زبدة التّفاسير - ج ٥

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٥

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-07-8
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٥٩٦

قوله : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) (١). والمراد : أوتينا من كلّ شيء يؤتى الأنبياء والملوك.

روى الواحدي بالإسناد عن محمّد بن جعفر بن محمّد ، عن أبيه ، قال : اعطي سليمان بن داود ملك مشارق الأرض ومغاربها ، فملك سبعمائة سنة وستّة أشهر.

ملك أهل الدنيا كلّهم ، من الجنّ والإنس والشياطين ، والدوابّ والطير والسباع.

واعطي علم كلّ شيء ، ومنطق كلّ شيء. وفي زمانه صنعت الصنائع المعجبة الّتي سمع بها الناس ، وذلك قوله : (عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ).

(إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) أي : فضل لا يخفى على أحد. وهذا قول صادر منه على سبيل الشكر والمحمدة ، كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنا سيّد ولد آدم ولا فخر» أي : أقول هذا القول شكرا ، ولا أقوله فخرا. ويحتمل أن يكون من قول الله سبحانه ، على وجه الإخبار بأنّ ما ذكره هو الفضل المبين.

(وَحُشِرَ) وجمع (لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) يحبس أوّلهم على آخرهم ، أي : توقف سلاف (٢) العسكر حتّى تلحقهم التوالي ، فيكونوا مجتمعين لا يتخلّف منهم أحد. عن ابن عبّاس. ومعنى ذلك : أنّ كلّ صنف من جنوده وزعة (٣) ترد أوّلهم على آخرهم ، ليتلاحقوا ولا يتفرّقوا.

روي : أنّ معسكره عليه‌السلام كان مائة فرسخ في مائة ، خمسة وعشرون للجنّ ، وخمسة وعشرون للإنس ، وخمسة وعشرون للطير ، وخمسة وعشرون للوحش.

وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب ، فيها ثلاثمائة منكوحة ، وسبعمائة سريّة. وقد نسجت له الجنّ بساطا من ذهب وإبريسم ، فرسخا في فرسخ. وكان

__________________

(١) النمل : ٢٣.

(٢) سلاف العسكر : مقدّمته.

(٣) الوزعة : أعوان الملك وشرطه ، الولاة المانعون من محارم الله تعالى.

٨١

يوضع منبره في وسطه ، وهو من ذهب ، فيقعد عليه وحوله ستّمائة ألف كرسي من ذهب وفضّة. فيقعد الأنبياء على كراسيّ الذهب ، والعلماء على كراسيّ الفضّة ، وحولهم الناس ، وحول الناس الجنّ والشياطين. وتظلّه الطير بأجنحتها حتّى لا تقع عليه الشمس. وترفع ريح الصبا البساط فتسير به مسيرة شهر من الصباح إلى الرواح ، ومن الرواح إلى الصباح.

ويروى أنّه كان يأمر الريح العاصف تحمله ، ويأمر الرخاء تسيّره. فأوحى الله إليه وهو يسير بين السماء والأرض : أنّي قد زدت في ملك ، لا يتكلّم أحد بشيء إلّا ألقته الريح في سمعك. فيحكى أنّه مرّ بحرّاث فقال : لقد أوتي آل داود ملكا عظيما. فألقته الريح في أذنه ، فنزل ومشى إلى الحرّاث ، وقال : إنّما مشيت إليك لئلّا تتمنّى ما لا تقدر عليه. ثمّ قال : لتسبيحة واحدة يقبلها الله تعالى ، خير ممّا أوتي آل داود. فركب على الريح ورجع إلى معسكره ، وأخذ في السير مع جنوده.

(حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ) هو واد في الشام كثير النمل. وتعدية الفعل بـ «على» إمّا لأنّ إتيانهم من فوق ، أو لأنّ المراد قطع الوادي وبلوغ آخره. من قولهم : أتى على الشيء ، إذا أنفده وبلغ آخره. كأنّهم أرادوا أن ينزلوا منقطع الوادي.

(قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) حين رأتهم متوجّهين إلى الوادي ، أي : صاحتهم بصوت خلق الله لها. ولمّا كان صوتها مفهوما لسليمان عبّر عنه بالقول. ولمّا صاحت بهذه الصيحة نبّهت بها ما بحضرتها من النمال أيضا. وكانوا مقولا لهم كما في أولي العقل ، فشبّه ذلك بمخاطبة العقلاء ومناصحتهم ، وأجروا مجراهم في إسناد القول وضمير العقلاء. مع أنّه لا يمتنع أن خلق الله فيها العقل والنطق.

وقيل : كانت رئيسة النمل ، اسمها طاخية ، مأخوذة من ليلة طخياء ، أي : سوداء. وقيل : اسمها منذرة. وروي : أنّها كانت عرجاء ، تمشي على ثلاث قوائم ،

٨٢

فأمرت رعاياها بالدخول إلى مساكنهم.

ثمّ ثبّت سبب الدخول بقولها : (لا يَحْطِمَنَّكُمْ) لا يكسرنّكم (سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ) ظاهره نهي لهم عن الحطم ، والمراد نهيها عن التوقّف بحيث يحطمونها ، كقولهم : لا أرينّك هاهنا. فهو استئناف مبيّن للأمر ، أو بدل منه لا جواب له ، فإنّ النون لا تدخله في السعة. (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بأنّهم يحطمونكم ، إذ لو شعروا لم يفعلوا. وقيل : استئناف ، أي : فهم سليمان والقوم لا يشعرون.

