زبدة التّفاسير - ج ٥

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٥

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-07-8
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٥٩٦

حفظناها من دنوّ كلّ شيطان للاستماع ، فإنّهم كانوا يسترقون السمع ، ويستمعون إلى كلام الملائكة ، ويلقون ذلك إلى ضعفة الجنّ. وكانوا يوسوسون بها في قلوب الكهنة ، ويوهمونهم أنّهم يعرفون الغيب. فمنعهم الله تعالى عن ذلك.

وقوله : (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) كلام مبتدأ لبيان حالهم بعد ما حفظ السماء عنهم. ولا يصحّ أن يكون صفة لـ «كلّ شيطان» لأنّه يقتضي أن يكون الحفظ من شياطين لا يسمعون أو لا يتسمّعون. وكذلك الاستئناف ، لأنّ سائلا لو سأل : لم تحفظ من الشياطين؟ فأجيب : بأنّهم لا يسّمّعون ، لم يستقم. ولا أن يكون علّة للحفظ على حذف اللام ـ كما في : جئتك أن تكرمني ـ ثمّ حذف «أن» وإهدارها ، كقوله : ألا أيّهذا الزاجري أحضر الوغا ، فإنّ اجتماع ذلك منكر ، وصون الكلام عن مثل ذلك واجب. فبقي أن يكون كلاما منقطعا مبتدأ ، اقتصاصا لما عليه حال المسترقة للسمع ، وأنّهم لا يقدرون أن يسمعوا إلى كلام الملائكة أو يتسمّعوا. والضمير لـ «كلّ» باعتبار المعنى.

وتعدية السماع بـ «إلى» لتضمّنه معنى الإصغاء ، مبالغة لنفيه ، وتهويلا لما يمنعهم عن الإصغاء. ويدلّ عليه قراءة حمزة والكسائي وحفص بالتشديد ، من التسمّع ، وهو تطلّب السماع.

والملأ الأعلى عبارة عن الملائكة ، لأنّهم يسكنون السماوات. والإنس والجنّ هم الملأ الأسفل ، لأنّهم سكّان الأرض.

(وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ) من جوانب السماء ، إذا قصدوا الصعود إليها للاستماع (دُحُوراً) نصب على العلّيّة ، أي : ويقذفون للدحور (١) (وَلَهُمْ) مع ذلك (عَذابٌ) أي : عذاب آخر (واصِبٌ) دائم يوم القيامة ، أو شديد. يعني : أنّهم في الدنيا مرجومون بالشهب ، وقد أعدّ لهم في الآخرة نوع من العذاب دائم غير منقطع.

__________________

(١) دحره دحورا : طرده ، وأبعده ، ودفعه.

٥٤١

(إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ) استثناء من واو «يسمعون». و «من» بدل من الواو ، أي : لا يسمع الشياطين إلّا الشيطان الّذي خطف الخطفة. والخطف : الاختلاس والاستلاب بسرعة. والمراد : اختلاس كلام الملائكة مسارقة ، ولذلك عرّف الخطفة. (فَأَتْبَعَهُ) أي : تبعه ولحقه (شِهابٌ) نار مضيئة محرقة ، كأنّه كوكب انقضّ (ثاقِبٌ) مضيء ، كأنّه يثقب الجوّ بضوئه.

وما قيل : إنّ الشهاب بخار يصعد إلى الأثير فيشتعل ، فتخمين. ويمكن أن يقال : إنّ هذا القول لم يناف ذلك ، إذ ليس فيه ما يدلّ على أنّه ينقضّ من الفلك ، ولا في قوله : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) (١) لأنّ كلّ شيء نيّر يحصل في الجوّ العالي فهو مصباح لأهل الأرض وزينة للسماء ، من حيث إنّه يرى كأنّه على سطحه. ويحتمل أن يصير الحادث في بعض الأوقات رجما لشيطان يتصعّد إلى قرب الفلك للتسمّع.

وما روي : أنّ ذلك حدث بميلاد النبيّ ، فيحتمل أن يكون المراد كثرة وقوعه ، أو مصيره دحورا.

واختلف في أنّ المرجوم يتأذّى به فيرجع ، أو يحترق به؟ لكن قد يصيب الصاعد مرّة وقد لا يصيب ، كالموج لراكب السفينة ، ولذلك لا يرتعدون عنه رأسا.

ولا يقال : إنّ الشيطان من النار فلا يحترق. لأنّه ليس من النار الصرف ، كما أنّ الإنسان ليس من التراب الخالص. مع أنّ النار القويّة إذا استولت على الضعيفة استهلكتها.

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا

__________________

(١) الملك : ٥.

