تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

ولم تؤثر فيهم الآيات التي ظهرت لهم على يد موسى (ع) ، فاذا هم يطلبون رؤية الله (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) فأماتهم الله تعالى لجرأتهم على هذا الطلب الفظيع ثم أحياهم وعفا عنهم ثم اتخذوا العجل من بعد ذلك. وعكفوا على عبادته. ولكنهم اليهود الذين لا تستشعر قلوبهم الايمان ولو جاءتهم كل آية ومعجزة.

(وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً) ويرد عليهم القرآن المجيد فيقول عزوجل في قتل عيسى (ع) (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ) وقد ذكرنا فيما سبق أن الذى قتلوه وصلبوه هو الذي وشى عليه وان الله تعالى قد رفع عيسى (ع) ونجاه من كيد اليهود ولم يزل حيا وسيرجع مع الحجة المنتظرة ويصلى خلفه كما قد وردت الاخبار الصحيحة عن أهل بيت العصمة (ع).

(وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ). بذلك يحسم القرآن المجيد قصة الصلب ثم يعود بعدها الى تعداد مناكر اليهود وما نالهم عليهم من الجزاء الأليم في الدنيا والآخرة.

(فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) بسبب المنكرات التي فعلوها عاقبهم الله تعالى بان حرم عليهم وشدد في جزائهم فحرم عليهم (شحوم الابل والبقر والغنم)

(لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (١٦٢))

البيان : فالعلم الراسخ والايمان المنير كلاهما يقود أهله الى الايمان بالدين الصحيح كله. وكلاهما يقود صاحبه الى توحيد الله عزوجل كما هو أهله.

اما العلم السطحي فانه يحول بين القلب وبين المعرفة الصحيحة

٣٨١

ويزيدهم ضلالا يقدر علمهم ويحسبون انفسهم علماء. فهم الذين تحول قشور العلم بينهم وبين ادراك دلائل الايمان الصحيح .. أو لا تبرز لهم ـ بسبب علمهم الناقص السطحي ـ علامات الاستفهام.

(إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (١٦٣) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٦٥))

البيان : فهو اذن موكب واحد يتراءى على طريق التاريخ البشري الموصول ورسالة واحدة بهدى واحد للاننار والتبشير. موكب واحد يضم هذه الصفوف المختارة من بين البشر.

كلهم تلقى الوحى من الله. ولكن الاتباع قد غيروا بعد انبيائهم ما اتى به الأنبياء. الا القرآن المجيد فانه محفوظ من الله تعالى لانه حجة الله الدائمة الى يوم القيامة. فهو بلقي كما انزل من عند ربه لم يتغير منه حرف ولا حركة منذ وجد حتى عصرنا وحتى الابد.

(لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ) ولله الحجة البالغة في الانفس والآفاق. ولكنه عزوجل رحمة بعباده وتقديرا لغلبة الشهوات على تلك الاداة العظيمة التي أعطاها لهم ـ وهي اداة العقل ـ اقتضت رحمته وحكمته ان يرسل اليهم الرسل (مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ)

يذكرونهم ويبصرونهم ويحاولون استنفاذ فطرتهم. وتحرير عقولهم من ركام الشهوات التي تحجب عنها دلائل الهدى وموصيات الايمان في الانفس والآفاق (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً).

ـ ان دور العقل ان يتلقى عن الرسالة. ووظيفته ان يفهم ما

٣٨٢

يتلقاه عن الرسول. ومهمة الرسول ان يبلغ ويبين. ويستنفذ الفطرة الانسانية مما يرين عليها من الركام. وينبه العقل الانساني الى تدبر الدلائل وموجبات الايمان في الانفس والآفاق. وان يرسم له منهج التلقي الصحيح. ومنهج النظر الصحيح. وان يقيم له القاعدة التي ينهض عليها منهج الحياة العملية المؤدي الى خير الدنيا والآخرة.

وليس دور العقل ان يكون حاكما على الدين ومقرراته ـ بعد قيام الدليل لديه على صحته ـ وبعد ان يتحقق لديه انه صادر عن الله تعالى ... فهو اذن ملزم بقبول مقررات الدين متى بلغت اليه عن طريق صحيح. ومنى فهم عقله ما المقصود بها وما المراد منها.

ان رسالة الاسلام تخاطب العقل السليم. بمعنى انها توقظه من غفلته وتوجهه لكل خير. وتقيم له منهج النظر الصحيح.

