروحي ... من الايمان أولا ... ومن الاهتمامات الكبيرة التي تستنفذ الطاقة ثانيا. وليست الا اعلانا عن افلاس هذه الحضارة في اشباع الطاقات الفطرية ، ذلك الخواء وهذا الافلاس هما اللذان يقودان الى الخمر والميسر لملء الفراغ.

والمراد في قوله عزوجل (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) انه كناية عن الفعل الذي يستوجب الغسل لا غير. وليس مطلق مس جسم المراة

(فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) الصعيد كل ما كان أرضا كالتراب والحجر والرمل والمدر وما اشبه ذلك. والتيمم أن تضرب الارض بكفيك معا ثم تمسحهما ثم تمسح جبهتك وظاهر يديك من الزندين ثم تضرب ضربة أخرى تمسح بها ظاهر كفيك الى الزندين والمتكفل في البيان التفصيلي كتب الفقه.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤) وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً (٤٥)

مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (٤٦))

البيان : وفي هذه اللمسة : الاولى والثانية ، تنبيه للمسلمين وتحذير من ألاعيب اليهود والنصارى ، وتدبيرهم في اثارة المسلمين ،

٣٢٢

الذين يريدون لهم الضلالة بعد الهدى.

(وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ) وهكذا يصرح العداء ويستعلن بين الجماعة المسلمة هذا العداء عند أهل الكتاب من يهود ونصارى فلذا قال : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ).

لقد بلغ من التوائهم وسوء أدبهم مع الله عزوجل : أن يحرفوا الكلام عن المقصود به. ثم بلغ من التوائهم وسوء أدبهم مع رسول الله ص وآله أن يقولوا له : (سَمِعْنا وَعَصَيْنا) فلا نؤمن بدينك ولا نتبعك وان تحقق لنا صدقك ، وما من كيد كاده أحد للاسلام مثل كيد الصليبية العالمية ، والاستعمار بشتى أشكاله ، الا انه كان من وراء اليهود وكيدهم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٤٧) إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (٤٨))

البيان : لو كان الايمان بالبينة أو بالاسباب الظاهرة لكان أول من آمن بالاسلام وصدق النبي ص وآله هم اليهود والنصارى ، لان لديهم من البينات والاستعداد الموروثة دلائل لا تحصى ولكن انما ينفع هذا كله من يريد المعرفة ليتبعها ويلتزم بها سواء صدقه واتبعه أم لا. وأما من كان تصميمه والتزامه بما يوافق هواه واغراضه الخاصة فلا ينفعه شيء حتى لو شاهد الجنة والنار ولذا يخبر عن مثل هؤلاء المنقادين لاهوائهم وأغراضهم فيقول عزوجل :

(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) ٦ س ٢٨ ي

فالمسألة مسألة مصالح وأهواء ، فلا ينفع مع أربابها كل دليل وبرهان ولو كان الحياة بعد الموت

٣٢٣

(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) والمراد بالشرك هو معصية الخالق وطاعة المخلوق بجميع أصنافها بل يمكن أن تكون هذه نزلت في أول الدعوة ، حينما قال لهم : قولوا : لا اله الا الله تفلحوا. ثم نسخت بعد ذلك.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (٥٠)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (٥١) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (٥٢))

البيان : لقد ادعى اليهود انهم شعب الله المختار ، نعم لقد اختارهم لحمل الامانة واداء الرسالة ولكنهم انحرفوا بعد ذلك عن منهج الله وعتوا عتوا كبيرا وأحلوا ما حرم الله وحللوا ما حرم الله واتبعهم العوام فيما حللوا وحرموا ولم ينكروا عليهم حق الالوهية التي من خصائصها التشريع دون سواها ولذا قد اخبر عنهم خالقهم بذلك فقال عزوجل :

(اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ). (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً)

ولا عجب فيما صنع اليهود والنصارى مع اتباعهم حين اتخذوهم اربابا من الله ، فاخفوا عنهم حقائق الحرام والحلال وأبدعوا لهم من عند انفسهم ما يوافق هواهم وأغراضهم.