٥٤٢

رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦))

ثمّ خاطب نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : (فَاسْتَفْتِهِمْ) فاستخبرهم وسلهم سؤال تقرير. والضمير لمشركي مكّة ، أو لبني آدم. (أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً) أحكم صنعا وأقواه. من قولهم : شديد الخلق ، وفي خلقه شدّة. أو أصعبه وأشقّه. (أَمْ مَنْ خَلَقْنا) يعني : ما ذكر من الملائكة ، والسماء ، والأرض ، وما بينهما ، والمشارق ، والكواكب ، والشهب الثواقب.

و «من» لتغليب العقلاء. ويدلّ عليه ذكر الفاء المعقّبة من بعد عدّ هذه الأشياء. وقوله : (أَمْ مَنْ خَلَقْنا) مطلقا من غير تقييد بالبيان ، اكتفاء ببيان ما تقدّمه. كأنّه قال : خلقنا كذا وكذا من عجائب الخلق وبدائعه ، فاستفتهم أهم أشدّ خلقا أم الّذي خلقناه من ذلك؟ وقوله : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) فإنّه الفارق بينهم وبينها ، لا بينهم وبين من قبلهم ، كعاد وثمود. ولأنّ المراد إثبات المعاد ، وردّ استحالتهم إيّاه. والأمر

٥٤٣

فيه بالإضافة إليهم وإلى من قبلهم سواء ، فإنّ من هان عليه خلق هذه الخلائق العظيمة ، ولم يصعب عليه اختراعها ، كان خلق جنس البشر من طين لازب ـ أي : لازم ، لاصق عليه ـ أهون وأيسر.

وتقريره : أنّ استحالة ذلك إمّا لعدم قابليّة المادّة ، ومادّتهم الأصليّة هي الطين اللازب غير الموصوف بالصلابة والقوّة ، الحاصل من ضمّ الجزء المائي إلى الجزء الأرضي ، وهما باقيان قابلان للانضمام بعد. وقد علموا أنّ الإنسان الأوّل إنّما تولّد منه ، إمّا لاعترافهم بحدوث العالم ، أو بقصّة آدم ، وشاهدوا تولّد كثير من الحيوانات من الطين بلا توسّط مواقعه ، فلزمهم أن يجوّزوا إعادتهم كذلك. وإمّا لعدم قدرة الفاعل ، فإنّ من قدر على خلق هذه الأشياء قدر على ما لا يعتدّ به بالإضافة إليها ، فإنّه بدأهم أوّلا من الطين السخيف الضعيف ، وقدرته ذاتيّة لا تتغيّر.

(بَلْ عَجِبْتَ) من قدرة الله على هذه الخلائق العظيمة وإنكارهم للبعث (وَيَسْخَرُونَ) من تعجّبك وتقريرك للبعث.

وقرأ حمزة والكسائي بضمّ التاء ، أي : بلغ كمال قدرتي وكثرة خلائقي بحيث إنّي تعجّبت منها ، وهؤلاء لجهلهم يسخرون منها. أو عجبت من أن ينكر البعث ممّن هذه أفعاله ، وهم يسخرون ممّن يجوّزه. والعجب من الله إمّا على الفرض والتخييل ، أو على معنى الاستعظام اللازم له ، فإنّه روعة تعتري الإنسان عند استعظامه الشيء ، والله عزوجل لا يجوز عليه الروعة. وبهذا المعنى ما ورد في الحديث من إضافة العجب إلى الله ، حيث قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عجب ربّكم من شابّ ليس له صبوة» (١). وقيل : إنّه مقدّر بالقول ، أي : قل يا محمّد : بل عجبت.

(وَإِذا ذُكِّرُوا) وإذا وعّظوا بشيء (لا يَذْكُرُونَ) لا يتّعظون به. أو إذا ذكر لهم ما يدلّ على صحّة الحشر لا ينتفعون به ، لعدم استعمالهم الفكر والتدبّر

__________________

(١) أي : جهلة الصبيان.

٥٤٤

فيه عنادا ولجاجا.

(وَإِذا رَأَوْا آيَةً) معجزة تدلّ على صدق القائل به ، كانشقاق القمر ونحوه (يَسْتَسْخِرُونَ) يبالغون في السخريّة ، ويقولون : إنّه سحر. أو يستدعي بعضهم من بعض أن يسخر منها. وقيل : معناه : يعتقدونها سخريّة ، كما يقال : استقبحته ، أي : اعتقدته قبيحا ، واستحسنته اعتقدته حسنا.

(وَقالُوا إِنْ هذا) يعنون ما يرونه (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) ظاهر سحريّته (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) أصله : أنبعث إذا متنا؟ فبدّلوا الفعليّة بالاسميّة ، وقدّموا الظرف ، وكرّروا الهمزة. والمعنى : كيف نبعث بعد ما صرنا ترابا؟ مبالغة في الإنكار ، وإشعارا بأنّ البعث مستنكر في نفسه ، وحال كونهم ترابا وعظاما أشدّ استنكارا. فهو ابلغ من قراءة ابن عامر بطرح الهمزة الأولى ، وقراءة نافع والكسائي ويعقوب بطرح الثانية.

(أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) عطف على محلّ «إنّ» واسمها ، أو على الضمير في «مبعوثون» فإنّه مفصول منه بهمزة الاستفهام. والمعنى : أيبعث أيضا آباؤنا؟ على زيادة الاستبعاد. يعنون : أنّهم أقدم ، فبعثهم أبعد وأبطل. وسكّن نافع برواية قالون وابن عامر الواو ، على معنى الترديد.

(قُلْ نَعَمْ) تبعثون (وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) صاغرون أشدّ الصغار. وإنّما اكتفى به في الجواب لسبق ما يدلّ على جوازه ، ودلالة المعجزة على صدق المخبر عن وقوعه. وقرأ الكسائي وحده : نعم بالكسر. وهو لغة فيه.

(فَإِنَّما هِيَ) فإنّما البعثة أو قصّة البعث (زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) وهذا جواب شرط مقدّر ، تقديره : إذا كان ذلك فما البعثة إلّا زجرة ـ أي : صيحة ـ واحدة. وهي النفخة الثانية. من زجر الراعي الغنم : إذا صاح عليها. وأمرها في الإعادة كأمر «كن» في الإبداء. ولذلك رتّب عليها (فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ) فإذا هم قيام من مراقدهم أحياء

٥٤٥

يبصرون ، أو ينتظرون ما يفعل بهم.

(وَقالُوا يا وَيْلَنا) هو كلمة يقولها القائل عند الوقوع في الهلكة. ومثله يا حسرتا. (هذا يَوْمُ الدِّينِ) اليوم الّذي نجازى فيه بأعمالنا. والمراد أنّهم قد اعترفوا بالحقّ خاضعين نادمين. وقد تمّ به كلامهم. وقوله : (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) جواب الملائكة. وقيل : هو أيضا من كلام بعضهم لبعض.

و «الفصل» القضاء. أو الفرق بين المحسن والمسيء. وذلك بأن يدخل المطيع الجنّة على وجه الإكرام ، ويدخل العاصي النار على وجه الإهانة.

(احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا) أمر الله الملائكة ، أوامر بعضهم لبعض بحشر الظلمة ، أي : جمعهم من مقامهم إلى الموقف. وقيل : إلى الجحيم. (وَأَزْواجَهُمْ) أي : مع أشباههم. يعني : عابد الصنم مع عبدته ، وعابد الكوكب مع عبدته ، وكذلك صاحب الزنا يحشر مع أصحاب الزنا ، وصاحب الخمر مع أصحاب الخمر ، وصاحب السرقة مع أصحاب السرقة ، إلى غيرهم. ومثله قوله : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) (١). أو مع نسائهم اللاتي على دينهم. وقيل : قرناءهم من الشياطين.

(وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) من الأصنام وغيرها ، زيادة في تحسيرهم وتخجيلهم. وهو عامّ مخصوص بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) (٢) الآية. وفيه دليل على أنّ الّذين ظلموا هم المشركون.

(فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) فعرّفوهم طريقها ليسلكوها. وفي ذكر الهداية مقام التعريف تهكّم وتقريع. (وَقِفُوهُمْ) احبسوهم في الموقف. يقال : وقفت أنا ووقفت غيري. (إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) عن عقائدهم وأعمالهم. وروى أنس بن مالك مرفوعا : أنّهم مسئولون عمّا دعوا إليه من البدع. وعن أبي سعيد الخدري ،

__________________

(١) الواقعة : ٧.

(٢) الأنبياء : ١٠١.

٥٤٦

عن ابن عبّاس : أنّهم مسئولون عن ولاية عليّ بن أبي طالب. والواو لا توجب الترتيب. مع جواز أن يكون موقفهم بعد الهدى والتعريف للسؤال.

(ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ) لا ينصر بعضكم بعضا بالتخليص. وهو توبيخ وتقريع. (بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) منقادون خاضعون ، لعجزهم وانسداد الحيل عليهم. وأصل الاستسلام : طلب السلامة. أو يسلم بعضهم بعضا ، ويخذله عن عجز ، فكلّهم مستسلم غير منتصر.

(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧))

(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) يعني : يقبل الأتباع على المتبوعين ، والمتبوعون على الأتباع (يَتَساءَلُونَ) يسأل بعضهم بعضا للتوبيخ. ولذلك فسّر بـ : يتخاصمون ويتعاتبون. فالغاوون يقولون لمغويهم : لم أغويتمونا؟ ويقول المغوون لهم : لم قبلتم منّا؟

٥٤٧

(قالُوا) قال الغاوون لمغويهم (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) عن أقوى الوجوه وأيمنها. أو عن الدين ، أو عن الخير. كأنّكم تنفعوننا نفع السانح ، فتبعناكم وهلكنا. مستعار من يمين الإنسان الّذي هو أقوى الجانبين وأشرفهما وأنفعهما ، ولذلك سمّي يمينا. أو من التيمّن بالسانح ، وهو صيد يعرض السالك من جانب يمينه متّصف بالتيمّن ، عكس البروح ، فإنّه صيد يعرض من جانب شماله موسوم بالتشاؤم. أو عن القوّة والقهر ، فتقسروننا على الضلال. أو عن الحلف ، فإنّهم كانوا يحلفون لهم أنّهم على الحقّ.

