تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

ـ ٦ ـ سورة الانعام عدد آياتها (١٦٥) آية

بسم الله الرحمن الرحيم

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣))

البيان : انها اللمسات الاولى ، تبدأ بالحمد لله ثناء عليه ، وتسبيحا له ، واعترافا بأحقيته للحمد والثناء على ألوهيته المتجلية في الخلق والانشاء ، بذلك تصل بين الالوهية المحمودة وخصيصتها الاولى ـ الخلق ـ وتبدأ بالخلق في أضخم مجالي الوجود ، وفق تدبير مقصود.

فهي اللمسة العريضة ، التي تشمل الاجرام الضخمة في الكون المنظور ، والمسافات الهائلة بين تلك الاجرام ، والظواهر الشاملة الناشئة عن دورتها في الافلاك.

وانك لتعجب من قوم يرون صفحة الوجود الضخمة الهائلة الشاملة تنطق بقدرة الخالق العظيم ، كما تنطق بتدبيره الحكيم ، وهم بعد ذلك كله لا يؤمنون ولا يوحدون ولا يسبحون بحمده ، وصدق الله العظيم حيث يقول : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ).

(ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) فيا للمفارقة الهائلة بين الدلائل

٤٨١

الناطقة في الكون وآثارها الضائعة عند كثير من الناس ، وهم عنها غافلون.

ثم اللمسة الثانية : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) انها لمسة الوجود الانساني ، التالي في الوجود الكوني ، ولظاهرتي الظلمات والنور. لمسة الحياة الانسانية ، في هذا الكون الخامد ، لمسة النقلة العجيبة من عتمة الطين المظلم الى نور الحياة البهيج ، انها تتناسق تناسقا فنيا جميلا مع (الظلمات والنور).

والى جانب ذلك لمسة أخرى متداخلة ، لمسة الاجل الاول المقضي بالموت العاجل والاجل الثاني المستوفي لتمامه ، وكان من شأن هذا كله ان ينقل الى القلب البشري اليقين والتدبر الالهي واليقظة بعناية رضاه وعونه والاستعانة به في كل حركة. ولكن المخاطبين بالآية يشكون ويرتابون ولا يستيقنون (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ).

ان هذه الانظمة البشرية والاوضاع الموجودة هل لها ان ترفع على الاقل راية الاسلام أو تعلن احترامها للدين. بينما هي تحكم بغير ما أنزل الله ، وتقصي شريعة الله عن الحياة ، وهي تسمع وترى في كل حين آيات الله تقول : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ).

وها هي تحل ما حرم الله تعالى وتنشر تصورات وقيما هدامة للحياة والاخلاق وتدمر التصورات والقيم الاسلامية الانسانية ، وتسلط جميع أجهزة التوجيه والاعلام لتدمير القيم الاخلاقية وتسحق التصورات والاتجاهات الدينية. وتنفذ ما نصت عليه مؤتمرات المبشرين وبروتوكولات الصهيونيين ، وتخرج المرأة المسلمة من سترها وتجردها من حجابها وتبرزها الى الشوارع والمجتمعات عارية او شبه عارية بدون

٤٨٢

خجل ولا حياء ولا مروءة. وجعلها فتنة للمجتمع بكامله ، باسم التطور والتحضر ومصلحة العمل والانتاج ، بينما ملايين الايدي العاملة من الرجال في البلاد متعطلة ، لا تجد الكفاف.

ولم يكفها هذا الدمار حتى أتت بالزيت وجمعت بينهما في اناء واحد وقالت لهما اياكما ان تحترقا ، فجمعت بين الجنسين الذكر والانثى في جميع المجالات في المعمل والمكتب ، والاذاعة والمسابح والغابات وهنا يجري ما لا يعلمه الا الله الخبير العليم.

تفعل حكومات العرب كل ذلك ومع هذا فهي تدعي انها مسلمة وانها تحترم العقيدة والناس يتوهمون انهم يعيشون في مجتمع مسلم ، وانهم هم كذلك مسلمون.