لكن العجب العجيب والاغرب من ذلك ما فعله أهل السقيفة بعد رسول الله ص وآله حيث كانوا ينقضون احكام الله بعد اعترافهم بان

٣٢٤

الله شرعها ونحن نغيرها وننبذها علنا على رؤوس الاشهاد والناس أذعنوا لهم ونبذوا ما شرعه الله ورسوله وعملوا وفق ما شرعه ابو بكر وعمر بن الخطاب ، ولم يزل الاصحاب والاتباع على منهاجهم سائرين بدون خجل أو حياء. ومع هذا كله يدعون الاسلام والتصديق برسوله والاتباع والاصحاب يقولون : للامام ان يفعل ما يشاء بدون اعتراض عليه والذي يعارضه فقد خرج من الدين وحل دمه.

وهذا عمر بن الخطاب يقول على رؤوس الجماهير والانصار والمجاهدين :

(ثلاث كن حلالا وشرعهن الله ورسوله : وانا احرمهن واعاقب من يفعلن متعة النساء ، ومتعة الحج ، وحي على خير العمل في الآذان)

وجميع الاصحاب والعلماء وافق على ذلك والتزمت حتى عصرنا الحاضر ، حاشا سيد الاوصياء وامام الاتقياء علي بن ابي طالب وابناءه المعصومين وشيعته الغر المحجلين فانهم يتبرأون من كل من غير وبدل ما شرعه الله ورسوله ولا يعتبرون حكما شرعيا الا ما كان صادرا عن مدينة علم الرسول ص وآله ومن قبل بوابها امير المؤمنين علي بن ابي طالب وأبنائه من بعد (ع) فهم خلفاء الله وحججه على خلقه الى أن يخرج قائمهم وخاتمهم المهدي المنتظر الذي يملأ الارض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا.

(انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) وهم يعلمون (وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً)

ان دين الله منهج حياة ، وطاعة وهي تحكيم هذا المنهج في الحياة ، والقرب ممن لا يكون الا كذلك فلننظر اكثر الذين يدعون الاسلام أين هم من الله ودينه ومنهجه ، ثم لننظر أين هم من حال هؤلاء اليهود الذين يعجب الله من حالهم ويدمغهم باثم الافتراء عليه في

٣٢٥

تزكيتهم لأنفسهم ، فالقاعدة هي القاعدة ، والحال هي الحال ، وليس لأحد عند الله قرابة نسب ولا محاباة.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ...)

ان الله عزوجل يعجب من هؤلاء الذين أوتوا نصيبا من الكتاب كيف يحكمون بغير ما أنزل الله الذي هو الطاغوت والطغيان وادعائهم الالوهية بالفعل والعمل وان لم يظهروا ذلك بالقول وهذه الصفة من عبدة الطاغوت وبدعهم للاحكام مقابل خالق السماء ، ليست مختصة بقسم من الناس أو بعصر من الزمان بل هي قاعدة جارية على كل من حكم بغير ما أنزل الله ونبذ شريعة الله تعالى وراء ظهره ، فاليهود والنصارى نبذوا ما أنزل الله وابتدعوا بذاتهم احكاما فسماهم الله تعالى عبدة الطاغوت ، وسماهم أربابا من الله ، وسمى أتباعهم انهم عبدوهم من دون الله لموافقتهم لهم على هذا الافتراء على الله والتعد لحدوده والحكم بغير ما أنزل الله وينطبق جميع ذلك على أهل السقيفة تماما بدون أدنى فارق كما ينطبق على غيرهم. والجميع قد نبذوا شريعة الله وراء ظهورهم والجميع حكموا بغير ما أنزل والله يقول عزوجل :

(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) المائدة آية ٤٤

انها حيلة واحدة ، وخطة واحدة ، وغاية واحدة ، لليهود والنصارى وأهل السقيفة واتباع الجميع حكمهم سواء عند رب العالمين ، لانهم قد حكموا بغير ما أنزل الله عزوجل.

ولأجل هذا يجبههم باللعنة ، والطرد ، وفقدان النصير ، والذين يفقدون نصرة الله فما لهم من ناصر وما لهم من معين ، ولو كان أهل الارض كلهم لهم ناصرين وكلهم لهم معين.

٣٢٦

(أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ ، وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً)

والله ناصر من ينصره (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) والله معين لمن يؤمن به حق الايمان.