(قالُوا) ليس الأمر كما قلتم (بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) بل أبيتم أنتم الإيمان ، واخترتم الكفر والطغيان. فهذا جواب الرؤساء بمنع إضلالهم إيّاهم ، وثبوت ضلالتهم في أنفسهم.

(وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) من قدرة وقوّة ، فنجبركم على الكفر والطغيان (بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ) مختارين الطغيان ، باغين تجاوز الحدّ إلى أفحش الظلم وأعظم المعاصي ، فلا تسقطوا اللوم عن أنفسكم ، فإنّه لازم لكم ولاحق بكم.

ثمّ أخبروهم أنّ ضلال الفريقين ووقوعهم في العذاب كان أمرا مقضيّا لا محيص لهم عنه ، وأنّ غاية ما فعلوا بهم أنّهم دعوهم إلى الغيّ ، لأنّهم كانوا على الغيّ ، فأحبّوا أن يكونوا مثلهم (فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ) أي : لزمنا قول الله ووعيده بأنّا ذائقون لعذابه لا محالة ، لعلمه بحالنا واستحقاقنا العقوبة.

(فَأَغْوَيْناكُمْ) أي : أضللناكم عن الحقّ ، ودعوناكم إلى الغيّ (إِنَّا كُنَّا غاوِينَ) داخلين في الضلالة والغواية ، فأردنا إغواءكم لتكونوا أمثالنا (فَإِنَّهُمْ) فإنّ الأتباع والمتبوعين جميعا (يَوْمَئِذٍ) في ذلك اليوم (فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) كما كانوا مشتركين في الغواية ، والتخاصم لا ينفعهم.

(إِنَّا كَذلِكَ) مثل ذلك الفعل (نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) بكلّ مشرك ، لقوله : (إِنَّهُمْ

٥٤٨

كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ) عن قبول كلمة التوحيد ، أو على من يدعوهم إليه (وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) يعنون محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فردّ الله عليهم هذا القول بقوله : (بَلْ جاءَ بِالْحَقِ) أي : ليس بشاعر ولا مجنون ، ولكنّه أتى بالتوحيد الّذي هو حقّ قام به البرهان (وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) بل أتى بمثل ما أتوا به من الدعاء إلى التوحيد.

(إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩))

ثمّ خاطب الكفّار فقال : (إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ) بالإشراك وتكذيب الرسل. ولمّا كان لقائل أن يقول : كيف يليق بالرحيم الكريم المتعالي عن النفع والضرّ أن يعذّب عبيده؟ فقال : (وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي : مثل ما عملتم وعلى قدره (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) الّذين أخلصوا العبادة لله ، وأطاعوه في كلّ ما أمرهم به ، فإنّهم لا يذوقون العذاب ، وإنّما ينالون الثواب. وهذا استثناء منقطع ، إلّا أن يكون الضمير في «تجزون» لجميع المكلّفين ، فيكون استثناؤهم عنه

٥٤٩

باعتبار المماثلة ، فإنّ ثوابهم مضاعف ، والمنقطع أيضا بهذا الاعتبار.

ثمّ بيّن ما أعدّه لعباده المخلصين من أنواع النعم ، فقال : (أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ) منعوت بخصائص خلق عليها ، من طيب طعم ، ورائحة ، وحسن منظر ، وتمحّض لذّة. ولذلك فسّره بقوله : (فَواكِهُ) فإنّ الفاكهة ما يقصد للتلذّذ دون التغذّي لحفظ الصحّة ، والقوت بالعكس. وأهل الجنّة لمّا كانت أجسامهم محكمة ، مخلوقة للأبد ، محفوظة عن التحلّل ، كانت أرزاقهم فواكه خالصة. وقيل : المراد معلوم الوقت ، كقوله : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) (١). وعن قتادة : الرزق المعلوم الجنّة.

(وَهُمْ مُكْرَمُونَ) معظّمون مبجّلون في نيله ، بأن يصل إليهم من غير تعب وسؤال كما عليه رزق الدنيا. وهذا ما قاله العلماء في حدّ الثواب : إنّه النفع المستحقّ المقارن للتعظيم والإجلال. (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) في جنّات ليس فيها إلّا النعيم.

وهو ظرف أو حال من المستكن في «مكرمون». (عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) يستمتع بعضهم بالنظر إلى وجوه بعض ، وهو أتم السرور والأنس ، ولا ينظر بعضهم إلى قفا بعض.

(يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ) بإناء فيه خمر. أو بخمر ، فإنّه يقال للزجاجة فيها الخمر : كأس. وتسمّى الخمر نفسها أيضا كأسا. (مِنْ مَعِينٍ) من شراب معين ، أي جار على ظاهر وجه الأرض ، أو خارج من العيون الظاهرة (بَيْضاءَ) عن الحسن : خمر الجنّة أشدّ بياضا من اللبن (لَذَّةٍ) لذيذة (لِلشَّارِبِينَ) هما أيضا صفتان لـ «كأس». ووصفها بـ «لذّة» إمّا للمبالغة ، كأنّها نفس اللذّة وعينها. أو لأنّها تأنيث لذّ ، بمعنى لذيذ. يقال : لذّ الشيء فهو لذّ ولذيذ. ووزنه : فعل ، كقولك : رجل

__________________

(١) مريم : ٦٢.

٥٥٠

طبّ (١). وقال في وصف النوم :

ولذّ كطعم الصّرخديّ تركته

بأرض العدى من خشية الحدثان (٢)

(لا فِيها غَوْلٌ) غائلة ، كالخمار (٣) والمرارة ، كما في خمر الدنيا. من : غاله يغوله إذا أفسده. ومنه الغول في تكاذيب العرب. وفي أمثالهم : الغضب غول الحلم.

(وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) يسكرون. من : نزف الشارب إذا ذهب عقله. ويقال للسكران : نزيف ومنزوف. أفرده بالنفي ، وعطفه على ما يعمّه ، لأنّه من عظم فساده كأنّه جنس برأسه.

وقرأ حمزة والكسائي بكسر الزاي ، وتابعهما عاصم على البناء للفاعل في الواقعة (٤). من : أنزف الشارب ، إذا نفد عقله أو شرابه. ومعناه : صار ذا نزف. وأصله للنفاد. يقال : نزف المطعون إذا خرج دمه كلّه. ونزحت البركة حتّى نزفتها ، إذا لم تترك فيها ماء.

وعن ابن عبّاس : معناه : ولا هم فيها يبولون. ثمّ قال : وفي الخمر أربع خصال : السكر ، والصداع ، والقيء ، والبول. فنزّه الله سبحانه خمر الجنّة عن هذه الخصال.

(وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ) قصرن أبصارهنّ على أزواجهنّ ، فلا يرون غيرهم بسبب حبّهنّ إيّاهم. وقيل : لا يفتحن أعينهنّ دلالا وغنجا (عِينٌ) واسعات العيون. جمع عيناء. (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) شبّههنّ ببيض النعام ـ الّذي تكنّه

__________________

(١) أي : عالم حاذق ماهر بعمله.

(٢) يقول : وربّ شيء لذيذ ـ يعني : النوم ـ طعمه كطعم الشراب الطيّب ، تركته بأرض الأعداء خوف نزول المكاره بي. والصرخد : موضع من الشام ينسب إليه الشراب.

(٣) الخمار : ألم الخمر وصداعها. والمرارة مصدر : مرّ ، أي : صار مرّا.

(٤) الواقعة : ١٩.

٥٥١

بالريش من الريح والغبار ـ في الصفاء والبياض المخلوط بأدنى صفرة ، فإنّه أحسن ألوان الأبدان.

(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١))

(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) معطوف على (يُطافُ عَلَيْهِمْ).

والمعنى : يشربون فيتحادثون على الشراب كعادات الشّراب. والتعبير عنه بالماضي للتأكيد فيه ، على عادة الله تعالى في إخباره. والمعنى : فيقبل بعض أهل الجنّة على بعض ، يتساءلون عن المعارف والفضائل ، وما جرى لهم وعليهم في الدنيا.

(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) من أهل الجنّة (إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ) جليس في الدنيا (يَقُولُ) على وجه الإنكار عليّ والتهجين لاعتقادي وعملي (أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ) أي : يوبّخني على التصديق بالبعث (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) لمجزيّون. من الدين بمعنى الجزاء. يقال : كما تدين تدان. أو لمسوسون

٥٥٢

مربوبون من : دانه أي : ساسه. وفي الحديث : «الكيّس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت».

(قالَ) أي : ذلك القائل (هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ) إلى أهل النار لأريكم ذلك القرين. يقال : اطّلع على كذا إذا أشرف عليه. وقيل : إنّ في الجنّة كوى ينظر أهلها منها إلى أهل النار. وقيل : القائل هو الله أو بعض الملائكة ، يقولون لهم : هل تحبّون أن تطّلعوا على أهل النار ، لأريكم ذلك القرين ، فتعلموا أين منزلتكم من منزلتهم؟

(فَاطَّلَعَ) عليهم (فَرَآهُ) أي : قرينه (فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) وسطه (قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ) لتهلكني بالإغواء. من الإرداء بمعنى الإهلاك. و «إن» هي المخفّفة ، واللام هي الفارقة ، أي : إنّك كدت تهلكني بما قلته لي ودعوتني إليه ، حتّى يكون هلاكي كهلاك المتردّي من شاهق. ومنه قوله : (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى) (١) أي : تردّى في النار. (وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي) باللطف والعصمة والتوفيق (لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) من الّذين أحضروا العذاب معك في النار.