ان دور العقل هو ان يفهم ما الذي يفرضه النص الآلهي على العباد لانه من خالق العباد.

ـ ان الاسلام دين العقل .. نعم بمعنى انه يخاطب العقل بقضاياه. ومقرراته ولا يقهره بل يصحح له منهج النظر ويدعوه الى تدبر دلائل الهدى وموجبات الايمان في الانفس والآفاق.

فاذا قرر الله سبحانه حقيقة في أمر الكون أو أمر الخلائق او في الفرائض او في النواهي. فهذا الذي يقرره الله واجب القبول والطاعة ممن يبلغ اليه.

ان الذي يقول انه (مسلم) اما ان يبلغ ويؤدي هكذا. والا فلا نجاة له في الدنيا ولا في الآخرة.

انه حين يقول : انا مسلم ، ثم لا يبلغ ولا يؤدي كل انواع البلاغ والاداء ، فقد كذب بفعله ما قاله في فمه ، وتبدأ شهادته للاسلام الذي

٣٨٣

يدعو اليه بذاته. ثم بأهل بيته ، ثم بأسرته وعشيرته صورة واقعية من الاسلام الذي يدعو اليه. ثم يخطو خطوة ثانية ، فيدعو الامة لتسير على ما سار عليه. ثم يخطو خطوة ثالثة في جهاده في سبيل الله لازالة العوائق التي تضلل الناس وتفتنهم.

ثم نقف أمام عظمة العدل الذي يرتب للناس حجة على الله عزوجل ، في ارسال الرسل اليهم مبشرين ومنذرين ثم في احتشاد كتاب الكون المفتوح ، وكتاب النفس ، وامتلاء الفطرة بالاشواق والهواتف الى اتصالها ببائها والاذعان له بالتقدير والتقديس ، والتجاوب والتسليم.

ومع هبة العقل الذي يملك أن يحصى الشواهد ويستنبط النتائج ، وعندئذ يلزمها الاقرار والطاعة والاذعان والتسليم لخالقها الحكيم الخبير الرؤوف الرحيم.

ومن العجب ان يأتي زمان على هذا الانسان يزعم لنفسه انه استغنى عن خالقه العظيم ، أو استغنى عن رعايته وعنايته ، وفضله واحسانه ، أو استغنى عن هدايته ودينه ورسله وهنا يتجلى جهل الانسان وانحطاطه الانساني حينما يجول في فكره وخلده هذه الاوهام الوساوس الشيطانية.

(لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (١٦٦) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٦٩))

البيان : ان هذه الاوصاف وهذه التقريرات مع كونها عامة ، تنطبق أول ما تنطبق على حال اليهود وتصور موقفهم من هذا الدين وأهله ، سواء منهم من عاصروا فجر الدعوة في المدينة ، ومن سبقوهم

٣٨٤

ايام موسى (ع) ومن جاءوا بعدهم الى يومنا هذا ، وكل من ينطبق عليه وصف الكفر (قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً) قد ضلوا في الدنيا والآخرة ، ضلالا لا يرتجى معه هدى.

والكفر في ذاته ظلم : ظلم للحق ، وظلم للنفس ، وظلم للناس ، والقرآن المجيد يعبر عن الكفر احيانا بانه الظلم ، كقوله تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) ومعنى أن الله تعالى لا يغفر لهم ، يعني هذا اخبار من علام الغيوب ان هؤلاء سيصرون على ضلالهم وكفرهم فلا يؤمنون بالاسلام ولا يصدقون الرسول محمد ص وآله ومعلوم بان الغفران والعفو والصفح انما يستحقه الانسان اذا رجع عن خطأه وعصيانه وتاب واناب وهو لا يحتمل في حقهم شيء من هذا فهم على ضلالهم. وقد قطعوا على أنفسهم كل طريق للمغفرة وأوصدوا في وجوه أنفسهم كل باب الا طريق جهنم فأرادوه.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧٠))

البيان : وهي دعوة سبقها دحض مفتريات أهل الكتاب وكشف جبلة اليهود وتعنتهم الاصيل حتى مع موسى (ع) نبيهم ومنقذهم. وهنا يبين الله عزوجل انه أرسل رسوله ص وآله بالحق للناس أجمع (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) ولو لم تكن هذه الرسالة عامة للناس لمن وجد ومن سيوجد الى يوم القيامة لما كانت الحجة من الله تعالى تامة على خلقه ولما كانت رسالة الاسلام الحق المبين هي الرسالة الاخيرة وبراهينها معها وحجيتها قائمة للابد لا تزول فكانت بعدل الله ورحمته للعباد ، وكان حقا قول الله سبحانه (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً

٣٨٥

لِلْعالَمِينَ) رحمة في الدنيا ورحمة في الآخرة كما يتجلى من هذا البيان ..