فالناصر الحقيقي ليس هو الناس ، وليس هي الدولة ، ولو كانت تملك القنابل والصواريخ. انما الناصر الحقيقي هو الله ، لانه قوي لا يغلب وأقرب الى عبده من حبل الوريد واذا قال للشيء كن فيكون.

(أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (٥٣) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥٤) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (٥٥))

البيان : ولكن لماذا يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله من النبوة والتمكين في الارض وهم قد آتاهم الله الانبياء فكذبوهم وانزل لهم الكتاب فنبذوه وراء ظهورهم (وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً).

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (٥٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (٥٧))

البيان : انه مشهد لا يكاد ينتهي ، مشهد شاخص متكرر ، يشخص له الخيال ، ولا ينصرف عنه انه الهول ، وللهول جاذبية آسرة قاهرة. (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها).

مشهد يرسمه الخالق لعبيده المنحرفين لعلهم يعتدلون ويرسمه للعاصين لعلهم يتوبون. ويرسمه عجبا خارقا للمألوف لعلهم ينتهون ، وقد تهيأت لهم أسباب الايمان والطاعة

وفي مقابل هذا السعير المتأجج ، وفي مقابل الجلود الناضجة ، المشوهة المعذبة قد بدلت الجلود ليعود الاحتراق من جديد ، ويعود

٣٢٧

الالم من جديد والعذاب مستمر هكذا في مقابل هذا المشهد المدهش للالباب ، يأتي مشهد آخر نقيضه (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) في نعيم الجنة خالدين فيها ولهم أزواج مطهرة من كل خبث وعيب ، حور مقصورات في الخيام لم يتمنهن قبلهم انس ولا جان. قاصرات الطرف كأنهن لؤلؤ مكنون أعدت للمتقين.

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (٥٨))

البيان : هذه هي تكاليف الجماعة المسلمة ، وهذا هو خلقها : اداء الامانات الى أهلها ، والحكم بين (الناس) بالعدل على منهج الله وتعليمه ، وهذا الذي دعا حكام العرب لترك نظام القرآن المجيد ،

والامانات تبدأ من الامانة الكبرى .. الامانة التي ناط الله بها فطرة الانسان ، التي أبت السموات والارض والجبال ان تحملنها واشفقن منها ، وحملها (الانسان) .. امانة الهداية والمعرفة والايمان بالله عن قصد وارادة وجهد واتجاه ، فهذه أمانة الفطرة الانسانية خاصة.

فكل ما عدا الانسان ألهمه ربه الايمان به والاهتداء اليه ومعرفته وعبادته وطاعته وألزمه طاعة ناموسه بغير جهد منه واختيار ، الا الانسان قد ترك له الاختيار اما شاكرا واما كفرا.

ومن هذه الامانة الكبرى تنبثق سائر الامانات التي يأمر الله ان تؤدى :

ومن هذه الامانات أمانة التعامل بين النفس والناس من العدل والتسامح ورد اماناتهم اليهم امانة المعاملات ، ورد الودائع الى أهلها ، وامانة النصيحة للراعي وللرعية ، وامانة القيام على الاطفال الناشئة ،

٣٢٨

وامانة المحافظة على حرمات الجماعة واموالها وثغراتها.

وذلك هو أساس الحكم في الاسلام ، كما أن الامانة بكل مدلولاتها ، وهي أساس الحياة في المجتمع الاسلامي .. (إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) ومنها ولاية علي (ع) وأهل بيته المعصومين (ع).

ان للعقل البشري وزنه وقيمته بوصفه أداة من أدوات المعرفة والهداية في الانسان.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٥٩))

البيان : في هذا النص القصير يبين الله سبحانه شرط الايمان وحد الاسلام في الوقت الذي يبين فيه قاعدة النظام الاساسي في الجماعة المسلمة ، وقاعدة الحكم بما أنزل الله عزوجل ومصدر السلطنة الالهية بنظامها المهيمن على جميع حركات الانسان وسكناته.

وكلها تبدأ وتنتهي عند التلقي من الله وحده ، والرجوع اليه فيما لم ينص عليه نصا ، من جزئيات الحياة التي تعرض في حياة الناس على مدى الاجيال مما تختلف فيه العقول والآراء والافهام ليكون هنالك الميزان الثابت الذي ترجع اليه العقول والاراء والافهام.