وقال في المجمع : «وهذا يدلّ على أنّ سليمان وجنوده كانوا ركبانا ومشاة على الأرض ، ولم تحملهم الريح ، لأنّ الريح لو حملتهم بين السماء والأرض ، لما خافت النمل أن يطأها بأرجلهم. ولعلّ هذه القصّة كانت قبل تسخير الله الريح لسليمان عليه‌السلام» (١).

وقال في الكشّاف : «وروي أنّ النملة أحسّت بصوت الجنود ولا تعلم أنّهم في الهواء ، فأمر سليمان الريح فوقفت بجنوده حتّى دخل النمل مساكنه» (٢). انتهى كلامه.

إن قيل : كيف عرفت النملة سليمان وجنوده حتّى قالت ما قالت؟

قلنا : إذا كانت مأمورة بطاعته ، فلا بدّ أن يخلق لها من الفهم ما تعرف به أمور طاعته. ولا يمتنع أن يكون لها من الفهم ما يستدرك به ذلك. وقد علمنا أنّه تشقّ ما تجمع من الحبوب بنصفين ، مخافة أن يصيبها الندى فتنبت. وتكسر الكزبرة أربع قطع ، لعلمها أنّ الكزبرة إذا شقّت بنصفين تنبت. فمن هداها إلى هذا فإنّه يهديها إلى تمييز ما يحطمها ممّا لا يحطمها.

وروي : أنّ الريح ألقت في سمع سليمان هذه المقالة من ثلاثة أميال.

__________________

(١) مجمع البيان ٧ : ٢١٥.

(٢) الكشّاف ٣ : ٣٥٨.

٨٣

(فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً) شارعا في الضحك وآخذا فيه (مِنْ قَوْلِها) يعني : أنّه قد تجاوز حدّ التبسّم إلى الضحك. وكذلك ضحك الأنبياء. وذلك لتعجّبه من حذرها ، واهتدائها إلى مصالحها. أو لسروره بما خصّه تعالى به ، من إدراكه همسها ، وفهمه غرضها ، وإحاطته بقصدها. ومن دلالة قولها على ظهور رحمته ورحمة جنوده وشفقتهم ، وعلى شهرة حاله وحالهم في باب العدل ، حيث بلغ في الظهور مبلغا عرفته النملة ، حيث قالت : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ). يعني : أنّهم لو شعروا لم يفعلوا ، ولذلك سأل توفيق شكره.

(وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ) اجعلني أزع شكر نعمتك عندي ، أي : أكفّه وأرتبطه لا ينفلت عنّي ، بحيث لا أنفكّ عنه (الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ) من تعليم منطق النمل وسائر الطيور. أدرج فيه ذكر ووالديه تكثيرا للنعمة أو تعميما لها ، فإنّ النعمة على الوالدين نعمة على الولد ، والنعمة عليه يرجع نفعها إليهما ، سيّما الدينيّة ، لأنّه إذا كان تقيّا نفعهما بدعائه وشفاعته ، وبدعاء المؤمنين لهما كلّما دعوا له ، وقالوا : رضي الله عنك وعن والديك.

(وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً) أي : وفّقني لأن أعمل صالحا في المستقبل (تَرْضاهُ) إتماما للشكر ، واستدامة للنعمة (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) في عدادهم في الجنّة.

قال ابن عبّاس : يعني : إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ومن بعدهم من النبيّين ، أي : اثبت اسمي مع أسمائهم ، واحشرني في زمرتهم.

روي : أنّ نمال سليمان كأمثال الذئاب والكلاب.

(وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١) فَمَكَثَ

٨٤

غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦))

ولمّا بيّن قصّة النمل أخبر عن قصّة الهدهد ، فقال : (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ) وتعرّفها فلم يجد فيها الهدهد (فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ) «أم» منقطعة ، فإنّه لمّا نظر إلى مكان الهدهد فلم يره ، ظنّ أنّه حاضر ولا يراه لساتر أو غيره ، فقال : مالي لا أراه. ثمّ احتاط فلاح له أنّه غائب ، فأضرب عن ذلك وأخذ يقول : أهو غائب؟ كأنّه يسأل عن صحّة ما لاح له. ونحوه قولهم : إنّها لإبل أم شاء. والكلام من باب صنعة القلب. والأصل : ما للهدهد لا أراه؟ كقولهم : مالي أراك كئيبا؟ أي : مالك كئيبا؟

روي : أنّ سليمان عليه‌السلام حين تمّ له بناء بيت المقدس تجهّز للحجّ بجنوده ، فوافى الحرم وأقام به ما شاء. وكان يقرّب كلّ يوم طول مقامه بخمسة آلاف ناقة ، وخمسة آلاف بقرة ، وعشرين ألف شاة. ثمّ عزم على السير إلى اليمن ، فخرج من مكّة صباحا يؤمّ سهيلا ، فوافى صنعاء وقت الزوال ـ وذلك مسيرة شهر ـ فرأى أرضا حسناء أعجبته خضرتها ، ليتغدّى ويصلّي ، فلم يجدوا الماء. وكان الهدهد

٨٥

قناقنه (١) ، أي : دليله العالم البصير بالماء تحت الأرض ليحفر القنى (٢). والجمع القناقن بالفتح. وكان يرى الماء من تحت الأرض كما يرى الماء في الزجاجة ، فيجيء الشياطين فيسلخونها كما يسلخ الإهاب ، ويستخرجون الماء.