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٧١))

البيان : الغلو هو تجاوز الحد والحق ، وهو ما يدعو الله تعالى ورسوله ص وآله اهل الكتاب ان يرجعوا عن غلوهم اليه ولا يقولون على الله غير الحق ، فيزعموا له ولدا ، سبحانه وتعالى عما يقول المشركون علوا كبيرا ، انما هو اله واحد أحد فرد صمد لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا احد.

وقد تطورت عندهم فكرة الغلو حسب تفكيرهم الاثيم وانحطاطهم الانساني.

واذا كان مولد عيسى (ع) من غير أب عجبا في عرف البشر خارقا لما ألفوه فهذا العجب انما تنشئه مخالفة المألوف ، والمألوف للبشر ليس هو كل الموجود. والقوانين الكونية التي يعرفونها ليست هي كل سنة الله في خلقه ، فالله يخلق السنة ويجريها حسب حكمته ، ويصرفها حسب مشيئته ، ولا حدود لمشيئته. (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ).

يعني أراد ذلك بالارادة التكونية التي لا يتخلف المراد عنها أبدا ، بل تكون فورا بدون امهال. وقد نفخ الله تعالى في طينة آدم (ع) فصار انسانا بدون تأخير. ان الذي أوجد آدم (ع) من دون ابوين ، قادر على ان يوجد غيره من دون أب ، وهذا الكلام البسيط الواضح أولى من تلك الاساطير التي لا تنتهي عن ألوهية المسيح (ع) لمجرد انه جاء من غير أب ، وعن ألوهية الاقانيم الثلاثة كذلك .. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

٣٨٦

وهذه الدعوة للايمان بالله ورسله ، ومن بينهم عيسى بوصفه رسولا ، ومحمد بوصفه خاتم النبيين (ع) ـ والانتهاء عن تلك الدعاوى والاساطير تجيء في وقتها المناسب بعد هذا البيان الكاشف المريح.

سبحانه (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ) والولادة امتداد للفاني ، وخروج من العدم ، وحاشا لله أن يشمله عدم أو يلحقه فناء ، وعلى البشر أن يرتبطوا كلهم بالله ارتباط العبودية للمعبود ، وهو يرعاهم أجمعين ولا حاجة لافتراض قرابة بينهم وبينه عن طريق آخر. فالصلة قائمة بالرعاية منه لعباده في قضاء حوائجهم واصلاح أحوالهم وشؤونهم ، لانه خالقهم ومولاهم ولا بد من عناية المولى بعبيده.

(لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧٣)

يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (١٧٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (١٧٥))

البيان : لقد عنى الاسلام عناية بالغة بتقرير وحدانية الله عزوجل وحدانية لا تتلبس بشبهة شرك أو مشابهة في صورة من الصور ، وعنى بتقرير ان الله سبحانه ليس كمثله شيء فلا يشترك معه شيء.

ويصحح القرآن المجيد عقيدة المنحرفين وبالخصوص عقيدة النصارى (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ) ولكن المسألة عند هؤلاء العلماء والاتباع ، ليست مسألة عقيدة وجدانية يستقر فيها القلب

٣٨٧

على هذا الاساس الركين فحسب ، انما هي كذلك مسألة نظام حياة وهنالك مصالح خاصة وأغراض.

ولقد ظل الحق المقدس للكنيسة والبابوات في جانب وللاباطرة الذين زعموا لأنفسهم حقا مقدسا كحق الكنيسة في جانب .. ظل هذا الحق أو ذاك قائما في اوروبا باسم (الابن) أو مركب (الاقانيم) حتى جاء (الصليبيون) الى أرض الاسلام مغيرين.

فلما ارتدوا أخذوا معهم من أرض الاسلام بذرة الثورة (الحق المقدس) وكانت فيما بعد ثورات (مارتن لوثر) و (كالفن) و (زنجلي) المسماة بحركة الاصلاح .. على أساس من تأثير الاسلام ، ووضوح التصور الاسلامي ، نفى القداسة عن بني الانسان ، ونفي التفويض في السلطة ، لانه ليست هناك الا ألوهية وعبودية في عقيدة الاسلام ..