ان الحاكمية لله وحده ، في حياة البشر ـ ما جل منها وما دق ، وما كبر منها وما صغر ـ

والله عزوجل قد سن شريعة أودعها قرآنه ـ الصامت ، والناطق ـ ولذا قال امير المؤمنين (ع) (أنا كتاب الله الناطق والقرآن كتاب الله الصامت وأنا أفيد لكم من القرآن).

لان فهم معاني القرآن واهدافه كلها لا يعلمها الا الله ورسوله

٣٢٩

والراسخون في العلم من أوصيائه المعصومين وأهل بيته الغر الميامين (الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا).

وقد أرسل بها رسوله وخلفاءه الذين لا ينطقون عن الهوى ، والله تعالى أوجب طاعتهم مطلقا ومن خصائص ألوهيته أن يسن الشريعة واجبة التنفيذ ، وعلى الناس اجمع ان يسمعوا ويطيعوا الله ورسوله وأولي الامر من الائمة المعصومين الغر الميامين (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ).

والنص يجعل طاعة الله أصلا وطاعة رسوله أصلا كذلك ، بما انه يتلقى الرسالة مباشرة عن جبرائيل (ع) فلا يكرر لفظ الطاعة ، ويجعل طاعة أولي الامر منكم تبعا لطاعة الله ورسوله ليقرر ان طاعتهم مستمدة من طاعة الله وطاعة رسوله ص وآله.

عن الامام الباقر (ع) : ايانا عنى خاصة وأمر جميع المؤمنين الى يوم القيامة بطاعتنا أهل البيت).

عن الصادق (ع) سئل عن الاوصياء : طاعتهم مفترضة ، قال (ع) نعم هم الذين قال الله تعالى (أَطِيعُوا اللهَ ...) الآية. وقال الله : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ..) الآية. فقد نزلت في علي بن ابي طالب (ع) والحسن والحسين والتسعة المعصومين من ذرية الحسين (ع)

فقيل له (ع) : ان الناس يقولون فما له لم يسم عليا (ع) وأهل بيته في كتابه. فقال (ع) فقولوا لهم :

لقد نزلت الصلاة ولم يسم الله تعالى لهم ثلثا ولا اربعا حتى رسول الله فسر ذلك لهم ، ونزلت عليه الزكاة ، ولم يسم لهم من كل اربعين درهما درهم ، حتى كان رسول الله هو الذي فسر ذلك لهم ، ونزل الحج فلم يقل لهم طوفوا اسبوعا حتى كان رسول الله هو الذي فسر لهم.

٣٣٠

ونزلت أطيعوا الله ورسوله وأولوا الامر منكم ، نزلت في علي والحسن والحسين (ع) فقال رسول الله ص وآله في علي (ع) من كنت مولاه ، فعلي مولاه ، وقال اوصيكم بكتاب الله واهل بيتي فاني سألت الله أن لا يفرق بينهما حتى يوردهما علي الحوض فأعطاني ذلك وقال ص وآله : لا تعلموهم فانهم أعلم منكم. وقال ص وآله : انهم لم يخرجوكم من باب هدى ولن يدخلوكم في باب ضلالة.

فلو سكت رسول الله ص وآله ولم يبين لادعاها آل فلان وآل فلان ولكن الله أنزل قوله في كتابه تصديقا لنبيه ص وآله : (انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) فكان علي والحسن والحسين وفاطمة ، فأدخلهم رسول الله تحت الكساء في بيت أم سلمة ثم قال ص وآله :

(اللهم ان لكل نبي أهلا وثقلا ، وهؤلاء أهل بيتي وثقلي ، فقالت أم سلمة ألست من أهلك ، فقال ص وآله : انك على خير ولكن هؤلاء أهل بيتي وثقلي) الحديث.

وعن الصادق (ع) انه سئل عما بنيت عليه دعائم الاسلام التي اذا أخذ الانسان بها زكي العمل ولم يضر جهل ما جهل العبد فقال (ع) : شهادة لا اله الا الله ، وان محمدا رسول الله ، والاقرار بما جاء به من عند الله ، وحق في الاموال الزكاة ، والولاية التي أمر الله بها ولاية آل محمد فان رسول الله قال : من مات ولا يعرف امامه مات ميتة جاهلية ، قال الله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ).