أليس الطيبون منهم من يصلون ويصومون ولكن عند التحقيق والاختبار والعرض على ميزان الخالق القهار يظهر ويتضح بدون ادنى خفاء انهم الكافرون الذين تركوا شرائع الخالق وحكموا قانون المخلوق وانهم يتحاكمون الى الجبت والطاغوت الذي أمرهم خالقهم العظيم أن يكفروا به ويتبرأوا منه كما قال عزوجل :

(يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ)

(وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ).

(وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥)

أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦))

البيان : انما يعرضون اتباع الحق والهدى عنادا واصرارا ،

٤٨٣

وليس الذي ينقصهم هو الآيات الداعية الى الايمان ولا العلامات الدالة على صدق الدعوة والداعية ، وانما تنقصهم الرغبة في الاستجابة ، ويمسك بهم العناد والاصرار (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ).

وحين الاعراض متعمدا مع توافر الادلة ووضوح الحقائق فان التهديد بالبطش قد يحدث هزة تتفتح منها نوافذ الفطرة (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)

ويتركهم امام هذا التهديد يتوقعون في كل لحظة (أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ).

(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ ..) ألم يروا مصارع الاجيال الغابرة ، لما عصوا ربهم فأخذهم الله بذنوبهم ومضوا لا تحفل بهم الارض ، فما أهونهم على الله تعالى. انها حقيقة ينساها البشر بالعجل بمجرد ما تزول آثار الكارثة ، وتغيب عن الأعين انها الاهواء المهلكة.

وانه لمما يخدع الناس أن يروا الفاجر الطاغي ، أو الكافر الملحد ممكنا في الارض. ونهاية الطريق لا ترى الا مصارع الغابرين ، فيخدعهم ما يرون في حياتهم ويحسبونه نهاية الطريق وامامهم التاريخ القريب لم يعتبروا ولم يتعظوا ، وسيطر عليهم الهوى فأنساهم ذكر الله تعالى.

(وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧))

البيان : انه ليس الذي جعلهم يعرضون خفاء الحقيقة وقلة البيان والبرهان انما هو المكابرة الغليظة والعناد الصفيق : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ).

٤٨٤

(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠))

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١) قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦))

البيان : وهذا الاقتراح الذي كان المشركون يقترحونه والذي اقترحه من قبلهم أقوام كثيرون على رسلهم يثير جملة حقائق في المقام :

الحقيقة الاولى : ان اولئك المشركين من العرب لم يكونوا يجحدون الله ، ولكنهم كانوا يريدون تبرير لعنادهم واصرارهم على عدم تصديق الرسول ص وآله لمصالح لهم خاصة.

الحقيقة الثانية : ان العرب كانوا يعرفون الملائكة وكانوا يطلبون ان ينزل الله ملكا يكون مع الرسول ص وآله ، وهذا أيضا تبريرا لعنادهم لأجل أهواء لهم خاصة.

الحقيقة الثالثة : التي يثيرها النص القرآني في الفكر : هي طبيعة التصور الاسلامي ومقومات هذا التصور ، عن عالم الغيب وما وراء الطبيعة :

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)

ولقد كان تفسير التاريخ الانساني وفق قواعد منهجية لهذه التي كان القرآن يوجه اليه العرب وفق سنن مطردة تتحقق آثارها كلما تحققت أسبابها ـ باذن الله ـ

٤٨٥

والذي يحدث الدهشة النقلة الهائلة التي انتقل اليها العرب في خلال ربع قرن من الزمن على عهد الرسالة المحمدية ، وهي فترة لا تفي لحدوث تطور في الاوضاع والاقتصاد :

(قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ ...) انه موقف المواجهة للبيان والتقرير ثم المفاصلة ، ومن ثم يبدأ بتوجيه الرسول ص وآله لهذه المواجهة الملموسة بحواسهم.

(الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ، نعم لقد خسروا انفسهم وفقدوها وأي خسران يقابل خسران النعيم الدائم في جنة الخلد ، وأي خسران هائل يقابل عذاب جهنم الذي لا يخفف عن أهله.

(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ..)

ان قضية اتخاذ الله وحده وليا ، بكل معاني كلمة ولي ، ربا ومعبودا وناصرا ورازقا. ان هذه القضية هي قضية العقيدة في صميمها ، فاما اخلاص الولاء لله بهذه المعاني كلها فهو الاسلام الصحيح ، واما سواه فهو الاشراك ، الذي لا يجتمع في قلب واحد مع الاسلام.

وهذه الآيات تقرر هذه الحقيقة بأقوى عبارة وأعمق ايقاع (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا). انه المنطق الفطري القوي العميق ، لمن يكون الولاء ولمن يتمحص اذا لم يكن لله وحده :

(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ، والاسلام اساسه التوحيد والولاء لله الواحد الاحد. واما غير ذلك فهو اشراك ويستحيل ان يجتمع مع التوحيد ، في قلب مخلوق في الوجود : (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).

انه تصوير لحقيقة مشاعر الرسول ص وآله ، تجاه توحيد خالقه والاخلاص له في الطاعة والولاء ، ثم لماذا يتخذ غير الله وليا ، هل يرغب

٤٨٦

في شيء مفقود عند الله ويوجد عند سواه ، هل يخاف من شيء يعجز عنه الله ويقدر عليه سواه. أليس كل خير ونفع ونعمة مصدرها من الله وحده ، أليس لا يصرف السوء والبلاء والبلاء والاعداء سواه ان هذا كله بيد الله عزوجل دون سواه ، وله القدرة المطلقة في عالم الاسباب

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ، وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

انه تتبع هواجس النفس ووساوس الصدر ، وتتبع مكامن الرغائب والمخاوف وتجلية هذا كله بنور العقيدة ، وفرقان الايمان ، وصدق المعرفة بحقيقة الالوهية.

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨))

وأخيرا تجيء قمة المد في هذه الموجة يجيء الايقاع المدوي العميق في موقف الاشهاد :

(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠))

البيان : ان تتابع المقاطع والايقاعات في الآية الواحدة عجيب ، وان هذا التتابع ليرسم الموقف لحظة لحظة. ومشهدا مشهدا ، ويكاد ينطق بملامح الوجوه فيه وخلجات الصدور.

فها هو ذا رسول الله ص وآله يؤمن من ربه هذا الامر : ثم ها هو ذا يواجه المشركين ، الذين يتخذون من دون الله أولياء ، يجعلون لهم

٤٨٧

بعض خصائص الالوهية مع الله. ويدعون رسول الله ص وآله ، أن يقرهم على هذا الذي هم فيه ليدخلوا هم فيما جاءهم به. كأن ذلك يمكن أن يكون. وكأنه يمكن ان يجتمع الاسلام والشرك في قلب واحد على هذا النحو الذي كانوا يتصورونه ، والذي لا يزال يتصوره كثير من الناس في هذا الزمان ، من انه يمكن أن يكون الانسان مسلما لله ، بينما هو يتلقى الشرائع والنظم من غير الله ويتولى غير الله.

وها هو الرسول ص وآله يواجه هؤلاء المشركين ليبين لهم مفرق الطريق بين دينه ودينهم وبين توحيده وشركهم ، وبين اسلامه وجاهليتهم ، ثم يقرر لهم انه لا موضع للقاء بينه وبينهم الا أن يتخلصوا هم من دينهم ويدخلون في دينه ، وانه لا وجه للمصالحة في هذا الامر ، لانه يفترق معهم في أول الطريق ، وها هو ذا يبدأ معهم العلني المكشوف

(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) أي شاهد في هذا الوجود كله هو اكبر شهادة ، شاهد تعلو شهادته كل شهادة ، فلا يبقى بعد شهادته شهادة (قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ).