روى العيّاشي بالإسناد قال : «قال أبو حنيفة لأبي عبد الله عليه‌السلام : كيف تفقّد سليمان الهدهد من بين الطير؟ قال : لأنّ الهدهد يرى الماء في بطن الأرض ، كما يرى أحدكم الدهن في القارورة. فنظر أبو حنيفة إلى أصحابه وضحك. قال أبو عبد الله عليه‌السلام : ما يضحكك؟ قال : ظفرت بك. قال : وكيف ذاك؟ قال : الّذي يرى الماء في بطن الأرض ، لا يرى الفخّ في التراب حتّى يؤخذ بعنقه؟ قال أبو عبد الله عليه‌السلام : يا نعمان أما علمت أنّه إذا نزل القدر أغشي البصر؟».

فلمّا تفقّد سليمان الهدهد ولم يجده ، أو عده على غيبته ، فقال : (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً) لأؤدّبنّه تأديبا بليغا ليعتبر به أبناء جنسه. وقيل : كان عذاب سليمان للطير أن ينتف ريشه ويشمّسه ، أو يلقى للنمل تأكله ، أو يودعه القفص ، أو يفرّق بينه وبين إلفه ، أو يلزمه صحبة الأضداد. وعن بعضهم : أضيق السجون معاشرة الأضداد. أو يلزمه خدمة أقرانه. على اختلاف الأقوال للمفسّرين والمؤرّخين.

(أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ) لأقطّعنّ حلقه عقوبة على عصيانه (أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) بحجّة تبين عذره. والحلف في الحقيقة على أحد الأوّلين ، لأنّهما فعله. وأمّا حلفه على فعل الهدهد الّذي هو غير متيقّن لسليمان ، لأجل الإتيان بـ «أو» في الحكم ، فكأنّه قال : ليكوننّ أحد الأمور الثلاثة. يعني : إن كان الإتيان بالسلطان لم يكن تعذيب ولا ذبح ، وإن لم يكن كان أحدهما. وليس في هذا ادّعاء دراية أنّ

__________________

(١) القناقن : المهندس الّذي يعرف وجود الماء تحت الأرض. والجمع : قناقن. وليس هذا بعربيّ الأصل.

(٢) القنى جمع القناة.

٨٦

الهدهد يأتي بسلطان مبين وإيقان منه. على أنّه يجوز أن يتعقّب حلفه بالفعلين وحي من الله بأنّه سيأتيه بسلطان مبين. فثلّث بقوله : (أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) عن دراية وإيقان.

وقرأ ابن كثير : أو ليأتينّني بنونين ، الأولى مفتوحة مشدّدة.

واعلم أنّ الله كان أباح له التعذيب لما رأى فيه من المصلحة ، كما أباح ذبح البهائم والطيور للأكل وغيره من المنافع. فإذا سخّر له الطير ، ولم يتمّ ما سخّر له من أجله إلّا بالتأديب والسياسة ، جاز أن يباح له ما يستصلح به.

(فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ) زمانا غير مديد ، يريد به الدلالة على سرعة رجوعه خوفا منه. وقرأ عاصم بفتح الكاف.

روي : أنّ سليمان حين نزل حلّق (١) الهدهد فرأى هدهدا واقعا ، فانحطّ إليه فوصف له ملك سليمان وما سخّر له من كلّ شيء ، وذكر له صاحبه ملك بلقيس ، وأنّ تحت يدها اثني عشر ألف قائد ، تحت كلّ قائد مائة ألف ، وذهب معه لينظر ، فما رجع إلّا بعد العصر.

وروي : أنّه وقعت نفحة من الشمس على رأس سليمان ، فنظر فإذا موضع الهدهد خال ، فدعا عرّيف الطير وهو النسر ، فسأله عنه ، فلم يجد عنده علمه. ثمّ قال لسيّد الطير وهو العقاب : عليّ به. فارتفعت فنظرت ، فإذا هو مقبل فقصدته.

فناشدها الله وقال : بحقّ الّذي قوّاك وأقدرك عليّ إلّا رحمتيني. فتركته وقالت : ثكلتك أمّك ، إنّ نبيّ الله قد حلف ليعذّبنّك. قال : وما استثنى؟ قالت : بلى أو ليأتينّي بعذر مبين. فلمّا قرب من سليمان أرخى ذنبه وجناحيه يجرّها على الأرض تواضعا له. فلمّا دنا منه أخذ برأسه فمدّه إليه. فقال : يا نبيّ الله اذكر وقوفك بين يدي الله تعالى. فارتعد سليمان وعفا عنه.

__________________

(١) حلّق الطائر : ارتفع في طيرانه واستدار كالحلقة.