فكان علي (ع) ثم صار الحسن ثم من بعده الحسين ثم من بعده علي بن الحسين ، ثم بعده محمد بن علي ، ثم هكذا يكون الامر ، ان الارض لا تصلح الا بامام) الحديث.

٣٣١

وعن سليم بن قيس الهلالي عن امير المؤمنين انه سأله ما أدنى ما يكون به الرجل ضالا. فقال (ع) : ان لا يعرف من امره الله بطاعته وفرض ولايته ، وجعله حجته في ارضه وشاهده على خلقه.

قال فمن هم يا امير المؤمنين. قال (ع) : الذين قرنهم الله بنفسه وبنبيه ، فقال عزوجل :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) قال فقبلت رأسه وقلت أوضحت لي وفرجت عني ، وأذهبت كل شك كان في قلبي).

عن جابر ابن عبد الله الانصاري قال لما نزلت الآية قلت : يا رسول الله عرفنا الله ورسوله. فمن أولى الامر الذين قرن الله طاعتهم بطاعته وطاعتك ، فقال ص وآله : هم خلفائي يا جابر أئمة المسلمين من بعدي أولهم علي بن ابي طالب (ع) ثم الحسن ثم الحسين ثم علي بن الحسين ثم ابنه محمد المعروف بالتوراة بالباقر ، وستدركه يا جابر فاذا لقيته فاقرئه مني السلام. ثم ابنه الصادق جعفر. ثم ابنه موسى ثم ابنه علي ثم ابنه محمد. ثم ابنه علي. ثم ابنه الحسن. ثم سمي محمد ابنه. وكنيته حجة الله في أرضه وبقيته في عباده. وهو الذي يفتح الله على يديه مشارق الارض ومغاربها ذاك الذي يغيب عن شيعته وأوليائه غيبة لا يثبت فيها على القول بامامته الا من امتحن الله قلبه للايمان. قال جابر فقلت له : يا رسول الله ص وآله ، فهل لشيعته الانتفاع به في غيبته. فقال : أي والذي بعثني بالنبوة ، انهم يستضيئون بنوره وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وان تجلاها السحاب يا جابر هذا من مكنون سر الله ومخزون علم الله ، فاكتمه الا عن أهله) انتهى.

٣٣٢

عن أمير المؤمنين (ع) اعرفوا الله بالله ، واعرفوا الرسول بالرسالة ، وأولي الأمر بالمعروف والعدل والاحسان. وعنه (ع) لا طاعة لمن عصى الله ، وانما الطاعة لله ولرسوله ولولاة الامر ، انما أمر الله بطاعة الرسول لانه معصوم مطهر لا يأمر بمعصية الله وانما أمر بطاعة اولي الامر لانهم معصومون ، مطهرون لا يأمرون بمعصية الله عزوجل) والاخبار في هذا المعنى لا تحصى.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (٦٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (٦١) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (٦٢) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (٦٣))

البيان : ألم تر الى هذا العجب العجاب قوم يزعمون الايمان بالله وكتابه ثم يهدمون هذا الزعم ، أو يكذبون انفسهم وزعمهم في آن واحد ، وكيف يصدر من زعم صحيح للايمان ، ثم يذهب صاحب هذا الزعم فيتحاكم الى الجبت والطاغوت الذي يتوقف الايمان الصحيح على الكفر والبراءة منه. ولكن تحاكمهم الى الطاغوت دليل جلي على اضلال الشيطان لهم وعبادتهم له دون الله عزوجل.

ان المقتضى الفطري البديهي للايمان ان يتحاكم الانسان الى ما آمن به والى من آمن به (فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) وهذه المصيبة قد تصيبهم بسبب انكشاف نفاقهم وافترائهم على كذب وفساد ما يزعمون ، وأيا كان سبب المصيبة فالنص القرآني يسأل مستنكرا : فكيف يكون الحال حينئذ وكيف يضيفون الى جريمتهم جريمة اخرى ،

٣٣٣

(يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً)

انها حال مخزية حين يعودون شاعرين بما فعلوا غير قادرين على مواجهة الرسول ص وآله بحقيقة دوافعهم ، وفي الوقت ذاته يحلفون كاذبين ، انها حجة الذين يزعمون الايمان وهم غير مؤمنين وهي حجة المنافقين الملتوين دائما وفي كل حين ، والله سبحانه يفضح ما يضمرون ، ويخبر انه يعلم حقيقة كذبهم ونفاقهم ، وما تنطوي عليه جوانحهم (أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ).