نعم الله تعالى هو الذي يقضي بالحق وهو خير الفاصلين ، هو الذي لا شهادة بعد شهادته ، فاذا تقرر مبدأ تحكيم الله سبحانه في القضية ، أعلن اليهم أن شهادة الله تعالى تضمنها هذا القرآن المجيد ، الذي أوحاه الى رسوله لينذرهم به ، فهو عليهم حجة بالغة :

(وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ)

فكل من بلغه هذا القرآن من الناس بلغة يفهمها ويحصل منها محتواه ، فقد قامت عليه الحجة به ، وبلغه الانذار ، وحق عليه العذاب ان كذب بعد البلاغ.

(قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) والنصوص

٤٨٨

القرآنية بمقاطعها هذه تهز القلوب بما لا تملك البيان البشري ، فلا أريد أن أوقف تدفعها وانسكابها في القلب.

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) ، لقد تكرر في القرآن المجيد ذكر معرفة أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى لهذا القرآن أو لصحة رسالة محمد عامة.

ان أهل الكتاب يعرفون ان هذا الكتاب حق من عند الله ويعرفون ما فيه من سلطان وقوة ومن خير وصلاح ، ويعلمون ان الارض لا تسعهم وتسع أهل الدين الصحيح.

ان أهل الكتاب يعلمون جيدا هذه الحقيقة في هذا الدين ، ويبحثون بجد كيف يستطيعون أن يفسدوا قوته ، كيف يحرفون الكلم فيه عن مواضعه.

ان اهل الكتاب يدرسون هذا الدين دراسة حادة عميقة فاحصة ، لا ليؤمنوا أو يتحققوا من صحته ، بل ليهتدوا الى معارضته ووقوع الفساد بين اهله واتباعه.

وهم من أجل هذه الاهداف كلها يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، ومن واجبنا نحن المسلمين ان نعرف ذلك جيدا ، ان الواقع التاريخي من خلال اربعة عشر قرنا ينطق بحقيقة واحدة ، هي هذه الحقيقة التي يقررها القرآن المجيد في هذه الآية :

(يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) وهذه الحقيقة تتضح في هذه الفترة وتتجلى بصورة خاصة. وتنطق بحوثهم بمدى معرفة أهل الكتاب بكل صغيرة وكبيرة عن طبيعة هذا الدين وتاريخه وحقيقة أمره ، وصحة ما جاء به من عند خالقه ، بواسطة الصادق الامين محمد ص وآله.

ان اسرار هذا القرآن ستظل تتكشف لأصحابه وللعالم بأسره

٤٨٩

جديدا دائما. كلما عاشوا وتقدموا في ثقافتهم وان كانوا عنه معرضين وله معارضون عنادا وطغيانا ، وأرباب البصائر النيرة يرون بنور الله تعالى الذي يكشف عنه الحق المبين.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤))

البيان : هذا الاستطراد في مواجهة المشركين بحقيقة ما يزاولونه ووصف موقفهم وعملهم في تقدير الله سبحانه ، مواجهة تبدأ باستفهام تقريري لظلمهم بافتراء الكذب على الله وذلك فيما كانوا يدعونه من أنهم على دينه الذي جاء به ابراهيم (ع).

والظلم هنا كناية عن الشرك في صورة التفظيع له والتقبيح ، والمراد منه الشرك ، والله سبحانه يقرر الحقيقة الكلية (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) ، ان الشرك ألوان متعددة :

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ...) وفي مشهد الحشر والمواجهة تتعرى الفطرة من الركام الذي ران عليها في الدنيا (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ).

ان الفتنة التي تجلت هنا هي الفتنة ، واقرارهم بالله وحده وتنكرهم للشرك ماذا ينفعهم بعد كشف الغطاء وسد الاباب التي يقبل فيها توبة التائبين.

(انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) فالكذب منهم كان على أنفسهم لان الله لا يخدع عن جنته ولا تخفى عليه خافية. (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) وغاب عنهم كل غرور.