٨٧

ثمّ سأله عن غيبته (فَقالَ) في جوابه (أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) يعني : حال سبأ. ومعنى الإحاطة بالشيء علما : أن يعلم من جميع جهاته ، بحيث لا يخفى منه معلوم ، تشبيها بالسور المحيط.

وفي مخاطبته إيّاه بذلك تنبيه له على أنّ في أدنى خلق الله وأضعفه من أحاط علما بما لم يحط به ، لتتحاقر إليه نفسه ، ويتصاغر لديه علمه ، ويكون لطفا له في ترك الإعجاب الّذي هو فتنة العلماء ، وأعظم بها فتنة.

وفيه دليل على أنّه يجوز أن يكون في زمن الأنبياء من يعرف ما لا يعرفونه. ولا يقدح ذلك في النّبوة. وأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما هو أعلم من أمّته في علوم الشريعة. ومنه قول نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنتم أعلم بأمور دنياكم». وكذا الامام.

فما قال صاحب الكشّاف من أنّ «فيه دليلا على بطلان قول الرافضة : إنّ الامام لا يخفى عليه شيء ، ولا يكون في زمانه أحد أعلم منه» (١). محض افتراء ، وافتراء محض ، صادر عن خبث الاعتقاد ، وبيّن العناد على الإماميّة.

(وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ) قرأ ابن كثير برواية البزّي وأبو عمرو غير منصرف ، على تأويل القبيلة أو البلدة. قال في الكشّاف : «إنّ سبأ في الأصل هو سبأ بن يشخب بن يعرب بن قحطان. فمن جعله اسما للقبيلة لم يصرف ، ومن جعله اسما للحيّ أو الأب الأكبر صرف. ثمّ سمّيت مدينة مأرب بسبإ ، وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيّام» (٢). (بِنَبَإٍ يَقِينٍ) بخبر محقّق.

ثمّ فسّر النبأ فقال : (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ) يعني : بلقيس بنت شراحيل بن مالك بن الريّان. وكان أبوها ملك أرض اليمن كلّها ، وقد ولده أربعون ملكا ، ولم يكن له ولد غيرها ، فغلبت على الملك. والضمير لسبأ ، أو لأهلها.

__________________

(١) الكشّاف ٣ : ٣٥٩.

(٢) الكشّاف ٣ : ٣٥٩ ـ ٣٦٠.

٨٨

(وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) يحتاج إليه الملوك (وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) عظمه بالنسبة إلى حالها ، أو إلى عروش أمثالها ، لا إلى عرش سليمان. ويجوز أن لا يكون لسليمان عليه‌السلام مثله ، وإن عظمت مملكته في كلّ شيء ، كما يكون لبعض أمراء الأطراف شيء لا يكون مثله للملك الّذي يملك عليهم أمرهم ويستخدمهم.

وعن ابن عبّاس : كان ثلاثين ذراعا في ثلاثين ، عرضا وسمكا.

وفي الكشّاف (١) : ثمانين ذراعا في ثمانين من ذهب وفضّة ، مكلّلا بالجواهر.

وكان سمكه من ياقوت أحمر وأخضر ودرّ وزمرّد ، وعليه سبعة أبيات ، على كلّ بيت باب مغلق.

وفي المجمع : «كان مقدّم عرشها من ذهب مرصّع بالياقوت الأحمر والزمرّد الأخضر ، ومؤخّره من فضّة مكلّل بألوان الجواهر» (٢).

وبون بعيد بين قوله : (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) (٣) في سليمان ، (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) في بلقيس ، لأنّ سليمان عطف قوله على ما هو معجزة من الله ، وهو تعليم منطق الطير ، فرجع أوّلا إلى ما اوتي من النبوّة والحكمة وأسباب الدين ، ثمّ إلى الملك وأسباب الدنيا ، وعطفه الهدهد على الملك ، فلم يرد إلّا ما أوتيت من أسباب الدنيا اللائقة بحالها ، فبين القولين كمال مباعدة.

وكانت هي وقومها مجوسا يعبدون الشمس ، كما قال : (وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ) أي : يعبدونها (مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) من عبادة الشمس وغيرها ، من مقابح أحوالهم ، وقبائح أفعالهم (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) حصرهم عن سبيل الحقّ والصواب (فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ).

__________________

(١) الكشّاف ٣ : ٣٦٠.

(٢) مجمع البيان ٧ : ٢١٨.

(٣) النمل : ١٦.

٨٩

واعلم أنّ خفاء حال بلقيس على سليمان ، وكانت المسافة بين محطّه وبين بلدها قريبة ، وهي مسيرة ثلاثة أيّام بين صنعاء ومأرب ، لمصلحة أراد الله تعالى فيها ، كما أخفى سبحانه مكان يوسف على يعقوب.

وتهدّي الهدهد إلى معرفة الله ، وإلى وجوب السجود له ، وإنكار سجودهم للشمس ، وإضافته إلى الشيطان وتزيينه ، لما ألهمه الله ذلك ، كما ألهمه وغيره من الطيور وسائر الحيوان المعارف اللطيفة الّتي لا يكاد العقلاء الرجاح العقول يهتدون لها. خصوصا في زمن نبيّ سخّرت له الطيور وعلم منطقها ، وجعل ذلك معجزة له.

(أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ) أي : فصدّهم عن السبيل لأن لا يسجدوا ، أو زيّن لهم لأن لا يسجدوا ، بحذف الجارّ ، على أنّه بدل من «أعمالهم». أو لا يهتدون إلى أن يسجدوا ، بزيادة (١) «لا».

وقرأ الكسائي ويعقوب : ألا بالتخفيف ، على أنّها للتنبيه ، و «يا» للنداء ، ومناداه محذوف ، أي : ألا يا قوم اسجدوا. وعلى الأوّل يكون ذمّا على تركه. وعلى الثاني صحّ أن يكون استئنافا من الله أو من سليمان ، والوقف على «لا يهتدون».

وكان أمرا بالسجود. وعلى الوجهين : السجدة عند قراءتها مستحبّة عندنا وعند الشافعيّة ، وواجبة عند الحنفيّة.

(الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ) مصدر بمعنى المفعول. وإظهاره إخراجه ، أي : الّذي يظهر ما خفي. (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ) وصف له تعالى بما يوجب اختصاصه باستحقاق السجود ، من التفرّد بكمال القدرة والعلم ، حثّا على سجوده ، وردّا على من يسجد لغيره.

وإخراج الخبء يعمّ إشراق الكواكب ، وإنزال الأمطار ، وإنبات النبات ، بل الإنشاء ، فإنّه إخراج ما في الشيء بالقوّة إلى الفعل ، والإبداع ، فإنّه إخراج ما في

__________________

(١) أي : على أن تكون «لا» زائدة.

٩٠

الإمكان إلى الوجوب ، وما في العدم إلى الوجود ، ومعلوم أنّه يختصّ بالواجب لذاته.

وقرأ حفص والكسائي : (ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ) بالخطاب.

(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) الّذي هو أوّل الأجرام وأعظمها ، والمحيط بجملتها. فبين العظيمين (١) بون عظيم.

(قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (٢٨) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ (٣٣) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥))

ولمّا سمع سليمان عليه‌السلام ما اعتذر به الهدهد في تأخّره (قالَ) عند ذلك

__________________

(١) أي : بين عرش بلقيس العظيم ، وبين عرش الله تعالى العظيم.

٩١

(سَنَنْظُرُ) سنتعرّف ، من النظر بمعنى التأمّل (أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) أي : أم كذبت. والتغيير للمبالغة ، لأنّه إذا كان معروفا بالانخراط في سلك الكاذبين كان كاذبا ، ولمحافظة الفواصل.

ثمّ كتب سليمان كتابا منطوقه : بسم الله الرّحمن الرّحيم ، من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ : السلام على من اتّبع الهدى. أمّا بعد ، فلا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين. وكانت كتب الأنبياء جملا لا يطيلون ولا يكثرون. وطبع الكتاب بالمسك ، وختمه بخاتمه ، ودفعه إليه فقال : (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ) تنحّ عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه (فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ) ماذا يرجع بعضهم إلى بعض من القول؟

وإيراد لفظ الجمع لأجل أنّ الهدهد قال : وجدتها وقومها يسجدون للشمس ، فقال : فألقه إلى الّذين هذا دينهم ، اهتماما منه بأمر الدين ، واشتغالا به عن غيره.

روي : أنّ الهدهد وضع الكتاب في منقاره ، ومضى به إلى سبأ ، ودخل على بلقيس من كوّة بيتها مستقبلة للشمس ، تقع الشمس عند ما تطلع فيها ، فإذا نظرت إليها سجدت. فجاء الهدهد إلى هذه الكوّة فسدّها بجناحه ، فارتفعت الشمس ولم تعلم ، فقامت تنظر ، فرمى الكتاب إليها.

وقيل : كانت راقدة في قصرها ، وكانت إذا رقدت غلّقت الأبواب ووضعت المفاتيح تحت رأسها ، فدخل من كوّة وطرح الكتاب على نحرها وهي مستلقية ، وقيل : نقرها فانتبهت فزعة.

وقيل : أتاها والقادة والجنود حواليها ، فرفرف ساعة والناس ينظرون حتّى رفعت رأسها ، فألقى الكتاب في حجرها ، وكانت قارئة كاتبة عربيّة ، فلمّا رأت الخاتم ارتعدت وخضعت ، فتوجّهت إلى قومها.

(قالَتْ) لهم (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) لكرم مضمونه أو

٩٢

مرسله. أو لأنّه كان مختوما. وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كرم الكتاب ختمه».

أو لغرابة شأنه ، إذ كانت مستلقية في بيت مغلّقة الأبواب كما مرّ ، فدخله من كوّة وألقاه على نحرها.

(إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ) استئناف ، كأنّه قيل لها : ممّن هو؟ فقال : إنّه ـ اي : إنّ الكتاب ، أو العنوان ـ من سليمان (وَإِنَّهُ) أي : وإن المكتوب أو المضمون (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَ) «أن» مفسّرة بمعنى «أي» ، على ما قاله سيبويه في نحو قوله : (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا) (١) أي : امشوا. أو مصدريّة ، فتكون بصلتها خبر محذوف ، أي : هو أو المقصود أن لا تعلوا. أو بدل من «كتاب».