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً (٦٤) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٦٥))

البيان : وهذه حقيقة لها وزنها .. ان الرسول ليس مجرد (واعظ) يلقى كلمته ويمضي لتذهب في الهواء ـ بلا سلطان ـ كما يقول المخادعون عن طبيعة الدين وطبيعة الرسل ، أو كما يفهم الذين لا يفهمون مدلول (الدين).

ان الدين منهج حياة واقعية .. بتشكيلاتها وتنظيماتها ، وأوضاعها وقيمها واخلاقها وآدابها وعباداتها وشعائرها كذلك.

ان الدين منهج كله يقضي أن يكون للرسالة سلطان. سلطان يحقق المنهج وتخضع له النفوس خضوع طاعة وتنفيذ ، والله أرسل رسله ليطاعوا باذنه وفي حدود شريعته. في تحقيق منهج الدين ، منهج الله الذي أراده لتصريف هذه الحياة.

ومن هنا كان تاريخ الاسلام كما كان .. كان دعوة وبلاغا ونظاما وحكما وخلافة بعد ذلك باختيار من الله تعالى بعد رسوله ص وآله تقوم بقوة الشريعة والنظام على تنفيذ الشريعة ، لتحقيق الطاعة الدائمة

٣٣٤

لله ولرسوله ولأولي الامر من بعده المعصومين من كل نقص وشين زكاهم الله وطهرهم من الرجس تطهيرا ، لا يخلو منهم زمان ولا يماثلهم أو يشابههم انسان وهم عترة النبي ص وآله. واذا كان يكفي لاثبات (الاسلام) أن يتحاكم الناس الى شريعة الله وحكم رسوله ، فانه لا يكفي في (الايمان) هذا فلا بد من الاقرار والاعتقاد بالولاية والخلافة لأولي الامر الذين فرض الله تعالى طاعتهم ومحبتهم وولايتهم على كل أبيض وأسود ، وانثى وذكر.

كما قد نص على ذلك الرسول الأعظم عن الاله الاوحد في غدير خم بعد رجوعه من حجة الوداع :

هذا هو الاسلام ، وهذا هو الايمان ، فلتنظر كل نفس اين هي من الاسلام ، واين هي من الايمان الذي اذا فقد من المسلم يصبح اسلامه قشورا بلا لباب ، وعنوانا بلا مصداق ، واذا مات مع خلوه من الايمان الذي مناطه الولاء لأهل بيت الرسول ص وآله والسير على خطاهم والتمسك بحبلهم وعروتهم التي لا انفصام لها ، والركوب في سفينتهم التي من ركبها نجا ومن تخلف عنها هوى. والدخول الى مدينة علم الرسول ص وآله من بابها الذي هو علي وابناؤه المعصومون (ع) سيموت على غير دين الاسلام ومصيره لا محالة الى مهاوي النيران خالدا فيها أبدا. وبعد أن يقرر أن الايمان بدون الولاء لعترة الرسول ص وآله. وقبل الرضى والتسليم بمن اختاره الله ورسوله حجة لعباده يعود ليقول : ان هذا المنهج الذي يدعون اليه وهذه الشريعة التي يقال لهم : تحاكموا اليها ـ لا لسواها ـ وهذا القضاء الذي يحتم عليهم قبوله والرضا به. انه منهج ميسر وشريعة سمحة ، وقضاء رحيم ، انه لا يكلفهم شيئا فوق طاقتهم انه رؤوف رحيم.

٣٣٥

(وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (٦٧) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٦٨) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (٦٩) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً (٧٠))

ان هذا المنهج ميسر لينهض به كل ذي فطرة سوية ، انه لا يحتاج للعزائم الخارقة الفائقة التي لا توجد الا نادرة ، وهذا الدين لم يجيء للقلة ، وانما جاء للناس جميعا من أقواهم الى أضعفهم ومن أعلمهم وأذكاهم الى أجهلهم وأبسطهم ولا يكلف نفسا الا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت.