ثمّ يقول على وجه التقرير والتحقيق : (أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ) عطفا على محذوف ، أي : أنحن مخلّدون منعّمون فما نحن بميّتين؟ أي : بمن شأنه الموت (إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى) الّتي كانت في الدنيا. وهي متناولة لما في القبر بعد الإحياء للسؤال. ونصبها على المصدر من اسم الفاعل. وقيل : على الاستثناء المنقطع. (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) كالكفّار. وذلك تمام كلامه لقرينه تقريعا له. أو معاودة إلى مكالمة جلسائه ، تحدّثا بنعمة الله. أو تبجّحا بها وتعجّبا منها ، وإظهارا للسرور بدوام نعم الجنّة ، وتعريضا للقرين بالتوبيخ.

(إِنَّ هذا) أي : هذا الأمر الّذي نحن فيه ، من نعيم الجنّة والخلود فيها ، والأمن من العقاب (لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) فإنّه يقول ذلك أيضا سرورا وفرحا

__________________

(١) الليل : ١١.

٥٥٣

مضاعفا. وهذا كما أنّ الرجل يعطى المال الكثير ، فيقول مستعجبا : أكلّ هذا المال لي؟ وهو يعلم أنّ ذلك كلّه له. ويحتمل أن يكون ذلك من كلام الله لتقرير قوله ، والإشارة إلى ما هم عليه من النعمة والخلود والأمن من العذاب.

(لِمِثْلِ هذا) أي : لنيل مثل هذا الفوز والفلاح (فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) فيجب أن يعمل العاملون في دار التكليف ، لا للحظوظ الدنيويّة المشوبة بالآلام السريعة الانصرام. وهو أيضا يحتمل أن يكون من كلامهم ومن كلام الله.

(أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤))

ثمّ عاد سبحانه إلى ذكر الرزق المعلوم ، فقال : (أَذلِكَ) أي : ذلك الرزق المعلوم في الجنّة (خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) أي : شجرة ثمرها نزل أهل النار. والهمزة لإنكار التسوية بينهما وتوبيخ الكفرة ، فإنّ من المعلوم أن لا خير في شجر الزّقّوم. فلمّا كان المؤمنون اختاروا ما أدّى إلى الرزق المعلوم ، والكافرون اختاروا

٥٥٤

ما أدّى إلى شجرة الزقّوم ، قيل لهم ذلك توبيخا على سوء اختيارهم. وهذا كما يقول المولى لعبده : إن فعلت كذا أكرمتك ، وإن فعلت كذا ضربتك ، أهذا خير أم ذاك؟ وإن لم يكن في الضرب خير.

وانتصاب «نزلا» على التمييز أو الحال. وفي ذكره دلالة على أنّ ما ذكر من النعيم لأهل الجنّة بمنزلة ما يقام للنازل ، ولهم ما وراء ذلك ما تقصر عنه الأفهام.

وكذلك الزقّوم لأهل النار. وهو اسم شجرة صغيرة الورق ، ذفرة (١) ، مرّة ، متكرّه جدّا ، تكون بتهامة. من قولهم : تزقّم هذا الطعام ، إذا تناوله على تكرّه ومشقّة شديدة.

روي : أنّ قريشا لمّا سمعت هذه الآية قالت : ما نعرف هذه الشجرة. فقال ابن الزبعرى : الزقّوم بكلام البربر التمر والزبد. وفي رواية : بلغة اليمن. فقال أبو جهل لجاريته : زقّمينا. فأتته الجارية بتمر وزبد. فقال لأصحابه : تزقّموا بهذا الّذي يخوّفكم به محمّد ، فيزعم أنّ النار تنبت الشجرة ، والنار تحرق الشجرة. فأنزل الله سبحانه :

(إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً) ابتلاء في الدنيا (لِلظَّالِمِينَ) بأن كذّبوها ، فقالوا : كيف ذلك والنار تحرق الشجر؟! ولم يعلموا أنّ من قدر على خلق ما يعيش في النار ويلتذّ بها ، فهو أقدر على خلق الشجر في النار وحفظه من الإحراق. وقيل : معناه : فتنة وعذابا لهم في الآخرة.

(إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) أي : منبتها في قعر جهنّم ، وأغصانها ترتفع إلى دركاتها (طَلْعُها) حملها. مستعار من طلع التمر ، فإنّ الطلع إنّما يكون للنخلة ، فاستعير له ، لمشاركته إيّاه في الشكل ، أو لطلوعه من الشجر. (كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) في تناهي القبح والهول ، فإنّ الشيطان مكروه مستقبح في طباع الناس ، لاعتقادهم أنّه شرّ محض لا يخلطه خير. فيقولون في القبيح الصورة : كأنّه وجه

__________________

(١) أي : خبيثة الرائحة.

٥٥٥

شيطان ، كأنّه رأس شيطان. كما أنّهم اعتقدوا في الملك أنّه خير محض لا شرّ فيه ، فشبّهوا به الصور الحسنة. قال الله تعالى : (ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) (١). وهو تشبيه بالمتخيّل. وقيل : الشياطين حيّات هائلة قبيحة المنظر جدّا ، لها أعراف (٢) ، ولعلّها سمّيت بها لذلك.

(فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها) من الشجرة ، أو من طلعها (فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) لما يغلبهم من الجوع الشديد ، أو يقسرون على أكلها ، فيكون بابا من العذاب.

(ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها) أي : بعد ما شبعوا منها ، وغلبهم العطش فاستسقوا (لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ) لشرابا من غسّاق ، أو صديد مشوبا بماء حميم يقطع أمعاءهم.

وحرف التراخي للإشعار بأنّهم يملؤن البطون من شجر الزقّوم ، وهو حارّ يحرق بطونهم ، ويعطشون به ، فلا يسقون إلّا بعد أن يملؤن البطون من الزقّوم المرّ ، تعذيبا بذلك العطش ، ثمّ يسقون ما هو أحرّ ، وهو الشراب المشوب بالحميم.

روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنّ الله يجوّعهم حتّى ينسوا عذاب النار من شدّة الجوع ، فيصرخون إلى مالك ، فيستسقون فيسقون شربة من الماء الحارّ الّذي بلغ نهايته في الحرارة ، فإذا قرّبوها من وجوههم شوت وجوههم. فذلك قوله : (يَشْوِي الْوُجُوهَ) (٣).

فإذا وصل إلى بطونهم صهر ما في بطونهم ، كما قال سبحانه : (يُصْهَرُ) (٤) (بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ) (٥) فذلك طعامهم وشرابهم.

(ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ) مصيرهم (لَإِلَى الْجَحِيمِ) إلى دركاتها أو إلى نفسها ، فإنّ

__________________

(١) يوسف : ٣١.

(٢) الأعراف جمع العرف ، وهو الشعر النابت في محدّب رقبة الفرس ، ولحمة مستطيلة في أعلى رأس الديك.

(٣) الكهف : ٢٩.

(٤) في هامش النسخة الخطيّة : «يصهر : يذاب. من الصهر ، وهو إذابة الشيء. منه».

(٥) الحجّ : ٢٠.

٥٥٦

الزقّوم والحميم نزل يقدّم إليهم قبل دخولها ، فيوردون إلى الحميم كما تورد الإبل إلى الماء ، ثمّ يردّون إلى الجحيم.

ثمّ علّل استحقاقهم تلك الشدائد بمبادرتهم إلى تقليد الآباء في الضلال من غير توقّف على نظر وبحث ، فقال : (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ) صادفوهم (ضالِّينَ) ذاهبين عن الحقّ والدين (فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ) يسرعون جدّا ، فإنّ الإهراع الإسراع الشديد. كأنّهم يزعجون على الإسراع على آثارهم ، من غير استدلال على جواز هذا التقليد. ومزعجهم عليه هو الشيطان.

(وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ) قبل قومك (أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ) وفيه دلالة على أنّ أهل الحقّ في كلّ زمان كانوا أقلّ من أهل البطلان (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ) أنبياء أنذروهم من العواقب (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) من المكذّبين المعاندين الحقّ ، بأن أهلكناهم بشدّة العقاب العاجل ، وشدّة العذاب الآجل (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) إلّا الّذين تنبّهوا بإنذارهم ، فأخلصوا دينهم لله. والخطاب مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمقصود خطاب قومه ، فإنّهم سمعوا أيضا أخبارهم ورأوا آثارهم.

(وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢))

ولمّا ذكر إرسال المنذرين في الأمم الخالية ، وسوء عاقبة المنذرين إجمالا ، أتبع تفصيلا ذكر نوح ودعائه حين أيس من قومه ، ثمّ ذكر سائر مشاهير الرسل مع

٥٥٧

أممهم ، تحذيرا عن سلوك أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثل طريقتهم ، لئلّا يعاقبوا بمثل عقوبتهم ، فقال :

(وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ) دعانا بعد ما يئس من إيمان قومه لننصره عليهم. وذلك قوله : (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) (١) (فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) أي : فأجبناه أحسن الإجابة ، بأن خلّصناه من أذى قومه بإهلاكهم ، فو الله لنعم المجيبون نحن. فحذف منها ما حذف ، لقيام ما يدلّ عليه. والجمع دليل العظمة والكبرياء.

(وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) من الغرق ، أو أذى قومه. والكرب كلّ غمّ يصل حرّه إلى الصدر. وأصل النجاة من النجوة للمكان المرتفع ، فهي الرفع من الهلاك. وأهله هم الّذين نجوا معه في السفينة.

(وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) إذ هلك من عداهم ، وبقوا متناسلين إلى يوم القيامة. روي : أنّه مات كلّ من كان معه في السفينة غير بنيه وأزواجهم. وعن قتادة : الناس كلّهم من ذرّيّة نوح. وكان لنوح عليه‌السلام ثلاثة أولاد : سام ، وحام ، ويافث. فسام : أبو العرب ، وفارس ، والروم. وحام : أبو السودان من المشرق إلى المغرب. ويافث : أبو الترك ، ويأجوج ومأجوج.

(وَتَرَكْنا) وأثبتنا (عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) من الأمم ، ذكرا جميلا وثناء جليلا.

فحذف مفعول «تركنا». ثمّ فسّره بقوله : (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) وهذا كلام جيء به على الحكاية. والمعنى : يسلّمون عليه تسليما. قيل : هو سلام من الله عليه ، متعلّق بالجارّ والمجرور. ومعناه : الدعاء بثبوت هذه التحيّة في الملائكة والثقلين جميعا إلى آخر الدهر.

ثمّ علّل ما فعل بنوح من التكرّم بقوله : (إِنَّا كَذلِكَ) مثل ذلك الجزاء الحسن والذكر الجميل (نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي : نجزي ذلك على إحسانه.

__________________

(١) القمر : ١٠.

٥٥٨

ثمّ بيّن إحسانه بقوله : (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) يعني : إحسانه بأنّه كان عبدا من عباده المؤمنين. وفيه دلالة على إظهار جلالة قدر الإيمان وأصالة أمره.

(ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) يعني : كفّار قومه.

(وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١))

ثمّ أتبعه سبحانه قصّة إبراهيم عليه‌السلام ، فقال : (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ) ممّن شايعه في الإيمان وأصول الشريعة (لَإِبْراهِيمَ) وإن اختلفت فروع شرائعهما. ولا يبعد اتّفاق شرعهما في الفروع ، أو غالبا. أو شايعه على التصلّب في دين الله ومصابرة

٥٥٩

المكذّبين. وكان بينهما ألفان وستّمائة وأربعون سنة ، وبينهما نبيّان : هود وصالح.

(إِذْ جاءَ رَبَّهُ) متعلّق بما في الشيعة من معنى المشايعة ، أي : ممّن شايعه في دين الإسلام حين جاء ربّه بقلب سليم لإبراهيم عليه‌السلام. أو بمحذوف هو : اذكر.

(بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) خالص من الشرك ، بريء من المعاصي والغلّ والغشّ. على ذلك عاش ، وعليه مات. وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : «بقلب سليم من كلّ ما سوى الله تعالى ، لم يتعلّق بشيء غيره».

وقيل : حزين ، من السليم بمعنى اللديغ. ومعنى المجيء به ربّه إخلاصه له ، كأنّه جاء به متحفا إيّاه.

(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ) لمربّيه الّذي هو بمنزلة أبيه (وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ) بدل من الاولى. أو ظرف لـ «جاء» أو لـ «سليم» ، أي : حين رآهم يعبدون الأصنام من دون الله عزوجل ، قال على وجه التهجين لفعالهم والتقريع لهم ، أي : أيّ شيء تعبدون؟

(أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ) أي : أتريدون آلهة دون الله إفكا؟ فقدّم المفعول للعناية ، ثمّ المفعول له ، لأنّ الأهمّ أن يقرّر أنّهم على الباطل ، ومبنى أمرهم على الإفك. ويجوز أن يكون «إفكا» مفعولا به ، و «آلهة» بدلا منه ، على أنّها إفك في نفسها للمبالغة. والإفك هو أشنع الكذب وأفظعه. وأصله قلب الشيء عن جهته الّتي هي له ، فلذلك كان الكذب إفكا.

وإنّما قال : «آلهة» على اعتقاد المشركين ، وتوهّمهم الفاسد في إلهيّة الأصنام ، لمّا اعتقدوا أنّها تستحقّ العبادة. ثمّ أكّد التقريع بقوله : «دون الله». أو المراد بها عبادتها ، أي : أتريدون عبادة آلهة دون عبادة الرحمان؟ فحذف المضاف ، وأقام المضاف إليه مقامه ، لأنّ الإرادة لا يصحّ تعلّقها إلّا بما يصحّ حدوثه ، والأجسام ممّا لا يصحّ أن تراد. ويجوز أن يكون «إفكا» حالا. يعني : أتريدون آلهة من دون الله آفكين؟

(فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) بمن هو حقيق بالعبادة ، لكونه ربّا للعالمين ، حتّى

٥٦٠