والمعنى : لا ترفعوا ولا تتكبّروا عليّ (وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) منقادين مطيعين لأمري ، أو مؤمنين.

وهذا كلام في غاية الوجازة مع كمال الدلالة على المقصود ، لاشتماله على البسملة الدالّة على ذات الصانع وصفاته صريحا أو التزاما ، والنهي عن الترفّع الّذي هو أمّ الرذائل ، والأمر بالإسلام الجامع لأمّهات الفضائل. وليس الأمر فيه بالانقياد قبل إقامة الحجّة على رسالته ، حتّى يكون استدعاء للتقليد ، فإنّ إلقاء الكتاب إليها على تلك الحالة من أعظم الدلالة.

روي : أنّ أوّل من استفتح بـ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) سليمان ، ولا تعرفه هي ولا قومها.

ولمّا وقفت بلقيس على كتاب سليمان (قالَتْ) لأشراف قومها (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي) أجيبوني في أمري ، وأشيروا عليّ بما تستصوبون فيه.

والفتيا والفتوى : الجواب في الحادثة ، والحكم بما هو صواب. مشتقّتان على طريق الاستعارة من الفتى في السنّ. والمراد هاهنا : الإشارة عليها بما عندهم من الرأي

__________________

(١) ص : ٦.

٩٣

والتدبير فيها.

(ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً) ما أبتّ أمرا (حَتَّى تَشْهَدُونِ) إلّا بمحضركم. استعطفتهم نفوسهم ليمالؤها على الإجابة.

قيل : كان أهل مشورتها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ، كلّ واحد على عشرة آلاف. ولهذا (قالُوا) مائلين إلى القتال (نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ) أي : أصحاب قدرة وأهل عدد (وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ) أي : أصحاب شجاعة شديدة ، وأبناء حرب ، لا أبناء رأي ومشورة ، وأنت ذات الرأي والتدبير (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ) مفوّض إليك في القتال وتركه (فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ) أي : ما الّذي تأمريننا به من المقاتلة والمصالحة ، لنمتثلك فيه ونطيع رأيك.

(قالَتْ) مجيبة لهم عن التعريض بالقتال (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً) عنوة وقهرا (أَفْسَدُوها) أهلكوها وخرّبوها. تزييف لما أحسّت منهم من الميل إلى المقاتلة بادّعائهم القوى الذاتيّة والعرضيّة ، وإشعار بأنّها ترى الصلح مخافة أن يتخطّى سليمان خططهم ، فيسرع إلى إفساد ما يصادفه من أموالهم وعماراتهم. ثمّ إنّ الحرب سجال لا تدرى عاقبتها.

(وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها) كبراءها وأشرافها (أَذِلَّةً) بنهب أموالهم ، وتخريب ديارهم ، إلى غير ذلك من الإهانة والأسر (وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) تأكيد لما وصفت من حالهم ، وتقرير بأنّ ذلك من عاداتهم الثابتة المستمرّة. أو تصديق لها من الله عزوجل ، أي : وكما قالت هي.

ثمّ بيّنت ما ترى تقديمه في المصالحة ، وقالت : (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ) إلى سليمان وقومه (بِهَدِيَّةٍ) أي : مرسلة رسلا بهديّة أصانعه (١) بها عن ملكي (فَناظِرَةٌ) فمنتظرة (بِمَ) بأيّ حال (يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) من قبول حتّى أعمل

__________________

(١) صانعه مصانعة : داهنه ، وداراه ، ورشاه.

٩٤

بحسب ذلك ، فإنّها عرفت عادة الملوك في حسن موقع الهدايا عندهم ، وكان غرضها أن يتبيّن لها بذلك أنّه نبيّ أو ملك ، فإن قبل الهديّة تبيّن أنّه ملك ، وعندها ما يرضيه ، وإن ردّها تبيّن أنّه نبيّ.

عن ابن عبّاس : أنّها أهدت إليه وصفاء (١) ووصائف ، ألبستهم لباسا واحدا حتّى لا يعرف ذكر من أنثى.

وعن مجاهد : أهدت مائتي غلام ، ومائتي جارية ، ألبست الغلمان لباس الجواري ، وألبست الجواري ألبسة الغلمان.

وعن ثابت البناني : أهدت له صفائح الذهب في أوعية الديباج ، فلمّا بلغ ذلك سليمان أمر الجنّ فموّهوا له الآجر بالذهب ، ثمّ أمر به فألقي في الطريق. فلمّا جاؤا رأوه ملقى في الطريق في كلّ مكان ، فلمّا رأوا ذلك صغر في أعينهم ما جاؤا به.

وقيل : إنّها عمدت إلى خمسمائة غلام وخمسمائة جارية ، فألبست الجواري الأقبية والمناطق ، وألبست الغلمان في سواعدهم أساور من ذهب ، وفي أعناقهم أطواقا من ذهب ، وفي آذانهم أقراطا مرصّعات بأنواع الجواهر. وحملت الجواري على خمسمائة رمكة (٢) ، والغلمان على خمسمائة برذون ، على كلّ فرس لجام وسرج من ذهب مرصّع بالجواهر.