لقد كلفهم بطاعات دون طاقتهم يجب عليهم اداؤها ، ونهاهم عن محرمات دون قدرتهم وجب عليهم اجتنابها ، وفوائد ومنافع هذه الطاعات ترجع اليهم دون سواهم والله غني عنهم وحماهم من مضرات ومفاسد رأفة ورحمة بهم لا لغرض آخر غير ذلك انه رؤوف رحيم.

(وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ).

قتل النفس والخروج من الديار .. مثلان للتكاليف الشاقة ، التي لو كتبت عليهم ما فعلها الا قليل منهم. بل المراد انها سهلة يسيرة يمكن لكل فرد أن يؤديها حتى يشمل التكليف كل النفوس العادية.

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ ، فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ).

انها اللمسة التي تستجيش مشاعر كل قلب فيه ذرة من خير ، وفيه بذرة من صلاح ، وفيه اثارة من التطلع الى مقام سامي رفيع في

٣٣٦

جوار العظيم الكريم ، وهذه الصحبة لهذا الرهط العلوي. انما هي فضل من الله ، انما هو الفضل الواسع الغامر الفائض العميم الذي يجود به الله العظيم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (٧١) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (٧٢) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (٧٣) فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (٧٤))

البيان : ان السياق يسلط الاضواء الكاشفة عليهم ، وعلى دخيلة نفوسهم ، ويرسم حقيقتهم النفرة على طريق القرآن التصويري العجيب ، فهاهم أولاء بكل بواعثهم مكشوفون للاعين كما لو كانوا قد وضعوا تحت مجهر ، يكشف النوايا والسرائر ، ويكشف البواعث والدوافع. هاهم كانوا أولاء على عهد الرسول ص وآله ، كما يكونون في كل زمان وكل مكان. وهاهم أولاء ضعافا منافقين ملتوين ، لا يعرفون غاية أعلى من صالحهم الشخصي المباشر فمنهم من يريد الدنيا كلها دون سواها ، يتخلفون عن المعركة فان أصابت المجاهدين محنة ، فرح المتخلفون ، وحسبوا أن فرارهم نجاهم من الابتلاء (وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ (لَيَقُولَنَّ ...) (يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً).

انها أمنية الفهم الضعيف بالغنيمة التي يقولون عنها (فَوْزاً عَظِيماً) والمؤمن الصحيح لا يكره الفوز والغنيمة ، ولكن التصور الكلي للمؤمن غير هذا التصور الذي يرسمه التعبير القرآني لهذه الفئة من المنافقين الجبناء ، ان المؤمن اذا دعاه الجهاد خرج غير متثاقل ـ خرج يسأل الله (إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) اما النصر واما الشهادة ، وكلاهما فضل من الله ، وكلاهما فوز عظيم.

٣٣٧

فان قسم الله له الشهادة ، فقد فاز بمنازل الشهداء ، وان كتب له النصر فرح بعون الله له ، وقهر الاعداء ، وعلى كل الوجهين هو فرح ورابح ، لا يدنو اليه ندم او خسران.

وهذا هو الافق الذي أراد الله ان يرفع المسلمين اليه ، وهو يرسم لهم هذه الصورة المنفرة لذلك الفريق المنافق (منهم) وهو يكشف لهم عن المندسين في الصف ولم تكن له غاية سوى الدنيا وليأخذوا حذرهم منهم الانخداع بأباطيلهم وحيلهم الخداعة ، لانهم أعداء الحق والعدل.

(فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ)

هنا يأتي الاستنهاض للجماعة المسلمة ، فالاسلام لا يعرف قتالا الا في سبيل الله ، ولا يتعرف على قتال انشىء للغنيمة والكسب المادي ، ولا لمجرد القهر والغلبة للناس وان كانوا أبرياء.

ان الاسلام لا يقاتل لمجد شخص ولا لمجد بيت ، ولا لمجد طبقة ، ولا لمجد دولة ، ولا لمجد امة. انما يقاتل في سبيل الله لاعلاء كلمة الدين لجهاد الاشرار والظالمين ، والماكرين والمضللين يقاتل الاسلام لبسط الحق والعدل بين العباد ، والرفاهية والازدهار للبلاد.