ان المسيح بن مريم (ع) لن يتعالى عن أن يكون عبدا لله لانه (ع) وهو نبي الله ورسوله ، خير من يعرف حقيقة الالوهية وحقيقة العبودية ، وانهما ماهيتان مختلفتان لا تمتزجان وهو خير من عرف الله أنه المفتقر دائما الى فيض جوده وكرمه ، وله النعم السابقة عليه التي لا تحصى وهو خير من عرف العبودية التي هي غذاء لروحه ونفسه وهي المرتبة التي يصف الله تعالى بها رسله ، وهم في أرقى حالاتهم وأكرمها عنده ، وكذلك الملائكة المقربين ، شأنهم شأن عيسى (ع) وسائر الانبياء ـ فما بال جماعة من اتباع المسيح يأبون له ما يرضاه لنفسه ويعرفه حق المعرفة.

والذين يستنكفون عن العبودية لله يذلون لعبوديات في الارض لا تنتهي يذلون لعبودية الهوى والشهوات ، ويذلون لعبودية البشر من أمثالهم ويحنون لهم الجباه ، ويحكمون في حياتهم وأنظمتهم وشرائعهم وموازينهم عبيد مثلهم من البشر وهم سواء امام الخالق العظيم المحسن

٣٨٨

الكريم. ولكنهم يتخذونهم آلهة لهم من دون الله ، هذا في الدنيا. اما في الآخرة (فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً).

انها القضية الكبرى في العقيدة السماوية تعرضها هذه الآية ، في هذا السياق في مواجهة انحراف اهل الكتاب من النصارى في ذلك الزمان ، وفي مواجهة الانحرافات كلها الى آخر الزمان.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) نور يتجلى تحت أشعته الكاشفة حقائق الاشياء ، واضحة ويبدو مفرق الطريق بين الحق والباطل محددا مرسوما ، في داخل النفس وفي واقع الحياة سواء ، حيث تجد النفس من هذا النور ما ينير جوانبها أولا ، فترى كل شيء فيها ومن حولها واضحا.

وحين يعيش الانسان بروحه في الجو القرآني فترة ، ويتلقى منه تصوراته وقيمه وموازينه يحس يسرا وبساطة ووضوحا في رؤية الامور ، ويشعر أن مقررات كثيرة كانت قلقة في حسه ، قد راحت تأخذ أماكنها في هدوء ، وتلتزم حقائقها في يسر ، وتنفي ما علق بها من المتطفلة لتبدو في براءتها الفطرية ، ونصاعها كما خرجت من يد الله العليا ، وحكمته البالغة.

(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦))

البيان : وهكذا تختم السورة التي بدأت بعلاقات الاسرة ، وتكافلها الاجتماعي وتضمنت الكثير من التنظيمات الاجتماعية في ثناياها ، وتختم بكلمة أحكام الكلالة ، ولا بد في تفصيل هذه الاحكام بالرجوع الى كتب الفقه فهي المتكفلة ببيانها التفصيلي على الموازين الشرعية الالهية والحمد لله رب العالمين.

٣٨٩

سورة المائدة (٥) وعدد آياتها (١٢٠) آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١)

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ

الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ

الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً

فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣))

البيان : ان هذا التحريم والتحليل في الذبائح وفي أنواعها وفي الاماكن وفي الاوقات .. ان هذا كله من (العقود) وهي عقود قائمة على عقد الايمان ابتداء ، فالذين آمنوا يقتضيهم عقد الايمان أن يتلقوا التحريم والتحليل من الله وحده. ولا يتلقوا في هذا شيئا من غيره. ومن ثم نودوا هذا النداء ، في مطلع هذا البيان ، وأخذ بعده في بيان الحلال والحرام (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ).

٣٩٠

وبمقتضى هذا التحليل من الله وبمقتضى اذنه وشرعه ـ لا من أي مصدر آخر لا استمداد من أي أصل آخر ـ صار حلالا لكم ومباحا أن تأكلوا من كل ما يدخل تحت مدلول بهيمة الانعام. (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) والتحريم هنا ينطبق ابتداء على عملية الصيد ذاتها ، فالاحرام للحج او للعمرة تجرد عن أسباب الحياة العادية وأساليبها المألوفة ، وتوجه الى الله في بيته الحرام ، الذي جعله الله مثابة الامان .. ومن ثم ينبغي عنده الكف عن بسط الأكف الى أي حي من الاحياء ، وهي فترة نفسية ضرورية للنفس البشرية تستشعر فيها صلة الاكف الى صلة الحياة بين جميع الاحياء.