٤٩٠

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨))

البيان : انهما صفحتان متقابلتان صفحة في الدنيا يرتسم فيها العناد والاعراض وصفحة في الآخرة يرتسم فيها الندم والحسرة ، يرسمهما سياق القرآن المجيد ، ويعرضهما هذا العرض المؤثر للوحي ، ويخاطب بهما الفطرة ويهز بها هذه الفطرة هزا. لعل الركام الذي وان عليها يزاح ولعل مغليقها تنفتح ، ولعلها تفيء الى تدبر هذا القرآن قبل فوات الاوان وانغلاق الباب.

(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا).

ولو ترى هذا المشهد ، لو تراهم وقد حبسوا على النار لا يملكون الاعراض ولا الانهزام ولا الدفاع فهم يعلمون الان انها كانت (آيات ربنا) وهم يتمنون لو يردون الى الدنيا وعندئذ فلن يكون منهم تكذيب بهذه الآيات. ولكنهم كاذبون حتى في تلك الوقفة الهائلة :

(وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) ان الله يعلم طبيعتهم ويعلم اصرارهم على باطلهم ، ويعلم رجفة الموقف الرهيب على النار هي التي انطقت ألسنتهم بهذه الاماني وهذه الوعود : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ)

(وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا

٤٩١

الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٣١) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢))

البيان : قضية البعث والحساب والجزاء في دار الآخرة من قضايا العقيدة الاساسية التي جاء بها الاسلام ، والتي يقوم عليها بناء هذه العقيدة بعد قضية وحدانية الالوهية. والتي لا يقوم هذا الدين ـ عقيدة وتصورا وخلقا وسلوكا. وشريعة ونظاما الا عليها.

ان هذا الدين الذي أكمله الله عزوجل ، وأتم به النعمة بولاية علي (ع) وأبنائه المعصومين على المؤمنين جميعا وعلى البشر أجمع الى يوم القيامة ، هو حجة كبرى.

فالحياة ـ في التصور الاسلامي ـ ليست هي هذه الفترة القصيرة التي تمثل عمر الفرد في هذه الدنيا الفانية المحدودة ، بل هي تمتد طولا في الزمان وتمتد عرضا في الآفاق وتمتد عمقا في العوالم ، وتمتد تنوعا في الحقيقة ، عن تلك الفترة التي يراها ويظنها ويتذوقها من يغفلون عن الحياة الآخرة من حسابهم ولا يؤمنون بها.

ان الحياة ـ في التصور الاسلامي ـ تمتد في الزمان الطويل ، فتشمل فترة لا حدود لها وما هذه الحياة المشهودة الا ذرة ضئيلة لا نسبة لها مقابل الحياة الآخرة التي لا تحد بحدود ولا تقدر بمقدار ، ولا تساوي الدنيا ـ بالقياس اليها ـ جناح بعوضة.

والشخصية الانسانية ، في التصور الاسلامي ، يمتد وجودها في هذه الابعاد من الزمان وفي هذه الآفاق من المكان ، ويتعمق تذوقها للحياة ، وقيمتها بقدر ذلك الامتداد الذي لا ينتهي.

ومن هذا الاختلاف في التصور بين المسلم الحقيقي ، وبين سواه

٤٩٢

يبدأ الاختلاف في النظم ويتجلى في منهج حياة متكامل متناسق وتتبين قيمة الحياة الآخرة في بنائه تصورا واعتقادا.

ان انسانا يعيش في هذا المدى المتطاول من الزمان والمكان والعوالم والمذاقات : غير الانسان الذي بعيش في ذلك الحجر الضيق ويصارع الآخرين عليه بلا انتظار لعوض عما يفوته ولا جزاء لما يفعله وما يفعل به ، الا في هذه الارض التي ملؤها شقاء وبلاء وعناء. انما يزاول المسلم هذه الحياة وهو يشعر انه اكبر منها وأعلى. ويستمتع بطيباتها أو يزهد فيها. فهو يستحقر كل ما فيها مقابل ما يعلم من لذائذ ما بعدها فلا يفرح بها لعلمه بحقارتها ولا يأسف عليها لعلمه بعظمة ما بعدها حين فراقها ، ونيل ما لا يقدر بمقدار من جميع الجهات.