وبذلك ينال المجاهدون المقام الرفيع عند الله وعند الاخيار والصلحاء ، في الدنيا والآخرة والذين يقاتلون وغايتهم الدنيا وغنائمها ، أو القهر والغلب كيفما قدروا عليها ويصفون قتلاهم بانهم شهداء كذبا وافتراء على الله وعلى أرباب البصائر النيرة الذين لا ينخدعون بتلك الخدع البراقة التي لا ينخدع بها الا الهمج الرعاع اتباع كل ناعق ويميلون مع كل ريح :

(وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ ، فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ ، فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)

٣٣٨

بهذه اللمسة يتجه المنهج القرآني الى رفع هذه النفوس الزكية ، والى انحصار رجائها برضا الله والجنة واين الدنيا من الآخرة ، واين نعيم مشوه زائل من نعيم صافي دائم خالد فيها ما تشتهي الانفس وتلذ الاعين

(وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (٧٥))

البيان : ان الله عزوجل يتعجب ممن يدعي الايمان ، والايمان يدعوه الى الجهاد وهو يتباطأ ، ويرى بعينيه المستضعفين كيف يسومهم العدو سوء العذاب ولا تأخذه الغيرة والحمية الى النهوض لنصرة هؤلاء الضعفاء ، ولا يدفعه ايمان لهذا الجهاد ولكن قعوده قد برهن على عدم صدقه في دعواه. فلذا يتعجب كيف تقعدون عن القتال في سبيل لاستنفاذ هؤلاء المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الصغار ، الذين ترتسم صورهم في مشهد مثير لحمية كل من لديه أدنى غيرة او مروءة أو كرامة هؤلاء الذين يعانون اشد المحنة والفتنة في دينهم وعقيدتهم ، والنفس والعرض ، وحق المال والارض.

ومشهد المرأة المسكينة ، وبخاصة حين يكون الدفع عن الدين والعقيدة ، وهذا المشهد كله معروض في مجال الدعوة الى الجهاد ، وهو وحده يكفي لاستفزاز كل غيور ، وصاحب احساس.

ان راية المسلم التي يحامي عنها هي عقيدته ووطنه الذي يجاهد من أجله ، وهي بلده التي تقام فيها شعائر الاسلام ـ (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) وكل تصور للوطن غير هذا فهو خارج عن نظام الاسلام ، وخارج عن حدود الدين والايمان وهو من الجاهلية.

(الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (٧٦))

٣٣٩

البيان : في لمسة واحدة يقف الناس على مفرق الطريق ، وفي لحظة واحدة ترتسم الاهداف وتتضح الخطوط ، وينقسم الناس الى فريقين اثنين : فريق يقاتل في سبيل الله وفريق يقاتل في سبيل الطاغوت ، فريق يقاتل للدنيا والشيطان ومصيره لا محالة الى النار ، وفريق يقاتل لله والجنة.

فكل من لم يكن قتاله لأجل اعلاء كلمة الله فهو يقاتل في سبيل الشيطان والطاغوت. وهكذا يقف المسلم على ارض اصلب من الفولاذ ، مستندا الى حصن حصين وركن وثيق. ملؤه فؤاده يقين بان الربح حليفه سواء قتل عدوه وانتصر عليه او قتله عدوه ونال منه.

و (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) اما النصر او الشهادة.

من هذا التصور الحقيقي انبثقت تلك الخوارق الكثيرة التي حفظها التاريخ من الجهاد في سبيل الله في حياة الجماعة المسلمة الاولى ، والتي تناثرت على مدى التاريخ في أجيال كثيرة.

ومن هذا التصور كان ذلك المدى الاسلامي العجيب ، في أقصر فترة عرفت في التاريخ. فقد كان هذا التصور جانبا من جوانب التفوق الذي حققه المنهج الرباني للجماعة المسلمة ، على المعسكرات المعادية ، ذلك التفوق الذي أشرنا اليه من قبل ولما تخلف المسلمون انخذلوا.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧٧)

أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (٧٨) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً

٣٤٠