فالهدي هو الذي يجب نحره في منى أيام الحج او العمرة ، فينهي بها حجه أو عمرته ، وهي ناقة ، أو بقرة ، أو شاة ، وعدم حلها أن ينحرها لأي غرض آخر غير ما سبقت له.

والقلائد ، وهي الانعام المقلدة التي يقلدها اصحابها يضعون في رقبتها قلادة علام الهدى. (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ، وَالدَّمُ ، وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ، وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ ، وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ ، وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ ، وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ، وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ).

اما (الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) فقد سبق بيان حكمها ، وتعليل هذا الحكم في حدود ما يصل اليه العلم البشري بحكمة التشريع الالهي ، عند استعراض آية سورة البقرة الخاصة بهذه المحرمات.

فقد قرر العلم الالهي ان هذه المطاعم ليست طيبة ، وهذا وحده يكفي فالله لا يحرم الا الخبائث والا ما يؤثر على القوى الروحية ، سواء علم الناس بضررها أم جهلوه ، وهل علم الناس كل ما فيه الضرر.

٣٩١

وأما (ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ) ، فهو محرم لمناقضته للايمان بالله ، واما (الْمُنْخَنِقَةُ) فهي التي تموت خنقا و (الْمَوْقُوذَةُ) (هي التي تضرب بعصا حتى تموت) و (الْمُتَرَدِّيَةُ) (هي التي تتردى من مكان عالي فتموت) و (النَّطِيحَةُ) (هي التي نطحتها دابة اخرى فقتلتها). و (ما أَكَلَ السَّبُعُ) (هي كل حيوان تعدى على شاة او غيرها) وهناك تفاصيل يرجع بها الى كتب الفقه فهي المتكفلة ببيان ذلك بالتفصيل.

واما (ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) (هي أصنام كانت وكان المشركون يذبحون لها قربانا).

واما الاستقسام بالازلام (هي قداح كانوا يسبشرونها في اقدامهم على ما يريدون فعله أو تركه) وقيل أن ذلك نوع من الميسر ، والحيوان الذي يتقامرون عليه فيربحه بعضهم فهو محرم.

وأما قوله (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) ـ و (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ...)

انما نزل بعد ذلك بعد أن نصب النبي ص وآله عليا (ع) بعد رجوعه من حجة الوداع في مكان يسمى غدير خم بين مكة والمدينة ، وهو مكان مشهور وموقف مشهور. وانما اخبار الله تعالى باكمال دينه بعد نصب علي خليفة لرسوله بالنص الاله. لان عليا (ع) هو باب مدينة علم الرسول وخازن علمه ومعدن علمه ولانه هو مفسر للقرآن كما أراد الله ورسوله ولولاه لما تمت المنفعة من بيان آيات القرآن ولذا كان يقول (ع) (انا كتاب الله الناطق ، والقرآن كتاب الله الصامت وانا أفيد لكم من القرآن) وهذا معنى اكمال الدين.

وهي آخر ما انزل من القرآن باتفاق المفسرين. (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ). يعني يأسوا من ان يقدروا على تبديله أو

٣٩٢

تغييره أو الاعتراض عليه بوجه من وجوه مكرهم (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً).

فقال النبي ص وآله : حينما أنزلت هذه الآية يوم غدير خم بعد نصب علي (ع) اميرا للمؤمنين وخليفة للمسلمين بعد رسول الله مباشرة. قال ص وآله :

الحمد لله على كمال الدين وتمام النعمة ورضى الرب الجليل بولاية أخي وابن عمي امير المؤمنين (ع).

ان ارتضاء الله الاسلام دينا لهذه الامة ، يقتضي منها ابتداء ان تدرك قيمة هذا الاختيار. ثم تحرص على الاستقامة على هذا الدين جهد ما في الطاقة من وسع واقتدار ، والا فما أنكد وما أحمق من يهمل ما رضيه الله تعالى له ، ليختار لنفسه غير ما اختاره الله له.