وبعثت إليه خمسمائة لبنة من ذهب ، وخمسمائة لبنة من فضّة ، وتاجا مكلّلا بالدرّ والياقوت المرتفع. وعمدت إلى حقّة (٣) ، فجعلت فيها درّة يتيمة غير مثقوبة ، وخرزة جزعيّة (٤) مثقوبة ، معوجّة الثقب.

__________________

(١) وصفاء جمع الوصيف ، وهو الغلام دون المراهق. وتأنيثه : الوصيفة. وجمعها : الوصائف.

(٢) الرمكة : إناث الخيل ، والفرس تتّخذ للنسل. والبرذون : دابّة الحمل الثقيلة.

(٣) الحقّة : الوعاء الصغير.

(٤) الجزعة : خرز فيه سواد وبياض.

٩٥

ودعت رجلا من أشراف قومها اسمه المنذر بن عمرو ، وضمّت إليه رجالا من قومها ، أصحاب رأي وعقل ، وكتبت إليه كتابا بنسخة الهديّة ، قالت فيها : إن كنت نبيّا فميّز بين الوصفاء والوصائف ، وأخبر بما في الحقّة قبل أن تفتحها ، واثقب الدرّة ثقبا مستويا ، وأدخل الخرزة خيطا من غير علاج إنس ولا جانّ.

وقالت للرسول : انظر إليه إن دخلت عليه ، فإن نظر إليك نظرة غضب فاعلم أنّه ملك ، فلا يهولنّك أمره ، فإنّا أعزّ منه. وإن نظر إليك نظر لطف فاعلم أنّه نبيّ مرسل.

فانطلق الرسول بالهدايا ، وأقبل الهدهد مسرعا إلى سليمان ، فأخبره الخبر ، فأمر سليمان الجنّ أن يضربوا لبنات الذهب ، ولبنات الفضّة ، ففعلوا ثمّ أمرهم أن يفرشوا من موضعه الّذي هو فيه سبعة فراسخ ، ميدانا واحدا بلبنات الذهب والفضّة ، وأن يجعلوا حول الميدان حائطا شرفه (١) من الذهب والفضّة ، ففعلوا. ثمّ أمر الجنّ أن يحضروا أحسن الدوابّ في البرّ والبحر ، وربطوها عن يمين الميدان ويساره. وأمر بإحضار أولاد الجنّ ، وهم خلق كثير ، فأقيموا عن اليمين واليسار.

ثمّ قعد سليمان في مجلسه على سريره ، فوضع له أربعة آلاف كرسيّ عن يمينه ، ومثلها عن يساره. وأمر الشياطين أن يصطفّوا صفوفا فراسخ. وأمر الإنس فاصطفّوا فراسخ عن يمينه ، ومثلها عن يساره. وأمر الوحوش والسباع والهوامّ والطير ، فاصطفّوا فراسخ عن يمينه ويساره.

فلمّا دنا القوم من الميدان ، ونظروا إلى ملك سليمان بهتوا ، ورأوا الدوابّ تروث على اللبن ، فتقاصرت إليهم أنفسهم ، ورموا بما معهم من الهدايا.

__________________

(١) الشرفة من القصر : ما أشرف من بنائه. وجمعها : شرف.

٩٦

(فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (٣٧) قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠) قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (٤١) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٤))

(فَلَمَّا جاءَ) رسول بلقيس ومن معه (سُلَيْمانَ) وقفوا بين يدي سليمان ،

٩٧

فنظر إليهم نظرا حسنا بوجه طلق ، وقال : ما وراءكم؟ فأخبره رئيس القوم بما جاؤا له (قالَ أَتُمِدُّونَنِ) أتزيدونني (بِمالٍ) والاستفهام للإنكار ، أي : لا أحتاج إلى أموالكم. وقرأ يعقوب وحمزة : تمدّونّي بالإدغام. (فَما آتانِيَ اللهُ) من الملك العظيم الّذي لا مزيد عليه (خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ) من الدنيا وأموالها (بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ) إذا أهدى بعضكم إلى بعض ، لأنّكم لا تعلمون إلّا ظاهرا من الحياة الدنيا ، فتفرحون بما يهدى إليكم ، حبّا لزيادة أموالكم ، أو بما تهدونه ، افتخارا على أمثالكم.

والهديّة : اسم المهدى ، كما أنّ العطيّة اسم المعطى. فتضاف إلى المهدي والمهدى إليه. تقول : هذه هديّة فلان ، تريد : هي الّتي أهداها ، أو أهديت إليه.

والمعنى : أنّ ما عندي خير ممّا عندكم ، وذلك أنّ الله آتاني الدين الّذي فيه الحظّ الأوفر ، والغنى الأوسع ، وآتاني من الدنيا ما لا يستزاد عليه ، فكيف يرضى مثلي بأن يمدّ بمال ويصانع به؟! والإضراب عن إنكار الإمداد بالمال عليه وتقليله إلى بيان ما حملهم عليه ، هو قياس حاله على حالهم في قصور الهمّة بالدنيا والزيادة فيها.

فأعطاه الرسول كتاب الملكة. فنظر فيه وقال : أين الحقّة؟ فأتي بها فحرّكها ، وجاءه جبرئيل فأخبره بما في الحقّة. فقال : إنّ فيها درّة يتيمة غير مثقوبة ، وجزعة مثقوبة معوجّة الثقب.