اما أهل الدنيا فانهم أشقياء في دنياهم وآخرتهم ، فيأسفون على فوات هذه الحياة المملوءة بالمتاعب والبلايا ، والويل له حينما تتجلى له الحياة الآخرة بعذابها وعقابها الذي لا ينقطع ابدا :

(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا)

هذا مصير الذين كانوا يقولون في الدنيا : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ).

وهذا هو مشهدهم الان ذلك المشهد المخزي المهين وهم موقوفون في حضرة خالقهم العظيم.

(قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) وهو مصير يتوافق مع جرائمهم وسفالتهم البشعة.

وحين ان : (قالُوا : يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها) (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ).

٤٩٣

هذا هو المشهد الناطق بالهول والرهبة والخسارة الضائعة ، تلك الخسارة التي لا عوض لها :

(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ، وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ).

هذه هي القيمة المطلقة الاخيرة في ميزان الله عزوجل للحياة الدنيا ، وللدار الاخرة. وانما أفاد الذين اتقوا ربهم في الحياة الدنيا ، انهم لم يبيعوا أنفسهم وعزهم وآخرتهم ، بهذه الحياة الخداعة الزائفة الزائلة ، المشحونة بالمكاره والمصائب والشقاء.

(وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ) خير للذين يتقون أفلا تعقلون) والذين ينكرون الاخرة اليوم انما هم بهائم بل هم أضل كما وصفهم خالقهم بذلك فقال عزوجل :

(أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً).

(لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ).

(يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ).

(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤))

ان مشركي العرب في جاهليتهم ـ وخاصة تلك الطبقة التي كانت تتصدى للدعوة من قريش ـ لم يكونوا يشكون في صدق محمد ص وآله ، فلقد عرفوه بالصادق الامين ، ولم يعلموا عنه نقصة ، في كل حياته معهم قبل الرسالة (٤٠) سنة ولم تكن تشك أيضا في صحة الرسالة

٤٩٤

وصدق الدعوة ، ولكنهم على الرغم من ذلك كانوا يرفضون اظهار التصديق ، ويرفضون الدخول في الدين الجديد ، انهم لم يرفضوا لانهم يكذبون النبي ص وآله. بل لان في دعوته لهم ودخولهم تحت قيادته خطرا على نفوذهم ومكانتهم وهو السبب الوحيد الذي من أجله قرروا الجحود والاصرار على العناد والامتناع.

(وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥) إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦) وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٧))

البيان : انه الجد الصارم والحسم الجازم الى جانب التطمين والتسلية ، والمواساة ، ثم يبلغ الجد الصارم مداه ، في مواجهة ما عساه يعتمل في نفس رسول الله ص وآله ، من الرغبة المشتاقة الى هداية قومه لعلهم يعتدون ، ولكن في صدد الحسم في هذه الدعوة تجيء تلك المواجهة الشديدة في القرآن المجيد. (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً ...) وانه للهول الهائل ينسكب من خلال الكلمات ، وما يملك الانسان أن يدرك حقيقة هذا الامر ان هذه الكلمات موجهة من رب العالمين الى نبيه الكريم الصابر من أولي العزم ، الذي لقي ما لقي من قومه صابرا محتسبا ، ولم يدع عليهم دعوة نوح (ع).

ولكنه سبحانه ـ لحكمته العليا في الوجود كله ـ خلق هذا الخلق المسمى بالانسان. لوظيفة معينة تقتضي ـ في تدبيره العلوي ـ ان تكون له استعدادات معينة غير استعداد الملائكة ، من بينها التنوع في حدود من القدرة على الاتجاه بالقدرة الذي يكون عدلا معه تنوع الجزاء على الهدى والضلال.