وانها لجريمة نكراء لا تذهب بغير جزاء ، ولا يترك صاحبها يمضي ناجيا أبدا ، وقد رفض ما ارتضاه الله له. فاما الذين عرفوا هذا الدين ثم تركوه أو رفضوه ، واتخذوا لانفسهم مناهج في الحياة غير المنهج الذي ارتضاه الله لهم ، فلن يتركهم الله ابدا ، ولن يهملهم ابدا ، حتى يذوقوا وبال أمرهم ، وهم مستحقون.

ولا نملك أن نمضي أكثر من هذا في هذه الوقفات امام تلك الكلمات الهائلة ، فالامر يطول ، فنقنع بهذه الكلمات في هذا البيان ، ونمضي مع سياق السورة الى مقطع جديد.

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤)

الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ

٣٩٣

قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥))

البيان : ان هذا السؤال من الذين آمنوا عما أحل لهم ، يصور حالة نفسية لتلك الجماعة المختارة التي سعدت بخطاب الله تعالى لها أول مرة ، ويشي بما خالج نفسية تلك الجماعة. من التحرج والتوقي من كل ما كان في الجاهلية ، خشية أن يكون الاسلام قد حرمه ، وبالحاجة الى السؤال عن كل شيء للتثبت من أن المنهج الجديد يرتضيه ويقره.

والناظر في تاريخ هذه الفترة يلمس ذلك التغيير العميق الذي أحدثه الاسلام في نفس المسلم لقد هزها هزا عنيفا ، فنفض عنها كل رواسب الجاهلية ، لقد أشعر المسلمين الذين التقطهم من سفح الجاهلية ، ليرتفع بهم الى القمة السامقة ، انهم يولدون من جديد ، وينشأون من جديد. كما جعلهم يحسون احساسا عميقا بضخامة النقلة وعظمة الوثبة ، وجزالة النعمة ، وجلالة المرتقى ، فأصبح همهم أن يتكيفوا وفق هذا المنهج الرباني الذي لمسوا بركته عليهم وان يحذروا مخالفته ، وكان التحرج والتوجس من كل ما ألفوه في الجاهلية هو ثمرة هذا الشعور العميق وثمرة تلك الهزة العنيفة ، لذلك راحوا يسألون الرسول ص وآله بعد ما سمعوا آيات التحريم : (ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ) ليكونوا على يقين من حله قبل أن يقربوه ، وجاءهم الجواب :

(قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) ، وهو جواب يستحق التأمل الهائل ، انه يلقى في حسهم هذه الحقيقة انهم لم يحرموا طيبا ابدا ، ولم يمنعوا الا عن الخبيث ، وان كل الطيبات لهم حلال. ولم يحرم عليهم الا الخبائث.

والله يذكر المؤمنين بنعمته عليهم في حلية ما امسكته الجوارح

٣٩٤

المكلبة المعلمة ، فقد علموها مما علمهم الله ، فالله هو الذي سخر لهم هذه الجوارح وأقدرهم على تعليمها. وهي لفتة قرآنية تصور اسلوب التربية القرآنية ، وتشي بطبيعة المنهج الحكيم الذي لا يدع لحظة تمر ولا مناسبة تعرض حتى يوقظ في القلب البشري الاحساس بهذه الحقيقة الاولى ، حقيقة ان الله تعالى هو الذي اعطى كل شيء. هو الخالق والمعلم والمسخر ، واليه يرجع الفضل كله في كل حركة وكسب وامكان يصل اليه المخلوق ، فلا ينسى المؤمن لحظة ان كل شيء من الله والى الله ، ولا يغفل المؤمن لحظة عن رؤية يد الله وفضله في كل عزمة نفس يخرج منه.

والله تعالى يعلم المؤمنين أن يذكروا اسم الله على الصيد الذي تمسك به الجوارح ، ويكون الذكر عند اطلاق الجارح ، اذ انه قد يقتل الصيد بنابه أو ظفره ، فيكون هذا بمثابة الذبح له ولا بد بالرجوع الى كتب الفقه في بيان التفصيل الكامل لحلية هذا الصيد.