فقال الرسول : صدقت ، فاثقب الدرّة ، وأدخل الخيط في الخرزة.

فأرسل سليمان إلى الأرضة ، فجاءت فأخذت شعرة في فيها ، فنفذت فيها حتّى خرجت من الجانب الآخر. فجعل رزقها في الشجرة.

ثمّ قال : من لهذه الخرزة يسلكها الخيط؟ فقالت دودة بيضاء : أنالها يا رسول الله. فأخذت الدودة الخيط في فيها ، ودخلت الثقب حتّى خرجت من الجانب

٩٨

الآخر. فجعل رزقها في الفواكه.

ثمّ ميّز بين الجواري والغلمان ، بأن أمرهم أن يغسلوا وجوههم وأيديهم.

فكانت الجارية تأخذ الماء من الآنية بإحدى يديها ، ثمّ تجعله على اليد الاخرى ، ثمّ تضرب به الوجه. والغلام كما يأخذ من الآنية يضرب به وجهه. وكانت الجارية تصبّ على باطن ساعدها ، والغلام على ظهر الساعد. وكانت الجارية تصبّ الماء صبّا ، وكان الغلام يحدر الماء على يده حدرا. فميّز بينهما بذلك. هذا كلّه مرويّ عن وهب وغيره.

وقيل : إنّها أنفذت مع هداياها عصا كان يتوارثها ملوك حمير ، وقالت : أريد أن تعرّفني رأسها من أسفلها. وبقدح ماء ، وقالت : تملأها ماء رواء (١) ، ليس من الأرض ، ولا من السماء. فأرسل سليمان العصا إلى الهواء ، وقال : أيّ الرأسين سبق إلى الأرض فهو أسفلها. وأمر بالخيل فأجريت حتّى عرقت ، وملأ القدح من عرقها ، وقال : ليس هذا من ماء الأرض ، ولا من ماء السماء.

ثمّ ردّ الهديّة ، وقال للرسول : (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ) إلى بلقيس وقومها. وقيل : الخطاب للهدهد محمّلا كتابا آخر. (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ) لا طاقة لهم (بِها) بمقاومتها ، ولا قدرة لهم على مقابلتها ، فإنّ حقيقة القبل : المقاومة والمقابلة ، أي : لا يقدرون أن يقابلوهم (وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها) من سبأ (أَذِلَّةً) بذهاب ما كانوا فيه من العزّ (وَهُمْ صاغِرُونَ) مهانون أسراء.

فلمّا ردّ سليمان عليه‌السلام الهديّة ، وميّز بين الغلمان والجواري إلى غير ذلك ، ورجع الرسول إلى بلقيس ، وقال ما شاهد ، عرفت أنّه نبيّ مرسل ، وأنّه ليس كالملوك الّذين يغترّون بالمال ، وأنّها لا تقاومه. فتجهزّت للمسير إليه ، وجعل عرشها في آخر سبعة أبيات ، بعضها في بعض ، في آخر قصر من قصور سبعة لها ،

__________________

(١) الرّواء : الماء الكثير العذب المروي.

٩٩

وغلّقت الأبواب ، ووكّلت به حرسا يحفظونه. فخرجت من اليمن مع جنودها مقبلة إليه ، فأخبر جبرئيل باستيثاقها عرشها وتوجّهها إليه ، فأراد أن يريها بعض ما خصّه الله من عجائب الأمور وغرائبها ، لتوكيد تصديقها ، ومزيد إيقانها بنبوّته ، فـ (قالَ) لأماثل جنده ، وأشراف عسكره : (يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) منقادين لأمري ، أو مؤمنين.

وعن قتادة : أراد أن يأخذه قبل أن تسلم ، لعلمه أنّها إذا أسلمت لم يحلّ له أخذ مالها.

(قالَ عِفْرِيتٌ) خبيث مارد (مِنَ الْجِنِ) من عفاريته. وهذا بيان له ، لأنّه يطلق على الرجل الخبيث المنكر المعفر (١) أقرانه ، وعلى الشيطان الخبيث المارد.

وكان اسمه ذكوان ، أو صخرا. (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) مجلسك للحكومة. وكان يجلس إلى نصف النهار. (وَإِنِّي عَلَيْهِ) على حمله (لَقَوِيٌ) قادر على الإتيان به في هذه المدّة (أَمِينٌ) آت به كما هو ، لا أختزل (٢) منه شيئا ولا أبدّله.

فقال سليمان : أريد أسرع من ذلك. فعند ذلك (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) وهو آصف بن برخيا. وكان وزير سليمان وكاتبه وابن أخته. وكان صدّيقا يعرف اسم الله الأعظم الّذي إذا دعي به أجاب.

وعن الحسن : أنّ ذلك الاسم الله والرحمن.

وعن مجاهد : هو يا حيّ يا قيّوم. وبالعبرانيّة : آهيا شراهيا. وقيل : هو يا ذا الجلال والإكرام.

وعن الزهري : أنّه قال : يا إلهنا وإله كلّ شيء ، إلها واحدا لا إله إلّا أنت.

__________________

(١) أي : الذي يصرع أقرانه.

(٢) أي : لا اقتطع منه.

١٠٠