٤٩٥

لذلك لم يجبرهم الله على الهدى بأمر تكويني من عنده ـ يعني يجبرهم جبرا ـ ولكنه أمرهم بالهدى وهيأ لهم أسباب الهدى وترك لهم اختيار الطاعة وثوابها. أو المعصية وعقابها ، في نهاية المطاف ، فاعلم ذلك ولا تكن ممن يجهلون فهم الحقائق فيوقعهم الشيطان في حبائل التضليل

(إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ ، وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ) فهناك فريق من البشر يعيشون بابدانهم وشهواتهم لا غير ، وقد عطلوا فطرتهم الانسانية التي فطرهم الله عليها وقد تموت من شدة الاجرام تلك الفطرة حتى يستحيل معها تقبل الهداية (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ).

هذه هي قصة الاستجابة وعدم الاستجابة من بعض الفئات من عدم ارادتهم لاتباع الهدى.

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩))

البيان : ان الناس ليسوا وحدهم في هذا الكون ، حتى يكون وجودهم صدفة ، وحتى تكون حياتهم سدى ، ان حولهم أحياء أخرى كلها ذات أمر منتظم يوحي بالقصد والتصميم والتدبير ، والحكمة البالغة انه ما من دابة تدب على الارض وتطير في الهواء وتغوص في الماء ، وتعيش في باطن الارض (الا امم امثالكم ، شأنها شأن الانسان في هذه الحياة ، ويحشر الجميع الى خالقهم :

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا) ـ من أفراد هذا البشر فقط ـ (بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ).

ووراء ذلك كله مشيئة الله عزوجل ، التي قضت أن يكون هذا القسم من الانسان قد منح هذا الاستعداد من ترك الاختيار له في

٤٩٦

الطاعة والعصيان ، والجنة والنار ، وعبادة الرحمن الخالق الديان ، أو عبادة الشيطان الذي لا يرضى لمن أضله الا الخلود في النار.

(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (٤١))

البيان : هذا طرف من وسائل المنهج الرباني في خطاب الفطرة الانسانية بهذه العقيدة يضم الى ذلك الطرف الذي سبق بيانه في الفقرة السابقة.

لقد خاطبها هناك بما في عوالم الاحياء من آثار التدبير الالهي والتنظيم البديع ، وبما في علم الله وهو هنا يخاطبها ببأس الله ، وبموقف الفطرة ازاءه حين يواجهها في صورة هائلة تهز للقلوب فيتساقط عنها ركام الشرك وتتعرى بفطرتها من هذا الركام ، الذي يحجب عنها ما هو مستقر في أعماقها :

(أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ) بل تدعونه وحده وتنسون شرككم كله ، هذا هو موقف الفطرة من الشرك الذي يزاولها أحيانا بسبب ما يطرأ عليها من الانحراف نتيجة عوامل شتى تغطي نصاعة الحقيقة الكامنة فيها.

انما هو التاريخ الطويل من العذاب البشع ومن الصراع الوحشي ومن الكبت والقمع.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥))

البيان : انها المواجهة بنموذج من بأس الله سبحانه ، نموذج من الواقع التاريخي ، يعرض الناس لبأس الله وكيف تكون عاقبة تعرضهم له ،

٤٩٧

وكيف يمنحهم الله الفرصة ويسوق اليهم التنبيه ، فاذا نسوا ما ذكروا ولم توجههم النعمة الى اداء الشكر والحذر من النقمة حيث تكون فطرتهم قد فسدت فحقت عليهم كلمة الله ، ونزل بساحتهم الدمار الذي لا ينجو منه ديار.

(وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ) ، والقلب الذي لا ترده الشدة الى الله عزوجل. فلم تعد به نداوة تعصرها الشدة ، وقد مات فلم تعد الشدة تثير فيه الاحساس بالخطر الهائا فلم يعد يستشعر هذه الوخزة الموقظة التي تنبه القلوب الحية لتلقي الاستجابة عند الشدة ، فمن كان حيا ايقظته وفتحت مغاليق قلبه وردته الى ربه الحق وشملته الرحمة الواسعة.

(فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً).

ان الرخاء ابتلاء آخر كابتلاء الشدة ، وهو مرتبة أشد وأقوى على غفلة المجرمين من الابتلاء بالمصائب ، والتعبير القرآني : (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) يصور الارزاق والنعم التي تزيدهم عقوقا واجراما ، لان اجرام المعرضين عن الله يزداد بمقدار قدرتهم عليه فكل ما زاد رزقهم ازداد اجرامهم.

(فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، لقد أخذ الله قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط ، كما أخذ الفراعنة وغيرهم لما ظلموا وأجرموا.

ولقد كان لهذه الامم حضارات ورخاء مخدوعة بما هي فيه خادعة لغيرها فمن لا يعرفون قول فرعون :

٤٩٨

(وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ)

(فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ ، فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ). واذا كان الله قد رفع عذاب الاستئصال عن امة محمد ص وآله عند تماديها في الاجرام فهناك ألوان من العذاب يبتليها به وهم لا يشعرون لقد سلط عليهم الكفار والاشرار يسومونهم سوء العذاب وفي الآخرة عذاب النار وبئس المصير.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩))

البيان : هذا مشهد تصويري يجسم لهم عجزهم أمام بأس الله من جانب كما يصور لهم حقيقة ما يشركون به من دون الله من جانب آخر في موقف الجد.

ولكن هذا المشهد يهزهم من الاعماق ، ان خالق الفطرة يعلم انها تدرك ما في هذا المشهد من جد وما وراءه من حق. (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) وهو مشهد مصحوب بمشهد الصدوف والاعراض والانحراف الهائل عن جادة الطريق المستقيم

(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً) سواء جاءهم العذاب بغتة وهم غارقون في لهوهم ولعبهم أو منغمسون في فسقهم واجرامهم. فان الهلاك سيحل بساحتهم اينما كانوا وكيفما كانوا ، فهم اضعف من أن يستطيعوا ان يدفعوا عن أنفسهم ما أراده الله من سحقهم

٤٩٩

ودمارهم ، ونزول المصائب والبلايا بهم كما نشاهده بالعيان في هذا الزمان :

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ)

تصور واضح بسيط لا تعقيد فيه ولا غموض ، وبيان محكم عن الرسول ووظيفته ، وحدود عمله في هذا الميدان ، تصور يفرد الله تعالى بالالوهية وخصائصها ، ويرد الى مشيئته وقدرته الامر كله ويجعل للانسان ـ من خلال ذلك ـ حرية اتجاهه وتبعة هذا الاتجاه ، ويبين مصائرهم لله وللعصاة بيانا حاسما وينفي كل الاساطير والتصورات الغامضة عن طبيعة الرسول ص وآله وعمله وبذلك ينقل البشرية الى عهد الرشد والعقل :

(وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) فما أسعد من أفادته المواعظ وأيقظته من سبات الغفلة ونشلته من الظلمات الى النور. ومن الضلال الى الهدى فسعد في الدارين وفاز بنعيم الدنيا والآخر وذلك هو الفوز العظيم.

(قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠))

البيان : لقد كان المعاندون من قريش يطلبون من رسول الله ص وآله ان يأتيهم بآية من الخوارق ـ وهم كانوا لا يشكون في صدقه ـ والآية يطلبونها تدل على صدقه وانما هي أوهام تجول في أفكارهم العفنة. كانوا يقولون له صير لنا الجبال ذهبا وفضة أو صير أرض مكة روضات وانهار ، أو انزل علينا ملكا من السماء لنراه ونعرف شكله وأمثال ذلك من الخوارق والخارجة عن موضوع الدعوة الاسلامية.

٥٠٠