(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) ـ (وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ)

فهو مختص بالحبوب وصحة الشراء منهم بعد أن كانت مقاطعة بينهم وبين المسلمين وبعد دخول النصارى واليهود في معاهدة المسلمين رفع الحذر وأجاز الشراء منهم واما نكاح أهل الكتاب فانه منسوخ بقوله عزوجل : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ)

وبقوله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) وقيل كان المسلمون لا يتزوجوا بنات أهل الكتاب اذا أسلمن لسبقهن بالكفر فأمر الله بزواجهن بعد اسلامهن ، وعلى كل حال فزواج المسلم بنساء أهل الكفر مع بقائهن على كفرهن غير ثابت حقيقة والاحتياط لازم.

(وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) ان هذه التشريعات كلها

٣٩٥

منوطة بالايمان وتنفيذها كما هي هو الايمان ، فالذي يعدل عنها انما يكفر بالايمان ويستره ويجحده.

والحبوط مأخوذ من انتفاخ الدابة وموتها اذا رعت مرعى ساما ، وفي الآخرة تكون الخسارة. وهذا التعقيب الشديد والتهديد المخيف يجيء على أثر الحكم الشرعي بحلال وحرام في المطاعم والمناكح بدون دليل فيدل على ترابط جزئيات هذا المنهج في الدين الذي لا هوادة في مخالفته.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦))

البيان : ان الحديث عن الصلاة والطهارة الى جانب الحديث عن الطيبات من الطعام والطيبات من النساء ، وان ذكر حكم الطهارة الى جانب أحكام الصيد والاحرام والتعامل مع الذين صدوا المسلمين عن المسجد الحرام ، ان هذا لا يجيء اتفاقا ولا مصادفة لمجرد السرد ولا يجي كذلك بعيدا عن جو السياق وأهدافه ، انما هو يجيء في موضعه من السياق ولحكمته في نظم القرآن.

انها ـ اول ـ لفتة الى لون آخر من الطيبات ، طيبات الروح الخاصة ، الى جانب طيبات الطعام والنساء ، لون يجد فيه قلب المؤمن ما لا يجده في سائر المتاع. انه متاع اللقاء مع الله في جو من الطهر والخشوع والنقاء.

فلما فرغ من الحديث عن متاع الطعام والزواج ، ارتقى الى متاع

٣٩٦

الطهارة والصلاة ، استكمالا لألوان المتاع الطيبة في حياة الانسان .. والتي بها يتكامل وجود (الانسان في هذه الحياة).

ثم هناك لفتة ثانية : هي أن احكام الطهارة والصلاة كأحكام الطعام والنكاح والتعامل مع الناس في السلم والحرب. مع القريب والبعيد ، مع المسلم والكافر. كلها عبادة لله عزوجل فلا انفصام في هذا الدين بين ما أصطلح أخيرا في الفقه ـ على تسميته ـ باحكام العبادات ـ وما اصطلح على تسميته بأحكام المعاملات ، فهي مجرد اصطلاح صناعي لا وجود لها في أصل المنهج الرباني ، ولا في أصل الشريعة الاسلامية ، ان منهج الله يتألف من هذا وذاك على حد سواء. وهذه هي الفتة التي يشير اليها النسق القرآني ، وهو يوالي عرض هذه الاحكام المتنوعة في السياق

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ)

ان الصلاة لقاء مع الله ، ووقوف بين يديه ، سبحانه ، ودعاء مرفوع اليه ونجوى وأسرار فلا بد لهذا الموقف من استعداد : من تطهر جسدي ، يصاحبه تهيؤ روحي ، ومن هنا كان الوضوء ـ فيما نحسب والعلم لله ـ وهذه هي فرائضه للنصوص في هذه الآية :

غسل الوجه. غسل اليدين الى المرافق. مسح الرأس والرجلين الى الكعبين)

والبيان والتفصيل لكيفية الغسل والترتيب تختص بها كتب الفقه بالبيان التفصيلي.

(ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ، وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)

والتطهر حالة واجبة للقاء الله ـ كما أسلفنا ـ وهو يتم في

٣٩٧

الوضوء والغسل جسما وروحا. وتقودنا حكمة الوضوء والغسل والتيمم التي كشف النص عنها هنا الى الوحدة التي يحققها الاسلام في الشعائر والشرائع على السواء ، فليس الوضوء والغسل مجرد تنظيف للجسد ليقول بعض متفلسفة هذه الايام ، اننا لسنا في حاجة الى هذه الاجراءات ، كما كان العرب البدائيون ، لاننا نستحم وننظف أعضاءنا بحكم الحضارة.

انما هي أفعال مزدوجة لتوحيد نظافة الجسم وطهارة الروح الحاصل بنية التقرب الى الله تعالى.

(وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧))

البيان : وكان المخاطبون بهذا القرآن المجيد ، أول مرة يعرفون ـ كما قدمنا ـ قيمة نعمة الله عليهم بهذا الدين إذ كانوا يجدون حقيقتها في كيانهم ، وفي حياتهم وفي مجتمعهم وفي مكانهم من البشرية كلها من حولها ، ومن ثم كانت الاشارة الى هذه النعمة تكفي اذ كانت توجه القلب مباشرة يعرفها النظر الى حقيقة ضخمة قائمة في حياتهم ملموسة.

ثم يكلهم الله تعالى في هذا الى التقوى الى احساس القلب بالله ومراقبته في خطواته.

(وَاتَّقُوا اللهَ ، إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) ، ذات الصدور الملازم لها ، وهي كناية عن المشاعر الخفية ، والخواطر الكامنة ، والاسرار الدفينة ، التي لها صفة الملازمة للصدور.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٨) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٠))

٣٩٨

البيان : لقد نهى الله تعالى الذين آمنوا من قبل أن يحملهم الشنآن لمن صدوهم عن المسجد الحرام ، على الاعتداء ، وكانت هذه قمة في ضبط النفس والسماحة ، يرفعهم الله اليها بمنهجه التربوي الرباني القويم ، فهاهم أولاء ينهون أن يحملهم الشنآن على أن يميلوا عن العدل وهي قمة أعلى مرتقى وأصعب على النفس وأشقى. فهي مرحلة وراء عدم الاعتداء والوقوف عنده ، تتجاوزه الى اقامة العدل مع الشعور بالكره (وَاتَّقُوا اللهَ ، إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ).

ولقد قامت هذه الامة القوامة على البشرية ، مهما يكن فيها من مشقة وجهاد ، وأدت تكاليفها هذه ، يوم استقامت على الاسلام ، ولم تكن هذه في حياتها مجرد وصايا ، ولا مجرد مثل عليا.

ولكنها كانت واقعا من المواقع في حياتها اليومية ، واقعا لم تشهد البشرية مثله من قبل. ولا من بعد. والامثلة وعاء التاريخ في هذا المجال كثيرة مستفيضة ، وكلها تشهد بان هذه الوصايا والفرائض الربانية ، قد احتلت في حياة هذه الامة منهجا في عالم الواقع يؤدي ببساطة ، ويستحيل ان يرى الناس أن هناك طريقا آخر سواه.

وقيمة الدعوة الدينية الى المبادىء التي تدعو اليها ، هو سلطان الدين المستمد من سلطان الله العظيم ، وما أقبح الناس حين يتركونها ويستمدون مبادئهم من أناس مثلهم.

ثم أن قيمة هذه (الوصايا) في الدين انها تتكامل مع (الاجراءات) لتكييف الحياة. فهو لا يلقيها مجردة في الهواء ، وفي ظل هذا النظام ينفذ الدين وصاياه العادلة المستقيمة.

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ .. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ)

٣٩٩

انه الجزاء الذي يعوض الخيرين عما يفوتهم من عرض الدنيا ـ وهم ينهضون بالتكاليف العليا والله يعلم طبيعة الخلق فيمدهم بالوعيد الخير والمغفرة والاجر العظيم ، ثم يهدد المخالفين والمفسدين في الارض بالعذاب الشديد والجحيم التي عذابها لا يفنى ولا يزول.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١))

البيان : روي أن رسول الله ص وآله غزا جمعا من بني ذبيان ومحارب بذي أمر فتحصنوا برؤوس الجبال ونزل رسول الله ص وآله بحيث يراهم ، فذهب لحاجته فأصابه مطر فبل ثوبه فنشره على شجرة واضطجع تحته والاعراب ينظرون اليه فجاء سيدهم دعثور بن الحرث حتى وقف على رأسه بالسيف مشهورا ، فقال يا محمد من يمنعك مني اليوم ، فقال ص وآله : الله ، فدفع جبرائيل في صدره فوقع السيف من يده ، فأخذه رسول الله ص وآله وقام على رأسه. فقال : من يمنعك مني قال لا أحد وانا أشهد أن لا اله الا الله وان محمدا رسول الله فنزلت الآية.

(وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٢) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣) وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٤))

البيان : (إِنِّي مَعَكُمْ) وهو وعد عظيم فمن كان الله معه ، فلا

٤٠٠